شُعَرَاءُ فِـيْ غَياهِبِ السُّجُوْنِ
من المعلوم أن السجنَ يغص بأصناف شتى من البشر , وأن السجن قد يحوي البريءَ المظلومَ , كما أنه يحوي السارقَ والقاتل والمجرمَ وقاطعَ الطريق .....
وفي السجن كم من مجرمٍ يدَّعي أنه بريء !!, وكم من بريءٍ أصبح يُسَمَّى مجرماً , وعلى كل حال :
ما يدخل السجنَ إنسانُ فتسألُه .
.. ما بال سجنك؟؟ إلا قال :مظلوم
كما أن السجن قد يحوي بين جدرانه الرسولَ والنبيَّ , , و العالم والأميَّ, والكاتبّ والشاعر, والتقيَّ والفاجر ......فلم تخلُ السجونُ يوماً من الأيام من ضيفٍ يحل بها , أو مقيمٍ يعيش بين حناياها , وقد لا يخرجه منها إلا الموت !!......
وما أكثر الشعراءَ الذين حُبسوا !! وما أكثر الأشعار التي قيلت في السجون !!, فبددت بنور توهجها ظلامَ السجون الدامسَ , وتنسمت قوافي تلك الأشعار نسائمَ الحرية , وخرجت من غياهب السجون ودياجيرها , لتصبح تاجاً مرصَّعا على هامة الخلود , وقلادةً حرةً في صدر الزمان .....
ويبقى العجب !! كيف تضم حجرةٌ مظلمة صغيرة بحوراً لُجِّـيَّةً من الشعر , وجبالا تطاول عَنان السماء , من العلماء والحكماء !! ولاغروَ ولا عجب , فالسجنُ الذي ضمَّ نبياً ورسولاً , يضم عالماً وشاعرا وحكيما ......
ويظل السجينُ على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة , فالذي ردَّ يوسف إلى أبيه , وأعزَّه ـ وهو في سجنه ـ قادرٌ على أن يجمعَ السجين بأهله , ويلمَّ الشملَ , ما لم تعاجلْه المنيةُ وهو في أعماق الأرض , فينتقل من أعماق زنزانته , ويوضع في أعماق الثرى داخل قبره !
ورحم الله من قال :
وعسـى الذي أهدى ليوسفَ أهلَه
... وأعزَّه في السجن وهو أسيرُ
أن يستـجيبَ لنا فيجمعَ شـملنا..
والله ربُّ العالمـين قـــديرُ
ونحن عندما نتحدث عن الشعراءِ وقصائدهم التي دبَّجوها في غياهب السجون , لا بد أن نتذكر جميعاً قصيدةَ أبي فراس الحمْداني الرائعةَ , التي قالها عندما كان أسيراً, وسمع حمامة تنوح على شجرة عالية بقربه , فأراد منها أن تشاركَه في أحزانه , وتحملَ عنه بعضَ الهموم , فقال يخاطبها , وهو في سجنه :
أقولُ وقــد ناحت بقربي حمامةٌ ..
. أيا جارتا, هل بات حالك حالي؟؟ (1 )
معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النَّوى ..
. ولا خطرت منكِ الهمومُ ببـال
أتحمل مـحزونَ الفـؤاد قوادمٌ ...
على غصُن نائي المسافة عــال
أ جارتنا :ما أنصف الدهـرُ بيننا .
.. تعالي أقاسمْك الهمــومَ تعـالي
تعالي تري روحاً لــدي ضعيفةً ..
. تردّدُ في جســم يعذب بـال
أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقة؟؟ ...
ويسكت محزون ويندب سـال؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلةً .
.. ولكن دمعي في الحوادث غالٍ (2)
ـ وكم من أبياتٍ أخرجت صاحبَها من السجن !! , وما ذلك إلا لرقتها وعذوبتها , فترى القوافيَ فيها تبكي , ودموعَ سامعها تهمي , وقلبه يذوب ليناً وعطفاً , ومعلومةٌ تلك الأبياتُ التي جعلت الشاعر الحطيئةَ يخرج من سجنه , والتي قالها لسيدنا عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه عندما أودعه في السجن :
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَـرَخٍ؟؟ .
. زغبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجـرُ
ألقيت كاسبهم فـي قعـر مظلمةٍ .
.. فاغفر, عليك ســلام الله يا عمر
أنت الإمامُ الذي مـن بعد صاحبه ..
ألقت إليك مقاليـدَ النُّهى البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قـدمـــوك لها
... لكنْ لأنفسهم كانـت بكَ الإثر
فامنن على صبيةٍ في الرمل مسكنُهُم
... بين الأباطح يغشاهــم بها القدرُ
أهلي فداؤك كــم بيـني وبينهم ... مـن عـرض داويةٍ يعمى بها الخبر!!
فبكى سيدنا عمرُ, وأخرجه من السجن، ثم دعاه فهدّدَه بقطع لسانه إنْ عاد يهجو أحداً. (3)
كما (حُكي أن الحجاجَ حبس رجلاً في حبسه ظلماً ,فكتب إليه رقعة فيها: قد مضى من بؤسنا أيامٌ ومن نعيمك أيامٌ ,والموعدُ القيامة ,والسجنُ جهنمُ ,والحاكمُ لا يحتاج إلى بيِّنة، وكتب في آخرها:
ستعلم يا نـؤومُ إذا الـتقـينا ..
غـداً عند الإله من الظلــوم؟
أمــا والله إن الظلـمَ لـؤمٌ ...
ومـا زال الظـلومُ هـو الملوم
سينقطع التـــلذُّذُ عن أنـاسٍ .
.. أدامــوه, وينقطـعُ النعيـم
إلى ديان يـــوم الدين نمضي ...
وعند اللـه تجتمـع الخصوم )(4)
والشاعر ابنُ عمارٍ عندما حبسه المعتمدُ بنُ عباد, كتب إليه الكثيرَ من قصائد الاستعطاف , وطلبِ العفو , وإليك هذه الأبياتِ من آخر قصيدة بعث بها إليه كما يقال :
سجاياك ـ إن عافيتَ أندى ـ وأسمحُ .
.. وعذرك ـ إن عاقبت ـ أولى وأوضح
وإن كان بــين الخـطتين مزيةٌ .
.. فأنت مـن الأدنى إلى الله أجنح
وماذا عسى الأعداء أن يتزيـدوا .
.. سوى أن ذنـبي ثابتٌ ومُصَحَّحُ
وإن رجــائي أنَّ عندك غيرَ ما ..
. يخوض عـدوي اليوم فيه ويمرح
أقلني بمـا بيـني وبينك من رضىً .
. له نحــو روح الله بابٌ مفتَّحُ
ولا تلتفت رأيَ الـوشاة وقولَهم ..
. فكل إنــاءٍ بالذي فيه يرشح
ألا إن بطــشاً للمـؤيَّد يُرتجى
... ولكنَّ حلمــاً للمؤيّد يرجح
سلامٌ عليه كيف دار بـه الهوى ..
. إليَّ فيدنو أو علـــي فينزح (5)
ولكنْ , إذا كان الحطيئةُ قد استطاع أيُبْكيَ سيدَنا عمرَ بتلك الأبيات , فإن ابنَ عمار لم يفلح في نيل رضا المعتمد , بل شجَّ رأسه بفأس وقضى عليه , وكأنّ المعتمد ما نسي هجاءَ الشاعر له ولزوجته وكما قيل:
جراحاتُ السّنان لها التئام
ولا يلتامُ ما جرح اللسان
ـ والسجين في سجنه , كلما هبت رياحٌ من ناحية بلاده يذوب حنيناً , وكلما لاح له خيالُ ركبٍ مُيَمِّمٍ وجهَهُ شطرَ بلده, كلما بعث هواه مع هذا الركبِ , وقد أورد البغدادي في خزانته أبياتَ شعر لجَعْفَر بن عُلْبَة الحارِثِيّ قالها في سجنه، وأوردها أبو تمام في أول الحماسة، وهي في غاية الروعة :
هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ ..
. جَنِيبٌ وجُثْمانِــي بمَكَّةَ مُوثَقُ
عَجِبْتُ لِمَسْراها وأَنَّى تَخَلـَّصَتْ .
.. إِليَّ، وبابُ السَّجْنِ دُونِي مُغْلَقُ
أَلَمَّتْ فحَيَّتْ ثُم قامَتْ فَـوَدَّعَتْ
... فَلمَّا تَوَلَّتْ كادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ
فلا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُم
ْبِشَيْءٍ، ولا أَنِّي مِنَ المَوْتِ أَفْرَقُ
ولا أَنَّ نَفْسِي يَزْدَهِيها وَعِيدُكُمْ ..
. ولا أَنَّنِي بالمَشْي في القَيْدِ أَخْرَقُ
ولكنْ عَرَتْنِي مِن هَـواكِ صَبابَةٌ .
.. كما كنتُ أَلْقى مِنْكِ إِذْ أَنا مُطْلَقُ
وقال آخر:
أسجنٌ وقيدٌ واغترابٌ وعَبرةٌ .
.. وفقدُ حبيب؟؟ إن ذاك عظيم
وإن امرأً تبقى مواثيقٌ عهده .
.. على كـل هذا ,إنه لـكريم (6)
وعندما حُبس عبدُ الملك بنُ إدريس الجزيريُّ الكاتبُ الشاعرُ، صدرت عنه ـوهو في السجنـ قصيدةٌ له في الآداب والسنة، كتبَ بها إلى بنيه (أو إلى ابنه عبدِ الرحمن) ، مطلعُها:
ألوى بعزم تجلدي وتصبري .
.. نأيُ الأحبة واعتيادُ تذكُّري
ويذكر فيها كيف فقد صبرَه، وذهب سرورُه ,وتلذُّذُهُ بالعيش ,ويتشوقُ إلى ابنِه الأصغرِ، ويتذكر ساعة فراقه, فيقول:
عجباً لقلبي يوم راعتنا النّوى .
.. ودنا وداعُكَ كيف لـم يتفطرِ؟
ما خلتني أبقى خلافك ساعة ..
. لولا السكونُ إلى أخيك الأكبرِ (7)
وها هو أيضاً ضابئُ البرمجيُّ ـ وهو في سجنه ـ يقول متشوقاً:
ومــن يك أمسى بالمدينة رحلُه ..
. فإنــي وقياراً بها لغــريبُ
وما عاجلاتُ الطير تدني من الفتى ...
نجــاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمـــورٍ لا تضيرك ضيرةً ..
. وللقلـب من مخشاتهن وجييبُ
ولا خـــير فيمن لا يوطِّن نفسَه .
.. على نائبات الدهر حين تنوب(8)
وأما صالحُ ابنُ عبد القدوس , فإنه يشكو حاله إلى الله , ويرى نفسه في سجنه لا حياً ولا ميْتاً :
إلى الله أشكو إنه موضعُ الشكوى ..
. وفـي يده كشفُ المصيبة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلهـا ..
. فما نحن بالأحيـاء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا مخبرٌ عـن حـديثهـا ..
. فرحنا وقلنا :جــاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الــرؤيـا فجلُّ حديثنا
... إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأتِ عجلى وأبطلت
... وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى (9)
وبعض الشعراء , رأى في السجن مدى حاجة الناس إليه , وجعل نفسه البدرَ المفتَقَدَ في الليلة الظلماء , ولكن كيف ذلك ؟؟ ويأتي الجواب: بأن الناس سيعلمون قوته ومكانته عندما تدور رحى الحرب , وتطحن الحربُ الزبونُ الكُماةَ , أما فارسُها الْمُهابُ , وليثُها الهدَّارُ , فإنه قابعٌ في السجن, لذلك , الشاعرُ العَرْجيُّ ـ وهو أشعر بني أمية ـ، عندما هجا إبراهيم بن هشام المخزومي، وأخذه وحبسه. قال وهو في السجن:
كأَنِّيَ لم أَكُـنْ فيهمْ وَسِيطاً
... ولم تَكُ نِسْبَتِي في آلِ عَمْرِو
أَضاعُوني وأَيَّ فَتىً أَضاعُوا .
.. لِيَــوْمِ كَرِيهَةٍ وسِدَادِ ثَغْر(10)
وأما ابنُ زيدون فإنه عندما كان في نكبته , وأُودِع في السجن , أتى بصور بديعة , فهو لا يرى في نفسه عندما سُجن سوى قمرٍ قد أصابه الخسوفُ,أو شمسٍ قد ألمَّ بها الكسوفُ , وهو نجم إلا أنه في الأرض لا في السماء , يقول:
هل الرياحُ بنجــم الأرض عـاصفةٌ
أم الكسوفُ لغير الشمس والقمر؟؟
إن طال في السجن إيداعي فلا عجبٌ
قد يودع الجفن حـدّ الصارم الذّكر (11)
وإذا كان ابنُ زيدون قد صوَّر نفسه في سجنه بدراً مخسوفاً , وسيفا صارماً مغمَداً ,فإن بعض ولد نهيك بن أساف الأنصاري قد جعل من الحكم بن المطلب المخزوميَّ شيئاً آخرَ , فعندما حُبس رأى أن الجود والكرم قد حُبسا , وأن المعروف قد أصبح نزيلَ السجن , ورأى أن هذا البحر يفيض رغم القيود حتى يكاد يغرق زائريه ,قال :
خليليَّ إن الجود في السجن فابكيا .
.. على الجود إذ شُـدت عليه مرافقُهْ
ترى عارض المعروف في كل ليلة ..
. وكل ضحىً يستنُّ في السجن بـارقُهْ
إذا صاح كبلاه طفـا فيضُ بحره .
.. لزوَّاره حـتى تُــرام غـرائقُـهْ (12)
وسُجن مروانُ بنُ عبد الرحمن الملقب بالطليق، وكان عمرُه ست عشرة سنة، وطال سجنه إذ مكث في السجن ست عشرة سنة أخرى،فما كان منه إلا أن وصف السجن بقوله :
في منزل كالليلِ أسودَ فاحـمٍ ..
. داجي النواحي مظلمِ الأشباج
يسودُّ والزهراءُ تشرق حوله ..
. كالحبر أُودع في ذوات العاج (13)
ـ وقد يصور الشاعر نفسه وهو في سجنه سيفاً إلا أنه مغمدٌ,وهزبراً في عرينه , و يسلي نفسه بكثير من التشبيهات والصور البانية , مما حدا بالبيهقي أن يجعلها من محاسن الحبس , في كتابه (المحاسن والمساوئ) فها هو عليُّ بنُ الجهم يقول عندما حبس :
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري ..
. حبسي وأيُّ مـهنَّدٍ لا يغمدُ
أوَ ما رأيتَ اللَّــيثَ يألفُ غيْله ...
كبراً وأوبـاشَ السِّباعِ تردَّدُ
والبدرُ يــدركهُ السِرارُ فتنجلي .
.. أيــامــهُ وكأنَّهُ متجدّدُ
والنَّـــارُ في أحجارها مخبوأةٌ ..
. لا تُصطلى ما لمْ تُثرْها الأزندُ
والغيثُ يحظرهُ الغمـامُ فما يُرى .
.. إلاَّ وريّقهُ يـراعُ ويُـرعـدُ
غيَرُ الليــالي بــادئاتٌ عوّدٌ ..
. والمال عارية يفاد وينفـــد
ولكل حــالٍ معـقبٌ ولربما .
.. أجلى لك المكروه عما تحمـد
لا يؤيسنّك من تفــرّج كربةٍ
... خطبٌ أتاك به الزمان الأنكـد
صبراً فإن اليـــوم يتبعه غدٌ ..
. ويد الخليفة لا تطـــاولها يد
والحبس مــا لم تغشه لدنيةٍ ..
. تزري فنعــم المنـزل المتورَّد
لو لم يكن فـي الحبس إلا أنه ..
. لا يستذلّك بالحجـاب الأعبدُ
بيتٌ يجدد للكــريم كرامةً ..
. ويزار فيه, ولا يـــزور ويحمد
إلا أن عاصمَ بنَ محمد الكاتب ,لما حبسه أحمدُ بن عبد العزيز بتغير حمولة له, عارض ابن الجهم في قصيدة ذكرت مساوئ السجن , وأتى فيها بنقيض ما قاله ابنُ الجهم :
قالت :حُبست فقلت :خطبٌ أنكد
... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كـان سربي مطلقاً ..
. مــا كنت أُؤخذ عنوةً وأُقيد
أو كنت كالسـيف المهند لم أكن .
.. وقت الشديدة والكريهة أُغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت ..
. فيّ الذئــاب وجذوتي تتوقد
من قال: إن الحبــس بيت كرامةٍ .
.. فمكاشرٌ فـي قـوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كــل مهانةٍ ..
. ومذلةٍ ومكارهٍ مــا تنفـد
إن زارني فيه العــدو فشـامتٌ ..
. يبدي التوجع تــارةً ويفنّد
أو زارني فيه الصديــق فموجعٌ ...
يذري الدموع بزفـرةٍ تتردد
يكفيك أن الحبس بيـتٌ لا ترى .
.. أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخيرٍ برهــةً فكــبا بنا
... ريبُ الزمان وصرفُـه المتردد
قصرت خطاي ومـا كبرت وإنما .
.. قصرت لأني في الحديد مصفّد
في مطبقٍ فيه النهـــار مشاكلٌ .
.. للّيل والظلمات فيـه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لــرقدةٍ ..
. طعماً فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني :إلى كم أسـهرت؟ ..
. ويقول لي قلبي: إلى كم أكمد؟
وغذاي بعد الصوم ماءٌ مفــردٌ .
.. كم عيش من يغذوه ماءٌ مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجـراً ..
. جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكـد؟ .
.. وإلى متى هــذا البلاء مجدد؟
يا رب فارحم غربتي وتلافنـي ..
. إني غريبٌ مفـــرد متلدد (14)
ـ وكثيرا ما يُسجن إنسان لا يقرض الشعر , فيهيئ الله له من الشعراء من يواسيه, ويسليه في سجنه فالبحتريُّ عندما سُجن محمد بنُ يوسفَ ذكره بنبي الله يوسفَ عليه السلام , وأن صبره جعل منه ملكا , كما ذكره أن الذهب لا يصفا إلا بالسبك , والدنيا متقلبة ,والأيام دول :
وما هــذه الأيـامُ إلا منـازل ..
. فمن منزل رحبٍ إلـى منزل ضنكِ
وقد دهمتك الحادثــاتُ وإنـما
... صفا الذهبُ الإبريز قبلك بالسبك
أما في نبي الله يوســـفَ أسوةٌ .
.. لمثلك محبوس عـن الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة ..
. فآل به الصبر الجـميل إلى الملك (15)
وكذلك يزيدُ بن المهلب،الذي كان جواداً , وكان حاتمَ عصره. و(قيل: إن الحجاجَ حبسه على خراج وجب عليه، مقدارُه مائةُ ألف درهم، فجُمعت له، وهو في السجن، فجاءه الفرزدقُ يزوره، فقال للحاجب: أستأذن لي عليه، فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجِّعاً لما فيه، ولم آتِ ممتدحاً، فأذن له، فلما أبصره قال:
أبا خالد ضاقت خراسانُ بعدكم .
.. وقال ذوو الحاجات أين يزيد؟؟
فما قطرت بالشرق بعدك قطرةٌ .
.. ولا اخضرَّ بالمروين بعدك عودُ
وما لســرور بعد عزك بهجةٌ .
.. ومـا لجواد بعد جودِك جودُ) (16)
ـ ونحن عندما ننتقل إلى شعراء العصر الحديث فإننا قد نراهم , أبدعوا إبداعاً رائعاً وهم في سجونهم, وكتبوا روائع شعريةً ليس لها نظير , فالشاعرُ نجيبُ الرّيسُ, يطلب من ظلام السجن أن يخيم ,فقد أصبح السجناءُ يعشقون الظلام ,,وأصبحوا يطربون لسماع رنين القيود الذي تحول في مسامعهم إلى أنغام تُشجي القلوبَ, ففي عام 1922 في سجن أرواد , إبان الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنانَ , أطلق هذا النشيدَ الذي تغنى به الأحرارُ :
يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ
إنّنـا نَهْـوَى الظـلامَا
ليسَ بعدَ السّـجنِ إلا
فـجـرُ مجـدٍ يتَسَامى
أيّها الحُرّاسُ رِفـقـاً
و اسمـَعوا مِنّا الكَـلاما
مـتّعُـونا بِـهَـواء
منعُـهُ كَــانَ حَرَاما
إيـهِ يا دارَ الفخــارِ
يـا مـقـرَّ المُخـلِصينا
قدْ هبطْـناكِ شَـبَابـاً
لا يهـابـــونَ المنونا
و تَـعَاهدناك جَـميعاً
يومَ أقسَـمْنا اليَـمِـينا
لنْ نخونَ العهدَ يومـاً
واتخذنا الصدقَ دِيـــنَا
يا رنينَ القــيدِ زدني
نغمةً تُشـجي فُــؤادي
إنَّ في صَــوتِكَ مَعنى
للأسـى والاضطــهادِ
لـسـتُ والله نَسـيّاً
ما تقاسِـيه بِـــلادِي
وهكذا ,وفي نهاية المطاف, نكون قد شاركنا الشعراءَ في سجونهم , وعانينا من بعض ما عانَوا , ورأينا أن من إحدى حسنات السجون أنها تخرج إلينا من بين جدرانها , ومن ثنايا ظلامها البهيم قصائدَ خالدةً , مشبوبةً بصدق العاطفة ورصانة التعبير .
الشيخ الشاعر : مصطفى قاسم عباس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - المشهور:( هل تشعرين بحالي)ولكن هذه رواية ابن خالويه
(2) - ديوان الأمير أبي فراس الحمداني تحقيق وشرح : د محمد ألتونجي , منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق عام : 1408 هـ - 1987 م ص : 246- 147
(3) ـ بهجة المجالس وأنس المجالس ,ابن عبد البر باب : في السجن ج : 1 ص : 194
وانظرها في كتاب : نوادر الحطيئة ـ محمد إبراهيم سليم , دار الطلائع مصر ص : 39
(4)- المستطرف في كل فن مستظرف :شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي ط : 3 دار صادر ص :147
(5) - في الشعر العربي الأندلسي والمغربي . د : علي دياب , منشورات جامعة دمشق 1416هـ ـ1995م ص: 178
(6) -المجالس وأنس المجالس ابن عبد البر باب : في السجن ج : 1 ص : 194
(7) - تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة), إحسان عباس: 1تاريخ النشر : 1960 الناشر : دار الثقافة عنوان الناشر : بيروت ج : 1 ص : 81
(8) - الكامل في اللغة والأدب, المبرد باب :لضابئ البرمجي وهو في السجن ج : 1 ص : 85
(9) - معجم الأدباء , ياقوت الحموي ج : 1 ص 121
(10) - الشعر والشعراء , ابن قتيبة الدينوري , باب: عروة بن أذينة ج: 1ص : 125
(11) - إعتاب الكتاب , ابن الأبار ج : 1 ص : 46
(12) - ربيع الأبرار , الزمخشري ج : 1 ص :83
(13) - تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة), إحسان عباس: ج: 1 ص : 79
(14) - المحاسن والمساوئ , إبراهيم البيهقي,باب :مساوئ من سخط عليه وحبس ج :1ص :228
وانظر أبيات ابن الجهم في المستطرف في كل فن مستظرف :شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي ط : 3 دار صادر ص :414
(15) - المستطرف في كل فن مستظرف :شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي ط : 3 دار صادر ص :414
(16) - المستطرف في كل فن مستظرف : الأبشيهي ص :214
شعراء في غياهب السجون بقلم الشيخ الشاعر : مصطفى قاسم عباس
تاريخ النشر : 2012-07-07
