المونة الشّتويّة بقلم: حنان محمود رحيمي
تاريخ النشر : 2012-10-13
المونة الشّتويّة
في قرى الريف اللبناني

بقلم: حنان محمود رحيمي
لبنان - سعدنايل

كانت ولا تزال عادة تصنيع واقتناء المونة الشتوية, تعتبر من التراث القروي اللبناني الفلكلوري, وما تزال متوارثة لدى الكثير من القرويين اللبنانيين, الذين يقطنون في البلدات والقرى والمزارع الريفية, الجنوبيّة والبقاعية والشمالية والجبلية النّائية, والبعيدة عن مراكز المدن الرئيسية في المحافظات والأقضية ومدينة بيروت, لحفظ ما يحلو لهم من المأكولات الشهية المصنوعة يدويا, وتناولها في أيام الشتاء والبرد القارس...

ويعتبر مذاق الأطعمة التي تصنع يدويا, وتحفظ في البيوت من دون مواد حافظة, والتي لا تتوافر في أي من المحال التجارية والاستهلاكية, كالمخللات والمربيات والمجففات والألبان وغيرها, كالتين ودبس الرمان والعنب والبندورة والقمح والكشك والبرغل وجميع أنواع الألبان والأجبان وغيرها... ويتمسك أهل القرى الريفية بعادة المونة الشتوية منذ زمن بعيد, فينكبون في وسط ونهاية فصل الصيف وبداية فصل الخريف على العمل بكل صبر وروية, لتأمين المونة الشتوية اللازمة والكافية لهم, فيعمدون إلى تخزين الحبوب والفواكه المجففة المطبوخة والألبان والأجبان والقمح والدبس مع اقتراب فصل الشتاء من كل عام...

إن المونة الشتوية تطيل العمر, ويستطيع المرء تناول ألذ وأفخر أنواع المأكولات في الشتاء, بعيدا عن المواد الخطرة التي تدخل في تصنيع المواد الغذائية وحفظها... وأن تلك المأكولات كالقمح والبرغل والجوز والصنوبر والفاصولياء والألبان, تعطي جسم الإنسان المناعة والقوة وكل الفيتامينات, لتقيه من الأمراض والبرد, والناس في بلدات وقرى الريف اللبناني, هم أقل عرضة للمرض من أولئك القاطنين في المدن...

وحليب الماعز يعتبر من أفضل أنواع الحليب, ويعمل منه اللبنة والجبنة التي تحفظ باوعية زجاجية مع زيت الزيتون على مدار السنة... وهناك صنفا آخر من الألبان يسمى ب "القمبريس" وهو يشبه اللبنة, لكنه الذ طعما منها ويميل للحموضة, ويحفظ هذا النوع عادة في جرة من الفخار...

ويشتهر أهل القرى والأرياف بتخزين أنواع الدبس المختلفة, بحيث تقوم المرأة القروية مثلا, بشراء كميات كبيرة من الرمان الحامض, ومن ثم تقوم بغليه على النار لبضع ساعات, ليتحول بعدها إلى دبس طبيعي, يضاف إلى المأكولات الدسمة, ويعتبر هذا النوع, من أفضل العصائر لتخفيض نسبة الكوليسترول في الدم...
وتجد المرأة الريفية في أنواع المخللات, من خيار ولوبيا وقثاء وبندورة, وخاصة المكدوس المحشو بالجوز والثوم, والذي يصنع من ثمار الباذنجان, طعما لذيذا تقدمه لعائلتها وزوارها...

هذا ويعتبر فصل الخريف, موسما لقطاف ثمار الزيتون, حيث يلجأ الناس إلى جمع حباته الجيدة الخضراء والسوداء, لتكبس وتوضع في أوعية, بحيث تصبح جاهزة للأكل, بعد مرور اسبوعين تقريبا على كبسها, فيما حبات الزيتون الأقل جودة, ترسل إلى المعاصر حيث يتم استخراج الزيت منها, في حين تبقى الحبات الرديئة التي يستخرج منها الصابون البلدي...

ويعتبر الزيتون اللبناني من أفضل الأنواع العالمية, فهو يزرع في مناطق عديدة من قرى الجنوب والجبل والشمال والبقاع, وفي قرى عكار وفي بلدات حاصبيا وشبعا في إقليم العرقوب, وفي عدد من مناطق جبل لبنان الجنوبي كإقليم التفاح, وإقليم الخروب وفي بعض بلدات وقرى الشوف...

ويهتم الناس في القرى البعيدة والنائية أيضا, بالتموين في فصل الشتاء, للمربيات ومنها مربى المشمش والتين والدراق والكرز والتفاح والفراولة والسفرجل والإجاص واليقطين...

وتعتبر المونة الشتوية جزءا من التراث الفلكلوري الشعبي اللبناني الأصيل, الذي يتمسك ويتفاخر به القرويون اللبنانيون على مر الأجيال...

ومع إطلالة الخريف، تسارع النسوة في القرى الريفية إلى إعداد المونة، وفق برامج زمنية محدّدة لكل منها، فتتحوّل البيوت القروية إلى خلايا نحل, تسعى إلى توفير الزاد اللازم لمواجهة عزلة الشتاء القروي البارد وغدرات الزمن...

فحالما يطلّ أيلول بطرفه المبلول بأمطار الخريف, كما يطلق عليه اللبنانيون، يبدأ أهالي القرى والبلدات الريفية، بالاستعداد لتوفير مونة شتائهم الطويل والقارس. وتعدّ المونة في البيوت القروية, مصدراً غذائياً وصحياً لغناها بكل أنواع البروتينات والفيتامينات، ولمعرفة ربّات المنازل بمكوّنات ومحتويات كل نوع منها. وتزخر غرفة المونة في كل منزل قروي بالعديد من الأصناف، بدءاً بالحبوب من: عدس، برغل، حمص، فاصوليا... والكشك ومكدوس الباذنجان وربّ البندورة والقاورما، مروراً بالمربيّات كالمعقود على أنواعها، والكبيس والمخلّلات، وصولاً إلى توضيب بعض أنواع الخضروات في الثلاجات, وتجفيف الفاكهة كاللوز والجوز والمشمش والتين والزبيب...
والمونة الشتوية, هي مصدر غذائي رئيسي بالنسبة إلى أهالي القرى والبلدات النائية في فصل الشتاء، نظراً إلى حاجة كل منزل إلى الموادّ الغذائية في فترة الثلوج والأمطار، وهي فترة عزلة بين المنازل، وحتى بين القرى في بعض الأحيان كما تصفها... وهو واقع يتطلّب موادّ غذائية مختلفة، تسعى العائلات في القرى الريفية والجبلية, إلى تخزينها وتوفيرها في مواسم الخير, لمواجهة شتى الأمور التي من الممكن أن تحصل... وكمية المونة تختلف بين منزل وآخر بحسب عدد أفراد العائلة من جهة، والقدرة الشرائية للعائلة من جهة ثانية، فيما تبقى طرق الإعداد واحدة، لكن مع بعض الفروقات البسيطة، حيث تفضّل بعض النسوة أن يتفنّنّ في إعداد بعض المونة، إضافةً إلى زيادة أنواع أخرى كالمربّيات, التي باتت لا تقتصر على التين والمشمش، بل تعدّتها لتشمل الباذنجان والكرز والفريز والسفرجل والتفاح وحتى البندورة الصغيرة...

من جهة أخرى, تنهي النساء جميع أنواع المونة منذ منتصف أيلول، لكونها قد بدأت بإعدادها منذ أول آب، وذلك هروباً من تراكم متطلّبات أيلول المادية من مدارس ومحروقات وملابس... والمونة الشتوية, باتت تمثّل عبئاً جسدياً ومادياً على كل منزل, في ظل وضع معيشي صعب جداً، في الوقت الذي لا يمكن فيه التخلي عنها, لأهميتها في مواجهة غدرات الزمن, وقساوة الشتاء في القرى النائية في الجنوب والبقاع والشمال والجبل... وثمة أنواعاً من المونة يجري إعدادها بحسب وقت موسمها. فحليب الكشك يجب أن يكون دسماً، لذلك يُجمّع بعد انتهاء مربعانية الصيف، أما المربّيات كالكرز والمشمش والفريز فتُعدّ خلال الصيف...
وتحتاج المونة إلى جدول زمني لبرمجة إعدادها، وخاصةً أن بعض أنواعها يتطلّب أكثر من أسبوع من الإعداد، فضلاً عن جهد لمتابعته. فالكشك مثلاً, يحتاج إلى جمع كمية الحليب المطلوبة, وإعداد البرغل تمهيداً لمرحلة البل, والمزج بين البرغل والحليب والملح, التي تتطلب فترة تراوح بين 7 أيّام و12 يوماً، كما يحتاج إلى متابعته على الدوام, حتى لا ترتفع حرارته ويصبح مرّاً، وذلك حتى يبلغ طعمه الحموضة اللازمة, ليجري بعدها نشره وتجفيفه, بغية طحنه وتوضيبه... أما مكدوس الباذنجان، فيحتاج إلى السلق. بحيث تجتمع النسوة ليساعد بعضهن بعضاً، ويوضع الملح داخل كل حبّة، ثم يجري تجفيفها من الماء, تمهيداً لحشوها بالجوز أو الفستق مع الفليفلة والحر والثوم... والمونة لا تقتصر على الكشك والباذنجان، بل تمتد لتشمل أصنافاً عديدة من المخلّلات كالخيار والمقتة والكوكتيل, الذي يشتمل على القنّبيط واللوبياء والجزر والمربّيات والقاورما، وجميعها تتطلّب جهداً ودقّة في الإعداد، وإلا فـمصيرها العفن والاهتراء في حالة المكدوس والمخلّلات، والطعم المرّ في حالة الكشك...
يبقى أن بعض أنواع مونة القرويين، وفي مقدمها الكشك والقاورما ومكدوس الباذنجان، تعدّ من الوجبات الغذائية التي تنزح وتهاجر، إذ ترسَل إلى الأبناء والأقارب المنتشرين في بقية المناطق اللبنانية أو في الاغتراب، وتمثّل لهم الغذاء الصحي الغني والشهي، الذي يحوي بين ثنايا طعمه حنيناً وشوقاً إلى الأهل والوطن... ولعل أكثر ما ينغّص طعم المونة الشتوية عند القرويين، الضغوط المعيشية والاقتصادية السائدة التي يعيشها المواطن القروي، والتي دفعت غالبية العائلات إلى تقسيم إعداد المونة إلى مراحل متعددة وبكميات مختلفة، تجنّباً لإرهاق ميزانياتهم بجميع المصاريف دفعة واحدة...
تنهمك المرأة القروية في تحويش حبات اللوز الأخضر والقرعون من البستان المتواضع في محيط بيتها في بلدتها. وتختار الحبات بعناية، وتضعها داخل دلو كبير، فيما تبدو الفرحة واضحة على معالم وجهها، وخصوصاً أن الموسم لم يتأثر إلا قليلاً بموجة الصقيع...

وليست تحويشة الثمار الربيعية, مخصصة فقط للتلذذ بطعمها الحامض مع قليل من الملح، بل أيضاً لإغناء رفوف المونة الشتوية, بالأنواع المتميزة والفريدة, فقد اعتادت المرأة القروية، إعداد بعض أنواع المونة الربيعية, فالمونة ليست حكراً على فصل الخريف، بل ثمة أنواع تُعَدّ في فصل الربيع أيضاً... ومن هذه الأنواع، كبيس اللوز الأخضر والقرعون مخللات، ويُعَدّ هذان النوعان بطريقة بسيطة بغية حفظهما على طبيعتهما وتناولهما شتاءً... وطريقة الإعداد سهلة وما بدها شغل كتير، وتقتصر على جمع حبات اللوز الأخضر من نوع الحلواني، حتى لا يتأثر طعمها لاحقاً ببعض المذاق المر الموجود في نوعيات أخرى، والأمر ذاته ينطبق على القرعون, الذي لا بد من أن تكون بذرته من النوع الحلو، وإلا انتزع الطعم كله...

وطريقة الإعداد، تكون بداية بغسل حبات اللوز بقصد نزع الوبر الناعم الذي يكسو قشرتها الخارجية، ومن ثم وضعها في مراطبين زجاجية، يضاف إليها الماء والملح وحص توم وكم نقطة زيت... طريقة الإعداد هذه تسمح بحفظ هذا النوع من المونة لمدة سنتين، إلا أن بعض النسوة يسعين إلى إعدادها بطريقة مختلفة بعض الشيء، عبر إضافة الخل للمزيج، وذلك بقصد استعجال الحصول على المخلل...

طريقة أخرى في إعداد الثمار الربيعية, والقصد منها حفظ اللوز الأخضر والقرعون على طعمهما الطبيعيين حتى الشتاء، ويقتصر إعدادها على إضافة الماء والملح إلى الثمار, والإقفال عليها جيداً بطريقة الضغط... وإذا كانت بعض الحوامل تستحلي التلذذ بتناولها في فصل البرد والصقيع وبالقرب من الوجاق، تتفنن المرأة القروية أكثر في استعمالها شتاءً، كنوع من أنواع اليخنة تشبه البامية، وحبات اللوز الصغيرة إذا ما أُعدّت على طريقة البامية، تعطي نكهة أطيب بكتير من البامية... وعموماً، تتميز الثمار الربيعية، ولا سيما اللوز، بفوائد صحية، أبرزها تنقية الدم، والمساعدة على الهضم، نظراً إلى غناها بالألياف...
يُعَدّ دبس الرمان في مقدمة لائحة المونة الشتوية والمنتجات التي تُصَنَّع وتُعَدّ ، إلى أنه على الرغم من طعم الحموضة القاسية, التي يحتويها دبس الرمان، إلا أن فوائده كثيرة، وحاجة العديد من السلطات والطبخات إليه، تدفع كل ربة منزل لضمه إلى لائحة مونتها الشتوية... وعن طريقة إعداد دبس الرمان، يُبدأ باختيار أجود الحبات التي تتميز بحموضة غير مطلقة، تحوي بعض الحلاوة (رمان نصّ حلو). بعدها، نشطر الرمانة إلى قسمين ونفرط حباتها وننزع القشر عنها تماماً, وتوضع حبات الرمان في الآلة الخاصة بالعصر التي تنزع تلقائياً الشوائب عنها. وبعد الحصول على عصير الرمان، يوضَع على النار حتى يفقد ما يقارب ثلثي الكمية، وهي عبارة عن ماء، ليبقى العصير الكثيف الذي نضيف إليه قليلاً من حامض الليمون الطبيعي، ونتركه حتى يغلي، ليُعبّأ بعدما يبرد في زجاجات نظيفة وجافة من آثار الماء، حتى ما تضربه العفونة...
ويستخدم دبس الرمان في إعداد الكثير من الوصفات, كتتبيل اللحوم قبل طهوها أو شوائها، في الفتوش وسائر أنواع السلطات, الربيعية منها خصوصاً كالجرجير، مع صلصة البندورة في الكفتة بالصينية، وكذلك مع ورق العنب والبامية، فيضفي عليها جميعاً نكهة شهية، نظراً إلى الحموضه اللاذعة واللذيذة التي يتمتع بها... وميزة أخرى يتمتع بها دبس الرمان، فهو من خير الحموض المحفوظة، حيث يمكن حفظه في الزجاجات لأشهر من دون أن يتأثر مذاقه اللذيذ... وهو، بالإضافة إلى كل ذلك، ينطوي على منفعة صحية لاحتوائه على السكر وبعض البروتينات والأملاح والفيتامينات، حيث إنه من أشهر المواد التي تعالج أمراض الفم واللثة، ولا سيما حمو الفم (الفطريات، بالإضافة إلى خفضه معدل الكوليسترول في الجسم...

تعتمد المرأة القروية على نصيحة الأجداد (موّن لعيالك...لتشيل الهم عن بالك) مع اقتراب فصل الخريف حيث تبدأ بتأمين مستلزمات المطبخ المختلفة لوجبات فصل الشتاء... وهي لم تعرف انقطاعاً في ذاكرتها لتقليد مونة الملوخية, ففي منزلها حيث تقوم بفرد وريقات الملوخية, التي تجلبها من السوق، ففي مثل هذا الوقت من كل عام تشتري الملوخية الخضراء, وتضع هذه الوريقات في مكان بحيث تتعرض للهواء, حتى تصبح يابسة، ثم تضعها في كيس قماشي أبيض وفي مكان آمن وجاف، وعندما تحل أيام الشتاء الباردة, تقوم بطبخها لعائلتها التي تحب هذه الوجبة, وهذا الاهتمام يجعل من الملوخية اليابسة وجبة فاخرة: بحيث باتت الملوخية من الوجبات الرئيسية في الشتاء, حتى تتفاخر الأسر بأن غداءها اليوم هو الملوخية, التي تزداد نكهتها مع الليمون واللحمة والثوم المفروم أو المدقوق... وفوائد الملوخية، تحصل أثناء تناول الملوخية، بحيث تقوم هذه الوريقات بحملة تنظيف كاملة في معدة الإنسان، وتقضي على كل الرواسب في المعدة بحيث تزيد من حيويتها وقدرتها على الهضم وحماية الجسم من الأضرار...

وتستحضر المرأة القروية من أجواء التحضير لمونة الشتاء بشكل عام أيام زمان، مثلاً شعبياً حفظته عن جدتها يقول : بأيلول وتشرين موّن لعيالك، وشيل الهم عن بالك... ومونة الشتاء في البيت مثل القرش الأبيض, الذي تخبئه لليوم الأسود، فلا يرتاح بال المرأة الريفية, إلا إذا وجدت في البيت الملوخية والزيتون والزيت والجبن واللبنة والبرغل والعدس والمربيات والبصل والثوم ورب البندورة والمكدوس، وباتت أغلب هذه المواد حاضرة...


مختلف أنواع المونة تجده في البيت القروي حتى تحول إلى مخزن كبير لشتاء لا تضطر فيه المرأة القروية إلا لشراء الضروريات... وظروف سكان الريف تستدعي تخزين الكثير من المواد للشتاء: بالرغم من أن ظاهرة المونة الشتوية ظاهرة عامة، إلا أن سكان الريف يتسابقون لتموين المزيد من المواد، فما أجمل من الجلوس قرب مدفأة الحطب في الشتاء , وتناول الملوخية مع أفراد العائلة خاصة في أيام الثلج التي تتميز بها القرى الريفية...
تبقى ظاهرة المونة الشتوية, هي الأقدم في تقاليد العائلة القروية اللبنانية، وبعض النساء يغرقن في الاهتمام بحيث تأخذ هذه الظاهرة عند بعض ربات البيوت شكل هوس لا ينتهي، وربما يتسع الأمر ليدخل في بعض الأحيان حيز البهرجة... فبعضهن لا تكف عن الحديث عن كلفة مونتها من الملوخية هذا العام وكميتها، أو التباهي أمام نساء البلدة بمهارتهن في طريقة تخزين هذا النوع من الخضار أو ذاك...

و تشجيع الكثير من الفتيات للاهتمام بسلامة غذاء بيوتهن: خبرة الفتاة في تجهيز وحفظ المونة دليل على أنها ست بيت هذا الاهتمام الواضح لدى المرأة القروية حالة شبه عامة في بلدات وقرى مناطق لبنان المتعددة...

وبكل الأحوال فإن المونة ظاهرة شبه عامة في كل بيت قروي لبناني، وتتسع هذه الحالة مع الأيام, حتى تتحول الكثير من بيوت الريف في مثل هذه الفترة من السنة, إلى ورش عمل تتعاون فيها النسوة لإنجاز المونة التي تجعل وجبات الشتاء لذيذة...

وأجواء التحضير للمونة أيام زمان، نستحضرها بمثل شعبي يقول: بأيلول وتشرين موّن لعيالك، وشيل الهم عن بالك، ومونة الشتاء في البيت، مثل القرش الأبيض الذي تخبئه لليوم الأسود، ومتى وجدت القمحات والبرغلات والدهنيات والحطبات يرتاح البال.. وراحة البال هي الخروج من دائرة الضائقة المعيشية، والتي غالباً ما تضيق أكثر في فصل الشتاء، فهو فصل مصاريف المازوت والمدارس، وفيه يغيب عدد كبير من أصناف الخضراوات والأطعمة وإن وجدت فهي غالية الثمن... وحقيقة نفس بني آدم التي تشتهي أكل الصيف, والتي غالباً ما تبدو متطلبة في فصل الشتاء, حين يركن الجميع للجلوس في البيت, إلى الدفء المنبعث من المدفأة. هذه الرغبة المتطلبة تبدو الخيط الأساسي, الذي يربط ظاهرة المونة الشتوية, بين العائلات اللبنانية على اختلاف مرجعياتها الاجتماعية والاقتصادية، وإن بدت عند العائلات الغنية خصوصاً أهل المدن هي الأساس، خلافاً للأحياء الشعبية وأهل القرى والأرياف، حيث تبرز متطلبات إضافية في حياتهم تستدعي تخزين الغذاء للشتاء...

لا يتحسس المرء بقيمة المونة بالبيت، مثل اليوم الذي يكون فيه الثلج يهطل، أو آخر الشهر عندما يطير الراتب... ووفق هذه الرؤية، تتضح قيمة ادخار القرش الأبيض، وجدوى المونة لدى الطبقات الفقيرة... والمرأة في القرى الريفية, سيدة لبقة, حافظت على التقاليد المتوارثة من جيل الى جيل، طبّقتها ولا تزال متأقلمة مع ظروف حياتها الصعبة, مادياً واقتصادياً واجتماعياً، هذه المرأة, الام العاملة والمزارعة والمتعلمة في آن واحد، واكبت تطورات العصر وسرعة حياته، مرسخة قواعد تقاليدها القروية لجهة ما اتقنته للمحافظة على التراث الغذائي السليم, الذي يعرف في القرى بـالمونة الشتوية, التي تجنيها من خيرات أراضيها الطبيعية، وتنقلها الى مطبخها لتعالجها على طريقتها التقليدية, من الحبوب الى الفاكهة، فالزيتون والخضر الموسمية والحليب وغيره، معتمدة على أشعة الشمس في تجفيفها, والحطب في طهوها وسواعدها في توضيبها، بعيداً عن المكونات الكيمائية والمواد الحافظة والنكهات الاصطناعية الملونة، وتخزنها لتكون ذخرها في أيام الشتاء القاسية، كما هديتها المفضلة لمن تحترم وتحب...


سقى الله أيام تحضير مونة الشتاء، برغل وكشك وحبوب وزعتر ورُبّ بندورة ومربيات من ثمار البساتين, وخضر مقددة من كل صنف، تنوّع مائدة الشتاء، وفاكهة مجففة تغني طبق الضيافة الريفي التقليدي... فقد صلّبت وانتصف أيلول بعد عيد الصليب، إذن فالوقت بات ملائماً لتحضير المونة, وتنهمك البيوت ولا سيما السيدات في عمل يومي دؤوب, وفق أولويات يمليها الطقس والمواسم, وأقربها البندورة الجبلية التي أينعت وأشحمت واكتسبت لونها الزهري الشهي فحان قطافها... ولكل فرد في الأسرة القروية دوره، هذا يقطف وتلك تغسل وهذا يقطع, وذاك يعصر وتلك تصفّي، والدست استقر فوق جمر الموقد، يغلي فيه العصير الأحمر الزهري ويحرَّك بـالمغرفة الخشب الطويلة تمسكها الأيدي من فوق اتقاء لـفقفقة الغليان. فيتبخر ماؤه ناشراً رائحة شهية ويتحوّل إلى رُبّ تستقبله صدور الألمينيوم فيغطى بـالشاش, ويعرّض للشمس لتبخِّر بعضاً مما يحمل من ماء, ثم يملّح بـملح الادارة الخشن, ويحفظ في الأواني الخاصة لزوم معظم الطبخات...
واللطيف في أريافنا أن تحضير المونة الشتوية، وإن خف مع وجود الخضر والفاكهة في كل المواسم، فهو لم ينقطع, ولا تزال المونة واحدة من الهموم الأساسية والاستحقاقات الداهمة، ولا سيما في شهر أيلول, الذي يحمل في جعبته الكثير من المتطلبات... والمفرح، ما نشهده من عودة إلى الغذاء الطبيعي, وعادات الآباء والأجداد, ومن طلب متزايد على المنتجات الريفية الطبيعية, ومنها البندورة الجبلية, التي تفضلها ربات البيوت المنهمكات هذه الأيام في تحضير الرُبّ أو في تجفيف شرحات البندورة, أو في صناعة كبيس البندورة من الثمار الخضر صغيرة الحجم... وكما هو معروف، فإن البندورة الجبلية مميزة باللون الزهري العابق, والثمر الكبير الذي يصل أحياناً كثيرة إلى ما يزيد على الكيلو غرام الواحد لكل حبة, إلى جانب ثمار صغيرة للكبيس, إضافة إلى خلو الثمر من أي مواد غير طبيعية... ولا عجب، مع هذه العودة إلى المنتجات الطبيعية، أن تعبق القرى اللبنانية برائحة البندورة الطبيعية، فيتحلّق الأهل والأصدقاء حول الموقد للمساعدة والحرك، ولساعات عدة تتكرر الطبخات في "الدست...

يكاد مكدوس الباذنجان يكون أحد أهم الأصناف على قائمة المونة الشتويّة، وأكثرها شهرةً. وهو كثيراً ما يقدم على مائدة المقبلات, أو طبقاً أساسياً في أيّام الشتاء القارسة، وأحياناً يفرضه البعض مرافقاً لكل أشكال المأكولات في مختلف الوجبات، بما فيها السحور والإفطار في شهر رمضان. وترجع سعة انتشاره لما يحتويه من فوائد غذائية، وما يمنحه من طاقة لمقاومة البرد... وينتشر المكدوس في مختلف أرجاء الأرياف والقرى اللبنانية، وخاصّة في الجنوب والبقاع، وتستخدم في صنعه حبات الباذنجان السوداء الصغيرة، الخالية من البذور، وقرون الفلفل الأحمر الحار الطويلة، إضافةً إلى الثوم وزيت الزيتون والجوز اليابس. أما أصحاب الدخل المحدود، فيفضلون الاستغناء عن الجوز، لأنه المكوّن الأغلى في هذه الوصفة... ومن المعروف أن النسوة في القرى عادةً ما يبدأن بإعداده مع بداية فصل الخريف، تزامناً مع موسمي الباذنجان والجوز... وتبدأ عملية صنع المكدوس, بنزع الجزء العلوي من حبات الباذنجان برفق، بواسطة اليد. ومن ثم توضع في قدر من الماء المغلي لدقائق معدودة حتّى تلين قليلاً. بعدها يستخدم السكين لشقها في الوسط، من دون الوصول إلى الأطراف لكي تبقى متماسكة، وتفرك بالقليل من الملح من الداخل. تترك الحبات جانباً لبعض الوقت، داخل مصفاة كبيرة، حتى يصفّى الماء منها تماماً. بعد التأكد من أن العملية قد تمت بنجاح، يفرّغ الباذنجان من الوعاء ويوضع في صينية، لمباشرة حشوه... ولتحضير حشوة المكدوس، يجب تنظيف حبات الجوز جيداً وطحنها طحناً خشناً، ووضعها في وعاء فارغ، بعد ذلك يضاف إليها الثوم المهروس والفلفل الأحمر المقطع قطعاً صغيرة وكمية كافية من الملح، وتعجن المقادير جيداً باليد أو بواسطة الملعقة... ويبدأ حشو الباذنجان بوضع مقدار ملعقة ونصف، تقريباً من الحشوة داخل الشق، ومن ثم إقفال الحبات جيداً عن طريق ضم طرفي الشق بعضهما إلى بعض بإحكام. توضع الحبات المحشوّة داخل مرطبان فارع وترصّ جيّداً إلى جانب بعضها بعضاً. عندما يمتلئ كليّاً، يوضع في فتحته عودان خشبيان أو مصفاة، ويقلب في صينية، حيث يترك لمدة يومين على أقرب تقدير لتنزل منه كل السوائل الموجوة في الحشوة. يجري التخلص من كميات السوائل التي تستخرج دورياً، وعندما يُتأكّد من زوالها تماماً يُقلب المرطبان ويُباشَر بإضافة زيت الزيتون رويداً رويداً كي لا تطوف الكميات التي أضيفت، بحيث يغطي الزيت كل المساحات الفارغة بين حبات الباذنجان. يُقفل المرطبان جيداً ويلف بورق الألومينيوم وبالغطاء الخاص به، المصنوع من القماش الخام، ويترك في مكان نظيف ودافئ لمدة تتراوح بين 15 و30 يوماً، يصبح من بعدها جاهزاً للأكل...

كيف ما اتجهت في القرى والأرياف النائية عن المدن, ثمة أمور تشدك في مثل هذا الوقت من كل عام، حركة ناشطة على سطوح المنازل قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، لكنها باتت تدخل في صلب عادات وتقاليد أهل القرى, الذين اعتادوا تحضير مؤونتهم لفصل الشتاء. وتشكل سطوح المنازل والباحات الخارجية الفسيحة مقراً أساساً في عملية التحضير. هناك سطح يخضع لعملية تنظيف تمهيدا لفلش القمح المسلوق، ومواطن يحرك البرغل تحت اشعة الشمس ليجف قبل جرشه وتعريبه أنواعا مختلفة، وتلك سيدة تحرك دبس البندورة الموضوع في قدر من الفخار، وأخريات اجتمعن ليتعاونوا فيما بينهن على تحضير اللبنة البلدية ووضعها في أوان زجاجية، فيما رائحة القورما تنتشر في كل زوايا المنزل...
إنه نشاط موسمي لإعداد ما أمكن من الأصناف والمأكولات الطبيعية القادرة على التحمل أشهرا عدة، رغم خلوها من المركبات والمواد الكيماوية الحافظة، منها المجفف والمكدوس بالزيت أو الخل أو الملح، إنها مونة الشتاء, التي يعتمدها الأهالي منذ أجيال وتدخل في صلب برنامجهم الغذائي المتوارث, حيث يستحيل الإستغناء عن هذه الأصناف ولو استبدلت بأشهى المأكولات الأجنبية...
أكثر من عشرين صنفا هي لائحة المأكولات الموضبة، تنشغلن ربات البيوت بتحضيرها طوال شهر أيلول شهر المونة كما يسمونه, ويحسبن الف حساب لجهة المصاريف المادية، حيث أن بعض الأصناف يعتبر مكلفا قياسا بغيره مثل القورما والكشك واللبنة ويلزمها الوقت الكافي، أما المكابيس الأخرى فهي أقل تكلفة وأسهل تحضيراً... واعتاد أهل القرى النائية منذ سنوات طوال على تحضير المونة التي تشكل العمود الفقري في حاجاتهم الغذائية شتاء، وهذا الأمر ينسحب على غالبية القرى والبيوت خصوصا تلك التي يزيد ارتفاعها عن الألف متر، وتعزلها الثلوج فترات متقطعة...

أما عملية التحضير للبنة فيلزمها الوقت الكافي وتمر في مراحل عدة لا يمكن تجاوز أي منها، كما أنها صناعة دقيقة يلزمها نظافة تامة بدءا من غليان الحليب ثم اللبن الذي يوضع في أكياس من الخام لفصل الماء عن المواد الدهنية, التي تتحول لبنة بعد عمليات تفريغ وخلط مع إضافة كميات من الملح الذي يدخل كمادة أساس في حفظ جميع الأطعمة المعدة، وبعد أن تجف يمكن دحرجتها أو تقريصها ووضعها في أوعية زجاجية يغمرها زيت الزيتون لمنع تسرب الهواء الى الداخل...

ولتحضير البرغل، يعتبر القمح البلدي من أجود الأنواع لخلوه من الكيماويات ويعرف من لونه الأسمر القاتم، وعملية التحضير شاقة ومتعبة في قرانا، لأن الناس تعتمد طرقا بدائية بعيدة عن المكننة، والقمح يمر بست مراحل قبل أن يصبح برغلا جاهزا للطعام... بحيث ينظف القمح من التراب بغسله جيدا ثم يوضع في برميل أو خلقينة وهي حلة كبيرة تتسع لكمية كبيرة من القمح توقد تحتها نار من الحطب لساعات كي ينضج وتتم عملية السلْق، بعدها ينقل القمح المسلوق الى سطح المنزل ويفرش أرضا مع تقليبه وتحريكه ثلاث مرات يوميا حتى يجف ثم ينقل الى المطحنة ويجرش ليتحول برغلا. أما عملية التعريب مهمتها فصل النخالة عن البرغل الذي يتحول بدوره الى ناعم وخشن جاهزا للدخول في تحضير الأطعمة...

وكانت العائلات قديما تعتمد على البرغل كمادة يومية في تحضير الوجبات، وتراجع الطلب عليها بسبب وفرة مواد أخرى لم تكن معروفة سابقا. والحبوب على أنواعها كانت تخزن كمؤونة لفصل الشتاء خصوصا البرغل والقمح والعدس والحمص والفاصوليا، لكن اتساع الأسواق التجارية وتوافر السلع المختلفة حد من عمليات التخزين بعض الشيء لكن طابع التحضير لفصل الشتاء ما زال غالبا، حيث أن بعض المواد يرتفع سعرها مع انتهاء موسمها وهذا لا يتناسب وحاجة العائلات الفقيرة المستورة من ذوي الدخل المحدود...

والمنازل في قرانا تضم غرفة للمونة هي بمثابة اهراءات تمد العائلة بما تحتاجه من قوتها اليومي، وتحوي مجموعة ملونة من الأصناف المجففة والمربيات تستخدم في الضيافة شتاء، فيما تبقى مادة القورما الركن الأقوى لغناها بالبروتينات والأملاح والمواد الدهنية، كما أن عدم توافرها في الأسواق جعل منها مادة مميزة ميزت الأطعمة التي تدخل في تركيبتها، وعملية تحضيرها مكلفة ودقيقة تحتاج الى تركيز النسب المعينة من اللحم واللية والملح وتطبخ على نار هادئة لساعات عدة...

الى جانب هذه الأصناف تطول لائحة التسميات من الكشك والصعتر ورب البندورة والمربيات والمكاديس على أنواعها، وتفخر ربات البيوت حيث لكل منهن طريقتها في التحضير وابتكار وجبات جديدة تدخل في حسن الضيافة حين يحل ضيف على بغتة، بعضهن يقدمن التين الأخضر أكوازا من المربيات، وأخريات جعلن من حبات الباذنجان الصغيرة قطع حلوى، كذلك الكرز والمشمش وغيرها من الثمار الصيفية يمكن تناولها شتاء كحلويات...
هذا الواقع ينطبق على كل القرى والأرياف اللبنانية، لكن تبقى لكل عائلة صفة تلازمها وهي صنف معين من هذه المواد. هناك عائلة مشهورة بتناول القورما، وأخرى ينسب اليها الكشك، وتلك موصوفة بأكل دبس العنب. كلها ألقاب وتسميات لازمت تراثا وتقليدا متناقلا يحل في منازلنا مع حلول شهر أيلول من كل عام...
من جهة أخرى, تعكف سيدات البيوت في البيوت الساحلية, في مثل هذه الفترة من السنة لإعداد سلة غذائية متكاملة, من الخضر المجففة تخزن مؤونة لفصل الشتاء, مستفيدات من الوقت المثالي الذي يوفره شهر ايلول من تراجع الرطوبة وزيادة حدة أشعة الشمس, لإنجاز هذه الصناعة الطبيعية بنجاح...

‏ وفي لوحة تتعدد فيها الألوان وفق انواع الخضر, تأخذ حبائل البامياء والباذنجان المحفور والقرع والفلفل الأحمر والملوخية, مكان نشر الملابس الى حين على الشرفات والأسطح في المنازل الريفية, وسط الجبال لضمان تعرضها الى الشمس بصورة كافية, بما يحصنها ويمنع الحشرات من فسادها...‏ ورغم انتشار طريقة حفظ الخضر بالتبريد, والتي وفرتها الثلاجات الكهربائية المنزلية, لكن أغلب السيدات القرويات يحرصن على حفظ الخضر, بطريقة التجفيف التقليدية كجزء من تراث المطبخ الساحلي, وحجتهن أن تجفيف الأطعمة موجود في تراث الطعام الجبلي منذ القدم ويشمل الأعشاب والخضار والفاكهة...‏

‏ وأشهر انواع الفواكه المرغوب تجفيفها, التين والعنب والمشمش وبعضها يترك طويلا على الأشجار قبل ان يقطف, مثل ثمرة التين كي تتعرض لمرحلة أولية من التجفيف, ثم تعالج في خطوات لاحقة ليستكمل تجفيفها, بوضعها في مكان نظيف على سطح المنزل, أو تعلق في خيطان بأحجام متوسطة في مكان مصدر جيد للشمس...‏ والى جانب الخضر والفواكه المجففة, تنشغل سيدات البيوت في الريف الساحلي, في اعداد مساحيق النعناع والريحان والكزبرة والزعتر, الذي يستخدم في تحضير أقراص الشنكليش, وهو طعام ذاعت شهرته...