ثقافة التعليق أو التعقيب على المقالات المنشورة على المواقع العنكبوتية
محمد شركي
من المؤكد أن الثورة التكنولوجية أفرزت واقعا إعلاميا جديدا قوامه انخراط القراء في صناعة المنتوج الإعلامي بشكل من الأشكال. ففي الإعلام التقليدي كان المتلقي ممنوعا من المشاركة في صناعة الرسالة ، وكان المرسل هو سيد الموقف . وكان قارىء الجرائد الورقية ولا زال يتلقى المادة الإعلامية مستهلكا لا منتجا ، وقد لا ترضيه البضاعة المعروضة عليه ، فيكتفي بردود أفعال نفسية فيسخط أويرضى مع نفسه ثم يطوي صفحات الجريدة ويمضي وفي نفسه ألف شيء مما قرأ أو استهلك رغما عنه. وبظهور الصحافة الرقمية صار المتلقي مشاركا في المادة الإعلامية وليس مجرد متلق أو مستهلك ، ذلك أن المواقع العنكبوتية فسحت المجال للمتلقي ليلقي بدلوه ويشارك في المادة الإعلامية بما يثبته في ذيل المقالات من تعليقات أو تعقيبات . وثقافة التعليقات أو التعقيبات حديثة ومواكبة للصحافة الرقيمة ، وهي عبارة عن تطور مهم في الثقافة الإنسانية حيث توسع مجال التواصل الذي يؤثر بشكل كبير في العلاقات الإنسانية من خلال خلق فرص التلاقح بين الأفكار والمشاعر . وثقافة التعليقات أو التعقيبات على المقالات المنشورة على المواقع العنكبوتية قد تأخذ المنحى الصحيح، وقد تنحرف عنه ، ذلك أن بعض الناس يتعاملون مع هذه الثقافة بشكل سلبي حيث يتخذون من التعليقات والتعقيبات آليات دفاع ، ووسائل حرب وقتال . والقلة القليلة هي التي استوعبت ثقافة التعليقات أو التعقيبات بشكل صحيح حيث تتخذها وسيلة للانفتاح والانخراط في التفاعل الفكري والحضاري. ومن المعلوم أن ما ينشر من مادة إعلامية على اختلاف أنواعها لا يقصد به إرضاء أو إسخاط أطراف دون أخرى، بل ما ينشر هو انعكاسات لواقع الحال في حياة الناس . وحياة الناس فيها الخير والشر ، وفيها الحق والباطل ، وفيها العدل والظلم ، وفيها الصواب والخطأ .... لأنها حياة تقوم أساسا على التدافع ، والتدافع يكون بين المتناقضات المتنافرة ليحصل التوازن . فبمجرد أن يصور مقال ما على الشبكة العنكبوتية ظاهرة بشرية ينبري له معلقون ومعقبون من الذين يسيئون فهم ثقافة التعليق أو التعقيب ، فيتواصلون ويتفاعلون بأشكال سلبية بحيث يتنكبون قضايا المقال ، ويجعلون من صاحبه مادة للتعليق أوالتعقيب ، وكأنه قضية المقال ،وليس مجرد مثير للقضية أو طارحها. وهذا انحراف واضح في ثقافة التعليق أو التعقيب . فما معنى أن يدع المعلقون أو المعقبون قضايا المقالات جانبا ، ويشتغلون بالرد على أصحابها من خلال النبش في أحوالهم الخاصة لمناقشتهم في قضايا لا علاقة لها بهذه الأحوال ؟ فإذا كان المعلقون أو المعقبون يريدون إفحام أو إقناع أصحاب المقالات بسداد آرائهم فيما كتب ونشر، فعليهم التماس الإقناع من أبوابه وهو مقارعة الحجة بالحجة . فإذا جاء في المقال رأي وقدم له صاحبه بما يعتقده حججا وأدلة ، فعلى من يعلق أو يعقب أن يدحض الحجة بالحجة ، وهذه هي سلامة ثقافة التعليقات أو التعقيبات ، أما حين يحاول المعلقون أو المعقبون الرد على حجج المقال بالنيل من صاحبه شتما وتجريحا ،فهذا يؤكد افتقارهم للحجج التي ترد على حجج هذا المقال ،لأن من عدم الرد بالحجة اضطر إلى الشتائم والسباب كآلية دفاعية . وتعقيبات أوتعليقات الشتائم عبارة عن لغو يراد به إظهار الانتصار والغلبة الوهمية كما جاء ذلك في قول الله تعالى : (( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )) ، فهذه الآية تعكس طريقة المنهزمين وهي : إما الإعراض بعدم الاستماع أو اللغو . واللغو هو الكلام الذي لا يعتد به ، أي الذي لا يعتبر حجة ولا دليلا ولا برهانا . ومن اللغو تعليق أو تعقيب الشتائم والسباب أوالهزل من المقالات التي تنشر على المواقع العنكبوتية . وكما أسلفت القلة القليلة من المعلقين أوالمعقبين تتفاعل بشكل إيجابي مع ثقافة التعليقات أو التعقيبات حيث تنخرط في حوارات مع أصحاب المقالات قوامها مقارعة الآراء بالآراء والحجج وبالحجج والأدلة بالأدلة والبراهين بالبراهين . ولنا في كتاب الله عز وجل النموذج الأمثل والأسمى في مقارعة الآراء بالآراء . وما رد الله عز وجل على من جادل نبيه في رأي إلا بالحجة والبرهان . وأما الذين كانوا يسبون ويشتمون فقد رد عليهم بما يقابل كلامهم كقوله تعالى : (( تبت يدا أبي لهب )) أو قوله : (( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا )) . فأبو لهب واليهود عبارة عن نموذجين للمعلقين أو المعقبين الذين يتنكبون مناقشة القضايا ، ويمارسون لغو السباب والتعيير ، ولا يرد عليهم إلا بما يناسب لغوهم . وظاهرة تعليقات أو تعقيبات السباب والشتائم تعكس مدى تخلف ثقافة المشاركة والتفاعل الفكريين عن طريق الحوار الهادف والبناء. ولا زالت بيننا وبين هذه الثقافة مسافة بعيدة في الوطن العربي مع شديد الأسف والحسرة ، وربما مع مرور الزمن سنتكيف معها لأنه ليس من السهولة أو اليسر أن ينتقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى انتقال طفرة أو فجأة . وأنا واثق من أن المعلقين أو المعقبين الذين لا تتعدى مستويات تعليقهم أو تعقيبهم الشتائم والسباب سيتعلمون في يوم من الأيام الانتقال من تسليط الضوء عل أصحاب المقالات إلى تسليط الضوء على مواضيع وقضايا هذه المقالات ، وسيعلمون حتما النقد البناء الذي هو القدرة والخبرة على التمييز بين الصواب والخطأ ، وكذا القدرة على البرهنة على ذلك . ونأمل أن ينحو أصحاب المواقع العنكبوتية نحو تكريس ثقافة التعليقات أو التعقيبات على المقالات في شكلها الإيجابي الذي يطور الحوار ولا يسف به الاسفاف الملحوظ في معظم هذه المواقع التي تبيح الإسفاف رغبة في كثرة الزوار من أجل الارتزاق بذلك . وإلى أن نرقى إلى مستوى ثقافة الحوار الذي تضبطه القواعد الأخلاقية لا بد أن نصبر على أهل الإساءة كما صبر أولو العزم من رسل الله صلواته وسلامه عليهم .
ثقافة التعليق أو التعقيب على المقالات المنشورة على المواقع العنكبوتية بقلم:
محمد شركي
تاريخ النشر : 2013-05-13
