أعناب القمر بقلم:فاطمة الخليل
تاريخ النشر : 2012-07-04
أعناب القمر 28/3/2012
حنظلة الأبابيل الثائر
الورود كانت متفتحة , فيما كانت الذاكرة توغل نحو البعيد ترقب ظل القمر العائد من أمسيات الجراح البعيدة , لم يكن الجد المسن يحفظ الكثير من المشاهد والصور عن تلك الأيام , لكنه كان يشعر أنها حفرت في ذاكرته أخاديدا لن تنسى .
لم يكن الحاج أمين يريد أن تموت كل تلك المشاهد , فيما لازال الحفيد ثائر يراقب الجد بحسرة وألم وهو يريد لجده أن ينسى كي يكمل بقية أيامه القصيرة , فرغم أن الجد كان في الستين من العمر , لكن المرض العضال كان قد سكن جل خلاياه , ولم يعد لجد سوى مشهد واحد يستطيع معه أن يقاوم به إلى النهاية , هذا ما أكده الطبيب مرارا , فيما كان الحفيد يراقب الجد بأسى وحزن كبير , وهو لم يعد يستطيع أن يواصل الحياة دونه , بعد أن فقد أسرته بأكملها , بعيدا عن جد يسكن مدينة أخرى , في أحداث أشبه بخيالات شهرزاد بل هي أكثر قسوة .
لم يعد لثائر إلا قلب جده الحبيب وبه كان يحارب العالم , فقد خسر الأم والأب والأخوة , فيما كانت عائلته تسكن مقبرة جماعية في مدينة صارت تسكنها لأطياف الراحلين , والمهاجرين الذين حملوا أشواقهم , قامات للجبال التي سكنت خيالاهم طويلا , طفولة من أجمل ظلال الأمل ويفاعة , علقها الكثير فوق سيوف الجراح فيما كان لكل شيء في ذاك العالم القاسي ثمنه .
راقب ثائر ذلك العالم المسكون في أحداق جده , الذي كثيرا ما كان يتحفه بحكاياته وأساطيره عن أناس كانوا في كل شيء عمالقة وعظاما في زمن كان فيه الأقزام في كل واد , يقتلون حتى الأمل فينا : وكنا هناك نخط في كل واد أقمار الثورة والحياة , ولم يكن الجد سوى شاب من شباب نذروا أنفسهم لأمل كان يكبر يوما بعد يوم , نسي أبناؤه العشر .. ونسي أن يراقب الأمل المسكون في عيونهم , فيما طاف مثل الآلاف في وديان وجبال , وحكى له رفاقه عن أسطورة قديمة عن أعناب القمر التي كانت تزهر مرة واحدة في حياة البعض , ولا تزهر إلا لدى قلة فقط , حار أهو منهم ؟ قالوا له قد تكون الأعناب التي تبزغ من ضياء القمر هي من دماء الشهداء وأرواحهم وهم يعبرون السموات السبع , كي يكمل البعض أعمار أمانيهم .
لم يكن أمين في ذاك الوقت يعرف عن تلك الأعناب الكثير , لكنه وبعد سنوات عرف عنها الكثير وأين تبزغ وفي قلوب من تغرس هناك , كان أمين يودع أبناؤه العشر في قصف لم يكن يفرق بين حجر وبشر , كان الكل يتساوى أمام القذائف , أراوح الشهداء وتاريخ المدن والحجارة الرقم التي كانت تحكي عن زمان قديم .. قديم , كان كل شيء مطلوبا رأسه , مقامات التاريخ والأماني , وأعمار أناس لم يجدوا من يتعاطف مع بقية من جراح آمالهم .
مات الآلاف فيما الطاغية لازال يراقب المشهد ويزور أحياء أستحالت مدن أشباح كي يوقع جرائمه بدم الشهداء .
كان الحاج أمين يتأمل كل هذا حين عرف أن أعناب القمر بزغت في قلبه ولن تفارقه طوال حياته , قال له البعض أنه يسمع أنات من ذاك المبنى المحطم .. قالوا له أن كانوا يسمعون استغاثات لطفل صغير , وخرج من بين الركام طفل كانت أمه تغرس فيه آخر أماني الحياة , كي يكون لها أمنية فوق هذه الأرض , كان الطفل في ساعاته الأولى , أدرك الجد أن حفيده الصغير كان هدية السماء كي يقاوم به كل ما بقي له من أمان , ويقامر لأجله بعمر آخر , وكان ثائر آخر الأماني التي غرسها الجد في تلكم الجبال , فيما كانت الأغاني تعود به إلى ذاك الزمان البعيد , بعد عشرين عاما لازال ثائر يجد في صدر الجد حنوا غريبا , وذاكرة تمتد لألف عام وعام , جاء المرض العضال كي يغتال أعز الأماني لدي الحفيد , لم يعد يريد إلا أن يرى ويسمع تلك الأغاني التي كان ينشدها الجد في وحدته , حين كان يرسل صوته كي يرتقي جبالا ووديانا وهو يبحث عن أعناب القمر في كل أهزوجة وفي كل نشيد , لا لم تمت المقاومة في أعماق الحاج أمين , لكن من مات من المستحيل أن يعود للحياة , فيما كان الجد جالسا يتذكر أيامه هناك , ذكره ثائر بانه عليه أن يستعد فعرسه بعد أيام , وأنه يريد لجده أن يكون أسعد مخلوق , كما أكد عليه أن يكون هو المنشد الوحيد في عرسه .
أكد الجميع في ذلك الحين , أن عرس ثائر كان أجمل عرس في المدينة كلها , فقد زفت عروسه بأغاني الجد وبأزاهير القمر .
عند كل منعطف فيما قال البعض أن الجد في تلك الليلة رحل , وقد أراد أن يبحث عن أرواح من ودعهم قبل عشرين عاما , فيما أكد البعض أن عروس ثائر كانت ترتدي ثوب زفافها فيما كانت أعناب القمر تحط فوق جبينها , فقد أراد الجد أن تكون هديته أجمل هدية فوق هذه الأرض لعروس حفيده .
ولازالت حكاية الحاج أمين تتناقلها الألسن ووكالات الأخبار , ولم يستطع أحد حتى اللحظة أن يؤكدها أو ينفها , فيما لازال ثائر كل صباح يراقب الطريق عل روح جده تحط ثانية فوق أغرودة أخرى للحياة , وظل سر ثائر الكبير في بئر غائر وعميق , ظل يسكن هناك في البعيد عن وريقات وجدت قرب الصغير , والتي أكدت أن أمه جاءت إلى تلك العائلة مهاجرة , تبحث في تلك المدينة عن أجمل أشواقها , فيما كان الحفيد المنتظر يسكن وأمه المقبرة , كان ثائر يخط عمرا آخر للجد هناك , ومعه كان يناور أمسيات ماتت في رحم النسيان خطى وأمان , فهل كان الجد إلا حياة قصها ثائر على أبنائه , وهو يودعهم ويبحث بين الكهوف عن ملاذ آمن , فيما لازالت القذائف تدك المدن والقرى , كانت حكاية الحاج أمين لازالت تتردد في بقاع الوطن المباح , والكل كان يؤكد أنه كان حفيده , والأحق بإرثه الذي يعود إلى عصور وعصور .
كتائب الفتح المبين