مقدمة حول الحرية في الفكر العربي المعاصر بقلم احمد صالح الفقيه
تاريخ النشر : 2013-03-24
مقدمة حول الحرية في الفكر العربي المعاصر بقلم احمد صالح الفقيه


مقدمة حول الحرية في الفكر العربي المعاصر
احمدصالح الفقيه

عندما طُرح عليً الإسهام في الكتابة تحت عنوان، الحرية في الفكر العربي المعاصر تبادر إلى ذهني أن العنوان كبير بل وفضفاض، وأن الكتابة تحته مشروع طموح لا تتسع له مقالة، ذلك أن لفظة(الحرية) تضم وتتضمن حريات متعددة يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة.

كما أن عبارة (الفكر العربي المعاصر) تتضمن أفكاراً شتى كذلك، يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة أيضاً، وعلى سبيل المثال فإن الحديث عن الحرية السياسية سيكون مكانه الفكر السياسي العربي المعاصر، والحديث عن الحرية الاقتصادية سيكون مكانه الفكر الاقتصادي العربي المعاصر، وكذلك الحديث عن الحرية الدينية سيكون مكانه الحديث عن الفكر الديني العربي المعاصر..وهلم جرا.

ولذلك فقد رأيت أن يكون إسهامي تحت هذا العنوان تمهيداً أو مقدمة قد تضيء بعض جوانب الموضوع لمن يريد مناقشته بإسهاب.

مفهوم الحرية عند العرب

الحرية في اللغة العربية تدل على نقيض العبودية فالحر هو من ليس بالعبد. أما الحريات بمفهومها الحديث فلا وجود لها في اللغة العربية وهو ما يدل على أنها لم تعرف في الحياة العربية القديمة.

والحرية بمفهومها المعاصر عند العرب مأخوذة من حيث دلالتها عن الانجليزية والفرنسية، فثقافة الحرية والحريات ثقافة مجلوبة بالكامل من خارج الثقافة العربية.

المجتمعات العربية والحرية

إلى عهد قريب كانت البداوة النقية مسيطرة على مساحات شاسعة من المجتمع العربي في صحاريه الممتدة من الجزيرة العربية إلى الواحات المصرية وجزيرة سيناء وإلى ليبيا والجزائر وموريتانيا.

وحتى في المناطق الحضرية من العالم العربي رأى الدارسون أنها تجمعات سكانية رفدتها البداوة بالكثير من سكانها،فبقيت القبيلة طابعاً ثقافياً لهذه الحوافز.

وهذه التجمعات القبلية، بدوية أو حضرية لها سمات أساسية تستبعد فكرة الحريات بمفهومها الغربي المجلوب، وطبقاً للدكتور مسعود ضاهر في كتابه (المشرق العربي المعاصر من البداوة إلى الدولة الحديثة) فإن المجتمع القبلي له سمات أساسية سأقتصر منها على ما يخص موضوعنا:

1. العصبية وروح الجماعة المتماسكة.

2. احترام عادات وتقاليد واحدة متوارثة.

3. التزاوج الداخلي القائم على أفضلية الزواج من بنت العم والإدعاء بوحدة الدم.

4. تحديد دقيق للهرم التراثي السلطوي داخل التجمع القبلي واعتراف الجميع به تحت طائلة العقاب.

5. الولاء للقبيلة دون سواها.

6. اقتصاد الكفاف اليومي أو السنوي وانعدام التخطيط بعيد المدى.

7. الاعتراف بسيطرة الذكر كعضو فاعل والنظرة الدونية إلى المرأة لما تسببه من عار للقبيلة في حالة سبيها في الحروب.

8. اقتصار الثقافة القبلية على مجموعة عادات متوارثة تشيد بدور القبيلة وتندد بأعدائها.

وهذه السمات والخصائص تستبعد حرية الضمير(العقيدة) وحرية التعبير كما هو واضح في (2) وتستبعد حرية الانتماء كما هو في (5) وتفرض ولاء موحداً، ولا تتيح حرية اقتصادية كما هو واضح في (6) وتستبعد حرية الأنثى والحرية الجنسية كما هو في (3) و(7) وتستبعد حرية الفكر(8) وتستبعد الحرية السياسية(4).

الإسلام والحرية

عندما يفكر العقلاني في الدين فإنه يرى أن بروز حضارة لدى العرب كان لا بد له من الإسلام الذي منح السلطة الدولتية قدسية وأوجب طاعتها، ومجد إنكار الذات القبلية لصالح الأمة الإسلامية.

وإذ تجاهلنا العبارات المنمقة من قبيل (أن الإسلام أخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله) باعتبارها مدائح لا تصمد للنقد، إذ أن السلطة الإلهية تشخصت في بشر، هم النبي وخلفاؤه، والذين وإن لم تكن طاعتهم عبادة لهم ، إلا أنها كانت عبادة لله، إذا تجاهلنا هذا التعبير وأمثاله فإننا سنجد أن الإسلام طبع الدولة الإسلامية بتمظهراتها المتتابعة حتى يومنا هذا، وبطابع الدولة (الأخلاقية)، ونظراً لأن الدين محتوى أخلاقي في الأساس(جئت لأتمم مكارم الأخلاق) فإن الحد من سلطات الدولة بشكل صريح يصبح أمراً لا معنى له، وكما لا حظ السياسي النمساوي ميترينج، فإنه في الدولة التي تزعم بأنها تستمد مبررها لا من فائدتها بل من مجموعة من القيم الأخلاقية، فإنه لا تعود هناك محكمة صالحة للنظر في القرارات الرسمية، وقد كرست الدولة العربية المعاصرة هذا الطابع الأخلاقي للدولة عندما جعلت الدين (الشريعة) مصدر التشريع، متجاوزة بسرعة بالغة القوانين الانجلوسكونية التي خلفها الاستعمار والتي صبغت علاقة الدولة بالمجتمع بالطابع الحقوقي وليس بالطابع الأخلاقي، والمفارقة تكمن في أن الأنظمة الليبرالية التي أوجدها الاستعمار في البلاد العربية ، واجهت التحدي من ثوريين أصبحوا رغماً عنهم رموزاً لأزمنة محافظة (رجال الانقلاب العسكري) فهؤلاء الانقلابيون الثوريون كانوا سبب العودة إلى الأزمنة الأقدم ، زمن الدولة القائمة على أساس أخلاقي بدلاً من الدولة على أساس حقوقي.

المثقف والحرية

منذ أن وقع العالم العربي تحت السيطرة الاستعمارية الغربية بسقوط دولة الخلافة بنهاية الحرب العالمية الأولى، اكتسبت لفظة الحرية دلالة أخرى جديدة لدى العرب، وهي الحرية الوطنية أو القومية من نير الاستعمار الأجنبي، وانصبت معظم الكتابات العربية في هذا الاتجاه، وقد أدى الوقوع تحت نير الاستعمار إلى تعدد زيارات المثقفين العرب إلى البلدان الاستعمارية،واطلعوا على ثقافتها وآدابها، وعادوا بدلالات إضافية للحرية تكاد تشمل كامل طيفها المعروف في الغرب، وبقيام دولة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وهزائم العرب الشنيعة أمام ذلك الكيان الصغير الوليد، بدأ زمن المراجعات ومحاولة الفهم، إجابةً على ذلك السؤال المركزي الكبير الذي ظهرت أولى علاماته مع الغزو الفرنسي النابليوني لمصر، و الذي يقول (لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟)، ومع محاولات الإجابة على السؤال أخذت كتابات المثقفين العرب تتجه نحو معالجة قضية الحرية المتعددة في مجالاتها المختلفة.

وقد اتسمت هذه المعالجات في رأيي بسمتين أساسيتين أدتا إلى ظهور تيارين متمايزين في مقاربتهما لقضايا الحرية

الأول: تيار إصلاحي خلاصة موقفه:أن جميع الحريات منصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ومواثيقها المكملة، وبما أن الدولة العربية جميعها تتمتع بعضوية المنظمة الأممية وبما أن أنها قد وافقت على مواثيقها، فإن انعكاس هذه المواثيق على القوانين الوطنية للدول العربية ، وتضمنها لها هي مسألة وقت ليس إلا، وإن الكفاح السلمي الديمقراطي الهادي،والذي لا يقود إلى استقطاب حاد مدمر في المجتمعات العربية هو السبيل الأمثل لجعل الحريات بمجالاتها المختلفة واقعاً ماثلاً في الحياة العربية.

الثاني: تيار راديكالي يرى أن تحقيق الحريات يتطلب ثورة تؤدي إلى تحقيقها طفرة واحدة بقوة سلطة عاتية، تحقق قطعية مع الماضي، وتستأنف من جديد حياة جديدة بكل المعايير، وقد تشجع هذا التيار بالانقلابات الثورية دون أن يفطن أنها كانت تعيد الدولة العربية إلى طبيعتها المحافظة القديمة القائمة على الأساس الأخلاقي، وقد شارك التيار الراديكالي في إقامة الأنظمة (الثورية العربية) التي أصبحت نموذجاً للقمع ومعاداة الحرية في العصر الحديث، وبسقوط راعي الثورية الكبير الاتحاد السوفيتي، انقلب جزء كبير من التيار الراديكالي إلى مناصرة المشروع الامبريالي الأمريكي المؤيد بحاملات الطائرات والصواريخ ، معتبراً إياه وسيلة تحقيق الحريات، فظهر في العالم العربي المتصهينون والمارينز العرب ودافعوا عن الاحتلال الأمريكي للعراق وعن العدوان الصهيوني على لبنان، وأجزاء من فلسطين، وقد سلكت الأنظمة (الثورية العربية) السبيل نفسه وضعت نفسها في خدمة الامبريالية والصهيونية،ووضعت على وجوهها مساحيق الانتخابات الديمقراطية(التي يتم تزويرها غالباً) ونادت بالمجتمع المدني والحريات، مع استمرارها في إضفاء الطابع الأخلاقي على الدولة، ورفضها للطابع الحقوقي الضامن للحريات.

وقد أدى هذا التحالف غير المقدس بين الأنظمة العربية الدينية الطابع كدول الخليج والجزيرة العربية والدول ذات الطابع (الأخلاقي) كالأنظمة (الثورية) العربية في مصر والشام و المغرب واليمن، إلى ظهور التشابه العضوي بين مجموعتي الأنظمة القائمة كلها على أساس من الطابع الأخلاقي للدولة،واتجاه الأنظمة (الثورية) إلى اعتماد حتى النظام السياسي في الدول شبه الدينية ذات الأنظمة الملكية، فيما أصبح يعرف اليوم بالأنظمة الجملوكية.

ولم يجد التيار الراديكالي في الثقافة العربية، والمنقلب على عقبيه من الثورة إلى التبعية للامبريالية، إلا التحالف مع مجموعتي الأنظمة باعتبارهما التجسيد الأمثل لهذه التبعية الواقعية مع محاولة استدعاء الحريات من خلالها بتأييد غربي أمريكي عبر مشروعات كمشروع الألفية الذي يتضمن تحرير المرأة ، وحريات أخرى متعددة.

وقد كان لانتشار الأنظمة ذات الطابع الأخلاقي سواءً الشبه دينية أو (الثورية) نتيجة واضحة هي ما يعرف اليوم بالصحوة الإسلامية التي تكاد تجرف التيار الراديكالي المتحول إلى الليبرالية، أو التيار الثوري الراديكالي الباقي عليها إلى مزبلة التاريخ، وهو تيار الصحوة الذي احتكر اليوم الدفاع عن الحرية، والنضال المسلح من أجلها ضد الامبريالية وأعوانها والصهيونية والمتصهينين، ولكنه اختزل الحريات في الحرية السياسية الوطنية أو القومية، متجاهلاً بقية الحريات، ومعادياً لها معتبراً إياها خروجاً على الإسلام ودسيسة غريبة صهيونية.