مصطلحات ودلالات وتعليقات - 27 (الانشقاق) بقلم:ياسين السعدي
تاريخ النشر : 2012-07-29
مصطلحات ودلالات وتعليقات - 27 (الانشقاق) بقلم:ياسين السعدي


هدير الضمير
مصطلحات ودلالات وتعليقات - 27
(الانشقاق)
ياسين السعدي
(الانشقاق) من المصطلحات الدارجة التي ترددها وسائل الإعلام منذ انطلاق الثورة السورية والثورة اليمنية من قبلها، حيث ينحاز العسكريون إلى جانب الثورة والالتحاق بالجيش السوري الحر. وفي المدة الأخيرة بدأت ظاهرة الانشقاق في صفوف الدبلوماسيين، وتسارعت في الأيام الأخيرة. ويتوقع المراقبون الازدياد في ظاهرة الانشقاق على المستويين العسكري والدبلوماسي، فماذا يعني مصطلح (الانشقاق)؟
الانشقاق، لغةً، مصدر مأخوذ من الماضي الثلاثي المضعف الآخر (شقَّ). ويستطرد المنجد في الحديث عن الفعل شق ومشتقاته. لكن خلاصة الكلام تفيد بأن الشّق- بكسر الشين المشددة- تعني النصف أو الجزء.
قال طرفة بن العبد في معلقته يصف ناقة محبوبته كأنها القارب الذي يشق الماء خلال سيرها:
عدولية أو من سفين بن يامن ***** يجور بها الملاح طوراً ويهتدي
يشق حَباب الماء حيزومها بها ***** كما قسم الترْبَ المفاولُ باليدِ
أما عنترة فيصف لقاءه مع غريمه فيقول (شككت) بدل شققت، وهما تحملان المعنى نفسه:
فشككت بالرمح الأصم فؤاده ***** ليس الكريم على القنا بمحرَّم
في القرآن الكريم
سميت السورة الرابعة والثمانين من القرآن الكريم بسورة (الانشقاق). وتبدأ بالآية الكريمة: (إذا السماء انشقت* وأذنت لبرها وحُقّتْ* وإذا الأرض مُدّتْ* وألقت ما فيها وتخلتْ). وهي تفيد هنا التذكير بهول ما يحدث يوم القيامة من انشقاق الأرض وبروز الموتى. يقول سيد قطب، رحمه الله، في تعليقه على سورة الانشقاق في الصفحة 3864 من الجزء السادس من كتابه (في ظلال القرآن): (تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ثم في سورة الانفطار، ومن قبل في سورة النبأ). ونلاحظ أن (الانفطار) تعني الانشقاق أيضاً، والمقصود، كما يورده سيد قطب، هو انشقاق الأرض يوم القيامة وخروج ما فيها من الموتى وبروزهم للعرض والحساب.
ويرد ذكر الانشقاق في موضع آخر ليدل على المعنى الذي نريده هنا من مقالنا المتواضع هذا، ويعني انفصال جزء من الكل وابتعاده عنه ليشكل الجزء المنشق أو المنفصل أو المنفطر جزءا جديدا ومستقلاً. ففي الآية الثلاثين من سورة الأنبياء: (أَوَ لم يرََ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون)؟ ويفسر المنجد الفتق بقوله: (فتق الشيء فتقاً: شقَّه، وفتق الثوب: نقض خياطته حتى فصل بعضه من بعض). وروي في الحديث الشريف عن عدي بن حاتم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال في الحض على الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
من هنا ندرك أن كلمة الانشقاق بكل ما تحمله من المعاني، في مجملها، تعني الانفصال. وانشقاق الجنود عن الجيش يعني انفصالهم عنه، سواء التحقوا بغيره أم لم يلتحقوا، لأن ذلك يعني الانفصال. وكذلك انشقاقات الأحزاب السياسية إنما هي انفصال أجنحة منها وتكوين أحزاب جديدة مستقلة بأسماء جديدة.
وتعتبر إسرائيل من أكثر الدول التي تعرف بكثرة الانشقاقات الحزبية السياسية. فقد بلغ عد الأحزاب السياسية نحو ثلاثين حزبا قائما، بالإضافة إلى الأحزاب الأخرى التي اندمجت مع غيرها أو تلاشت، وقد بلغ عددها تسعة أحزاب. وهي دلالة على كثرة التوجهات السياسية، ولكنها تجمع كلها على مصلحة الكيان الواحد، وهو دولة إسرائيل.
أسباب الانشقاق
وأول الأسباب هو اختلاف التوجهات الفكرية بين أعضاء الجيش أو الحزب أو المنظومة الواحدة. عندها ينشق فرد له مكانته أو مجموعة يتبعها الذين يوافقونها في التوجهات والمعتقدات. أما السبب الثاني، في اعتقادنا، فهو طموحات الذين لا يستطيعون الوصول إلى مركز القيادة والصدارة بالطرق المعهودة. فعندما لا يستطيعون ذلك يقومون بالانشقاق وتكوين أحزاب جديدة، وهي ظاهرة كانت واضحة خلال الفترة السابقة في الحركة الفلسطينية، وخصوصاً بعد النكسة.
كانت حروب الردة أولى مظاهر الانشقاق في التاريخ الإسلامي. ومقتل الخليفة الثالث؛ عثمان بن عفان، رضي الله عنه، كان يمثل انشقاقاً عليه، أوصل المسلمين إلى انشقاق كبير هز كيان الدولة وجعلها شقين: شق مع الخليفة (الشرعي)، علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وشق مع معاوية بن أبي سفيان، الطامح للوصول إلى السلطة، والطامع بالخلافة الذي اتخذ من (قميص عثمان) وسيلة للتأثير في أتباعه ومريديه، وكانت معركة صفين الدامية نتيجة هذا الانشقاق.
لكن ظاهرة الخوارج في التاريخ الإسلامي كانت أوضح الظواهر التي تدل على الانشقاق. فقد اعتقدوا بخطأ الإمام علي، كرم الله وجهه، عندما رضي بمبدأ التحكيم فخرجوا عليه، أي انشقوا من صفوفه وكونوا (حزباً) جديداً ولكنه كان عنيفاً في صراعه الدامي تمكن من اغتيال الخليفة نفسه وإرهاق الدولة الأموية، صانعة الأمجاد العربية والإسلامية، مما كان سببا مباشرا من أسباب القضاء عليها.
ويذكر أبناء جيلي، كما كان يقول الأديب الفلسطيني الراحل، أميل حبيبي، حادثة (الانشقاق) المؤلمة واللئيمة التي أطلق عليها (الانفصال) حين انشقت سوريا سنة 1961م عن الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم سوريا ومصر، والأمثلة كثيرة. ونشير إلى الانشقاق الذي حدث سنة 1970م في الجيش الأردني خلال أحداث ايلول من ذلك العام، وانشقاق باكستان الشرقية عن دولة باكستان وتكوين دولة بنجلادش سنة 1071م، وأخيرا انشقاق أو انفصال جنوب السودان وتكوين دولة جنوب السودان قبل عام من الزمان.
ونعود إلى ما عقدنا المقال عليه من ظاهرة الانشقاق في صفوف الجيش العربي السوري الباسل الذي كان محط الرجاء للأمة العربية لو تم تهيئته لمهمته التي كانت تنتظره.
الانشقاقات التي تحدث في سوريا بشقيها: العسكري والمدني دليل واضح على مدى الخلاف القائم في سوريا وعدم القبول بما يمارسه النظام من خنق للحريات وامتهان لكرامة الشعب السوري. لقد كان شعار (المنشقين) الذي رفعوه في البداية يدل دلالة أكيدة على ما يختلج في الضمير السوري خاصة، وما يعتمل في الضمير العربي بوجه عام، حيث كان الشباب (المنتفضون) سلميا في البداية يرددون شعاراً واحداً يتكون من كلمتين هما مطلب كل الشعوب الحية والحرة: (حرية، كرامة), وهل أغلى من الحرية؟ وهل أعز من الكرامة؟
قال عنترة يعتز بكرامته:
لا تسقني كأس الحياة بذلة ***** بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
يسقط الشهداء في سوريا بأرقام كبيرة كل يوم ودمر الاقتصاد السوري وشلت الحياة التجارية وتوقفت الحياة التعليمية وتواصل نزوح المدنيين من بيوتهم في مواقع الصدام بين جيش النظام والجيش السوري الحر الذي يضم المنشقين عن الجيش الأم.
بالرغم من قسوة النتائج التي تترتب على الانشقاق من الانتقام من ذوي المنشقين وإحراق منازلهم وتدمير ممتلكاتهم، فإن ظاهرة الانشقاق تتواصل وتتسع كل يوم حين تتاح الفرصة الآمنة لوصول المنشقين إلى مرحلة يكونون فيها مطمئنين إلى مصير أهليهم وذويهم.
ويتحدث المنشقون أن السبب الذي يحول بين الضباط والجنود في الجيش النظامي من الانشقاق هو خوفهم على أهلهم وأقاربهم من الانتقام، أو خوفهم من الإعدام ميدانياً إذا لم يتمكنوا من الانشقاق بطريقة آمنة.
أما الذين يمارسون سياسة القتل الجماعي والممارسات الشيطانية؛ من هتك الأعراض والذبح بالسكاكين وبقر البطون، وحتى التمثيل بالجثث، كما يفعل (الشبيحة)، فهم مرتزقة يقومون بذلك دفاعاً عن مكتسباتهم التي ينالونها مقابل تنفيذ أعمالهم الإجرامية. فكيف ينشق هؤلاء ومن على شاكلتهم عن نظام يرعاهم لكي يدافعوا عنه؟
نشرت في جريدة القدس يوم الأحد بتاريخ 29-7-2012م؛ صفحة 44
[email protected]