رحلة بين الماضي ..والحاضر بقلم صلاح سالم
تاريخ النشر : 2013-04-10
رحلة بين الماضي .....والحاضر
         رن جرس الهاتف...، صوت من بعيد يقول لي بلهجة تونسية، تحب تيجي تونس ...،  كلمات كان لها وقع غير عادي، جعلت لذلك المساء لوناً آخر.  سافرت فيه ذاكرتي إلى أيام الطفولة، وركبت بساط أحلامي وطويت المسافات لعالم رُسم بأبعاد مختلفة، رجعت إلى ذلك الفصل في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في مدينة خان يونس، وأمسكت بخيوط الصورة لذلك المربي وهو يصدع بتاريخ المسلمين اللذين فتحوا أوروبا من عاصمة إفريقية مدينة "القيروان"، وصوته ملئ بالحشرجة على ضياع فلسطين يقول بصوت مخنوق أين صلاح الدين ,أين زعماؤنا من عقبة بن نافع.
 وما هي إلا أيام حتى سُحب الحلم القديم من عمق الماضي وقذف به في لجة النهار الصاخب وإذ بي  في مطار قرطاج الدولي، سرت على الطرقات بسرعة كأنني ابحث عن شيء مفقود، رأيت مظاهر الحداثة، أدهشتني إنسيابية الحركة ومرونتها، قضيت أيامي الأولى ذهاباً وإياباً إلى المركب الجامعي، كنت أبحث عن شيء لا أعرفه، شاهدت موزيك من الشعارات والأعلام واليافطات، رأيت ساسة وقادة مجتمع مدني، منهم من يخطب ومنهم من يناقش وآخرين منهم يركضون خلف عدسات الجوال "Galaxy".  الجميع يبحث عن الجميع في عالم افتراضي لا زال يبحث عن نفسه. أنقضت الأيام الخمسة ولم أستطع رسم حدود فضاء العمل المنشود فوجدت نفسي على شاطئ متحرك ضاعت فيه الجهات الأربعة في زحمة المعايير المتبدلة فانكفأت على نفسي حاملاً ما استطعت حمله من بعض الصور للأغاني الجميلة عن فلسطين وتلك الأجساد التي تراقصت طرباً عليها!
 وفي يوم الأرض انطلقت  فينا الحافلة  تطوي المسافات  صوب عاصمة الفاطميين المهدية الراقدة على شاطئ البحر كأنها ليث متربص نحو أفق بعيد. سرت إلى المهدية  محملاً بالهموم التي تسربت إلي...، فقد استطعت أن  افلت لبعض الوقت من طوق الحب والحنان اللذان ضُربا علي من أصدقائي ولامست هموم البائع والسائق والمواطن العادي  لعلي أرسم صورة لذلك الربيع العربي في مهده الأول وأنا أحاول مد الخيط الرابط بين الماضي المزهر  والحاضر المشبع بالألم والضباب... ، ورغم أنني من المتفائلين دوماً إلا أن بعض التطير أصابني وأنا أبحث في حقيبتي لأجد رواية قذفها  القدر في طريقي إلى المهدية للروائية أحلام مستغانمي " الأسود يليق بك" تمنيت لو كان اسمها الأخضر يليق بك، فلا يليق بك إلا الأخضر يا تونس الخضراء.  وقد زادنا القدر تحدياً عندما أمطرت السماء في طريق عودتنا في ظاهرة تنكر فيها الربيع لخصائصه!
 عدنا إلى تونس العاصمة حيث المقاهي الجملية، ورغم عشقي للمقهى وما يمثله من حالة في حياة المثقفين والنخب عبر الأزمان المختلفة، إلا أن الحضور الكثيف والدائم للشباب ومنذ ساعات الصباح الأولى حتى أخر النهار أدهشني إلى حد الاستغراب ودفعني دون تحفظ للتساؤل عن هذه الظاهرة فما وجدت غير الابتسامات والضحكات الخفيفة التي تخفي خلفها قضايا لم نقوى على نقاشها.  وفي جامع  الزيتونة العريق الذي ينتصب في وسط المدينة العتيقة يتحدث عن أخبار من سبقوا بكل اللغات فيفهمها الفرنسي والعربي والفارسي والانجليزي والألماني كلا على حد سواء. فهو يتحدث بلغة العظمة والمجد والحضارة التي كانت منارة للعالم بأكمله، فالمثل يقول: إذا أردت أن تبيع شيء فعليك أن تتعلم كل لغات العالم وإذا أردت أن تشتري شيئاً فالجميع يفهمك بأي لغة تتحدث، فقد فهمنا الجميع عندما جاءوا إلينا يشترون العلم والحضارة والمعرفة، فقد كان ابن خلدون  يقف متحدثاً في جامع الزيتونة ففهمه العرب والعجم.  وفي جامع الزيتونة كان لي موعد مع القدر الذي تعاطف معي وأنا أسابق الزمن في الغوص في أعماق المكان الذي فجر شرارة الربيع العربي ومنحني مشهداً رغم ألمه إلا أنه اختزل الصورة وقدم لي إجابة واضحة في زمن تداخلت واختلطت فيه المفاهيم والرؤى. فقد كان التصادم بين العقل والميتافزيقيا التي آمنت جهلاً بان الحضارة تبدأ من البخور الأفغاني والثوب الباكستاني. الميتافيزيقيا التي آمنت قبل فوكاياما بنهاية التاريخ تحث شعار ليس بالإمكان أفضل مما كان. دفعني المشهد إلى سحبه إلى الساحات العربية الأخرى لأجراء التحليل بالمقارنة رغم إقراري بعوامل تونس الموضوعية، إلا أن التركيبة المجتمعية والسياسية وتحديداً لنخب الإسلام السياسي هي نفسها في كل الأقطار. وعليه أبعث برسالة أقول فيها لمن يهمه الأمر مفادها أن الديمقراطية بجوهرها العميق هي ممارسة يومية ونهج حياة وهي ثورة على الصيغ والأوهام والقوالب الجامدة التي آمنت بفكرها ونسفت الأخر واعتقدت بخيرها وشر الأخر. وإن حالة التغول على المجتمع تحت شعار تطبيق الشريعة ما هو إلا تضليل أو سوء  فهم للدين، وكلاهما دون الغوص في الشرح، عائق أمام التقدم والتنمية وتفريقاً لقوى المجتمع. فالشريعة لا تمثل إلا جزء بسيطاً من إسلام العقل والرحمة الذي حمل شعار "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ." فقد تقدمت الحكمة على الموعظة في الآية الكريمة السابقة.  فقدموا أنتم الحكمة والمواطنة وتماهوا مع روح الآية ونصها، وانبذوا التناحر والتناظر والتمزق ولنعلم جميعاً أن المشكلة تبدأ من داخلنا، وليعلم أصحاب الشعار "الإسلام هو الحل" أن النهضة الحقيقية تبدأ من تطوير نظم الحداثة لا نسفها والقفز عنها. حماك الله يا تونس القيروان ومنحك المنعة والغلبة لمن أراد بك الشرور، وتونس وفلسطين دم واحد ومصير واحد.  
 
صلاح  سالم
 باحث وناشط مجتمعي