ملك بمملكتين ترجمة : حماد صبح
تاريخ النشر : 2012-08-27
ملك بمملكتين ترجمة : حماد صبح
عاش في سالف الزمان ملك وملكة لديهما من دنيا الناس كل ما يشتهيان إلا أنهما كانا بلا ولد . وكانت الملكة يئوسا من الإنجاب لذا كانت تبكي ليل نهار قائلة : أراني صنو أرض بوار موات لا بذار في رحمها .
وأخيرا استجيب دعاؤها ، لكن الطفل لم يكن يشبه الإنسان في شيء ! كان جحشا ! ولما رأته أمه في هذه الصفة
أعولت قائلة : أوثر ألا يكون لي ابن البتة على أن يكون لي ابن جحش . لابد من إلقائه في اليم ليأكله السمك .
لكن الملك لم يوافقها رأيها وقال : هو هبة الله الكريم لنا . سيكون ابني ووريثي وسيجلس على عرشي بعد موتي
ويلبس تاجي الملكي !
وبذلا أقصى الجهد في تربية الجحش الذي كان ينمو أحسن النماء . وقد أبهجته الحياة وتمتع بها ولها فيها إلا
أنه تعشق الموسيقا أكثر من سواها ، ومضي يبحث عن معلم له فيها حتى التقى موسيقيا ذائع الصيت وقال له :
علمني فنك ! فقد أتعلم العزف على العود أحسن منك !
تنهد الموسيقي وقال : أيها الصغير البئيس ! أصابعك ما خلقت للعزف . كبيرة جدا . أخاف ألا تستجيب لك الأوتار .
وكان للموسيقي أن يقول كل يوم ما حلا له ، بيد أن الجحش عزم العزف على العود ولم يهجر رغبته في هذا ،
فقد كان صلب الدأب والاجتهاد حتى تعلم العزف خيرا من معلمه . وفي يوم كان يتنزه حتى انتهى إلى بئر فرأى
على صفحة مائها رأسه الذي يشبه رأس الحمار ، فأحزنه ما رأى كل الحزن ، فهام على وجهه في الدنيا دون أن يصحب معه سوى خليله الوفي . سار الاثنان في الجبال والوديان حتى ولجا مملكة يحكمها مليك شيخ لم يكن له
سوى ابنة واحدة إلا أنها كانت باهرة الحسن . عزم الجحش قائلا : سنستريح هنا قليلا .
ونقر باب القصر وقال : أمام بابك ضيف ! افتح حتى يدخل !
ولما لم يفتح الباب تناول الجحش عوده وعزف بحافريه الأماميين عزفا بديعا ، فحدق البواب المكلف بالمراقبة
في الجحش وهرول يخبر الملك : في الخارج ، قدام باب القصر ، جحش يعزف على العود عزف أستاذ كبير !
فأمر الملك : أدخله !
وحين دخل الجحش بعوده إلى القاعة الضخمة استهزأ به كل الموجودين فيها ودعوه إلى الهبوط إلى الدور السفلي
عند الخدم ليجلس هناك ويأكل ، لكن الجحش احتج قائلا : ما أنا بآتٍ من حظيرة وضيعة . أنا سليل أسرة نبيلة .
فقالوا : إن كنت نبيل المحتد فامضِ للجلوس مع الجند !
فأبى قائلا : لا . أحب الجلوس مع الملك .
فضحك الملك ، ولأنه فكه الروح فقد قال : مجاب طلبك أيها الجحش ! لك ما شئت . تعال عندي !
ثم سأله : ما قولك في ابنتي أيها الجحش ؟
فالتفت إلى الأميرة وتفحصها من رأسها حتى قدميها وقال : تسرني كل السرور . ما رأيت غادة أحسن منها .
قال الملك : إذن اجلس قربها !
فقال الجحش مبتهجا : بكل الرضا .
وجلس فعلا قرب الأميرة ، ثم أكل وشرب بطرائق غاية في الحسن والصواب .
ولبث زمنا في بلاط الملك ، ويوما قال لنفسه : لا عمل لي هنا . لابد من عودتي إلى البيت .
ومثل بين يدي الملك حزينا غضيض الطرف يسأله الإذن في الرحيل ، ولما كان الملك قد ألفه وقدره
عظيم التقدير سأله : ما خطبك أيها الجحش ؟ يظهر عليك حزن كبير . ابق عندي ! سأعطيك كل ما تريد .
تريد ذهبا ؟
قال الجحش هازا رأسه : لا .
_ تريد مجوهرات وأشياء نادرة ؟
_ لا . شكرا .
_ تريد نصف مملكتي ؟

- لا . لا .
فتنهد الملك وقال : ألا ليتني أعرف ما يرضيك ! تريد ابنتي الحسناء ؟
فقال الجحش : أوه ! أجل . هي من أريدها حقا .
وبدا عليه السرور فورا وعاوده مزاجه الفرح . هذا بالضبط ما كان يتمناه أكثر من سواه . وكان أن أقيمت
وليمة عرس كبرى . وفي العشية ، قبل أن يصحب الناس العروسين إلى حجرة منامهما ، رغب الملك في
التأكد بأن الجحش سيتابع التصرف دائما بطرائق جميلة ، ولهذا أمر خادمه بالاختباء في حجرة العروسين
. ودخل الاثنان حجرة نومهما ، وأغلق العريس بابها بالمزلاج حاسبا أنه بمفرده مع عروسه ، وفجأة خلع جلد الحمار ليتبدى أمام عروسه أميرا شابا وسيما . قال : تعرفين الآن من أنا . وترين أيضا أنني لست أهلا لك .
فعانقته سعيدة وتدلهت في هواه . وعند الفجر لبس جلد الحمار ثانية . وما من أحد ارتاب في ما يخفيه ذلك الجلد .
وفي اللحظة قدم الملك الشيخ وقال : عجيبة ! كان الجحش واقفا منذ قليل .
والتفت إلى ابنته وقال : لا ريب في أنك حزينة ؛ لأنك لم تتزوجي شابا حقيقيا .
قالت : أبدا يا أبي ! أحبه فهو في عيني أجمل ما في الدنيا . لا أحب من دنياي سواه .
فبغت الملك ، لكن خادمه سارع يخبره كل شيء ، فذهل الملك وقال : هذا غير ممكن .
فأشار عليه الخادم قائلا : ابق إذن الليلة في حجرتهما ! سترى كل شيء رؤية العين . لدي أيضا
فكرة أخرى . خذ جلد الحمار واطرحه في النار وبذا لا يبقى له سوى مظهره الحق !
فقال الملك : فكرة رائعة جدا .
وفي الغروب ، حين نام العروسان ، انسل الملك مثل شبح داخل حجرة منامهما ودنا من السرير ، فرأى
في ضوء القمر شابا هاجعا في سلام ، و كان جلد الحمار مخلوعا وموضوعا على الأرض ، فأخذه الملك وأضرم
خارج الحجرة نارا كبيرة طرح فيها الجلد وراقبه بنفسه حتى ترمد . ولما كان يريد أن يعرف كيف سيتصرف
الجحش بعد سرقة جلده بات يقظان طوال الليل . وحين صحا الشاب فجرا نهض وأراد الولوج في جلده من جديد
إلا أن بحثه عنه كان لا طائل له فريع وصرخ في صوت يشحنه الرعب : ما بقي لي سوى الفرار .
وغادر الحجرة إلا أن الملك كان في انتظاره ، فاستجوبه : ما بك يا ولدي الحبيب ؟
ما تريد أن تفعل ؟ ابقَ هنا ! أنت شاب وسيم ولن أدعك ترحل . سأهبك فورا نصف مملكتي وستكون بعد مماتي
سيد البلاد طرا .
فقال الشاب : على أن تبشر هذه البداية بخاتمة طيبة .
وكان أن حباه الملك الشيخ نصف مملكته ، وحين مات في السنة التالية صار الملك الشاب سيد البلاد قاطبة
، وورث أيضا مملكة وطنية بعد موت والده ، وهكذا عاش في سمو وجلال الملوك .
* الأخوان جرم .
* عن النص الفرنسي .