هوامش على فكرة الزمن عند السماح عبد الله بقلم د. جمال الجزيري
تاريخ النشر : 2012-10-25
هوامش على فكرة الزمن عند السماح عبد الله

د. جمال الجزيري / المدينة المنورة

في قصيدة "خلاص" (مديح العالية، ص 21-27)، يعبر الصوت عن مفهوم الزمن من خلال مفردة "الوقت". والوقت هنا يناظر الخط العمري أو الحياتي للصوت في القصيدة:

الوقت يأفل
والشجريون غيرك محض غبار كذوب
ومحض مؤامرة
خُشُبٌ تتسنَّدُ فوق اليبابِ
أنا صرت أعرفهم من ملابسهم منذ عرفتك
منذ انجلى فرحٌ قزحيٌّ يُحَوِّطُ ما ترتديه من الأخضر التركوازيِّ
خذ بيدي
الوقتُ يأفلُ
(مديح العالية، ص 26-27)

يخاطب الصوت هنا ما يمكن أن نطلق عليه هنا "الشجريّ المثال" الذي يمثِّل الخلاصَ لهذا الصوت كما يدل عنوان القصيدة. وهذا الشجريّ بإمكانه – من منظور الصوت – أن يوقف أفول الوقت ومضي الزمن. ومن الملاحظ هنا أن الصوت يؤرِّخ بداية معرفته ووعيه ببداية علاقته بهذا الشجريّ، وكأن الأخير ذاته زمن مناظر للزمن الآفل، زمن يستطيع أن يوقف هذا الأفول ويجعل الصوت يلتحم بالأبدية والحياة المستديمة الخضرة. ومن الملاحظ أيضا أن الصوت يعقد مقارنة بين ما يرتديه الشجريون الزائفون أو الباهتون وما يرتديه الشجريّ الحقيقي المخاطب في القصيدة. وتتمحور هذه المقارنة حول مفهوم الاخضرار ذاته الذي يُعدُّ رمزا للوجه الآخر للزمن، الزمن بمعنى الحياة والفرح القزحيّ. ومن الجدير بالذكر هنا أن الصوت يصف نفسه بالنسبة لهذا الشجري في مقطع سابق من القصيدة بأنه:

أنا نفرٌ من دمائكَ
بعض حكاياك
حادثةٌ علقت في زوايا ذواكركَ
انتهت جثتي مرةً لخطاكَ فقمتُ
وضوَّءْتً عينيَّ بالأخضر المتلألئ في أثر الخطواتِ
(مديح العالية، ص 24)

يوحي هذا الوصف أيضا بتغلغل الخيط الزمني في نسيج القصيدة، فالذواكر هنا (جمع ذاكرة) تستحضر الزمن الماضي وتكسبه أبعادا إيجابية وسلبية في آن. فعلى المستوى السلبي، كان الصوت قبل أن يلتقي بهذا الشجريّ مجرّد جثَّةٍ أفل وقتها الخاص. وعلى المستوى الإيجابيّ، وجد هذا الصوت سبيلا لبعث الحياة من جديد في وقته الخاص من خلال استلهام "الأخضر المتلألئ" في أثر خطوات الشجري، وكأن هذا الشجري هو الزمن ذاته بحلقاته المتصلة وذواكره العديدة التي يجد فيها المرء مكانا له. وما أدل على ذلك من أن الجثة التي فارقها الوقت تمكنت من الحركة من جديد والالتحام بذلك النور وتلك الخضرة. وبذلك نجد أن الزمن في قصيدة "خلاص" يتخذ صورتين: الزمن الخاص الذي يقارب المحدودية والأفول وبالتالي لا مجال فيه للاخضرار أو الحياة؛ والزمن العام الذي يقترن أكثر بالذاكرة وبالتالي التاريخ التراكمي والماضي المتعدد الجوانب كما يقترن بالاخضرار والحياة الشجرية الثرية. يثبت الشاعر تاريخ كتابة قصيدة "أول أكتوبر" (مديح العالية، ص 29-34)،مشيرا إلى أنها كُتبت في "أكتوبر 1994"، الأمر الذي يبرز العنصر الزمني في القصيدة بداية من عنوانها الذي يتمحور حول نقطة معينة من الزمن وليس انتهاء بتاريخ كتابتها الذي يعضِّد العنوان ويوحي بأن القصيدة تستحضر لحظة زمنية ما لها دلالة كبيرة عند الشاعر والصوت الذي يستحضر بدوره هذه اللحظة في القصيدة. توظِّف هذه القصيدة ضمير المخاطب حيث يخاطب الصوت ذاته أو مرآته أو صورته المتحركة في الزمن. يستحضر الصوت ذاته في لحظة زمنية ماضية، وإن كان الزمن النحوي أو الصيغة النحوية تتخذ الزمن المستقبل مدارا لخطابها من خلال "سوف" التي تعتبر إطارا لمعظم الأفعال في القصيدة. وعندما نمعن النظر في هذا الزمن المستقبلي نكتشف أن الصوت يوظِّف الخيال في إعادة لقطة ماضية أمام عينيّ ذاته وكأنها لم تحدث بعد، بل ستحدث لاحقا:

مع سبق الإصرار ستترصد وجها يُشبه من غلَّقَتِ الأبوابَ
وقالت: هُيِّئْتُ الليلةَ لروائحكَ المُرَّةِ
واستبعَدتِ الحرسَ الساري حول البيت
سوف تحوم كثيرا حول الصيدةِ
وتجرب بعضا من قدرات الصيَّادِ الماهرِ
(مديح العالية، ص 32)

وبالرغم من أن هذه الصيغة النحوية تستخدم، على المستوى السطحي، الاستباق الزمني وكأنها تخطو للمستقبل لتلتقط قبسا من لحظة مشتهاة ستجيء، إلا أنها تسلِّط، على المستوى العميق، الضوء أكثر على تقنية الاسترجاع أو الرجوع إلى الماضي لتستعيد لحظة اكتنفها الشوق عندما حلَّت بالذاكرة عندما تكرر زمن حدوثها في زمن الصوت. وعندما يتمكَّن الصوتُ من هذه اللحظة الماضية، يكف الشاعر عن استخدام "سوف" واللجوء للمستقبل، ويلجأ إلى صيغة الحاضر لتكون إطارا لما يستحضره الصوت، وكأن هذه الذكرى صارت متجسِّدةً بشكل ملموس أمام الصوت. وصيغة الحاضر هذه تقوم بوظيفتين في سياق القصيدة: تعيد سرد حركات الصوت في لحظته الماضية، وتلفت انتباهه من خلال "لكن" إلى حاضره وتنبِّهه إلى المفارقة الزمنية لهذا الاستحضار ذاته. والشاعر لا يستحضر الزمن الماضي في الحاضر فحسب، بل يحوِّل الصوت في القصيدة إلى راوٍ سينمائي يقوم بدور التعليق على اللقطة المستحضَرَة ويلفت انتباهه إلى ما تفتقره تلك اللحظة الماضية، ألا وهو أنها لا تعرف مصيرها فيما سيأتي من زمن:

لكنك تعرف أنك لم تكُ هيأتَ الدمع الكافي للذكرى
ذكرى امرأةٍ غلَّقَتِ الأبوابَ وبعَّدَتِ الحرس الساري
................
يحدثُ في أول أكتوبر.
(مديح العالية، ص 33-34)

وإذا استخدمنا مصطلحات صناعة السينما، يمكننا أن نقول هنا إن الصوت يعيد عرض مقطعا من شريط حياته، ولكنه لا يكتفي بعملية إعادة العرض، وإنما يعيد أيضا مونتاج هذه اللقطة ويضيف لها صوت الراوي بداية من "لكن"، وكأن هذه اللقطة ليست محنَّطَة في ذاكرته، بل هي حيَّة تشي بالحضور في الغياب أو الغياب في الحضور، أي أنها إثبات لحضور اللحظة الزمنية الماضية من خلال الخيال أو قوة الذكر إذا جاز لنا أن تستخدم مصطلح ابن سينا، أي أن النفس البشرية لديها القدرة على استحضار لحظة ماضية أو حدث ماضٍ استحضارا حرفيا؛ وهي أيضا إثبات لغيابها عن اللحظة الحاضرة أو على الأقل لتحوّرها من خلال ما يطلق ابن سينا أيضا القوة المتخيِّلَة، أي قدرة النفس البشرية على استحضار حدث ماضِ أو تجربة مرت بها، ولكن هذا الاستحضار يبتعد تماما عن الحرفية حيث تضيف القوَّة المتخيِّلَة أو تحذف من هذه التجربة أو هذا الحدث. والصوت هنا لا يحذف شيئا من الحدث المستَحْضَر، ولكنه يضيف له مصيره في قابل الزمان.

توظِّف قصيدة "خدش" (مديح العالية، ص 95-100) دلالة نقطة زمنية ما على خط الزمن المتواصل الذي يتخذ اسم "الوقت" هنا:

عامان للقلب اليتيم
بعدهما يخون الوقت صُدْفَتَهُ
ويبتدئُ الهواءُ صفيره
قد تكبر السيدةُ الصغرى
وتعطيها ملامحها سمات المتعبين
(مديح العالية، ص 97)

و"عامان" القلب "اليتيم" هنا يدلان على الزمن الحقيقي الإيجابي، أي الزمن الذي يمثِّل تحقيق الذات والسعادة وربيع القلب اليتيم. ومن الملاحظ هنا أن هذين العامين يتولَّدان صُدْفَةً أو مصادفة، أي بلا موعد ولا ترتيب. وهذه الصدفة تشي لنا بصورة سلبية للوقت، وكأنه متعالٍ عمَّن يمر بهم أو يمرون به المتمثلين هنا في القلب اليتيم. وبالتالي يتصف هذا الوقت بالخيانة من وجهة نظر الصوت في القصيدة. كما أن الزمن يتخذ شكلا آخر في هذه القصيدة، وذلك من خلال أثر مروره على الجسد البشري. فالكبر هنا أو التقدم نحو الشيخوخة، سواء أكانت هذه الشيخوخة مادية أم معنوية، يبرز آثار الزمن على ملامح "السيدة الصغرى" التي تتخذ "سمات المتعبين". ومفهوم التعب وعلاقته بالزمن موضوع متكرر في شعر السماح عبد الله بتجلياته المختلفة، وربما نتناوله في موضع آخر. لكننا نكتفي هنا بقول أن التعب يمثل نتيجة لمفعول قوة الزمن في الجسد البشري أو النفس البشرية، وهو علامة على النضج وعلامة على الترحال والتنقل عبر الأحوال والمقامات المتعددة. ويواصل السماح عبد الله توظيفه للأبعاد الزمانية في قصيدة "خدش" من خلال الربط بين النبوءة التي تتصل بالزمن المستقبل و"الأربعاء" الذي يتصل بالماضي:

وثّمَّ نبوءةٌ تجتاح عُرَىَ القلبِ
تخدشُ ما تبقى من غبار الأربعاء
(مديح العالية، ص 98)

وبالرغم من أن النبوءة ترتبط دلاليا أو معجميا بالمستقبل، إلا أنها ترتبط سياقيا بالماضي وإن كانت لا تنفي دلالتها المعجمية، فهي هنا "تخدش/ ما تبقى من غبار الأربعاء"، ويبدو أن الأربعاء هنا يمثل زمنا خاصا للصوت في القصيدة، زمنا مقتطَعًا من الزمن العام ويحمل قيمة ما وسط الأيام التي تتالى على الصوت والشاعر من ورائه. ومن الملاحظ هنا أن الشاعر يجمع بين المكان والزمان في صورته "غبار الأربعاء"، فالمفهوم الزمني يتخذ بعدا مكانيا من خلال هذا الغبار الذي يمكننا أن نعتبره تجسيدا لفكرة أينشتين عن الزمكان، ولكنه زمكان مقلوب: فإذا كان أينشتين يعتبر الزمان بعدا رابعا لأبعاد المكان الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع أو العمق)، فإن الشاعر هنا يجعل المكان بما يشمله من غبار بعدا رابعا للزمان بأبعاده الثلاثة (الماضي والنبوءة والآن التي يستحضر فيها الشاعر الماضي والنبوءة معا). كما أن هذا الزمكان يتخذ موقعه في القلب الذي يعتبره ابن سينا مركز النفس البشرية. والخدش الذي تتخذه القصيدة عنوانا يرتبط بالوعي والإدراك، وكأن النبوءة نبوءة معرفة:

يحدث – ربما – أن يأتيَ العشاقُ
يختصمون في أحوالهم
ويقول واحدهم:
أنا نبت السؤالِ المستريبِ
تقول عاشقةٌ:
هو الخدش المقيمُ يدلني
فانفض إذن يا أيها القلب اليتيمُ غبار ما اعْتَرَكَتْهُ أقدامُ العَشِيقِينَ الحيارى
وابتدئ شَجْوًا يليقُ بحزنِكَ العالي
وسيِّجْ ما استطعت تصيده في عنكبوتِ الأربعاءْ
(مديح العالية، ص 98-100)

فهذا الخدش هو الدليل الذي يقود العاشقة إلى إدراك قيمة اللحظة الماضية والإحساس بهذه القيمة الغالية. ولذلك تطلب من "القلب اليتيم" أن ينفض غبار أربعائه حتى يحضر هذا الأربعاء من جديد. ويبدو أن هذا الأربعاء هو يوم ممتد بطول العامين الذي عاشهما القلب اليتيم قبل أن يمضي الزمن عنه لاهيا. و"الشجو" كما يذكر المعجم الوسيط هو "الهم والحزن" و"شجاه تذكُّرُ الإلْفِ: شوَّقَه وهيَّج جزنَه"، أي أن الشجو في سياق القصيدة يتخذ بعدا زمنيا، بالرغم من الاسم – أي اسم – لا يرتبط بالزمن بأي شكل من الأشكال حيث يقول ابن سينا إن الاسم "لفظ مفرد يدل على معنى دون زمانه المحصّل" (عيون الحكمة، ص 3). وهذا البعد الزمني يتضخم في السياق ليحل محل الزمن العام ويصير هو الزمن ذاته، ويحضرنا هنا قول الدكتور إحسان عباس في سياق تناوله لعلاقة الشعراء بالزمن: "وحقيقة الأمر أن هناك فرقا بين الزمن – حين يكون في الخارج – قوة مجردة، وبين الزمن حين يكون علاقة إنسانية، فهو في الحالة الثانية يمكن أن يكون حيا أو ميتا، مليئا أو فارغا بسبب إحساس الإنسان به، أما في الحالة الأولى، فإنه صورة من الموت، ولذا فإنه قوة لا يستطيع التمرس بها." (اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 76). فالعشيقة هنا تعتبر الزمن الخارجي الذي لا يتأثر بالبشر ولا يبالي بهم زمنا ميتا لا يحمل حياة في جنباته، وبالتالي تلفت انتباه القلب اليتيم إلى أن يلتفت إلى زمنه الخاص لينفض عنه غباره حتى يمتلأ حياة ويخرج من دائرة الموت ويستطيع أن يكون قوة داخلية تكافئ قوة "حزنك العالي". ولذلك تحث هذا القلب على أن يسيِّجَ ما يصطاده من وقت "في/عنكبوت الأربعاء". ومن الملاحظ هنا أن صورة "العنكبوت" تنبني دلاليا على الجوانب الأخرى لهذه الصورة في قصائد أخرى للسماح عبد الله، كما في قصيدة "فالتقطتْها بقلب وجيف" في ديوان أحوال الحاكي أو في قصيدة "يحاولها الكافرون وترضى" في ديوان شتاءة للعاشق الوحيد. حيث يرمز العنكبوت في القصيدة الثانية ("يحاولها الكافرون وترضى") للحكايا التي ينسجها العنكبوت على باب الغار كي تخفي من بداخله وذلك عن طريق نسج طبقات متراكمة من آثار الزمن كي يوهم الرائي أو الناظر بالقدم والمضي، أما في القصيدة الأولى ("فالتقطتْها بقلب وجيف") فيرتبط العنكبوت أيضا بلحظة زمنية معينة يوقف عندها المدرِّس في سردَ قصته بما يوحي به هذا التوقف من تعتيم أو لامبالاة أو إنهاء قسري لإمكانات الزمن في المستقبل. وعندما يقترن العنكبوت في قصيدة "خدش" بـ "الأربعاء" يكتسب قيمة زمنية إضافية وخاصة في آن، فهو عنكبوت يحفظ هذا الأربعاء بعيدا عن غبار الزمن الخارجي الذي يريد أن يقرن الأربعاء – مثلما يقترن هو إذا تمثَّلنا تمييز دكتور إحسان عباس بين الزمن الخاص أو الداخلي والزمن الخارجي – بالموت. ومن الملاحظ هنا أن هذا الزمن الخاص أو الزمن الإنساني لا تنبعث فيه الحياة من تلقاء ذاتها، بل لابد من وجود ذات إنسانية فاعلة ونشيطة تعرف ما تريد جيدا وتسعى لتحقيقه. فالذات الإنسانية المتمثلة في القلب اليتيم تنفض الغبار وتصطاد كل ما يمكنها أن تصطاده وتسيج كل صيدها لتحافظ عليه وتحفظ له حياته وخروجه من الحيز الزماني الضيق للماضي إلى الأفق الرحب المتمثل في الحضور المتواصل في وعي الصوت ونفسه وزمنه الخاص. في قصيدة "شجر الحواف" (مديح العالية، ص 115-122)، يواصل السمّاح عبد الله الاتكاء على مفردة "العامين" كما رأينا في قصيدة "خدش". ولكن إذا كان العامان في قصيدة "خدش" يوحيان بربيع القلب أو التناغم بين الزمن وبين "القلب اليتيم"، فإنهما يرتبطان في "شجر الحواف" بالانتظار وخيبة الأمل:

الشجر الذي خبرته على الحواف
وانْتَظَرَتْ خرائبُ القلبِ الشفيفِ عامين لكي يكون وارفا كما يجبْ
ها أنتَ ذا يا أيها الخائبُ والبليلُ
مازلتَ حتى بعد أن خبرته
مازلت حتى بعد أن أدركتَ أن عامين تسرَّبَا من راحتيك سهوا وحرامَا
مازلتَ تعبر الطريق كل يوم في الرواحِ والغُدُوّ
خائبَ القلبِ بليل العينِ رائعًا
(مديح العالية، ص 117-118)

وبالرغم من أن كلمة "خرائب" ذات طابع مكاني أو على الأقل معنوي ذهني، إلا أنها تتخذ هنا طابعا زمنيا من جهة أن القلب صار كالأطلال أو البيت المهدَّم الذي لا يأنس بنور أحد أو يشعر بمرور الزمن عليه بما قد يحمله من تعاقب وتجدد وتغير حالٍ. والانتظار هنا يجسِّد فعل الترقُّب أو ما تتوقَّعه "خرائب القلب الشفيف" من الزمن ومن تبدُّل الفصول لكي يحلَّ الربيعُ بشجر الحواف. ولكن يبدو أن هذا التوقع في غير محله. وهنا يكتسب "العامان" قدرا من الخيانة التي ترتبط بالوقت في قصيدة "خدش". وتكرار الشاعر لكلمة "مازلت" في بنية القصيدة يوحي بأن المخاطَب في القصيدة مازال على توقُّعه، أو بالأحرى تدفعه أمانيه لأن ينتظر. ولكن الصوت في القصيدة يكرر تعبير "حتى بعد" وهو تعبير زماني أيضا. ويمكننا أن ننظر إلى هذا التكرار على أنه يمثِّل صوت العقل أو المنطق لدى الصوت في القصيدة، وهنا يمكننا أن نعتبر المخاطَب والمتكلم وجهين لنفس الشخص: يمثل المخاطَب العاطفة أو الجانب الوجداني بينما يمثل المتكلم صوت العقل أو المنطق؛ والمخاطب يميل لأن ينظر إلى الزمن نظرة إيجابية دائرية تأمل فيه أن يعيد نفس اللحظة التي مرت منذ عامين: فهو يعبر الطريق "كل يوم في الرواح والغُدُوّ"، حتى وإن كان قلبه خائبا وعينه بليلةً؛ في حين أن المتكلم يميل لأن ينظر إلى الزمن نظرة خطية مستقيمة: أي أن الزمن يسير للأمام لاهيا عن أي شيء وأي شخص ولا يمكنه أن يعيد نفسه أو يدور ليصل إلى نقطة مكررة على محيط الدائرة الزمنية. ومن الملاحظ هنا أن المتكلم يصف المخاطب بأنه رائع وهذه الروعة ترجع في الغالب إلى كونه دائم الانتظار؛ وهذا الوصف من جانب المتكلم يمكن أن يؤخذ على أنه تسوية، أو منطقة وسطى، بين الزمن الدائري والزمن الخطي، ينسحب فيها العقل قليلا عن موقعه ليعترف بمشروعية الانتظار، وبالتالي الأمل، وإمكانية تحققه. ينتقل الصوت بعد ذلك في قصيدة "شجر الحواف" إلى إلقاء الضوء على سبب روعه المخاطب وسر انتظاره:

كأن نَفَرًا من الصحاب والعَدُوّ
يحوِّطون خطوك العاري الخفيفْ
الصحابُ يزرعون الحَسَكَ المسمومَ في سِكَّتِكَ العرجاءِ
والعدوُ يصطادون طيرا أسودَ
ينعق مثل البوم
يطلقونه في وجهك الشفيفْ
تضحك آنةً
وآنةً تُنَفِّضُ الغبار عن كواهلك
تبحث في الذاكرة النَّسَّايَةْ
عن امرأة
من سنتين
جاءتك على مجاري الماءِ
عيناها حديقتا قرنفلٍ
ونهداها كجرسين صامتين يُوقظان قريةً بأسرها
سُرَّتُهَا كأسٌ من الخمر تنيم قريةً بأسرها
وساقاها عمودان من المرمر
(مديح العالية، ص 119-121)

يكتسب "الغبار" هنا، كما في قصائد أخرى للسَّمَّاح عبد الله، طابعا زمنيا، فهو يرتبط بتراكمات الأيام والسنين وما يلحق بالذاكرة من تشوُّشٍ أو انمحاء لبعض محتوياتها. ولكن نفض غبار الوقت هذا لا يجدي، فالذاكرة ذاتها تتصف بالنسيان أو حتى تعمُّد النسيان، وكأن هذه الذاكرة – التي من المفترض أن تحفظ الأحداث والذكريات وتوحّد بين لحظات العمر المختلفة بأن تجمعها سويا وبالتالي تقضي نوعا ما على خطِّيَّة الزمان وما تستلزمه هذه الخطية من موت الزمن الماضي بكل ما فيه وغياب أية فرصه لاسترجاعه – تتعاون مع الزمن الخطِّي الذي من المفترض أن يكون عدوَّها اللدود، ولا تحتفظ بالذكرى التي يبحث عنها المخاطب أو يود استرجاعها من هذه الذاكرة. ومن الملاحظ هنا أن الشاعر يؤنث الوقت عندما يذكر المرأة ("من سنتين")، في حين أنه ذكَّرَهُ عندما ذَكَرَ القلبَ أو المخاطب من قبل("عامين"؛ "أن عامين")، وكأن الزمان الإنساني يكتسب طباع أو طبيعة الذات التي يقترن بها. يبدو أن المرأة التي يبحث عنها المخاطب في هذه القصيدة هي الشق الأنثوي للزمن ذاته، فالشاعر يشبِّه نهديها بالجرسين الصامتين اللذين "يوقظان قرية بأسرها" و"سُرَّتَها" بكأس خمر "تنيم قرية بأسرها". وصمت الجرسين يعضِّد صورة الزمن بأنه يمر في خط مستقيم لا يميل إلى أحد ولا يتوقف لأحد. كما أن اليقظة والنوم من العلامات البشرية لمرور الوقت وبالتالي الزمان. فهذه المرأة تتوحَّد مع الزمن وتتحكَّم في حركة حياة "قرية بأسرها". ويؤكد الشاعر هذه الإيحاءات بعد ذلك في القصيدة عندما يقدم لنا صورة لهذه المرأة تجسِّدها سارقة لوقت المخاطب وماضيه:

جاءتك على مجاري الماءِ
نقَّرَتْ في قطعةِ الوقتِ وفسحةِ المكانِ
استرقت من أغنياتك الجميلة
صوتَ أسلافك في حروبهم
وقصص الجدات في الأماسي
وطباشير التلاميذ
ولم تترك سوى حَسَكٍ وطير أسود
(مديح العالية، ص 121-122)

ومن الملاحظ هنا أن التنقير يتخذ بعدا ذاتيا محضا، فهذه المرأة تقطع أو تحفر في الوقت والمكان لتستغلهما لهدف خاص، كما ينقِّر الطائر في موضع ما ليحفر له حفرة يبيض فيها أو ينقر الحب الحَبَّ ليأكله؛ ويستدعي ذلك الفعل أيضا النقر في الحجر أو غيره للكتابة عليه وتسجيل فكرة أو موقف ما. وتتجمع كل هذه الدلالات سياقيا لتوحي بأن هذه المرأة تستنزف "قطعة الوقت وفسحة المكان". ومن الجدير بالذكر هنا أن الوقت – وهو مفهوم زمني – يتخذ صورة مكانية وهي عبارة عن قطعة صغيرة بالمقارنة بفسحة المكان. ويرجعنا ذلك إلى مفهوم الزمكان عند السمَّاح عبد الله من جهة وفي نظرية النسبية من جهة أخرى: فالوقت هنا مجرد قطعة من المكان، أي أنه مكملا له أو بعد رابع يضاف إلى أبعاد الطول والعرض والارتفاع. ومن الملاحظ أيضا أن المكان والزمان معا مستباحين من قِبَل هذه المرأة لدرجة أنها قادرة على سرقتهما معا وسلب المخاطب في القصيدة من أي امتداد زمني له في الماضي. فهي تفرِّغ أغنياته من "صوت أسلافك في حروبهم،/وقصص الجدات في الأماسي،/وطباشير التلاميذ" (مديح العالية، ص 121). وإذا تأملنا هذه الصياغة جيدا، أمكننا أن نرصد ثلاث ذوات بشرية مرتبطة بالأشياء الثلاثة التي تسرقها هذه المرأة: فالصوت مرتبط بالأسلاف والقصص بالجدات والطباشير بالتلاميذ. وهذه الذوات البشرية تكشف بطريق غير مباشر الزمن: فالأسلاف يشيرون إلى الماضي البعيد، والجدات إلى الماضي الأقرب أو الجيل الذي قطع شوطا طويلا على طريق حركة الزمن ولكنه لم يخرج من حسابه بعد، والتلاميذ يرمزون للجيل الجديد أو الشباب الذين لم تذهب حركتهم طويلا بعد على خط الزمن. أي أن هذه المرأة تترصَّد ذاكرة المخاطب في مجملها بما فيها من ذكريات وأحداث وأشخاص وإمكانات. وإذا نظرنا إلى المركَّب الحرفي أو شبه الجملة في القصيدة هنا – "في حروبهم"، "في الأماسي" – نجد أنه يشي بالزمن أيضا بطريقته الخاصة: فالحروب هنا ليست الحروب الحديثة التي يمكن أن تحدث في أي وقت من اليوم، ولكنها الحروب القديمة التي كانت تُشَنُّ نهارا فقط، ويقابلها من الجهة الأخرى هنا الأماسي التي تحكي فيها الجدات القصص لأحفادهن وحفيداتهن. ويؤكد ذلك الكلامُ الترصد من قبل هذه المرأة لكل ما يرتبط بالزمن في حياة أو ذاكرة المخاطب في القصيدة. وبالنظر إلى آخر ثلاثة أسطر من الاقتباس الذي استشهدنا به أعلاه، نجد أن هذه المرأة لم تستبقى شيئا من "قطعة الوقت وفسحة المكان" سوى "الحَسَكِ" و"الطَّيْرِ الأسودِ". وهذان الشيئان حظيا بتسليط الضوء عليهما في موضع سابق من القصيدة عندما يصف الشاعر موقف الأصحاب والأعداء من المخاطب:

الصحابُ يزرعون الحَسَكَ المسمومَ في سِكَّتِكَ العرجاءِ
والعدوُ يصطادون طيرا أسودَ
ينعق مثل البوم
يطلقونه على وجهك الشفيفْ
(مديح العالية، ص 119)

والحسك – كما يقول المعجم الوسيط – نبات له ثمرة خشنة تتعلَّق بأصواف الغنم وأوبار الإبل، ويضيف لسان العرب أن الحسك أيضا هو شوك عشب بنفس الاسم لا يستطيع أحد أن يمشي عليه حافيا، ويضيف ابن منظور أن الحسك يدل أيضا على الحقد والضغينة والغضب (باب حسك). وكل ذلك يوحي بأن موقف الأصدقاء لا يختلف كثيرا عن موقف الأعداء، وإن كان موقفهم يشي بالغيرة والحسد. وكون المرأة هنا لا تترك للمخاطب سوى الحسك والطير الأسود يدل على أنها سطت على كل ما هو جميل وفاعل في حياة المخاطب. تبرز خاتمة القصيدة المفارقة الكامنة في موقف المخاطب من هذه المرأة:

ها أنت ذا تخطو
كأن رجلا سواك غير خائب القلب يمرُّ
مصوبا عينيك في اتجاه شجر الحوافِ
وتُمَنِّي قلبك الشفيفَ أن يظل في انتظاره عامًا فعامَا
(مديح العالية، ص 122)

لا يدرك المخاطب هنا أن هذه المرأة تلتهم الوقت وتلتهم المكان، وأن العامين اللذين سينتظرهما القلبُ لن يكونا أفضل من العامين السابقين، فهي ستلتهمهما أيضا وسيظل يبحث عنها في ذاكرته النسَّايَة دون جدوى. وإذا استحضرنا التمييز بين دلالة المفردات الدالة على الزمن ما بين التذكير والتأنيث، حيث قلنا أن كلمة "سنتين" ترتبط بزمن المرأة، بينما ترتبط كلمة "عامين" بزمن المخاطب هنا، وإذا لاحظنا أن كلمة "سنتين" ترد مرة واحدة في القصيدة، في حين أن كلمة "عامين" تتكرر مرتين في حالة المثنى ومرتين في حالة المفرد – إذا تذكرنا كل ذلك يمكننا أن نقول بأن الزمن الغالب على القصيدة، بما فيه من انتظار، هو زمن المخاطب فقط وبالتالي لن يجدي هذا الانتظار شيئا، لأن هذه المرأة ستلتهم أية أعوام تتخذ صفة المذكر وستحولها إلى سنين خاصة بها.

يتناول السمَّاح عبد الله مفارقة الانتظار هذه في قصائد أخرى من ديوان مديح العالية. ففي قصيدة "سيرة البليلة" (ص 35-41) على سبيل المثال، يظل الصوت منتظرا طلوع البليلة من البحر دون جدوى:

وكنتُ كلما خطوتُ في اتجاه البحر
وكلما ملأت راحتيَّ من هوائِه أقولُ:
بعد برهةٍ ستطلع البليلةُ
من مياهِ البحر
(مديح العالية، ص 37)

والبرهة هنا لحظة محنَّطة، لأنها تظل برهةً بالرغم من مرور الأيام وتعاقب الليل والنهار، ويظل الصوت منتظرا بالرغم من أنه يدرك أن كل شيء حوله يتبدل ويتحول ويسير في خطه الزمني الخاص:

الشجرُ الواقفُ فوق الشط مَرَّ مخضرا إلى طريقه
وامرأتان مرَّتَا بجانبي تُقَزْقِزَانِ اللبَّ
وكل بلدةٍ قد بعثت سفينةً لبلدة أخرى
والليلُ والنهارُ قُدَّامِي تعاقبا عشرين مرة
والطيرُ والعشاقُ والبيوتُ
وأنا وحيدٌ واقفٌ أقولُ:
بعد برهةٍ ستطلع البليلة
من مياه البحرْ
(مديح العالية، ص 40-41)

كل مظاهر الحياة حول الصوت تمتثل لحركة الزمن. فالشَّجر كفَّ عن وقوفه – أو ربما تبيَّن عبث الانتظار – ومضى في رحلته الخاصة ليكمل اخضراره ويواصل رحلته في الزمان، بما تحمله هذه الرحلة من أفول الاخضرار. والليل والنهار مازالا منخرطان في حركتهما الكونية وتعاقبهما ليكونا دليلا على حركة الزمن، دون أن يعبآ بهذا العاشق المنتظِر. ومن الملاحظ هنا أن الطير والعشاق والبيوت كلهم يتبعون أو يوازون تعاقب الليل والنهار. وعطف البيوت والطير والعشاق على الليل والنهار هنا وكأن الشاعر يقول: "الطير تعاقب/والعشاق تعاقبوا/والبيوت تعاقبت" – هذا العطف يؤكد فكرة اندماج المكان والزمان سويا في الزمكان، فلا وجود لأحدهما بمعزل عن الآخر. ولكن الصوت يظل على انتظاره وتمتد البرهة عنده وتتطاول لتشمل عمره كله. ومن الملاحظ أيضا أن الصوت هنا وحيد بالرغم من صخب مظاهر الحياة من حوله بما فيها من حركة وعشق وتجارة وتواصل. ويمكننا أن نستخلص من ذلك أن "برهة" الصوت في قصيدة "سيرة البليلة" تخرجه من إطار المكان والزمان معا، وكأنه يريد أن يوقف حركة الزمان وتبدل المكان حتى تأتي هذه البليلة بكل ما تمثله له من قيمة وجدانية كبيرة، وتستجيبَ لـ "ما أرسلُهُ / تجاهها من الحنين" (مديح العالية، ص 38). ويمكننا أن ننظر أيضا إلى موقف الصوت هنا من زاوية منظوره الخاص للزمان. فهو لا يأبه بالزمان الفيزيائي أو الكوني المتمثل في حركة الكواكب ولا بالزمان الاجتماعي – إذا جاز لنا هذا التعبير – المتمثل في حركة الناس ومعاملاتهم اليومية والتجارية، بل يصر على التمسك بزمنه الخاص، الزمن الإنساني المحض أو الزمن النفسي، فهو لا يرى جدوى من حركة الزمان الفيزيائي أو الزمان الاجتماعي طالما أنهما لا يساهمان في حضور البليلة ولا انتظارها. ومن الجدير بالذكر هنا أن الشاعر يضع عنوان قصيدته نسبة للبليلة ("سيرة البليلة")، لا نسبة للصوت ولا انتظاره، وكأن سيرة هذه البليلة وحياتها تتشكل بناء على هذا الانتظار أو بناء على توجه عاشقها نحوها. ويبدو أيضا أن هذه البليلة لها حسابها الزماني الخاص، فهي لا تعرف الأيام ولا الشهور التي تتجلى في كل شيء حول عاشقها، ولذلك لا تأتي في الموعد الذي يظنه الصوت ولا تستجيب لنداءات الحنين التي يرسلها لها.

قد يرتبط الزمان النفسي أو الإنساني بالإيهام أو التخييل، وينبع ذلك من رغبة نفسية في تحقيق شيء ما أو تصديق شيء ما يشكُّ العقلُ فيه. وهنا تأتي الرغبة في إيقاف هذا العقل بمنطقه وحساباته الدقيقة للزمن، ومن ثمَّ إحلال حسابات أخرى محلَّها. يقول السمَّاح عبد الله في قصيدة "عم صباحا حبيبي" (مديح العالية، ص 57-62):

قبل أن تدخل المتعبة
غرفة النوم
سوف تحدق أكثر من مرة في المرايا
وسوف تضيف لأعوامها سنةً أو ثلاثا
لكي ما تصدق أن روائحه في يديها يظل لها عبقٌ
(مديح العالية، ص 59-60)

فيكمن التخييل الزمني هنا في أن هذه المتعبة لا تريد أن تصدق أن روائح حبيبها لا تصمد على مر الزمن وتتبخر منها بمجرد فراقه؛ ولذلك تتغاضى عن عمرها الحقيقي، وتضيف له زمنا أكبر كي توهم نفسها بأن أثر حبيبها لا يتأثر بالزمن ويظل ملازمها بعد سنوات. ومن الملاحظ هنا أن الشاعر يستخدم "الأعوام" (جمع "عام" المذكَّر) بمعنى العمر الحقيقي لهذه المتعبة، وأنه يستخدم "سنة" المؤنثة بمعنى القيمة النفسية المضافة لهذه الأعوام. وكنا قد ذكرنا في سياق آخر أن السمَّاح عبد الله يفرِّق في استعماله اللغوي بين "عام" و"سنة"، فالأولى ترتبط بالزمن العام أو الزمن من منظور الرجل، في حين أن "سنة" وصيغها الأخر في المثنى أو الجمع تقترن بالزمن الأنثوي وما له من حساب خاص وقيمة خاصة يتمايزان عن الزمن العام أو الزمن الذكوري. كشأن أي تخييل، يقترن التخييل الزماني هنا بزمانه الخاص الأقرب إلى "عُرْي الظلاماتِ"، وبالتالي لا يستمر طويلا، بل ينمحي عندما يتجلى الزمان الاجتماعي والطبيعي؛ فالمتعبة في قصيدة "عم صباحا حبيبي" سرعان ما تخبِّئ زمنها المتخيَّل عندما يوشك النهار على الطلوع:

ستنهض في الصبحِ وهي تُخَبِّئُ عُرْيَ الظلاماتِ
تخرجُ قبل طلوع النخيلِ وقبل افتضاح النهاراتِ
قابضة في يديها روائحه
وكما يفعل المتعبون
عندما يصبح الظل ملتصقا في مدارات صاحبه
عندما يصبح الوقت ليس خصيما ولا يشبه العنكبوت
تمد يدًا شِبْه خائفةٍ
وتقول له :
عِمْ صباحًا حبيبي
(مديح العالية، ص 61-62)

فـالزمان المتخيَّل الذي يقترن بـ "عري الظلامات" هنا لابد أن يحتبس في هذه الظلامات ولا يفارقها لأن "النهارات" تشهر الفضيحة في وجهه وكأنها تكذِّبُه. ومن الملاحظ هنا أن هذه المتعبة تقبض على روائح حبيبها في يدها، وهو قبض يوحي بأنها لا تعترف كثيرا بالنهارات وما تحمله من تكذيب لتغلُّب روائح حبيبها على الزمن. ومن الملاحظ أيضا أن الشاعر يوظِّف مفهوم الظل هنا ليعمِّق إيحاءاته الزمنية. فإذا كان الظل بوجه عام يدل على حركة الشمس في سمائنا أو بالأحرى في مدارها وبالتالي على حركة الزمن بوجه عام، فإن المتعبة هنا تنظر للظل نظرة أكثر عمقا، وترى أن قيمته الزمانية الحقيقية تتمثل في التصاقه بصاحبه وبالتالي تجسيد زمان صاحبه النفسي الحقيقي بما يحمله من تحقُّقٍ وإشباعٍ واقتران بين الدال والمدلول أو بين المسمَّى وبين اسمه، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبير الشاعر سميح القاسم في قصيدته "خذلتني الصحارى". ففي هذه الحالة – التي تبدو استثنائية من منظور القصيدة – يكف الوقت عن لعب دور "العذول" أو الخصيم أو العدو أو اللامبالي بالإنسان ويمضي في طريقه دون أدنى اهتمام به، ويتحول إلى صديق للإنسان، وبالتالي يتخلص من صفته العنكبوتية. وكنا قد تحدثنا في موضع آخر من هذه الدراسة عن صورة العنكبوت وارتباطها بالزمن عند السماح عبد الله في قصائد أخرى، أما هنا في قصيدة "عم صباحا حبيبي"، فنجد أن صورة العنكبوت تضيف أبعادا إلى صورته في القصائد الأخرى: يتآمر العنكبوت مع الوقت، بل هو الذي يرسم خيوط الزمن على الذكريات وكل ما له قيمة خاصة في حياة الإنسان وبالتالي يمحو هذه الذكريات من الذاكرة ويجعلها حتى عصيَّة على الاسترجاع أو الاستحضار أو الخيال. في هذه اللحظة الاستثنائية أو التحقق النادر يمكن للمتعبة أن تحسَّ بمعنى كلمة الصباح وتحيي بها حبيبها: "عم صباحاً،/حبيبي". يتخذ الزمن ثلاث صور في قصيدة "عم صباحا حبيبي": الزمن التخييلي، والزمان الواقعي أو الطبيعي أو الفيزيائي، والزمان الظِّلِّي إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح الأخير. يرتبط الزمان التخييلي برغبة الذات في تكذيب آثار الزمان الواقعي، وبالتالي خلق زمانها الخاص الذي يحقق أكبر قدر من الإشباع للذات. أما الزمان الواقعي، فهو زمان متعالٍ، زمان لا يأبه بأحد، زمان يهدد الزمان التخييلي، زمان يقترن بالخيانة وهدم كل ما يمثل قيمة بالنسبة للذات، زمان يعتبر الإنسان عدوا وبالتالي يسعي جاهدا لأن يدرج كل ذكريات الإنسان ولحظاته الجميلة في طي النسيان. والزمان الظِّلِّي زمان استثنائي، زمان يوحِّد بين الروح والجسد، زمان الإشباع والتحقُّق، زمان يتوحَّد فيه الدال والمدلول والإنسان وظله ويصيران شيئا واحدا، زمان يكون فيه للإنسان مدار بل مدارات مثل الشمس والقمر وكل العلامات الأخرى التي تدل على الزمان، زمان يدور فيه الظل حول الذات كما تدور الأرض حول الشمس.

يتكئ السمَّاح عبد الله كثيرا على صورة المتعب والمتعبة والتعب وعلاقتها بالزمن. وهنا تتجلى صورة الوقت بمفهوم خاص ربما يتضارب أو يتناقض مع الزمن العام أو الزمن الخطي. يقول السمَّاح عبد الله في قصيدة "صباح طازج لصباح" عن المتعب:

الوقتُ ضلالته خيبةُ مسعاهُ
هواه المخطوفُ جلالته
(مديح العالية، ص 66)

من الواضح هنا أن الوقت يقترن بتجربة المتعب وربما سيرة تعبه ذاتها أو بالأحرى مسيرة هذا التعب وتكوينه في لحظات سابقة من عمره. ومن الواضح أيضا أنه يوحي بالخيبة وإحباط التوقعات واختطاف التجربة أو التجارب الوجدانية السابقة وعدم تبلورها. وبالتالي يميل لأن يضلل هذا المتعب، بدلا من أن يرشده أو يصعد به إلى مقام التحقُّق والإشباع. ومع ذلك، يعتبر هذا الوقت أروع ما في المتعب، فهو الذي يهبه جلالته وروعته وتعاليه على الزمن الخطِّي ذاته. ويمكننا أن ننظر إلى الوقت هنا على أنه رغبة منفية، رغبة لا سبيل إلى تحققها ولا سبيل إلى استعادتها إلا من خلال الوحدة والفعل التذكُّر أو التخيُّل الخصب:

ستمر القاطرة إذن صاخبةً في صمتِ غوايته
يصعد ويجاور نافِذةً
ويشدُّ إلى عُرْى أصابعه رعشةَ أن يحتدم وحيدا
في آخر ساعات الليلِ
يخطِّطُ لحكايات دافئةٍ وجوى مُبْتَلٍّ وهوى صَادٍ
كي يرشو من يستجمعهم في دخان التبغ
(مديح العالية، ص 66-68)

يمكننا أن نرى في القاطرة الصاخبة التي لا تبالي بصمت غواية المتعب معادلا للزمن بمفهومه العام الذي يمر في خط مستقيم دون أن يتوقف عند أحد أو يتوقف لأحد أو يخفف من صخبه. وهنا يقابل الشاعر بين صخب القاطرة وصمت الغواية. ومن الملاحظ سياقيا أن صمت الغواية يمثِّل الوقت بمفهوم المتعب، أو فلنقل وقت المتعبين أو زمانهم الخاص الذي يتوازي مع الزمان العام ولا يتقاطع معه حيث أن كلا منهما نقيض الآخر. ومن جهة أخرى، يعتبر هذا الصمت سياقا خاصا لاستحضار الوقت الفائت الذي يراوغ الذاكرة، كما في نرى في سكوت الليل في قصيدة "وشكَّل أحبابه في الدُّخان" بديوان أحوال الحاكي. ونجد دخان التبغ ملمحا أساسيا في هذا السياق في هاتين القصيدتين وقصائد أخرى للسَّمَّاح عبد الله. ونجد كذلك أن آخر الليل ملمح بارز في هذا السياق، فهو الجو الملازم لهدوء صخب قاطرة الزمن وبالتالي يتيح للمتعب أو العاشق أن يتهيأ للتوحد من ذكرياته وتخييلها. والوحدة أيضا معلم بارز من معالم سياق هذا التخييل. وكل ذلك تقريبا من أفعل القوة المتخيِّلة التي تحدث عنها ابن سينا، حيث يفرِّق بين الخيال وهو الاستحضار الحرفي لشيء غاب عن الحواس، والتخيُّل وهو استحضار معدَّل لما غاب عن الحواس، حيث تتمكن القوة المتخيِّلة من أن تضيف أو تحذف ما تشاء.

ومن الملاحظ هنا أن المتعب "يخطِّط" لما يستحضره من ذاكرته ويحدد سماته. فيصف الحكايات بالدافئة والجوى أو شدة الوجد بالمبتَلِّ (وصور البليل والبليلة والبلل من الصور التي يتكئ عليها السماح عبد الله في قصائد كثيرة من شعره مثل "سيرة البليلة" و"صورة لحامل الهوى" و"ظمأ" و"في اتجاه كل هذا الموت" و"دوار البليلة" و"شجر الحواف" من ديوان مديح العالية و"استكمال القصة" و"الواحدة في عراء ذكرياتها" من ديوان ثلاثاءات عابر سبيل و"الخريف" من ديوان مكابدات سيد المتعبين) والهوى بشدَّة العطش؛ وكل ذلك لكي "يرشو من يستجمعهم/في دخان التبغ". وهذه السمات التي يحددها المتعب ويخطط لها تجعله يتحكم في المشاهد المتخيَّلة التي يصممها في وحدته وشدة وجده بما يحقق له إشباعا نفسيا ووجدانيا وذلك من خلال تعديل صورة الوقت ذاتها بحيث لا يكون هذا الوقت ضلالة أو خيبة مسعى أو اختطافا، بل يصير يقينا وتحقُّقا وحضورا وبالتالي يجسِّد جلالة هذا المتعب أيما تجسيد. بالإضافة إلى إشارة الوقت إلى الزمن الماضي الذي كان يمثِّل زمن تحقُّق الذات وإشباعها، قد يشير الوقت أيضا إلى عمر الإنسان بوجه عام. يقول السمَّاح عبد الله في قصيدة "ظمأ" (مديح العالية، ص 77-83) في سياق إحباط الصوت من موقف بلاده منه وإصرارها على سحقه وعدد تحقُّقِه، مخاطبا هذه البلاد:

وامنحيني وقتيَ الباقي
فقد ضيَّعْتُ عمري باحثا عن شجر يكبر في الصيفِ الذي يسكننا
امنحيني هدأةً واحدةً
(مديح العالية، ص 80-81)

يتجلي الزمن في العديد من مفردات هذا الاقتباس: وقتي، عمري، الصيف، هدأة (وهي في المعجم الوسيط السكون عن الحركات وكذلك الهزيع من الليل ومن أول الليل إلى ثلثه؛ وفي لسان العرب الهُدْءُ والهَدْءُ والهَدْأَةُ والهَدِئُ والهُدُوءُ – كل هذا بمعنى الهزيع من الليل أي حين يسكن الناس، وهدأ الليل أي سكن وهدأ الناس أي ناموا، والهَدْءُ من أول الليل إلى ثلثه أي ابتداء سكونه). ومن الملاحظ هنا أن الهدأة تستحضر "في آخر ساعات الليل" من قصيدة "صباح طازج لصباح" بديوان مديح العالية، و"سكت الليل" "وانطفأ الشمعدان" و"خُطا الليل" من قصيدة "وشكَّل أحبابه في الدخان" و"في هدأة الليل" من قصيدة "ولربما كان جوعانا" بديوان أحوال الحاكي، و"هبط الليل بمهرجانه العالي" من قصيدة الانفلات من خيط الناي" و"عندما ينتصف الليل" من قصيدة "جوعة المرأة النحيلة" و"في الليل الطويل" من قصيدة "حَوَفَّ الحرقة" و"حين ينتصف الليل" و"في عتمة الليل" من قصيدة "غفوات منقوصة" بديوان ثلاثاءات عابر سبيل. وإذا كان الليل وهدأته يدلان على الجزء المقتطع من الزمن الخطي العام لتعيش أو تعايش فيه الذات وقتها الخاص وزمن تحقُّقها، فالوقت في قصيدة "ظمأ" هنا يدل على الزمن الذي لم يدخل في دائرة الضياع بعد، فما ضاع يسمِّيه الشاعر هنا "عمري" الذي لم تستطع البلاد أن تجعله يزدهر في الصيف. ومن الملاحظ في هذا السياق أن العمر لا يشمل على "هدأة واحدة"، أي لم يحسّ فيه الصوت بالتحقُّق والإشباع ولو لمرة واحدة في هذه البلاد. يمكننا من خلال هذا الاقتباس من قصيدة "ظمأ" ومن خلال قراءتنا لقصائد السماح عبد الله بوجه عام أن نحدد بعض ظلال "الوقت" و"العمر" و"الليل" أو "الهدأة".

بالنسبة للوقت، يمكننا أن نقسِّمه كالزمان بوجه عام إلى ثلاثة أقسام: الوقت بوجه عام أو الوقت بمعنى الماضي الحميم؛ والوقت بمعنى الآن أو الحاضر؛ والوقت الذي سيجيء أو المستقبل. الوقت الحميم هو ما مضى في زمن محدد أو غير محدد في الماضي ويحمل في طياته تجارب أشبعت الذات وعملت على تحقُّقها. وهذا الوقت لا يمكن أن يحضر أو يمرَّ إلى من خلال التذكُّر والتخييل. والوقت المستقبلي وقت يحتمل على الأرجح التحقُّقَ والإشباعَ، وهو الذي تعتمد عليه الذات في التوحيد بين زمانها العام وزمانها الخاص، أي التزواج بين الزمان بمعناه الخطِّي والوقت بمعنى حضور الذات بكامل إمكاناتها في هذا الزمان. والوقت الآني أو الحاضر وقت منعدم لا يشي بأي نوع من أنواع الحضور أو التحقُّق أو الإشباع حيث يغيب عنه كل من الوقت الماضي الحميم والوقت المستقبلي الواعد، ففي قصيدة "خدش" على سبيل المثال نجد الوقت عندما يقترن بالفعل المضارع يتصف بالخيانة: "يخون الوقتُ صُدْفَتَه" (مديح العالية، ص 97)، في حين أنه كان حميما في الماضي. ويتصف أيضا بالتآمر كما في قصيدة "عبَّاي بن فرناس": "هذي مؤامرة الوقت ضدي/أنا ضيِّقٌ بتضيُّق هذا الهزيع الأخير" (الواحدون، ص 28)، والمؤامرة هنا أن هذا الوقت الآني يضيق لغيابه من أصحاب الصوت في القصيدة بالتالي تصير الذات ضيِّقةً من جراء تضيُّق الوقت وعدم إفساح مكان فيه للصحاب. أما بالنسبة للعمر، فهو زمان يميل أكثر إلى الضياع وانعدام المقدرة على التحم فيه، وبالتالي يميل لأن يكون جزءا من الزمان الخطِّي من حيث أنه يمر دون أن يبالي بالذات أو احتياجاتها أو إشباعها. والليل يعني سكون الزمان الخطِّي وسكوته وصمته، وبالتالي يتحول الزمان الخطي هنا إلى زمان دائري مقلوب. فإذا كان الزمان الدائري يعني أن دورات الزمن تتجدد عبر المواسم المختلفة أو ما يعرف بتكرار التاريخ لنفسه أو تعاقب فصول السنة وتعاقب الأجيال وما إلى ذلك مما يعني الازدهار فالأفول فالازدهار من جديد وبالتالي نجد أن النهار في اليوم يمثل الحياة بينما يقترن الليل بالسكون والنوم والموت – إذا كان الزمان الدائري كذلك، فإن الزمان الدائري يتخذ شكلا مقلوبا في شعر السمَّاح عبد الله، أي أن الليل هو الذي يمثل الازدهار والحياة بالنسبة للذات في حين أن النهار يمثل ضياعها وسط صخب الزمان الخطِّي؛ ويحدث هذا الازدهار من خلال فعل التذكُّر أو التخيُّل حيث يكون الليل مناخا مناسبا للتخلُّص من صخب الحياة التي لا تحمل تحقُّقا ولا إشباعا، وخاصة في المدن، واللجوء إلى استحضار الوقت الحميم بكل ما يمثِّله من قيمة للذات؛ وتلعب الذات هنا دورا إيجابيا بنَّاء في إعادة تشكيل الصور والمشاهد المستدعاة من الذاكرة بما يضمن لها أن تحيى حياتها التي تبتغيها وبالتالي تحافظ على وجودها واستمراريتها. ويمكننا أن نضيف إلى هذه المفاهيم الزمنية مفهوم "الأيام". والأيام في شعر السمَّاح عبد الله قد تجيء بمعنى الحياة بكل ما فيها من تجارب سواء أكانت سلبية أم إيجابية، كما في قصيدة "حكاية العصافير والشجر" حيث يقول الصوت: "وها أنا في آخر الأيام،/أصبحت كهلا" (شتاءة للعاشق الوحيد، ص 53-54). وقد تعني الأيامُ الزمان الإنساني الخاص بانتظامه وانسجامه وتناغمه بعيدا عن الضياع، كما في قصيدة "صورة لحامل الهوى": "وتشير له في اتجاه عذابٍ يبعثر أيامَهُ" (مديح العالية، ص 73). وبالرغم من الانتظام والتناغم، إلا أن هذه الأيام معرَّضة لأن تفقد من تنبني عليه إذا تعرَّضت لمؤثِّر خارجي مثلما تستبي البليلة هذا الرجل وتبعثر أيامه. والصورة الثالثة التي تتخذها الأيام في شعر السمَّاح عبد الله هي صورة الوقت الحميم، أي الوقت الماضي الذي تتحقَّق فيه الذات كما أسلفنا، ونجد هذه الصورة في قصيدة "نجيب محفوظ": "وبي وجعٌ لأيامي المواضي" (الواحدون، ص 37).


د. جمال الجزيري
مجلة أدب ونقد، العدد 323، أكتوبر 2012