باتجاه الشاعرية قراءة في نماذج من الشعر اللهجي في صعيد مصر بقلم عبدالجواد خفاجي
تاريخ النشر : 2013-05-04
باتجاه الشاعرية
قراءة في نماذج من الشعر اللهجي
في صعيد مصر
عبدالجواد خفاجي

(1ـ 1)
باتجاه الشاعرية يبدو التكثيف الشعري عنصراً من عناصر كثيرة تُعدُّ مظهراً من المظاهر الفيزيقية للشاعرية، وإن كان "تكاثف الشاعرية" يعني شيئاً آخر .. ففي الوقت الذي يعنى فيه الشاعر بالاقتصاد في استخدام اللغة يعنى أيضاً بشحن هذه اللغة بطاقة إيحائية ودلالية ورؤيوية كبيرة، عندها نقول إنه حقق عنصراً مهماً من عناصر الكتابة الشعرية التي تبعد عما هو غير دال، وتنحى عن الثرثرة الموقعة في اللاشعري، ومن ثم يخلو النص من الفجوات غير الشعرية، وغير الدالة، مركِّزاً على الجمل الإشارية الحرة التي ينفتح معها ذهن المتلقي المثقف على موحيات نفسية وثقافية كثيرة، وهي تختلف ـ ولا شك ـ عن جمل التمثيل الخطابي التي تتمركز حول المعنى أو الفكرة التي يراد إيصالها أو تبليغها إلى القارئ دون حيلة فنية.
لهذا لا يعني التكثيف الشعري الاختصار، ولا الحذف، ولا النحول أو الرشاقة، كما أنه لا يعني الإيجاز، وإن كانت كل تلك هي مظاهر التكثيف الخارجية. التكثيف فوق هذا المظهر يعني الشحن.. شحن المظهر المقتصد الرشيق بأكبر قدر من الطاقة الإيحائية والرمزية والدلالية.
أما تكاثف الشاعرية يعني تركيز أكبر قدر من العناصر الجمالية ومن ضمنها التكثيف، مثل الإغراب بصفته عنفاً منظماً يمارس ضد لغة الكلام الاعتيادي، أو كسراً لاعتيادية اللغة وتجنيحاً في أفق المجاز القائم على التقاء ما لا يلتقي في الواقع، ومن ثم فالإغراب في هذا الصدد يعتبر جوهر العملية الإبداعية برمتها، بوصفها تركيزاً على استخدام اللغة بطريقة مخصوصة يضطر معها الأديب إلى الاشتباك الدائم مع اللغة بطريقة أشد عسراً ، ووعياً ووعياً، محققاً ـ بجانب المجاز ـ كثيراً من الحيودات عن الإرث المشترك إلى اللغة الخاصة بالأديب نفسه.
******
(1 ـ 2 )
فيما يخص شعر العامية تنطرح بجانب ما سبق إشكاليات أخرى ، فالقارئ للشعر العامي في مصر والدارسات التي تناولته يدرك أن ثمة إشكاليات كثيرة مثارة حول هذا النوع من الشعر , ربما تفوق كمياً تلك المثارة حول " شعر الفصحى" 0
ولعل أول تلك الإشكاليات هو تدوين العامية نفسها العامية نفسها سواء كانت شعراً أم غيره , ذلك لأننا نستعير أبجدية الفصحى حين نكتبها ,غير أن عملية الكتابة نفسها لا تسير وفق قواعد إملائية أو صرفية محددة .. وربما هذا ما دفع أحد الدارسين إلى القول : إن الشعر العامي فنٌ قولىٌّ يجب ألا نطمح إلى كتابته .
وقد صادفت دارساً يخطئ "بتشديد الطاء وكسرها " شاعر عامية كان قد كتب فعل الأمر من "يمشي" على طريقة الفصحى " امش " الأمر الذي جعل الدارس يستاء من وجود الكسرة تحت حرف الشين , فسال الشاعر :ـ من أين أتيت بالكسرة والعامية ليس فيها حركات إعرابية .. ومن دون أن يحدد الدارس أية عامية يقصد .. المنطوقة أم المكتوبة ؟
ومن دون أن يعي أن الكسرة موجودة صرفياً في أصل الكلمة قبل حذف حرف العلة الأخير , ومن دون أن يعي أن من استعار أبجدية الفصحى للكتابة يجوز له أن يستعير كافة ملحقاتها الشكلية الأخرى لإظهار هذا المنطوق .. إنه طرح سؤاله على الشاعر دون أن يعي أنه يطرح إشكالية ربما لا تخص هذا الشاعر ذلك بقدر ما أنها تخص كتابه اللهجات بعامة .
ولعل الإشكالية التالية التي يمكن أن نعاينها مطروحة هي " الانحياز اللهجي " . . فديوان " صورة من ألبوم قديم " للشاعر عشرى عبدالرحيم" (سوهاج) ـ على سبيل المثال ـ ينحاز بشدة للهجة الصعيدية ، وأكثر من ذلك لفئـة العمال والفلاحين في الصعيد "الجواني" في حين أن ديوان " شمس الغروب " للشاعر على رضوان (سوهاج – البلينا ) ـ على سبيل المثال أيضاً ـ يمزج فيه بين نفس اللهجة المتمثلة في ديوان "عشرى " وبين اللهجة القاهرية ..هذا المزج الذي قد نعتبره – لسبب أو لأخر– خلطاً يستتبع بالضرورة خلطاً أو تخالطا في الأداء الشعري شكلاً ومضموناً .غير أنه قد يثير بعض التساؤلات من عينة :ـ هل يعد هذا الخلط في الأداء الشعري تمثيلاً لثقافة الشاعر المختلفة ( وقد أنتقل على رضوان في الآونة الأخيرة للإقامة في القاهرة ومن ثم اكتسب ثقافة ولهجة جديدة) .. وهل ثقافة الشاعر في مثل هذه الحالة مختلطة أم أنها مشوشة .. وهل الشاعر منحاز لثقافته هو، أم أنه منحاز في الأساس لفئة أو جماعة قد تتسع لتصبح بحجم المجتمع بأسره, أم أنه منحاز لكليهما معاً، وساعتها أي لهجة سيختار؟ وهل الجمع بين الشتيت من اللهجات على نحو ما فعل على رضوانـ وعلى نحو ما يفعل غيره ـ يعد مناسبا لتوجيه الخطاب الشعري إلى قارئ ضمني غير محدد بفئة معينة أو تاريخية ما .. هل الشاعر منحاز بالضرورة – بلهجة القصيدة إلى طائفة اجتماعية ؟ .. وهل على الدارس لمثل هذا الشعر أن يلتفت مرغماً إلى خارج النص باحثا عن الخريطة التي مشى وعاش فوقها الشاعر ليتحدد أسباب تخالط اللهجات ومن ثم هذا التشوش المتبدى في الأداء الشعرى.
على أية حالة إن شيئاً مثل هذا حدث ويحدث ، حيث تستخدم المناهج البيئية والاجتماعية والتاريخية في دراسة الأدب لكنما قد يكون الهدف هو خدمة اللغة واللهجات والبحوث البيئية والأثرية وربما الجيولوجية أو حتى الجغرافية , ولم يكن الهدف هو خدمة الأدب .
أسئلة كثيرة يمكن أن تتدافع، لا لتنتهي، وإنما لتتوالى .. ولعل أوجه هذه الأسئلة هو ما وجهه أحد الدارسين :ـ هل هو شعر عامي أم شعر لهجي ؟! ولعل وجاهة السؤل – رغم أن البعض يعتبره تمحكا حول التسمية – في كون الإجابة عنه قد تحل كثيراً من الإشكاليات وهى تجيب – ضمناً – على كثير من الأسئلة المثارة آنفا, رغم أن أسئلة جديدة من نوع أخر قد تثار حول أية إجابة مفترضة , ففي الحالتين نحن أمام شاعر إما أن يكون محايداً وإما أن يكون العكس في انحيازه أو عدم انحيازه , وإذا جاز لنا أن نعتبر الأدب مادة مناسبة للتعبير عن "اللاحياد" فهل يجوز والحالة هذه أن نعتبر اللغة /الأداة غير محايدة أيضا .. وهل انحياز الشاعر يعد انحيازاً أيديولوجيا بالضرورة , ومن ثم يصبح التعبير عن الأيديولوجيا مناسبة فنية بالتالي ، إذ يتيح شكلياً السيطرة على الأدوات الخادمة للتعبير عن الأيديولوجيا؟.. ترى إلى أي مدى يمكن أن يجرنا ذلك إلى إشكالية " الفن و الأيديولوجيا " هل يعتبر الشعر العامي المنحاز "منتجا"ً بفتح (التاء) اجتماعياً يلبى حاجات مجتمعية معينة روحية كانت أو أخلاقية أو جمالية .. وفى هذه الحالة هل يمكننا اعتبار الشاعر هو الآخر "منتجاً" (يفتح التاء أيضاً ) اجتماعيا ؟!
أسئلة من نوع آخر قد تثار ونحن نطالع ديوان " أنا والليل " المكتوب بالعامية للشاعر عبدالرافع الأنصارى ( قنا – أبوتشت ) ـ على سبيل التمثيل كذلك ـ الذي آثر أن ينحاز للفصحى, أو لنقل آثر أن يتفصح فأتت لغته بمفرداتها واستخداماتها متمثلة روح الفصحى وإن كان الأخطر من ذلك عنده هو اختلاط هذه اللغة المتفاصحة بشتيتٍ من لهجات أظنها غربية عن أي بيئة جنوبية أو غير جنوبية , وأغلب الظن أنه واقع تحت تأثيرات التلفاز , إذ يتمثل اللهجات "العبيطة" التي يستخدمها الممثلون على الشاشة وهم يقومون بأدوار شخصيات صعيدية, ظناً منهم أنهم بهكذا لهجة يتحدثون كاهل الصعيد !!.. قد نتلمس لهم بعض الأعذار – وان كان تلمس الأعذار غير جائز في الفن – فهم لم يعيشوا في الصعيد ولم يتشبعوا بطقس الحياة فيه ولم يمارسوا لهجاته في حياتهم الاعتيادية مثل عبد الرافع الأنصارى ابن أبوتشت التابعة لمحافظة قنا، هذا الشاعر الذي وقع تحت سطوة التلفاز , أو لنقل أنه أخترع من عندياته لهجة من شتات , تخوزقها محاولة الشاعر التفصُّح رغم هذا ! .. هل يعد ما يفعله "عبد الرافع الانصارى "والشاعر الأخر "على رضوان" على مستوى الأداء اللغوى – نوعا من تغريب القصيدة بسلخ جلدتها أو لنقل بعدم انحيازها ؟!
"والتغريب" سواء من "الغربة "أو من " الغرابة" ففي الحالتين نحن أمام فعل تم عن عمد أدى إلى أن تصبح أو تمسي القصيدة العامية غربية كالثوب المرقع وسط أثوب متشاكلة متباهية بتجانسها, أو أدى إلى نزع روح الألفة بين القصيدة وبيئتها ومجتمعها , لكأننا قد أرسلناها إلى جماعة ماعدا الجماعة التي من المفترض أن تحيا بينهم.
الإشكالية هذا يمكن أن تقودنا إلى التساؤل حول القارئ المفترض لشعر العامية .. ثمة قارئ مفترض يتوجه إليه الشاعر أصلاً بالخطاب الشعري وهو على أية حالة قارئ حقيقي وإن كان غير معين، ربما نحن أو غيرنا، ربما هو في هذا لعصر أو العصور التالية، فالقارئ المفترض يظل مفترضاً في التاريخ .. ترى إلى أي نوع من القراء المفترضين يتوجه إليه الشاعر بالخطاب الشعرى؟ غير أن السؤال الآخر في هذا الصدد عن القارئ الضمني للقصيدة وهو قارئ وهمي متضمن في القصيدة لحظة إنتاجها وموجود في ذهن الشاعر لحظة إنتاجه النص، أو في ذات اللحظة التي ينتج فيها قصيدته .. هل يضع في ذهنه أو يتوجه بخطابه إلى قارئ لقيط على هذا النحو أو ذاك ؟ لا تحده بيئة أو ظروف تاريخية أو اجتماعية أو ثقافية معينة واضحة المعالم ؟!
إن إشكالية ( الانحياز اللهجى ) وتخالط اللهجات يستتبع بالضرورة إشكالية أخرى يثيرها الدارسون وخاصة الأكاديميون منهم هي إشكالية الجنس واللون والعرق فإذا كان الجنس يستدعى مقولات : نثر ـ شعر، فإن اللون يستدعى مقولات : "رواية ـ قصية مسرحية ـ شعر فصيح ـ شعر عامى ... إلخ" ، أما العرق فانه في إطار الشعر العامى يستدعى مقولات : "الزجل ـ الشعر الشعبي ـ شعر العامية".
على أية حالة إن الحدود غير واضحة المعالم بين هذه البطون الثلاث للشعر اللهجي لدرجة إن الاصطلاحات تتناوب الأمكنة , وتلبس في كل مرة لباساً الفن , بل وتلتبس على غير المدقق الحصيف.
إن هذا الخلط لدى النقاد لم يسلم منه الشعر أيضاً , فكثير من الدواوين الشعرية المكتوبة بالعامية يخطئ الشاعر بداية في تصنفها , ويقع في الخلط بين ما هو مكتوب على الغلاف كإعلان(شعر عامي ) وبين المنشور حقيقة في الديوان، فقد نفاجأ بأن المكتوب خليط من الزجل وقصيدة العامة مع إجازة تطعيم النص ببعض المربعات أو المخمسات على عادة الشعراء الشعبيين .. وهكذا.
والأمر على هذا النحو قد يدفعنا للتساؤل عن الحدود الفاصلة بين هذه البطون الثلاث؟ وقد حاول بعض الدارسين أن يضع حدوداً فاصلة وطرقا معبدة للسير بين مرابع هذه البطون الثلاث, ولكن يظل كل ما قيل بحاجة إلى مراجعة, وإلى تدقيق خاصة ما كتبه" مسعود شومان " تحت عنوان" المؤتلف والمختلف "من دارسات عدة في أكثر من موضع.
فالمفترض أن الحدود والفواصل لا يجب أن يخترعها النقاد إن لم تكن هي هكذا في الطبيعة , وإلا كانوا كالمستعمرين الذين يجزئون الجغرافيات الواحدة , ومن ثم يقيمون الفواصل الاصطناعية بين أبناء الجلدة الواحدة، أو بالمعنى : إننى كدارس يجب ألا أرسم ما لم يرسمه الإبداع نفسه، والملاحظ أن البطون الثلاث متداخلة في الإبداع نفسه, وكثير من الدواوين التي نعاينها يصعب تصنيفها وتحديد انتمائها أو إلى أية بطن تنتمى ؟ وقد ظهرت عروق كثيرة في الديوان الواحد تمت إلى البطون الثلاث في حين أن المسمى على الغلاف واحد (قصائد عامية ، أو شعر عامى)، وإذا كانت الحدود واضحة بين الزجل والشعر الشعبي فما بال الشعراء يخلطون ؟ وهل يعتبر مثل هذا الخلط تنوعاً في المشارب وثراء وإثراء , أم انه تنوع في المسارب وتشتت وتهجين بلا دراية ؟!
الآن : أمامى أربعة دواوين لأربعة شعراء ينتمون ثلاثتهم للصعيد هم :
1- ديوان " بشائر الميلاد " للشاعر على عبدالرحمن أبوسراج" ( إقليم وسط وجنوب الصعيد ـ إصدارات البحر الأحمر ـ 2008 /2009
2- ديوان " لا يوجد رد" للشاعر أحمد عابدين ( إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي – إصدارات الأقصر ـ 2010 / 2011 )
3- ديوان "بكره أكيد الصبح جاي" للشاعر شاذلي عبدالعزيز ( إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي – إصدارات البحر الأحمرـ 2008 / 2009 )
4- ديوان "في انتظار الظل" للشاعر عبدالله محمد عبدالشافي (لإقليم سط وجنوب الصعيد ـ فرع ثقافة أسوان ـ 2010 / 2011 )

ومن الواضح أن الشعراء الثلاثة ينتمون لثلاث مناطق جغرافية متلاحمة ، متداخلة اللهجات والعادات والتقاليد وما إلى ذلك . وبالنظر إلى تواريخ النشر فالدواوين الثلاثة تكاد تكون خاضعة لظروف إنتاج متشابهة أو متماثلة. مع ذلك لو أخضعنا الدواوين الثلاثة لمنطق الإشكاليات لانطرحت حولها عدة إشكاليات قد لا تصل إلى الفصل فيها في مثل هذا الموقف غير المعنى أساساً بالفصل في الإشكاليات , وان كان قد أشار إلى بعضها.
ومهما يكن فإن منطق الإشكاليات سيظل يفرض نفسه على الدارسين للشعر اللهجي إلى أمدٍ غير محدد بالنظر إلى حجم تلك الإشكاليات مقارنة بندرة النقد التنظيري حول هذا الشعر, وتلك مسلمة أولى , لكن الدارس يجب ألا يصرفه الخضوع للإشكاليات عن معاينة الجوهر الشعري في النصوص وكيفية الأداء الشعري فيها .
قد يكون الأمر اكتفاءً بتوصيف الأداء الشعري أو تحصيلاً لجمع أساليب النص ـ على عادة ما يفعل كثير من الدارسين والنقاد – والمفترض غير ذلك – لو أردنا إنصاف النصوص ـ إذ الاهتمام فقط بتحصيل جمع أساليب النصوص سيظل ـ في رأيي ـ اهتماماً بالشكل على حساب الشعرية التي لا يُعَدَ الشكل إلا تمظهراً فيريقياً خارجياً لها .
لسنا مضطرين إلى تجاهل الأداء الشعري على حساب دراسة اللهجات، أو لانشغال فقط بجمع أساليب النص، خاصة أننا أمام مثل تجارب شعرية تتجه نحو الشاعرية دون أن تبلغها ـ على ما ستوضح الدراسة ـ ومن ثم فنحن ننتظرها في محطة تالية، وقد اجتاز أصحابها أوليات التجربة الشعرية واشتراطاتها نحو وجود شعري حقيقي يتحقق معه شرطي التكثيف الشعري ، والتكاثف الشاعري من جهة، ومن جهة أخري تخليص القصيدة العامية من معوقات الأداء الشعري واللهجي.

( 2 ـ 1 )
في ديوانه بشائر الميلاد" للشاعر على عبدالرحمن أبوسراج، يقدم الشاعر مجموعة من القصائد، على شكل مربعات، ومخمسات، وأشكال أخرى هي من موروثات فن الزجل، يلتزم فيها الشاعر بالإيقاع العروضي المنضبط، والتقفية المتنوعة فيما ينتج عنه انسجاماً وانتظاماً إيقاعياً يحفظ للقصيدة غنائيتها، ويحقق لها أهم خصائصها الشفاهية حيث الميل إلى الجانب الصوتي ومن أهمه الوزن والقافية، بالإضافة إلى المظاهر الصوتية الأخرى كالتجنيس والتكرار والتوازي الصوتي.
مثلما نقرأ في قصيدته "يا ضحكة ":
يا ضحكة في دنيا بكايه يا ســاكنه جوه جوايا
حبيتك على الغنا قـادر ما دمتِ ف قلبي ورداية
دا أنا طول ما أنت ويايا بتبـقي دنيتي معــايا
يا ضحكة ف دنيا بكايه
أنا العارف .. لمقدارك وحـابب رميتي ف نـارك
منايا تبـقى مكتـوبي واكون صوره في أشعارك
ده أنا طول ما أنت ويايا بتبقى دنيتي معــايـا
يا ضحكه ف دنيا كدابه
حيث تتكون القصيدة من عدة أدوار، نلاحظ فيها نلاحظ تكرار البيت الثالث:
( دا أنا طول ما أنت ويايا ** بتبـقي دنيتي معــايا) إضافة إلى تكرار الخرجة الأخيرة (يا ضحكة ف دنيا بكايه)
إضافة إلى ما نلاحظه من نظام تقفية يتماثل فيه شطري البيت الأول مع عجز البيت الثالث .
والحقيقة إن الديوان حافل بنظم تقفوية عدة، وأشكال تقتفي الأثر التراثي في الشعر اللهجي عموماً وخاصة الزجل، سواء في هندسة الأبيات أو في تحقق أكبر قدر من الخصائص الصوتية الإيقاعية.
كما تلتزم النصوص في بعض القوافي بالردف أو التأسيس ولزوم ما لا يلزم، وقليلاً ما يحدث التباس بين الأصوات المتشابهة كما في قصيدة "رسيني":
حبيتتك .. مكنتـك مني واكمنى باحبك .. بارضيكي
واتحمل بعدك .. مع إني باتبعتر مني ف أراضيكي
*****
لو ناسية لأحلام نسيني إديني مشاعرك .. قسيني
أنا تايه بعدك .. رسيني ح تهنى القلب اللى هاويكي؟
( ص 23 ـ بشائر الميلاد)
نلاحظ اللبس الذي يحدثه الجناس التام بين نهاينيي البيتين الأول والثاني (ارضيكي) ولكل منهما معنى مختلفا عن الآخر رغم أن الأذن تسمعهما صوتاً موحداً. كما نلاحظ الردف بالياء قبل حرف الروي .
كما نلاحظ التأسيس في الأبيات السابقة من قصيدة (يا ضحكة):
أنا العارف .. لمقدارك وحابب رميتي ف نـارك
منايا تبقى مكتــوبي واكون صوره في أشعارك
حيث ألف التأسيس التي يفصلها عن الروي حرف دخيل هو (الراء)
وقد يجد البعض في هذا التنظيم والتنويع والانضباط تضييقا على الشعر الشفاهي؛ فالشعر الفصيح كما هو معلوم يلتزم القافية في أعجاز الأبيات أي في الأضرب ولا يلزمها في الأعاريض إلا ما كان من البيت الأول الذي يصرع غالباً، لكننا نرى أنّ التضييق قد يكون صحيحا من ناحية الحفاظ على التوازن الصوتي عمومًا، لكنه ليس كذلك إذا أخذنا في الاعتبار طول النفس في بعض تجارب العامية التي تحتوي فيه القصيدة على عدد كبير من الأدوار والأغصان. ويمكن أن يكون هذا التنوع محاولة من الشعر الشفاهي للتوسع وأخذ قسط من التحرر في اختيار القوافي بما يناسب النفس الشعري والمحتوى لكل دور على حدة .
لقد تحرر شاعرنا من هذه الإشكالية إلى القصيدة الحرة في بقية الديوان، والتزم التفعيلة كأساس عروضي بجانب القوافي المتنوعة والمتقاربة، بجانب الإصاتات التجنيسية الأخرى، مؤكداً على الخصائص الشفاهية للقصيدة، وقد التزم هذه الشكلية في قصائد عديدة بالديوان ، يقول في قصديته (ملعون الحب الـ.. ما يقاسمك .. في طلوع الروح): " مدخا: / متعلق.. / في حبا الصبر ال.. / رقب يخلص ويدوب / مرعوب../ م الخوف اللى معشش / في العشو ..الـ.. / مش عايزة تطيب / وحبيبتي .. بتقوللي افردها!! / **** / من عز الليل .. سايبك نومك /بين هم الحلم / وقوت يومك / احرق في سجايرك .. / وف دمك / اتلطم ../ قطع في هدومك / مين قال تعشق .. / وتواعد / وانت بأحزانك / متواعد / دماتك ../ م الهم اتصفوا / واصحابك .. / للفرجة (اتصفوا) / بيجي ميت بكاش / والفرجة ببلاش !! هلوا يا أبوباش / وواسونا بمصمصة الشفة!! " ( ص 46 ، 47 ـ بشاير الميلاد )
وقد نلاحظ هنا تنوع القوافي وتقاربها وكذلك التركيز على موسيقى اللفظ من خلال التجنيس.
من الواضح في التجارب هنا التركيز على الاستفادة من التراث الشفاهي العامي ، فمن المغروف أن النصوص الأدبية التي نشأت نشأة شفهية تمتاز بجملة من الخصائص، من أهمها الاعتماد على الصوت، والصيغ الشفاهية، والملفوظات المقوية لعلاقة الاتصال، كما تمتاز هذه النصوص باندماجها في الوعي الجمعي واعتبارها إبداعاً اجتماعيا بالدرجة الأولى، إضافة إلى التكرار والحشو والتراكيب التراكمية، وفقدان التتابع التركيبي، والاندماج الطبيعي في الموقف، والنزعة المخاصمة، وغيرها مما هو مفصل في المراجع المتخصصة في هذا الموضوع(1)
ولعل شاعرنا كان واعيا بكثير من هذه الخصائص وتلك المكتسبات ، وسعى إلى الإفادة منها بكثير حرفية ووعي.
ومن ضمن هذه المكتسبات أيضاً النزعة الحكائية(السرد) كآلية من آليات إنتاج الشاعرية، بجانب المحافظة على المستوى اللهجي المنسجم أي غير المشتت بين لهجات عديدة، وغير المخوزق بمستويات أعلى فصيحة، وغير المتدني إلى إسفاف اللغة المتدنية نحو ضحالة الذوق بعيداً عن مقتضيات الفن الشعري الذى يسعي إلى تهذيب الوجدان العامي في الوقت الذي يعبر عنه وله، ولعل هذه المكتسبات الموظفة بعناية في هذه التجارب تشف عن وعي الشاعر بهذه المكتسبات وأهميتها كما تشف عن حرفيته.
وفي التدليل على هذه الخصائص نسوق مقطعا من قصيدته "برد" حيث يقول:
"لبيوت جبابين / جبابين قافلين على أمواتها / والناس هاجين م الشارع / مش لادد حال البرد عليهم / ده أنا من يوم ما وعيت ع الدنيا / وكل اللى أحبه من البرد (النبق اللى ف بيت حمي ) / غير كدا.. / أنا كارهه عَمَا !! / في البرد تلاقي الواحد لافف على راسه / ستين شال / ف يسدوا ودانه / ما يسمعش / وان حب يسلم تلقاهلك .. / راح "نق" براسه / ما اديه في عباية وبردان / هايسلم كيف؟! / *** / قرب المغرب / خلصت كتاب / قلت امشي في جار السكة/شفت القطورات / صدتني بيبان لبيوت / ولقيت الشارع / فاضي ي ي ي.. / وتقول الناس قطعت؟ / رحت .. باجرِّف روحي / أمي .. / ع تنام م المغرب في البرد / جيت أكلم أخويا العزب / عايز أحكي معاه / راح رد عليه بزعِّيق / من تحت لحافه / عايز إيه؟! / ما عايزش !! / طبعاً أخويا المتجوز / قال تصبحوا على خير للقاعدين / من بدري ونام / ومحيرني لأنه اصبح / ع يقوم متنكد ، وبيشتم لاستحمام !" ( ص 52، 53 / 54 ـ بشاير الميلاد)
من الواضح هنا التركيز على السرد كآلية في الشعر، وهي خصيصة قديمة في الشعر عموماً لكنها أميز في الشعر اللهجي. كما نلاحظ المستوى اللهجي الموحد المنسجم الذي يتوافق مع إنسان القصيدة التي وضحت ملامحه في التجربة فهو إنسان ريفي ، (ولابس على راسه ستين شال)، ومن مظاهر هذه اللهجة : لبيوت (البيوت)، م الشارع (من الشارع) ، زَعِّق ( صيغة فعيِّل) ، ع يقوم ( سيقوم) وكهذا... وليس اللهجة فحسب بل القاموس الحياتي اللغوي لهذا الإنسان مثل : هاجين ( بمعنى: تاركين المكان ونافرين من البقاء فيه) ، ونق براسه ( بمعني هزّ رأسه) ، جار( بمعنب: بجوار).
الحقيقة إن جملة من المعطيات الفنية في هذه التجارب الشعرية للشاعر على عبدالرحمن أبوسريع تدخلنا بعمق نحو براح الشعر اللهجي وطقسه البديع المشبع بالروح المنحازة لأصحاب اللهجة التي اختارها الشاعر للتعبير، ولكن ما يعز علينا أن هذه المعطيات الفنية لم توظف بعيداً عن الطقس الرومانسي الذي هجر الحس الواقعي، ولم يحاول أن يتجاوز الرؤى البسيطة والتجارب الرومانسية المغرقة في الذاتية، أو تجربة الحب والتي تركزت في معظمها حول "بنت الذين" / المحبوبة ، سواء بالحديث إليها أو عنها، واصفاً لها وشاكياً إليها، متغزلا تارة، معاتباً تارة أخرى، معبراً عن إعجابه بها ، أو شاكياً لواعج أشواقه إليها، أو تحدى الزمن والظروف لحلمه الذي يترامي نحو الوصال بها أو الزواج بها، أو ديمومة العلاقة معها. وقد استغرقت هذا الهم العاطفي مساحة شاسعة من الديوان ، قلما فارقها إلى طقس رومانسي آخر يتهادى به نحو الماضي الجميل، أو التعلق بالحلم، والأمنيات، أو شكوى الزمن أوجفاف العلاقات، أو الوحدة، أو الشعور بالغربة.
ومع شيوع هذا الطقس الرومانسي كنا نتوقع أن ينتقل المستوى اللغوي إلى الاستفادة من الموروث الرمزي لهذه المدرسة التي أثرت الأدب والفن بالرمزية، وفتحت الطريق واسعا نحو التوظيف الرمزي للغة، وما أكثر هذه التوظيفات الرمزية في الحياة الشعبية وعلى ألسنة العامة، وكأن الشاعر صاحب التجارب استنكف على نفسه أن يكون عند مستوى إنسان القصيدة وصاحب اللهجة في توظيفاته الرمزية للغة، في الوقت الذي استنكف فيه توظيف المنجز الرمزي الرومانسي الذي يشكل عنده هاجس التجربة.
ثمة إشكالية أخرى تبدو جديرة بالملاحظة في تجارب الشاعر هنا المغلفة بغلاف شفيف من وجدان مترع بالمشاعر الرومانسية، وقد قلنا إنه بدأ يحصر تجاربه في نطاق الذات الحالمة المتباكية الشاكية، المترامية نحو أفياء المحبوبة وعالمها.. الإشكالية أن الشاعر بدا في بعض التجارب مستعيراً لتجارب مصطنعة، على ألسنة ذوات آخرين، لتتحول التجربة الشعرية عنده إلى خطاب يتوسل بالنظم المفرغ من الذاتية تماماً، وربما تحولت الكتابة الشعرية إلى تزجية للفراغ أو دفعاً للمل، وهو يكتب على لسان الحزينة التي فقدت زوجها، أو الزوجة التي تهدهد مشاعر زوجها، أو الغريب الذي سافر إلى الخليج مخاطبا زوجته.
ومن هذه الجارب ما نقرأه على لسان الزوجة مخاطبة زوجها في قصيدة (تسلم وتعيش):
تسلم وتعيش .. يا أبو قلب مفيـش أبـداً منه
فرحني هواك .. والعمر معاك عصــافير غنوا
إلى أن يقول :
يا هنايا وضحكي وتغريدي أنا قلبي بيعشق مواويلك
من أول مــا دخلت حياتي خليت الأيـام يتهــنوا
(ص 18 ـ بشاير الميلاد)
ونقرأ على لسان امرأة تخاطب حبيبها السابق أو زوجها التي انفصلت عنه في قصيدة (مش من حقك):
عارفاك .. لــسه بتتمـناني وبتتمني أرجــع لك تـاني
بس خلاص ما بقاش في الإيد قلبي سـعيد مع واحـد تاني
ح تقول ناسية ؟ أيـوه نسيتك عايشة في دنيا جميلة وسيبتك
مش من حقــك ولا من حقي تبـقى حبيبي وابـقى حبيبتك
( ص 28 ـ بشاير الميلاد )
أما وقد احتفت التجارب بالإيقاع والإصاتة على نحو ما أوضحت، إلا أن هذا الجهد الإيقاعي كان يسير في إطار النظم الذي يخلو من وهج الشعر ، وقد خفتت الصورة الشعرية تماماً وجنح التعبير المموسق نحو المباشرة ، وفي أحسن الأحوال كانت الصور النادرة مستهلكة بلا جهد، قريبة المأخذ والطرفين من نماذج الاستعارت البسيطة الشائعة، فيما أضحت القصيدة مجرد طنطنة موسيقية وإيقاع أجوف، خاصة في التجارب الأولى من الديوان، وإذا شئنا أن نحصي فسنجد الكثير من المساحات غير الشعرية التي تفترش الديوان. ومن أمثلة ذلك ما نقرأه في قصيدة (مش من حقك):
روحي لواحد غيرك راحت إنسـان كل ما فيه حبيته
كل جوارحي معاه ارتاحت حنة عمري لقيتها ف بيته
لازم تفـهم إنـك مـاضي بعد ما كنت بتجري ف دمي
مش مسموح لك تبقى قصادي حتى في حلمك.. حتى في حلمي
( ص ـ 28 بشاير الميلاد)
حتى عندما تحررت التجارب من قيود الشكل إلى الشكل الحر، لم تكن ليُستغل هذا التحرر في إنتاج الشعرية بعيداً عن التقاط الجاهز من الصور البسيطة والتعبيرات الاعتادية التي يستنكف الشعر عن التقاطها من المساحات المشاع، نطالع مثل هذا الجهد المتواضع في قصيدة (يا بنت الذين ..!! ):
"يا عمري اللى عدى .. / وعمري اللى جاي .. / بادور عليكي .. / لقيتك معاي / وشوفتك حقيقة / تفوق الخيال / يا غنوة رقيقه / يا كل الأمال / يا بنت الذين !! / أخيرا قابلتك / يا ست البنات... إلخ" ( ص 29 ، 30 ـ بشاير الميلاد)

(2 ـ 2 )

ديوان (لا يوجد رد) للشاعر أحمد عابدين يحوي تجارب شعرية متحررة من قيود الإشكال الشعرية التراثية لقصيدة العامية، بيد أن الديوان يطرح عدة إشكاليات نقدية منها وقائعية الشعر.
فقد حرص الشاعر على توظيف الوقائع الشخصية في نسيج شعري، ليظل النص سجلا لواقعات ما حدث دون أن تتحول الواقعات إلى واقع شعري، أو بالمعني أن الواقعة لم تتشكل رمزياً، أي أن الشاعر لم يواجه تشكيل الواقع بتشكيل يوازيه رمزياً، فكان الشاعر كنوع من الرسامين الذين لم يعفهم اختراع العدسات من أداء مهمة المحكاة المرآتية.
ففي أحد جوانب معضلة الصلة بالواقع، وتمثله وترميزه داخل النص، تبرز مشكلة تحويل الواقعة الخارجية ـ المنضوية تحت سلسلة وقائع يومية ـ إلى واقعة فنية تقبلها أبنية الأعمال الأدبية ونظم القول.
لقد كان تحدي الواقع الماثل من أبرز التحديات التي واجهت الفنانين والأدباء، فأي إنجاز فني يرقى إلى أثر اللون الطبيعي المتكون في الخارج؟ وأية رواية تستطيع اختزال ما يعرف ب (الواقع الملموس) وتقديمه بحرارته وألفته؟ وكيف يستطيع شاعر ـ مهما واتته المقدرة ـ أن ينتزع الانفعال من سلسلة تتصل به في مجرى الواقع ليضمنه قصيدة؟
إن صلة العمل الأدبي والفني بالواقع كانت أقدم قضايا الشعرية منذ إفلاطون، وكما نعلم فإن أرسطو كرَّس مفهوم المحاكاة رغم تفريقه بين أنواعها الثلاثة وتنبيهه إلى (واقعية المحتمل) وتأكيده أن مهمة الشاعر الحقيقية "ليس في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع، فالمؤرخ والشاعر لا يختلفان في أن الأول يروي الأحداث التي وعت فعلا، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع. (2)
ولعلنا نطالع قصيدة"مشوار سفر" وقد خفت فيها الشعر تماما ليتحول النص إلى مجرد عرض حكاية بأسلوب يوظف إمكانيات التقفية في خلق طقس مموسق لعرض واقعة جلوس الشاعر بجوار راكبة في القطار المتجه من القاهرة إلى الصعيد، دون أن نلحظ وراء الحكاية ما يؤكد تحول الواقعة الخارجية إلى واقعة فنية تحمل دلالة ما أو توجه رمزياً نحو طرح رؤية شعرية، فيما خفت الجانب التصويري تماما لتبرز ظاهرة "تنثير الشعر" وقد تحول النص الشعري إلى حكاية نثرية تهدف إلى التسلية وتزجية الفراغ على أحسن احتمال.. يقول الشاعر:
"ركبت القطار من مدة / وركبتْ جنبي أنا وحدة / نظرتها صحيح تدهش / حلاوتها ف ملامح الوش / اتكلم لأ ماتكلمش / يا عمّ عليَّ مش واخدة / لقيت الساعة جات ستة : لغاية جرجا ساكتة ..." ص ( 14) إلى أن يقول : ( قلت يا حلوة اسمك إيه / قالت اسمي يهم في إيه / قلت يا ريت تقولي عليه / قالت اسمي أنا وردة ..." (ص 16) إلى أن ينهي النص بالقول: " ورحت أبوح لها بحبي / وافضفض ع اللى ف قلبي / لقيت الوقت كان عدى" ( ص 17)
ومن عينة هذه الوقائعية المتأبية على التحول إلى فن نقرأ الكثير في هذا الديوان حيث يذكر الشاعر في قصيدة "كمين" واقعة اعتراض كمين الشرطة له أثناء ذهابه إلى صديقه "محمد جاد المولى" ليطلعه على قصيدة (الريس) ، حيث يقول: "شفته الهولة / المرة الأولى / قلت أروح لـ ابو جاد المولي / بقصيدة الريس / أخذوني على طول / وعشان يستنوا اعمل فيها/ كام تليفون ... مفيش" ( ص 49)
وفي قصيدة (كولدير نادي الأدب) يخاطب صديقه كولدير نادي الأدب (مأمون الحجاجي) ليذكره بواقعات محددة في حياتهما حدثت في سفاجا وأماكن أخرى ، وكذلك في قصيدة كاملة يطرح واقعات سرقة حبيبة قلبه (الجزمة) إبان تواجده في القاهرة دون أن نلمح وراء عرض هذه الواقعات أي ملمح لواقعية شعرية وقد تأبي النص على التحول إلى رموزية فنية أو إلى مغزى شعري غير عرض واقعات ما حدث بطريقة لا تخلو من الاستظراف، وأحيانا عرض حادثة طريفة مثلما نقرأ في نص (الفايق) حيث وصًّل الشاعر خدمة تليفون أرضي في بيته لأول مرة، ولكن التليفون لم يرن ولو مرة وحدة، على عكس تليفون بيت عمه ، الأمر الذي اضطر معه الشاعر إلى أن يعطي ابن عمه نصف جنيه وطلب منه أن يتصل به من كابينة خارجية.
إننا ولا شك مع طرافة الشعر شريطة أن يطرح رؤية ما أو رسالة ما وأن يكون محملا بقدر من الشاعرية يجتاز به حد المجانية أو مجرد عرض قصة طريفة، والأمر على هذا فلن نبحث عن التكثيف الشعري أو تلك الأخرى التي حددناها بالتكاثف الشعري وقد أضحت المساحة خلواً من الشعر.

******
إننا لا ننكر على الشاعر في بعض تجارب الديوان محاولته التشكيل الصوَري والتقفية المتعددة نحو انسيابية الشعر ورسم صور ممتدة ، والبحث عن صور وتعبيرات مبتكرة ، مثل ما نقرأ مثلما نقرأ في قصيدة (نعي):
"أنا اللى باصطاد كلمتي بتضحك / وباصطادها حزينة / واسحب شِباكي / من ضلوع بحر الشبك / تطلع لي صيدة / رحت أشمر كُم الكلام الصعب / عن كلمة بتغني /طلعت الآهة / مطلعتش القصيدة " ( ص 9، 10)
أو مثلما نقرأ في قصيدة (الحليوه لابسة كاب):
"باقطف من عنيكي القصيدة / بالوزن والقافيه / وسؤالي إيه عامله / سبحة في أيد مؤمن / بتلم من قلبي الكلام دعوات / بالصحة والعافية / الشمس بتروح للحليوه / ال.. لابسة كاب / والليل على شعرك طريق واخدك على ضهر النجوم / وبيرمي في الناس ع الجناب ... إلخ" ( ص 17، 18)
******
من الإشكاليات الأخرى التي يطرحها الديوان هو تخالط اللهجات وتباين مستويات الاستخدام اللغوي، فقد استخدام مفردات أكثر عصرية تقترب كثيراً من عالم التكنولوجيا وأدوات الإنسان العصري وخاصة الاتصالية منها، من عينة: " الفيشة، التليفون، السلك، الفيديو كليب، البطاقة، الطيارات، الدبابات، القطر، التليفزيون، كولدير، البيتش، ماتش، مقاطع فيديو، كارت الميموري، جيجا، كارنيه، جهاز لاب توب، بلوتوث، برنامج حماية، فيروس، الموبايل، العدة، البار... إلخ" ليس هذا فحسب، بل أيضاً استخدام التعبيرات الشائعة في الشارع المصري لتكون معبرة عن واقية التجربة والتصاقها بواقعها وبإنسان القصيدة وحياته المعاصرة بما فيها المستوى الشعبي المتداول في الشارع: ومن هذه التعبيرات الكثيرة نلتقط: " القحبة ، سجايرنا واحنا بنتخانق ، مين ح يرش ، من يومك جامد ، أنا فايق مش سكران ولا شارب، تليفون بيت عمى مش بيبطل رن ، فاصل شاحن ، خارج نطاق التغطية ، جارى الاتصال ، اعمل برنامج لحمايته ، لو ليه بلوتوث يستقبل بيه ، بعتنله مقطه صوت ، جاري البحث ، وان شالله بعد لتحويل ما يفضل غير بس الرنات ، لو اركِّب كارت بواحد ميجا ، طلقة بانجو ، قرش حشيش ، تملى كارت الميموري بواحد ميجا ، مقصدتش مرة كولدير ، إنت زي ما انت طبيعي فرِش .... إلخ " وبجانب هذا المستوى من التعبيرات العصرية، والشارعية منها تنفتح لهجة القصيدة على مستوى آخر لغوى واسع يربطها بالعامية المصرية على عموميتها، من عينة: "الناس يومها بيوم، أما يومي بسنة ـ عايز م الآخر حد تاني ـ وحلفت ما تسيبك غير لما تسيب ـ حتى في عز الحزن بيضحك ـ ركبت القطر من مدة ـ حلاوتها ف ملامح وشها ـ افضلنا على دا الحال لغاية ما مسكت الجورنال ـ محطة ورا محطة وصاحبتنا ولا ناطقة ـ مدت إديها ع الشنطة وقالت تعا اتغدى ـ حاهيص وحاخلي كل الشعب يهيص ـ إنت بوشين ـ لغاية ما حسيت بالقرف وإنت معدوم الشرف ـ ما بلش ريقي ـ.... إلخ)
إلا أن مثل هذا المستوى المنفتح على عمومية اللهجة المصرية ، ما يلبث أن يحتضن مستوى آخر من اللغة يحتضن لهجة صعيدية واستخدامات ريفية للغة تربط القصيدة ببيئة معينة ومستوى لهجي يخصها ومن هذه التعبيرات: " قلت لواد عمى خد نص جنيه واطلبني من عند الدكان ـ وصحيت م النوم على صوت زيِّيك الكنبة الدايخة ـ الفرجة ع التصاوير بخد الحيط ـ يتحول إلى زيقي ومقي ـ حاسدك يا واكلهم ـ مسحراتي ياجي ـ اسند بطنك بلقمة ـ اطَّقَّر ياللا غورـ غناوى التلفزيون ـ حاجيب بنانيت ـ كلمتين زي اللى في جوفي بتفط في عيوني شجر في الغيط ـ مفيش نتاية تعاكس ـ ... إلخ ) غير أن هذا المستوى الأخير يربط القصيدة بشاعرها خاصة في الجانب السِّيَري من التجربة حيث تحفل بكثير من التفاصيل الحية المعيشة ، ولتصبح القصيدة أكثر التصاقا بالمعيش واليومي والحياتي والحقيقي بعيداً عن المتخيل الشعري، وقد افصحت التجارب عن مستوى الشاعر اللهجى بصفته إنسان القصيدة الذي يحدد ارتباط التجربة بقاعدة لهجية أولى تتسع لتشمل عمومية اللهجة المصرية وانفتاحها على الشارعي والمتداول والمعاصر منها، وربما أن ما يدلنا على المستوى اللهجى الأول بقاعدته اللهجية البيئية هو الإهداء الذي جاء بداية الديوان ليحدد المستوى اللهجي البيئي الذي يربط التجربة بقاعدة لهجية أولى ريفية صعيدية تجتمع فيها (البرويطة) والفرن البلدي. يقول الشاعر في هذا الإهداء : " إلى والدي الفقير.. ذلك الرجل الذي يحسبه الجاهل غني، والذي بلغ من قناعته مما في يده أن كتب على البرويطة "يا ناس يا شر كفاية قر" .. وإلى أمي .. الكولدير الذي يروي عطش روحي .. تلك الطيبة التي دائما وأبداً تجعل كتبي وأوراقي وقوداً لفرنها البلدي" ص 7 ـ لا يوجد رد) وبصرف النظر عن ركاكة التعبير في هذا الإهداء وارتباك بنائه وعدم دقة استخدام حروف الجر ، إلا أن ما يلفت فيه هو اجتماع (الكولدير) مع (البرويطة) و(الفرن البلدي) في مشهد واحد تبدو معه مفردة (الكولدير) هجينة وغير منسجمة مع بقية مفردات المشهد ومستواه، وكان الأوقع والأنسب منها (الزير) أو (البلاص) وهكذا تبدو إشكالية الترقيع اللهجي ومستويات الاستخدام اللغوي مفضية إلى إشكاليات فنية تفقد التجربة هارمونيتها وانسجامها وتعكس تنافرها ورقاعتها في نفس الوقت، غير ما تعكسه هذه المفردة من إشكالية دلالية، سواء في موضعها هذا أو في المواضع الأخرى حيث وردت المفردة في عنوان أحد القصائد ناعتا بها صديقه مأمون الحجاجي بوصف "كولدير نادي الأدب" ولعل المتبادر إلى الذهن ما أن نسمع مفردة "كولدير" هي البرودة، وليس الماء، ولعل مفردة البرودة، والبارد سبة في الاستخدام العامي عندما ننعت بهما الأشخاص، وهكذا هي المفردة هنا تشي بالقدح والذم رغم أن الشاعر استخدمها في موضوع المدح.
تنتقل اللغة بمحدداتها اللهجية إلى مستويات أخرى ولهجات أخرى، ولعل هذا هو ديدن التجربة التي تنتقل بين المستويات اللغوية المستويات التي حددتها إلى مستوى آخر مغاير فصيح. مثلما نقرأ في قصيدة (آه يا حبيبتي ):
"وفي عنيكي بتفرفط قلوب الطيبين / وتحت رجليكي / بتستشهد مهج" ( ص 39) لترطم ذائقتنا مفردة(مهح) التي تتأبي على الاستخدام العامي متجاورة مع (بتفرفط) العامية القح.
ومثل ذلك ما نقرأ في قصيدة (الحب الساكت): "وأحب اهوا لو جه ساكت / في شهيق في زفير / في إشارة في رمز" ( ص 10) ولعل العامة لا يستخدمون مفردتي : شهيق وزفير وهما فصيحتان.
ومثل هذا التخالط بين المستويات اللغوية نجده أيضاً في قصيدة (عايز منى) حيث يقول: "ولازم أواجه / اجتياح الصمت / لبلاد الكلام) ( ص 26) ثم بعدها يقول : " واهرب من الدنيا / من كسوفي / بالفرجة ع التصاوير بخد الحيط" ( ص 27) ولعلنا نلاحظ مستوى الفارق بين مستوى(اجتياح الصمت) ومستوى ( الفرجة ع التصاوير بخد الحيط)
ثم لنتقل بعد ذلك إلى التخالط بين السمتوى العامي القح والمستوى المتفرنج ، مثلما نقرأ في قصيدة (كولدير نادي الأدب) الذي قال فيها الشاعر: "حاسدك يا واكلهم على ميزة " ( ص 29) ثم قال: "متلخبط ياخى / بين برة وجوه / بتقولى فري/ الشاي فري / واضطر أعزمهم بالقوة" ( ص 31) ومن عينة هذا اللون من التخالط كثير وكثير في الديوان.
قد يعترض معترض على تحجيم حرية التخالط اللهجي ومستويات اللغة في هذا الديوان بالقول إن الشاعر من الأقصر وهو يتمثل المستويات اللغوية التي تتخالط في الشارع الأقصري حيث الأجانب وأهل الصعيد والمصريون عموما يتحاورون في الشاعر الأقصري.
ومثل هذا القول مردود عليه بالقول: نحن لا نكتب بالأشخاص ولا بالبلدان وإنما نكتب باللهجات، وعلى الشاعر اللهجي (العامي) أن يتخير لهجة القصيدة بصرف النظر عن لهجته هو أو لهجة البلد التي يعيش فيها، فالقضية ليست مجرد تفهيم، أو مجرد توصيل رسالة، بل هي رسالة فنية تخضع لاشتراطات فنية، وشاعر العامية أو الشاعر اللهجي على أحسن تسمية له، إنما يكتب شعره وينطقه بلهجة مفترضة لها قارئها المفترض في التاريخ، وهو قارئ ليس لقيط الثقافة على أية حال، من جهة أخرى إن إشكالية تخالط اللهجات ومستويات اللغة يؤثر على فنيات القصيدة ويخلق تنافراً غالباً ما يكون ضد انسجامها ـ على نحو ما أوضحتُ ـ في نشاز الكولدير كمفردة تجاور البرنيطة والفرن البلدي. من جهة أخيرة ومهما تعددت اللهجات في الشارع الأقصري فإن ذلك لا يعني أنها بلا هوية، أو أنها ذات هوية مرقعة تشف عن ثقافة مرقعة، بل العكس هو الصحيح فالأقصر هي مخزن مصر الثقافي ولها هويتها الأصيلة.
وقد يرد آخر بالقول إن الحدود غير مفصولة بين العامية والفصحى خاصة في الأدب الشعبي، وقد بدأ به الزجل، حيث التخالط واضح بين الفصحى والعامية، وردنا على هذا: إذا كان التخالط واضحاً بين الفصحى والعامية في الزجل، فإن الفروق واضحة بين الزجل وقصيدة العامية.

( 2 ـ 3 )
في ديوانه (بكره أكيد الصبح جاي) بدا الشاعر شاذلي عبدالعزيز محدداً اختياره بخصوص المستوى اللهجي، وآثر أن يكون أكثر انحيازاً للجهة واضحة المعالم من لهجات الصعيد، بل وأكثر اقترابا بتجربته من إنسان هذه اللهجة. نلمح هذا التقارب من هذا الإنسان وبيئته وظروف حياته ومستوى معيشته في عدد من القصائد منها قصيدة (الجدة والمحمول) يقول ناقلاً عالم الجدة ومعيشتها:
"الله يرحم أيامك يا جدة / محمولك كان هو الجرة/ والخط بتاعك م النيل للزير / قوام قوام تعبي الزير / يرجع جدي من غيطه .. عطشان / وف حجره شوية قناديل / يشرب من نيلك يرتاح / وف غمضة عين تشوى القناديل" ( ص 11 )
نلاحظ هنا التركيز على المشهدية المعبأة بالحركة، ومفردات البيئة: " الجرة (البلاص) ـ النيل ـ الغيط ـ القناديل (كيزان الذرة الشامية) ـ الزير ـ العصافير"
ومن مثل هذه المشاهد المعبأة بالطقس البيئي في قصيدة ( إلى مجاهد):
"عصفورك لخرس مبقاشي / للتور الهايج بيماشي / المية نشفت في القلة / والشمس خلاص .. كَلَت الضلة/ ولامتى حاتفضل تتخلى" ( ص 15)
نفس التركيز على المشهدية المعبأة بالحركة واللون والصوت ومفردات البيئة وطقوس الصباح في القرية نجدها في قصيدة (روح البيوت):
"الليل مدبوح/ فوق الدروب الميتة / ساعة ما يحين المسا / وبعد آذان العشا / كل البيوت تسكت / تموت / وتعاود الروح من جديد / مع طلعة الفجر الوليد / صوت اللبن / نازل يغني ف الماجور / تتوضا بيه كل العيون / ويسيح التلج اللى / نايم ف القلوب / صوت المواشي .. والغفر / اللى نامت في الدرك / تحت الدرك / تحت السقيفة المدارية / خايفين من البرد السمين / الندب اللى طالع م الماجور / لما يحضن العجين / زعيق مقاول بيلم أنفار القصب ...إلخ " (ص 46 ، 47)
التجارب الشعرية تعلن انحيازها لإنسان هذه البيئة وقضاياه وهمومه، والذات الشاعرة التي تحن إلى عالم الجدة والماضي الجميل، هي نفسها المترعة بالمشاهد البئية التي تحوي عالم هذا الإنسان المرتبط به وجدانياً وثقافياً، ومن ثم تعلن التجارب الشعرية عن انحيازها اللهجي بشكل واضح لما تنتمي إليه الذات الشاعرة وترتبط به روحيًا وثقافياً، والمعنية بالكتابة عنه وله وإليه، ليس بوصف القصيدة عالما مغلقاً عليه، ولكن بوصفها رسالته إلى العالم من خلال شاعر يرتبط به ويشعر به وبقضاياه وهمومه ويشاركه أفراحه وأتراحه، هي ليست مهمة شاعر القبيلة كما يظن البعض، رغم إن ذلك صحيح، بيد أنها رسالة الشاعر عموما، والشاعر اللهجي على وجه الخصوص.
ومن مظهر هذه اللهجة، ليس بمستوياتها الصرفية فقط، بل بخصوصية مفرداتها أيضاً نسجل على سبيل الاستشهاد: "على اتفه شيء / بنتعادى .. فبزيادة " (ص 9) ( بزيادة: بمعني : كفى) ـ و " قالك "بختية" من غير بنت / طب تعا شوفى بنات الست / لابسين جلاليب من غير أكمام / ولا طرحه ولا حتى حزام " ( ص 13 ) ( تعا: بمعني :تعالى ، حيث قطع الجزء الأخير من الكلمة ، جلاليب: جلابيب جمع جلباب ) ـ و " صبغتي ضي الصبح ليل"( ص 58 ) ( ضي بمعنى: ضياء وقد قُطِع جزء الكلمة تخفيفاً) ـ و " تحطى الغلة في قطوفه / لجل بسرعة توصل جوفه " (ص 12 ) ( قطوفة: مقاطفه، جمع مقطف، لجل: لأجل) ـ و "أفنس من قبري ألاقيك / غرقان في بحورك أوهامك" ( ص 16) (يفنس: بمعنى يطل برأسه ناظراً) ـ و " والحق ما ياجي غير قوة" ( ص 18) ( ياجي : يجيء ) ـ و "الموت في خشم شارعنا / بص وفنس " ( ص 33) ( خشم بمعني : فم ، وفنس بمعني: طل برأسه ناظراً) ـ و "تحت السقيفة المدََّارية" ( ص47 ) (المدّارية: المتوارية، من الفعل توارى وتم تصحيفه إلى تدارى) ، " هيانا واحنا جواكي بايعانا، وقولبنا شرياكي" ( ص76) ( هيانا: ها إننا )
وعلى أساس هذا الانحياز اللهجي كان التأسيس البلاغي يقوم، منسجماً مع هذه اللهجة وخاضعاً لها، فالمعروف أن الكناية ابن بيئتها، والمعروف أن لكل مستوى لغوي مستوى استعاري يستوجبه، وأن الصور المنتزعة من البيئة أصدق في التعبير عن صدق الوجدان الذي يعايش هذه البيئة، ومن المعروف أن انسجام مفردات الصور المركبة يعطيها قيمتها الجمالية، وكذلك اندغام مفردة المشاهد الشعرية في سياق متجانس يخلق روعتها وتساوقها.
ومن هذه الصور والمجازات نسوق على سبيل الاستشاد :
"والصبر خلاص قطع المربط / الحق بيلطم ويفرفط" ( ص17) ولعل تجسيد صورة الصبر في صورة الدابة التي جمحت بعد أن قطعت الحبال التي يربطها صاحبها بها هي صورة منتزعة من البيئة التي تتمثلها اللهجة ، ومن ثم تأخذ الاستعارة معناها وقيمتها باستدعائها لطقسها الثقافي، وبمدى فهمنا للمستوى اللغوى وخبرتنا ببيئة المستخدم للغة (أصحاب اللهجة)، وكذلك :"وامريكا النطع اللى بيخف / خلف الله عليكم يا محبين / ولا هو بيدفن أمواتنا/ ولا غسَّل ميت في حارتنا" ( ص17) وهذه الصورة لأمريكا لا تفهم إلا في إطار فهم الطقس الشعبي لأصحاب اللهجة (لغة القصيدة) حيث تصور أمريكا في صورة (النطع) وهي كلمة احتقار ، فالنطع في الأساس هو شبيه العجل الصغير الذي يصنع من جلد عجل صغير تم ذبحه، فيؤخذ الجلد ويحشي بالتبن.. وفي الغالب عندما يتم عزل العجل الصغير عن أمه لذبحه، فتتأبي البقرة الأم عن إدرار اللبن إلا في وجود صغيرها، فيؤتي بهذا النطع/ الشبيه بجوارها، فتتوهم أنه ابنها فتدر اللبن. ولكن الكلمة تطلق على أشباه الرجال وهي سبة. غير أن المراد بالنطع في إطار الصورة هو الشخص الذي يأتي صباح يوم العرس ليحلق شعر العريس ويزينه، أو يوم ختان الصبية أيضاً، وفي المساء يحضر في مضيفة العائلة في بداية الليلة ليخلف أي يردد "خلف الله عليكم يا محبين" بمعني " يخلف الله عليكم يا أحبابي أي يعوضكم خيرا عما سوف تدفعونه لي" وفي مقابل هذا الدعاء يضع الحاضرون بالتناوب بعض النقود في يده، ليستأنف الخلف ، جامعاً الكثير من الأموال في جيبه ويمضي، هذه هي صورة أمريكا التي تخرج من أعراس العرب بالفائدة ، ولا تعطي شيئاً حقيقيا في المقابل، وهي مثل النطع الذي يعيش على جيوب الآخرين.
ومن هذه الصور أيضاً ، ما يجسد المعنى في نداء الشاعر مصر، في صيغة إنشائية " متتحزميش بالعقالات" ( ص 42)، فإذا كان العقال هو ما يُربط به البعير، فهو أيضاً ما يضعه الجليجيون على رؤسهم فوق الشملة، أو الغترة، واستخدام الكلمة هنا استخداماً مجازيًا حيث أُريد لابس العقال وليس العقال نفسه، ويدلنا على هذا الاستخدام ، أصحاب اللهجة أنفسهم إذ ينصح الواحد منهم الآخر بالقول: " متتحزمش بفلان" أي لا تعتمد علي فلان لانعدام نفعه، تشبيهاً له بالحبل البالي الذي سرعان ما ينقطع، ونصيحة الشاعر هنا لمصر ألا تعول على أهل الخليج ولا تعتمد عليهم في شيء لعدم جدواهم.
ومن هذه الصور أيضاً في حديثه عن أمة العرب "باضت وجابت بيضة مِح" (ص 31) وهي كناية شبيه بالقول" تمخض الجبل فولد فأراً" وفي إطار التجربة الشعرية هنا فالأمة العربية أشبه بالدجاجة التي تهيأت لتعطي بيضتها، ولكن البيضة غير صالحة لأن تعطي كتكوتاً لأنها "مِح" (بكسر الميم) ـ حسب اللهجة ـ والبيضة المح هي الخالية من لحيوان المنوي للديك.
والحقيقة أن جل صور التجارب الشعرية في هذا الديوان منتزعة من البيئة ومرتبطة باللهجة، ومنسجمة مع بعضها في إطار بيئة إنسان اللهجة التي ينحاز الشاعر إليه.
والحقيقة أيضاً أن الشاعر ورغم انحيازه الهجي الواضح، وإخلاصه لأصاحب هذه اللهجة وقضاياهم، وارتباطه وجدانيا بهم، وخضوع تجربته على مستوى المجاز والرمز لهذه للهجة ومستواها اللغوي، إلا أنه لم يستطع أن يأتِ بالثوب قشيبا خالصاً من خوزقة الفصحى لهذا المستوى اللهجي الذي انحاز له بداية، وكذلك بدت عنده بعض الأساليب غير متسقة مع بعضها في إطار لهجة واحدة وخاصة أسلوب النفي.
ومن مظاهر خوزقة اللهجة بالفصحى نلمح في بعض المواضع القليلة نسبيا جنوحا نحو استخدام مفردات فصيحة في سياق لهجي قح، مثل: "ولد من فرط أوجاعه وأوجاك بينامشي" ( ص 9) حيث مفردة (فرط) بمعني : الكثرة المفرطة، و كذلك "الضحكة من فمك حياة / والكلمة منك طوق نجاة" ( ص 20) حيث مفردة (فم) فصيحة وقد استخدم الشاعر في موضع آخر "خشم" بدلا من هذه المفردة ، وبما يتفق مع اللهجة، وكذلك " خدلك كاسين نخب الشجاعة " ( ص 28) وأظن أن التعبير "نخب كذا" فصيح وشائع في الكتابات السردية الفصيحة. وكذلك "كل البيوت صارت ضريح" (ص 29) والعامة لا يستخدومن ضريح، وإنما يقولون في معناها: "المقام" وكذلك: " بنت تنفخ / في الجرار / خايفة بطول الانتظار" (ص49) وأظن أن "جرار" كلمة فصيحة تماماً، والبديل العامي لها "البلاليص" وذلك "طفيتي كل القناديل / صبغتي ضي الصبح ليل"( ص 58 ) ، والقناديل بمعنى المصابيح استخدام فصيح تماماً، وقد سبق أن استخدم الشاعر ـ في موضع آخر ـ "قناديل" بمعني: كيزان الذرة الشامية، توافقا مع اللهجة، وكذلك و"إن قطفنا جني غصنك / توصفينا بالوباء" ( ص63) والعامة لا يقولون "الوباء" بدون تخفيفها من الهمزة لتصبح "الوبا" ، و "ولا استعذبتي السكوت وموت العيال؟!" (ص76) وأظن أن "استعذب" فصيحة تماماً ونادرة في الاستخدام العامي. وكذلك " ح لف في ربوعه وأدور" ( 32) وخضوعا للجة كان فإن "أدور" يستخدمها العامة بدون همز: وعليه فهي إملايئاً "ادو" أما "ربوعه" فهي فصيحة تماماً. وكذلك: "قدام دفاية النار تتطهر / من أي خبث ودنس" ( ص33) وعلى ما نلاحظ أن الخبث، والدنس كلمتان فصيحتان.
أما فيما يختص بأساليب النفي فنجد في نفي الأفعال الأشكال الأسلوبية التالية:
ـ "تلاقي المية عادتشي" ص (8) ، حيث جاء أسلوب النفي مكوناً من:
الفعل (عادت) + المقطع (شي)
ـ "وأحزانه ما بتصمشي " ( ص 8) ، حيث جاء أسلوب النفي مكوناً من:
ما + الفعل (تصوم) + المقطع (شي) ويلاحظ أن الفعل الباء ملاصقة للفعل المضارع هنا، للدلالة على العادة والتكرار.
_ "ولد من فرط أوجاعه وأوجاعك بنامشي " ( ص 9) حيث جاء الأسلوب مكوناً من : الفعل + المقطع (شي) ، بدون استخدام (ما)
والملاحظ أن الأساليب الثلاثة السابقة وردت في قصيدة واحدة رغم اختلافها تركيبياً.
ـ "عصفورك لخرس مبقاشي " ( ص 15) حيث أتى الأسلوب مكوناً من :
م + الفعل + المقطع (شي) . ويلاحظ اتخدام حرف الميم بدلا من (ما)
ـ "دا الحق ما ياجي" ( ص18) ويلاحظ هنا أن الأسلوب جاء مجرداً من الباء اللاصقة، والمقطع (شي) وخضوعاً للمستوى اللهجي الشائع في الديوان ، يكون الأسلوب: مابيجيشي هو المتناسب مع الأساليب السابقة.
ـ "الغالي جوزي مات / ولا يرجعش اللى فات " ( ص 38) ويلاحظ هنا استخدام حرف الشين بدلا من المقطع (شي) ومثلها أيضاَ : "وليلة الحنة يحنوكي/ ولا اتحناش / وفي الزفة أكون عريسك اللى ماجاش " (ص 41) حيث استخدم حرف الشين بدلا من المقطع (شي)
أما أغرب ما يمكن أن نلاحظه من أسليب النفي هنا هو نفي الجملة الاسمية بدون أداة نفي، من عينة:
بطن قلابة .. هيش محتاجة" ( ص 57) ، والمعنى المراد الفصيح" ليست محتاجة" وقد عبر الشاعر ب(هيش) بمعني ليست، وفي ظني أن الشاعر هنا في هذا الموضع الأخير يخترع لهجة وأسلوب نفي.

***********
باتجاه الشاعرية والتكثيف الشاعري يطرح الديوان إشكالية الفجوات اللاشعرية حيث الاهتمام بالإيقاع الصاخب معتمدا على الوزن والتقفية المتقاربة المتلاحقة، ثم التنويع فيها، معليا من قيمة الإيقاع، والإصاتة حيث كانت تتكرر الأسطر والمقاطع الصوتية ، بيد أن هذا الجهد الإيقاعي كان على حساب تعبئة النظم بالشعر، حيث خلت مساحات كثيرة من وهج الشعر، أوالتعبير بالصورة، فيما حلت الطنطنات والمباشرة في التعبير محل الصورة الشعرية ، بجانب خفوت المجاز وغياب البعد الرمزي للغة، خاصة في التجارب التي برز فيها الحس الوطني حيث تعالت نبرة الخطابة والمباشرة على حساب القيم الجمالية التعبيرية الشعرية.
ومن مثل هذه المساحات ما نقرأه في قصيدة "عزاء واجب" حيث تتكرر جملة "عزيني عزي في الوطن" ممهداً بهذا التكرار للنقلات بين أطراف الخريطة العربية من جهة إلى أخرى متوقفاً عند أجزاء منبطحة أو خاضعة للاحتلال من خريطة العرب مثل بغداد وفلسطين والخليج، حيث يراها الشاعر ميتة ، ومن ثم وجب استقبال العزاء فيها حيث تكررت جملة "عزيزني عزي في الوطن" ست مرات محدثة تكراراً صوتياً يتخلل النص القصير نسبياً، يضاف إلى ذلك التقفية المترادفة المتلاحقة في الجمل القصيرة المتوالية، من عينة:
"عزيني عزي في الوطن / يا قدس يا مهد / المسيح/ كل البيوت صارت ضريح / ألفين شهيد .. مليون / جريح / شاهد هناك حجر/ البراق / ما يصير معاهم اتفاق / وطيتو ليه كل الرقاب / وعبدتو ليه تاني الوثن / عزيزني عزي في الوطن" ( ص 30 )
ومثل هذا الطرح أيضاً ما نقرأه في قصيدة (وصية شهيد " حيث يقول:
" م تخافيش عليا ياما / هاتي ضمة وخدي ضمة / جانا غازي ما عنده ذمة / فاكر إن بلادنا أمه " إلى أن يقول: "دوري عليا يامه في الصفوف / واسألي اصحابي يامه والضيوف / وان عرفتي إني شهيد / خلى قلبك من حديد / واوعي يامه تبكي ليله / أو تقولى اني حيلة/ مصر يامه أحلى عيلة/ صلي يامه واشكري / نامى يامه واستفغرى" ( ص51) أما أكثر من ذلك مباشرة وتركيزاً على توالى الدفق الموسيقى بغير مضمون شعري، ومن دون أن نعثر على صورة شعرية واحدة وقد تحول الخطاب نحو المباشرة التي تهدف إلى الإخبار عن شخصية الشاعر وحياته وطباعه وجرأته، وطقوسه اليومية وتفاصيل ما يحبه وما يكرهه ما نقرأه في قصيدة (جرئ برئ متهوم في حب الوطن) حيث يقول: "رغم إني انسان جرئ / أحمل القلب البرئ / عمري ما أعرف أخون / أبداً ما اقدرش أكون / مرسوم على كل لون / ولا ظلم الناس يغيّر / من طبعي أي شيء / رغم إنس انسان جرئ / وبعشق الحياة/ أضحك أفرح أغني / لكن عرسي الصلاة/ وليالي المداحين / وقبل ما أقضي لنومي / أقرأ سورة"يس" / وافرح لفرح غيري / واحزن لحزن جاري / واللمة والأحباب / هما كل انتصاري / ولا شيء في الكون هممني / إلا هم الوطن / وحزني دايما فاكرني / لكن ماهوش كاسرني / إلا ذل الوطن / وطني هو قضيتي ..... إلخ" ( ص 53 ـ 54 )
والحقيقة إن الديوان معبأ بالمساحات غير الشعرية ولو أردنا الاستشهاد فسوف ننقل القصائد كلها هنا إلى حاضرة الدراسة، ويكفي أن نختم مقاطع من قصيدة (إلى مجاهد) ينادي فيها الشاعر "مجاهد" ـ أي مجاهد ـ ليذهب إلى ساحة المعركة ليتشهد دفاعا عن الوطن، يقول:
"امريكا امريكا بتقطع أوتارنا/ وبتهدم سورنا وثوارنا/ علشان ما ناخدش في يوم تارنا / وتدوب في المالح غناويك / يرضيك يا مجاهد يرضيك/ يتلوث حاضرك وماضيك / واخواتك تصرخ قدامك ..." إلى أن يقول: " خلف الله عليكم يا محبين/ ولاهو بيدفن أمواتنا/ ولا غَسَّل ميت في حارتنا / ولا ساكن جارنا في حتتنا / ولا حتى حديته يفرحنا / والعقل اتجنن يا اخواتي...إلخ " ( ص 16، 17) ثم يستمر في هذا الدفق الهادر إلى أن يقول: " والأقصى بيصرخ يناديك/ راح اعيش يا مجاهد أنا/ بيك / أوعاك توعدني وتسيبني / لعدو وجاهل يغصبني / يسرق هدوماتي ولحافي / يرمي جمراته وانا حافي / ع الأرض اتقلب واتلوى / دا الحق ما ياجي غير قوة...إلخ" ( ص 17 ، 18)
الحقيقة إن مثل هذه المساحات المسكنونة بالإيقاع الصاخ والدفق المتلاحق المتوال قد تصنع إيقاعاً وطنطنات، لكنها أبداً لا تصنع شعراً، لأن الشعر في جوهره معانً تصويرية ولغة إيحائية ورمزية بجانب الإيقاع، غير أن ما يمكن أن يكون صادماً في هذه النصوص أنها لم تحقق بعد شرط الأدبية، باعتبار أن الأدب نوعاً من الكتابة يمثل ـ كما يقول الناقد الروسي رومان ياكوبسون ـ عنفاً منظماً يُمارس على لغة الحديث العادي " (3) وربما إلى هذا ذهب أيضاً . أ. وارين وهـ . ويليك في كتابهما " نظرية الأدب " عندما تعرضا للإجابة عن السؤال : ما الذي يُعَدُّ أدباً ، وما الذي لا يُعَدّ كذلك ؟ في محاولة لتحديد مادة البحث الأدبي ، فأي منهج نقدي للأدب ينطلق من فرضية أساسية تتصور أن هذا المدروس أدب ؛ لذلك قالا : " إن أبسط وسيلة لحل المسألة هي في تمييز الاستعمال الخاص للغة في الأدب " (4)
**********

( 2 ـ 3)

"في انتظار الظل" للشاعر عبدالله محمد عبدالشافي هو الديوان الأخير الذي تتناوله هذه الدراسة، ولعل تجارب هذا الديوان تتوزع من حيث الهم الشعري بين خطاب المحبوبة الأنثي، والمحبوبة الرمز التي تتجسد في صورة الوطن، ومن ثم فصيغة الخطاب إلى الأنثى هي الصيغة الغالبة على الخطاب الشعري في هذا الديوان.
وما بين الهمين تتجلى روح شاعر وثابة في عالم رومانسي تعانق فيه الذات الشاعرة حلمها بلحظات صفاء مع المحبوبة الأنثى (بنت الإيه) التي يفيض أعجابه بها سيلا من الأوصاف والأشواق وأحيانا الاستعطاف، إلى الحلم بوطن يخلو من صور الذل والاستعباد والهوان ، وطن موحد يتجلي فيه المخَـلِّص في أروع صوره التراثية القريبة في صورة صلاح الدين. وما بين الحلم والحلم تترامي الذاكرة إلى براح الماضي الآفل الجميل سواء ماضي الذات الشاعرة أو ماضي الأمة المجيد، هروباً من لحظة الاستفاقة الصادمة.
في خطابه إلى المحبوبة الأنثي يقول في قصيدته (بنت الإيه) :
"عارفة يا بنت الإيه؟ / عارفة بحبك ليه؟ / كنت غريق قلبي لهفان .. / وما الاقي الشط/ كنت عليل قلبي جهلان .. / ولا عارف يفك الخط / كنت حريق قلبي همدان / لما شافك قام يتنطط نط / دارى كسوفه .. حطم خوفه / كسر الموج وصل للشط / وأهه جالك فارد أحضانه / نسي أحزانه / وجرح زمانه/ يا هل ترى / هاتخدى بإيدي / ولا تقسي / ويموت م الحسرة وم السكر .. / وزيادة الضغط " ( ص 20)
وفي التعبير عن حبه لها يقول في قصيدة (دعوة):
" قلبي اتفلت طيران وراكِ / صابه سهمك ومن يومها / وهو أسير هواكي / من زمان بيستنى ويتمنى / تدى له جرعة من ضياكِ / وانت عارفة كل دا / ورغم ده.. متردده " ( ص 26)
وفي قصيدة (أول لقاء) يسير في نفس اتجاه البوح لهذه المحبوبة:
"أول مرة شفتك فيها / واديه لمست اديكي / زي ما اكوون من زماااان .. / باشتاق لك وانده عليكي / زي ما انكون افترقنا/ واتوعدنا واتقابلنا / عيوني طلت في عيونك / لقيتك كتاب مفتوح / بحبَّك ، عمالة تبوح " ( ص 42)
وفي مطالبه منها يقول:
"عشقتك عشق رباني / .... بدون تكليف / سحرتني نظراتك / رشى عليه بسماتك ... / في عز الصيف / أنا فارسك في أحلامك / أنا حروفك لكلامك / وف عيونك أنا رموشك " (ص42)
إلى أن يقول في نهاية القصيدة:
" أنا يا عمري مجنونك / يا نور بيلالي في قلبي / ومضوى كل الكووون / عشقتك عشق ما له حد/ عشقتك عشق أيوه والله بجد / عشقتك أيوه والله بجد" (ص 43)
وفيما بدا أن حبيبته غدرت به، وشقت طريقاً في عام الحب بعيداً عنه؛ لذلك هو يخاطبها في قصيدة (همسة داع) قائلاً:
" يا خسارة قلبي اللى كان صدَّق / كل همسة من شفايفك / وكل نظرة من عيونك/ يا ريتني زي ما خنتي / إني أقدر أخونك / يا ريتني ما رحت لواديكي / خيبتي ظني واديكي ../ شايلة ذنبي / وعاجنة همي .. / حنة وناقشة بيها ايديك / غصب عني يا حتة مني / ارحلى مطرح ما جيتي / قلبي خلاااااص مسامحك / رووووحي / ورحي الله يرضى عليكي" ( ص 49)
ومن الواضح أن خطاب الشاعر إلى محبوبته يقع عند الحد الأدنى من خطاب الشعر، سواء من حيث التقاط الجاهز والشائع من ألفاظ، أو من حيث توظيفها، بالإضافة إلى خفوت الجانب التصويري وارتكازه على الاعتيادي والمستهلك من صور بسيطة وتعبيرات عابرة شائعة. إنه نفس الخطاب الذي يقوله أي شاب لمحبوبته في الشارع المصري بصرف النظر عن القدرة على التشاعر أو خلق طقس شعري.
فكل المحبين يقولون: "سحرتني عنيكي" ، ويقولون: "خيبتي ظني" ، وكلهم يقولون لمحبوباتهم: " يا حتة مني" رغم أنه خطاب أمومي تقوله الأم لوليدها، وكلهم يقولون لمحبوباتهم:"قلبي لما شافك قام يتنطط نط" ، ويقولون في لحظة الإعجاب: أنا حاسس إني أعرفك من زمان، أو كما قال شاعرنا هنا" أول مرة شفتك فيها / واديه لمست اديكي / زي ما اكوون من زماااان .. / باشتاق لك وانده عليكي" وكلهم يقولون في لحظة الغضب من المحبوبة أو لحظات الفراق: " رووووحي / روحي الله يرضى عليكي"
ولعل هذا الخطاب الذي يخلو من وهج الشعر ولا ينم عن جهد شعري حقيقي ، وهو السائر في فلك المسموع من الأغنيات التي عبأت الأفاق بالخطاب الزاعق غير الشعري المتلهف للمحبوبة، ولم يسرْ في مسيرة تراث القصيدة العامية ولم يتأثر بها وبقدرتها على التحليق الشعري، ورسم صور بديعة ، أو ممتدة، أو مركبة، ولم يستخدم اللغة بشكل رامز إيحائي غزير الدلالة، ولم يحقق ـ على الأقل ـ أدبية النص بنا تعنيه من اجتياز الاستخدامات المألوفة للغة.
ولعل الشاعر أعرب عن تأثره بهذا السائد من أغنيات، وخاصة أغنيات "عمرو دياب" حيث يفتتح نصه المعنون "التابوت" بمفتتح شبيه بمفتتح أغنية عمرو دياب، حيث يقول:
"عوديني عليكي أحبك / واوهب لك عمري الباقي/ علميني أغرق في ودك / واكون في أرضك سواقي / خديني بسرعة وضميني ../ في حنضك الدافي / اسقيني .. ارويني .../ من نبع حنانك الصافي / أدوب منك وادوب ليكي وادوب فيكي / ضميني .. دفيني .. وادفيكي" ( ص 44)
والحقيقة كلنا بحاجة لضمة المحبوبة، ولهذا الدفء وذلك الرواء ، ولكن عندما نعبر عن ذلك شعراً فالأمر بحاجة إلى جهد فني ، على الأقل فيما يختص بالوعي بقصية التكثيف اللغوي في حده الأدنى . الحد الذي يجعلنا بحالة ما ندرك أن "ارويني" تغني عن "اسقيني" ولا يصح تجاورهما في جملة شعرية واحدة.
وفي توديع هذا الطقس الراقص المترامي حول المحبوبة الأنثي نطالع طقساً آخر يتسم بالوطنية والمحبوبة المتماهية في الوطن، حيث يقول في قصيدته ( يا عمرنا):
"محلا شمسك / يا محلا رسمك / غزلت اسمك في أغنية / مليت بحنانك كفوف اديه/ وشربته / لاجل أن أعيش / ويكون ما فيش في سكتك .. / راحة لقدم غير ليكي / ويحلا جمال بسمتك / في دنيتك/ في عنيكي/ يا حلوة .. يا زينة / يا منورة الكون / ما انا مجنون بحبك / وروحي ليكي مهرك/ وأحب أسهر على النيل / وغني المواويل " ( ص 18)
إنه الإعجاب بالمحبوبة مصر، حيث نقل إعجابه بخطاب مباشر معرباً عن افتننانه بالشمس والنيل، أو كما عبر الشاعر "أنا مجنون بحبك" و "أموت في صوتك" ، والأمر لم يخلو من غناء المواويل، ولعل هذا كان دافعا للهتاف في آخر القصيدة: " يا فرحنا ومجدنا / يا عمرنا / يا عمرنا" (ص 19 )
وفيما يبدو أن حبيبة الشاعر اسمها هيام، وهو في ذات الوقت يحب مصر مثل حبه لهيام، لهذا أتى الخطاب في قصيدة(هيام) مرة متجها إلى مصر ومرة متجها إلى هيام على نحو غير متماهٍ؛ فكان الخطاب يوهمنا أنه يخاطب مصر، ثم يعلو فجأة خطاب زاعق : " بحبك يا هيام" لينتهي النص وقد وزع الشاعر حبه في اتجاهين مرة إلى هيام، ومرة إلى مصر دون أن تتماهي هذه في تلك، غير أن الاتجاه الحقيقي هو ما أفصحت عنه نهاية النص حيث المباشرة والهتاف:
" وينزف دمي على شرفك ../ لو فكر يمسه جبان / وأموت في جمالك الفتان / وكلامك في المليان/ ده أبدأ ما بينا كان / ولا هيكون / أي خصام / يا حتة مني / يا هيام / يا حتة مني / يا هيام" ( ص 9)
ولعل نهاية النص بالمباشرة والهتاف و"الكلام في المليان" و "يا حتة مني يا هيام" تتفق مع بدايته أيضاً ، فقد بدأ النص بالمباشرة وانعدام الصورة الشعرية تماماً فيما خلا النص من وهج شعري مأمول، معلناً عن ذاته، بوصفه ذاتا نادرة لها خصائصها المميزة في الحب، وما هي الأشياء الأثيرة التي يحبها ، وتلك السيئة التي لا يحبها، ومن ثم فهو جدير بـحب "هيام" فيما بدت هيام جديرة أيضاً بحبه لها، يقول في مطلع القصيدة:
"أحب الكون لما يكون / حلو جميل وصافي / أحب الطفل لما يكنّ / في حضن أمه الدافي/ وما احبش المتعافي/ دايما على خلق الله/ وأكره صرخة الآهة م المظلوم / وأحب لمة القوم / تحت القمرة / ويا النيل / وكل أصيل تعبه الشوق ما ينام / وأموت في حبك يا هيام" ( ص 7)
والحقيقة أنه لا يوجد شخص في العالم ألا ويحب ما ذكره الشاعر من مشاهد أثيرة، كما لا يوجد شخص في العالم أيضاً إلا ويكره ما يكرهه الشاعر هنا، بقى أن نسأل شاعرنا عن مناسبة ما يحب وما يكره، وإذا كانت هذه المزايا هي ما رقت بجوارحه نحو حب هيام، فكلنا نحب هيام، ولكن لسنا كلنا شعراء، ومن ثم فالسؤال عن الشعر.

**************
لم تكن تجارب الديوان مغلقة على حب الأنثي هيام أو غيرها، كما لم تكن مغلقة على حب الوطن، وإنه لمن الوطنية أن تتجه الذات الشاعرة بظرها إلى الوطن الكبير والأمة العربية التي تعصف بها المحن ويستبد بها الأعداء والمحتلون والحكام العاجزين الفاشلين عن تحقيق أمنيات الذت الشاعرة في الوحدة والتحرر واستعادة ممجد الأمة، أو بالمعني لم يكونوا في صورة صلاح الدين المخلص الوطني الذي تتطلبه اللحظة، ولذلك أتت قصيدة ( أبجد هوز) معبرة عن هاجس الذات الشاعرة وحلمها بالمخَـلِّص الوطني الفارس الذي لا يُهزم؛ ليستعيد مجد الأمة، وهو فارس في صورته العامة غير محدد إلا بكونه واحدا من فرسان الأمة المجيدة التي بسطت حضارتها على العالم من بكين إلى أسبانيا، غير أنه في صورته الخاصة القريبة هو صلاح الدين أو عمر المختار:
يقول: "أبجد هوز كان / فارس م الشجعان / في وش الظم دايما/ يعلن العصيان / يرفض المذلة / والذل والهوان / كان فارس م الأساتذة / كله قوة وعزة/ كان ساطع م الجزيرة / ومضوي غزة / وفارش نوره في بيكن / ودجلة والفرات / شالله يا سيدنا الحسين / والله يعوض ع اللي فات " ( ص21)
إلى أن يقول:
"الشمس ليه هربانة / من سقف أوطانا / والقدس أهو عاصم الجبين / كلِت اديه الصدى / مستنظرين صلاح الدين / مستنظرين صلاح الدين / لجل ما يبزغ نهار / أطفال بترضع موت / محتجالك يا مختار / شعوب في غرفة إنعاش / ولسه عارفة الخَيار" ( ص 23)
من الواضح أن الذات الشاعرة مأزومة وهي تنظر إلى الخريطة العربية المنهارة والحضارة المنسحبة والأمة المغتصبة، ومن الواضح أن الخطاب الرومانسي الحالم بالمخلِّص الوطني سيظل يلح على الخاطر ويشكل هاجس الشاعر، ولكن من الواضح أيضاً أن الشاعر يعيد إنتاج الواقع كما هو وكأننا لا نعيشه، دون أن يقدم رؤية شعرية بعيداً عن الحلم بعودة الماضي الذي لن يعود.
بيد أن ما يجافي الاستخدام الشعري هنا كثير وكثير على مستوى استخدام اللغة، التي ينقصها كمطلب أول الإيجاز، والدقة في الاستخدام وجهد الانتقاء والتوليف بين المفردات.
ولعل عدم عناية الشاعر بهذا الجهد المطلوب حجبه عن إعادة النظر في المفردات التي يلتقطها سريعا، ولو فعل لأدرك أن المذلة، والذل ، والهوان بمعني واحد، ولا استغنى بواحدة عما سواها، ولأدرك أن فردة الدي مذكر وليس مؤنث ، ومن ثم ستتغير الكتابة إلى : "أكل إديه الصدى" ولأدرك أن إعلان العصيان لا يعني شيئاً ما لم يكن مصحوبا بفعل مقاومة وانتصار، ولأدرك أن مفردة(الأساتذة) هجينة في موضهعا ودلالتها ، وأنها أضعفت المعنى خاصة إذا ما اتصفت بها الشخصيات المجيدة في التاريخ العربي البطولي.
الحقيقة أن القصيدة طويلة جدا وبدت في مواضع كثيرة تكرر نفس المعاني ، غير أنها بحاجة إلى جهد التكثيف اللغوى قبل أن نقول أنها بحاجة لى شجن شعري يركز على استخدام اللغة المجازية.
********
كان من الطبيعي أيضاً مع هذا الحس الرومانسي الأسيان المتفجع في واقعه وأمته العربية أن يفر إلى ماضي الشاعر، حيث عالم الأمهات والجدات؛ لتأخذ لهجة القصيدة مستوى آخر يتفق مع هذا العالم القروي ، حيث برزت مفردات البيئة وتعبيرات إنسانها ولغته ولهجته.. يقول في قصيدته (أشودة الحلم القديم) المهداة إلى روح والدته:
" ياااااااااااه / من ضلمة الفجر القديم / لساكِ باركة على طشت الغسيل / بتدعكي القرف المشعبط في الهدوم / لسه العيال بتقوم .. / في نصاص الليالي يقولوا امبووه / والفجر عبى الكون حلبوه / والشمس فاردة ضيها في سكون / بقدرة من يقول للشيء كن فيكون / وحلة المية الأنجر .. / لساكِ شايلها يا كانون .. بتفور/ خَمَر العجين عبى الماجور / هاتوا المقارص البرد قارص/ سبحان من ينشف الهدوم " ( ص5)
أو يفر إلى عالم طفولته وذكريات الماضي ومنه إلى التاريخ حيث خالد بن الوليد وحطين وصلاح الدين، حيث المجد العربي، وشخصيات أخرى مثل أحمس ومينا حيث أمجاد الصعيد حديداً كما في قصيدته (كسر اعتيادي)
حيث يقول: " وحفظنا حدود الخرايط والبلاد / والعصور اللى عاشرت كل أجناس العباد / وغزلتها في قلوبنا الجهاد / وحفظنا .. بصمات شهيد / وهتاف وليد / وسط بركان الغضب / وعرفنا إيه معنى انتماء/ ويعنى إيه صيام في رجب" (ص4 )
إلى أن يقول: " تاهت خطانا جوانا بين أهالينا / اشرح لي أحمس ومينا/ وصلاح الدين / ازرعني حلمي غصن زاتون / في تراب خطين / اعزفني نغمات بين ضلوع المكلومين / رشني بسلة ساعة الآذان / للغلابة" ( ص 4 )
هكذا يتحول النص بطوله وإسهابه إلى تكرار الحلم الذي حفلت به تجارب أخرى فارة ـ في نفس الديوان ـ إلى ذات الماضي وذات الشخوص والرموز، ليتحول النص إلى وثيقة ضجر وإحباط، وفرار إلى الماضي، ومانفستو بأسماء البلدان والأشخاص، يضمها خطاب مباشر متهاوي نحو الأسى.
*************
لم يلتزم الشاعر في تجاربه بلهجة محددة، فالغالب على اللغة هنا انتماؤها للهجة المصرية في عموميتها، على نحو ما نقرأ في قصيدته (البداية) :
" سيبك من كل ده/ وتعالي نشرب كاسين / كاسك همّ وأسى / كاسي غربة وحنين / نبدل الكاسات؟ / وهتفرق إيه / في صحتك / ما راحت على عشاق خاينين / اللى خدعك / واللى باعك / واللى زاعك ع القهاوي في كلمتين / قومي نرقص/ ولا متعرفيش/ يا مدوباني تطنيش / ع العموم أعلمك / زي م علمتني أحبك / هنرقص على دقات قلبي وقلبك / وحطي إيدك على إيدي / هـ أحضنك بالراحة / نغمض عشان محدش يشوفنا / استعدي 1 ... 2 .. 3 " ( ص29)
هذا هو المستوى اللهجي الشائع في القصيدة، وقد حمل التجربة في معظمها، ولكن ما يلبث هذا المستوى أن يتخوزق باللغة المتفاصحة، أو بمستويات أخرى تنتمي للهجات صعيدية قروية تحديداً من عينة ما نقرأ :
" سوس بينخر جوه عضم التاريخ / لجل يشيخ / لجلن ينهار / لحظة شروق الشمس / زي احتضار الوليد " إلى أن يقول: "جوه البيوت كوابيس / بكره البيوت كواليس/ مطلوب لنا نواميس "( ص 17) ولنا أن نتأمل المستويات المتباينة التي تجمع "الاحتضار، والجليد ، والنواميس" في انتمائهم إلى طقس فصيح تماما مع "كواليس" باعتبارها لفظة ذات خصوصية مدنية تستخدم في المسرح، مع التعبير "لجلن" التي تعني: "لأجل أن " في انتمائها لطقس لهجي ريفي صعيدي، مع أن الشاعر استخدمها في مواضع أخرى بصور أخرى مثل: "وشربته لاجل أن أعيش" (ص 18) و" لجل تشرق شمس حرة" ( ص24)
ومع هذا المستوي المتفاصح الذي يخوزق المستوى اللهجي للتجارب يصادفنا مستوى آخر ريفي صعيدي يخالط النسيج وكأنه العوار، لأنه يشكل وقفة تستوجب استدعاء الطقس البيئي والأسطوري لها، مثلما نقرأ في قصيدة" كسر اعتيادي" وقد اقتربت اللغة من المستوى الفصيح يقول: "رشني بسلة ساعة الآدان" ليتبادر إلى دهننا ذلك الطقس المعبأ بالدجل القروي حيث "البسلة" (مجموعة من الحبوب المختلفة الأنواع يقوم أهل الولد المخضوض أو الملبوس بجمعها من بيوت القرية ، في حدود حفنة من كل بيت ، على ذمة أنها بسلة لشفاء المريض، ثم يقوم شخص بحمل المريض من البيت إلى الجامع وقت آذان ظهر الجمعة، وربما وقت آذان المغرب أيضاً، ويقوم شخص آخر ـ من الخلف ـ برش هذه الحبوب التي تم جمعها فوق جسد المريض المحمل" .. هي شعيرة يظن من يفعلها من القرويين أنها تطرد العين والجن وتخلص المريض من أدوائه.
أرأينا ـ إذن ـ أن المستوى اللغوي يستدعي أحيانا طقسه البيئي وثقافة من يستخدمه؟
أما محاولة التفصح على نحو ما كان الاستخدام اللغوي هنا، فإنها أشد ما يفسد الشعر العامي ويفقده مذاقه ، فلعل ما يميز الشعر العامي ويقربه للناس هو كونه ذا صورة حية نابضة راقصة ملونة مسحوبة من الحياة ومن تجارب الإنسان، ومن أفراح الناس وأتراحها.. من واقعها وبلهجتهم، لذلك هو قريب منهم يمتاح صوره ومركباتها وألفاظه من حياة القرية وبساطتها وعفويتها، فالقرية بكل ما فيها من سهل ووعر، من ناس وحيوان وطيور، من الحياة الوادعة الهانئة البكر تشكِّل مصدر الإيحاء لهذا الشعر ومقلع ألفاظه الدالة الموحية.
من حياة الناس ـ إذن ـ ينبثق هذا الشعر، ومن لغته التي تصور محيطهم، وكذلك لهجتهم التي ترسم الصورة أصدق تصوير، وما الألفاظ إلا ألوان وأصوات وحركات عند من يحسها ويدركها، إن الشعور بالحياة وإدراكها الكامل لا يكونان تامين إذا عبرت عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة، وبهذا يثير شاعر العامية النفوس إثارة يعجز عنها أكبر شعراء الفصحى.
والأمر الذي يجب أن يُحذَّر منه شعراء العامية هو التفاصح ، لأن التفاصح في هذا اللون من الشعر يضر به ويحرفه عن مذاقه وطعمه
***********

( 3 )
أما بعد فقد كانت درستنا للدواوين الأربعة بحثاً عن الشاعرية سواء على مستوى التكثيف الشعري بما لا يعنيه ـ كما هو شائع ـ نحولاً لفظياً واقتصاداً لغويا، بل بما يعنيه فوق ذلك من شحن إيحائي ورمزي ودلالي للغة الشعرية، أو على مستوى التكاثف الشاعري بما يعنيه من توظيف آليات الشعر وأدواته وحمل الخطاب الشعري على هودج هذه الآليات وأولها التكثيف الشعري واجتياز الاستخدامات الاعتيادية للغة بما يحقق أدبية النص كشرط أول، بجانب ما هو مأمول من آليات وأدوات فنية أخرى.
كما كان بحثناـ على مستوى آخر من هذه الدراسة ـ معنياً بالنظر في المستويات اللغوية في علاقتها بالمستويات اللهجية وما يجب أن يخلقه تناغم المستوى اللهجي من طقس شعري يمتاح تواجده من الخلفيات الإبستمولوجية(المعرفية) والقافية ، وما يجره هذا المستوى أو ذاك من توظيفات شعبية وأسطورية تكون معينا للشاعر وتثري تجربته وتعطيها سمتها وهويتها الفنية بما يحدد موضعها بالنسبة إلى تراث العامية من جهة، ومن جهة أخرى بالنسبة إلى إنسان القصيدة التي ينحاز الشاعر للهجته.
كما تطرقت الدراسة في مسيرة تحققها لجملة من المضامين والرؤى حيث لم يخرج المضمون الشعري في الغالب عن خطاب الأنثى المحبوبة بشحمها وحمها، أو الأنثى المحبوية المتماهية في الوطن، وإن كان ثمة نبرة أسف تتبدى أحيانا إذ تلقى الذات الشاعرة نظرة على الواقع العربي المتهرئ والأمة الرازحة تحت الاحتلال، ومن ثم كانت الفرصة سانحة أحيانا للسخط على الواقع العربي الصادم المؤسف، أو السخرية من هذا الواقع، وقد كان الحلم أحدى وسائل الذات الشاعرة للهروب من هذا الواقع إلى ماضي الأمة المجيد برموزه البطولية وأبرزها صلاح الدين الأيوبي، أما الوسيلة الأخرى للتفلت من حصار الواقع العربي الصادم كان فرار الذات الشاعرة إلى ماضيها الطفولي وذكرياتها مع الأمهات والجدات، ومن ثم لم تخرج التجارب عن الإطار الرومانسي الحزين الشاكي المتباكي الهارب الفار الذي يتخذ من حب الأنثى وسيلة لمعانقة الحياة في منطقة أخرى زاخمة بمشاعر الاتصال بالحياة على أحسن ما تكون، ومن ثم كانت مثل هذه التجارب المترامية نحو أحضان الأنثى هي ديدن هذه التجارب وسداها ولحمتها.
وفيما بدا أن التجارب الأربع المدروسة لم تكن معنية بما افترضته الدراسة ، أو بما يفترضه الوعي المبدئي بأوليات التجربة الشعرية العامية واشتراطاتها.
فقد أتت التجارب مشتتة اللهجات موزعة المستويات اللغوية ، مخوزقة بمستويات أخرى تخلق تنافراً ولم تخلق انسجاماً، تعلو وتهبط ، بين لغة الكلام الاعتيادي لرجل الشارع وبين الفصحى الرصينة، أو بين اللغة الشاعرة أحيانا واللغة الضحلة الخالية من الإيحاء أو الرمزية، بين اللهجة والإخلاص لها والخروج عنها إلى مستويات هجينة أخرى بعضها أجنبي، كما جاء التعبير الشعري موزعاً بين التعبير التصويري الذي ظهر على استحياء وبين اللغة المباشرة التي تركز على الإخبار والمعلوماتية والهتاف. بيد أنها على الجانب الإيقاعي بدت موزعة بين إيقاعات التراث الزجلي وبين التفعيلة، وإن كان الأبرز في الجانب الإيقاعي التركيز على الإصاتة، والتجنيس فيما وفر طقساً موسيقياً عاليا بلا مضمون شعري في أغلب التجارب. بيد أن ما يؤسف في هذه التجارب تأثر بعضها بما هو سائد من أغنيات شبابية شائعة عبر وسائل الإعلام، وكذلك انحدار لغة القصيدة في بعض التجارب إلى لغة"روش طحن" الشائعة في الشارع المصري، ومن دون أن تسلم من التخالط اللهجي وعلى مستويات عدة.

عبدالجواد خفاجى
3 / 5 / 2013

الهوامش:
1 ـ انظر: الشفاهية والكتابية ـ والتر أونج ـ ترجمة حسن البنا عز الدين ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 182 ـ 1994 م
2 ـ انظر: كتابة الذات ( دراسة في وقائعية الشعر ) ـ حاتم الصكر ـ دار الشروق ـ عمان ـ الأردن ـ 1994 ـ ص 15
3 ـ تيرى ايجلتون ــ مقدمة نظرية الأدب ( مترجم ) ـ كتابات نقدية (11) ـ الهيئة العمة لقصور الثقافة ـ مصر . صـــ12
4 ـ أ. وارين وهـ . ويليك ـ نظرية الأدب ( مترجم) ط . المجلس الأعلى لرعاية الفنون ـ المغرب ـ صــ19ـ22