الشيخ بقلم محمد إسماعيل سلامه
تاريخ النشر : 2013-03-11
طال وقوفه إلى جوار الجدار الخلفي لمسجد
سيدنا الحسين رضى الله عنه ، بالطبع لم يكن ينتظر أحد ممن يدخل المسجد أو يخرج منه
، بل كان ظهره إلى المسجد في الواقع ، كان الجو حارا ً جدا والعرق يتصبب منه
فيلاحقه بمنديله الورقي وهو ينظر إلى ساعة يده ويتلفت في ضيق يُمنة ويسارا ً ،
ويتفحص وجوههن من بعيد ، كلما بدا له في هجير الظهر ، عودا متمايلا ، كما تفعل هي
! ليخيب أمله في كل مرة تقترب منه إحداهن بخطى ً مائسة وقد بدت لوهله من بعيد انها
هي ، في هذا الشارع الضيق والمليء بالناس في كل إتجاه – عادة – في هذا الوقت من
نهار القاهرة القديمة.

بدأ يفقد الأمل ، فمشى خطوتين شاردتين ببطءٍ
وأسند ظهرَه إلى جدار المسجد ، وأراح عينيه من تفحص الوجوه بعد أن داخله شبه يقين
، أنها لن تأتي ، ولن تظهر ، أشعل سيجارة وبدأ يُخرج دخانها ببطء واقفا ًعلى قدمه
اليمني وقد ثنى اليسرى إلى جدار المسجد وتأبط ذراعيه ، وعلت وجهَه الذي عقد حاجبيه
، نظرةُ وجوم وشرود ..

كان يضايقة تأخرها ، لا لأنها تأخرت بالفعل ،
بل كان يعيش في داخله مع ذلك الصراع الأبدي في كل نفس بشرية لم يمت قلبها ، وتعيش
على فطرتها ، تلك النفس التي لا تترك صاحبها ، إذا أقدم على فعل شيء يعرف أنه خطأ
، بل .. ويحتقره في الواقع !

شعر بقلبه مضغوطا ، مثقلا بالهموم ، لم تكن
حرارة الجو ولا زحمة الناس من حوله ، تسببان له هذا الضيق بقدر ما كانت زحمة
المشاعر المتضاربه في نفسه ، نشأته الريفية ، الأصول والواجب ، وعبارات الإحترام
والتقدير ، ومشاعر الإعجاب ، طموحه وأحلامه التي لا يعرف هل يخاطر بها حين دخل في
هذه العلاقة " الآثمة "، أم أنه يتروى قليلا في عمره الثلاثيني بعد أن
عجز عن تحقيق ما يتمناه قبل هذا العمر .. ثم أنه " معذور " أليس هو
الفقير المعدم الذي عاش لثلاثين عاما وكأنه المشجع الوحيد لفريق مهزوم بالثلاثة ،
فريق الأخلاق والقيم ! في حين يمتليء ملعب الدنيا بفرقة أخرى تربح كل شيء ،
ويشجعها كل الجمهور ، ولا تخسر ابدا ً !


أليس من حقه أن يشعر قليلا بلذة الدنيا ،
ورواح النفس ، كالآخرين .. ثم وهل من طريق أخرى ، هل يملك شيئا ليطرق بابا بخطى
ثابته كي يطلب يد إحداهن ، هل عاش يوما إلا كمثل النمل في بيات ٍ شتوي ، لا يخرج ،
ولا يرفه نفسه ، بل إن حتى النمل يعيش في جماعات .. وهو إلى اليوم .. يسامر جدرانه
الأربعه .. وغرفته الضيقة في ذلك الحي العشوائي القذر والتي أجرها " بالعافيه
" !

ثم .. ثم أليس برضاها .. بل هي التي كانت
تخطط لذلك ، هي من قدمت كل شيء ، وهو قبل أخيرا أن يعيش تلك اللحظات الجميلة التي
لم يعشها إلا في بيت شعر او قصة يقرأها ، ولم تكن يوما في حياته .. حقيقة ! وهو
ليس اقل من هؤلاء الجهله الذين يعيشون حياتهم " بالطول والعرض " ولا
يحملون لها هما ً .

ثم .. ثم .. هي مطلقة ، نعم ، مطلقة ، وإن لم
يكن أنا ، سيكون غيري ، لا فرق عندها ، ولن تؤذى في شيء ، فليكن ما يكون .. "
جت عليا " ثم .. ثم ..

" ما تستهدى بالله يابني "
"هه" !!


إنتبه فجأة على مصدر الصوت إلى يساره ، فوجد شيخا طاعنا في السن ، لم يبد أنه
قالها وهو ينظر إليه حتى ، كان يرتدي عمامة بيضاء ملفوفة بدقة وجلبابا أزرق ولحيته
كثيفة شديدة البياض وفي وجهة علامة الصلاة وكأنة يصلى منذ دخول الإسلام إلى مصر ،
كانت عليه علامات القوة برغم كبر سنه ، كتفان عريضان ، ربما يعجز ظهره عن حملهما لكبر
سنه ، فانحنى قليلا إلى الامام لكن الرجل ما إن تماسك واقفا عن الكرسي الخشبي الذي
كان يجلس عليه إلى جواره دون إن يلاحظه ، حتى وجد له هيبة غريبة ، فشك أنه كان
يفكر بصوت عال وأن هذا الشيخ كان يسمعه .

إقترب الشيخ بخطوات قليله ، وهو ينظر إليه في
ذهول ، ثم قال :" ايه مالك ، شايل هموم الدنيا فوق راسك ليه ، مفيش
حاجه تستاهل يابني" " مفيش ، انا مستني بس واحد
صاحبي ، وشكله مش جاي"" طيب ما تيجي تصلي الضهر
"" هه ، آه الضهر ، هصلي ان
شاء الله هستناه بس شوية كمان يمكن ييجي "

عقد الرجل حاجبيه ولم يرد ، ثم مضى بخطى بطيئه
إلى المسجد ، وهو يراقبه يمشي إلى باب المسجد ، ويستغرب هيئته وهو يمشي بخطوات
بطيئه ، لكنه يبدوا وكأنه محمولا لا يترنح ولا يتفادى الناس بل يتفاداه الناس وهو
يمشي باطمئنان غريب ، ثم وقف فجأة بعد أن وصل إلى باب المسجد مباشرة .. والتفت
إليه مرة أخرى .. وأشار إلى عصاه التي نسيها إلى جوار الشاب الذي وقف مسمرا ً
لثانية ، ثم لاحظ العصا فأخذها إليه ..

" معلش بنساها كتير " قالها وهو يمسك العصا بيد
، وبيده الأخرى تأبط ساعد الشاب وهو يضمه إلى جنبه ." إنت ابن حلال مش بقولك
هتصلى ، ياللا "·" لا .. أصل .. " هنا ..
قاطعه الشيخ " ياللا يابني علشان ربنا يكرمك "

شعر الشاب بالإستسلام ، وبدا كما أنه سيصلي
الظهر في النهاية ، ربما ليرتاح من عذاب ضميره ، ومن هذا الشيخ اللحوح .. بعد عتبة
المسجد ، إستدار ليأخذ حذائه ، فوجدها واقفة في منتصف الطريقة أمامه ، تنظر له
بدهشة ، وتسمر هو للحظة ، ثم طغى روحه القديم في نفسه ، وفجر في خاطره استنكارا ً
كموج البحر الذى هاج فجأة ، " هل ستخرج من المسجد .. من أجلها " ؟! فأشار
لها أن تذهب ، فلن يأتي !! لم يشعر إلا وبالشيخ الذي كان يقف وراءه مباشرة ، ويرى
المشهد .. يربط على كتفه.. وعلى وجهه ابتسامة عريضة ..

"
ياللا يابني ، مفيش أحسن من طريق ربنا "محمد إسماعيل سلامه