ماذا جنى علينا الدكاترة
العلاقة الجدلية بين أُميَّة الأكاديمي وعدم أكاديمية المثقف
بقلم :عبد اللطيف زكي أبو هاشم
مدير دائرة التوثيق والمخطوطات والآثار بوزارة الأوقاف –غزة .
أصبح العلم اليوم صوراً وألقاباً، وأفرغ من جوهره ومحتواه، ترى الرجل يحمل مؤهلاً أكاديمياً عالياً يسرده لك في سطر ونصف، فهو: الأستاذ الدكتور. دكتور، أستاذ مشارك، أستاذ مساعد، أستاذ مادة كذا وكذا، في جامعة كذا وكذا، الحاصل على زمالة جمعية كذا وكذا، وهكذا وهكذا …. الخ.
أما جوهر العلم والفكر فتفاجأ بقدراته وهشاشتها، لقد قابلت كثيرين وكنت أريد أن أعرف السبب الذي أدى إلى ذلك، ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أميَّة الأكاديمي وعدم ثقافته؟ السبب هو: ترك العلم بعد الظفر بالشهادة أو المنصب، ويصبح البون شاسعاً بين الدكتور وبين العلم، هذا إن كان قد تعلم في البداية من حصوله على الشهادة، أو قل وهو يحضر للشهادة، أو قل وهو يتلقى الشهادة. ولقد سمعت لبعض الدكاترة وهو يفخر بأنه قد حصل على تسهيلات أثناء منحه الشهادة ببعض البذلات الأنيقات الجميلات، وبعض الأجهزة الكهربائية والتلفزيونات، والآخرون وهم كثر حصلوا عليها من جامعات السودان العريقة مع كثير من التسهيلات، وقليل من التعليمات وكثير من التعاطفات، وأصبح عندما يحاضر ينسى ما قرأ ولا يتذكر ما فات! ووالله لقد جنت علينا السودان و لم تنفعنا
هؤلاء الدكاترة هداهم الله كان ينبغي أن يكونوا شعلة يضيئوا الطريق، وأن يتركوا بصماتهم على العلم والثقافة، ولكن وللأسف، أصبحوا معاول هدم للتعليم العالي وللثقافة، همهم تحصيل ريع الملازم، والكتب، والملخصات، والمستنسخات، والممسوخات، عن أصولها غير المتسلسلات.
وليلاحظ الجميع، وياحبذا لو كان هناك بحثاً علمياً حول مدى إنجاز الأكاديميين والأكاديميات في مجال الثقافة والبحث والدراسات، كم بحثاً كتبوا؟ كم كتاباً ألفوا؟ كم نظرية ابتدعوا؟ كم ظاهرة نبهوا؟ كم خلافاً حلوا؟ كم مثقفاً صنعوا؟ كم مفكراً أنجبوا؟ كم مركزاً للأبحاث أسسوا؟ فالجواب ...!
وعلى صعيد الأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية، تجدهم أقل الناس مساهمة في المجال الثقافي والاجتماعي، همهم الحصول على الترقيات من خلال كتابة بعض الورقيات الركيكات الموسومة زعماً بالمحكمة أكاديمياً، وهي في أغلبها لو أرسلت لأي نشرة في مؤسسة علمية تحترم نفسها لرفضت؛ لضعفها وركاكتها ورطانتها وعدم بلاغتها، وخطأ صياغتها، ولكن الأمر فيه مجاملة أكثر من الحقيقة، مع إدراكي لجدية بعض الدراسات المحكمة.
قد يتصور البعض أني متحامل على الدكاترة لمجرد أنهم كذلك، كلا والله أنني أتحدث فقط من واقع المسؤولية،ولذلك أحملهم مسؤولية كان ينبغي أن تلقى على عاتقهم وهي مسؤولية الارتقاء بالعلم والتعليم العالي والثقافة، وإنها لأشرف مسؤولية، وأكبر إنجاز للمجتمع، وأكبر أثر يكون في رقيه وتقدمه، ولكن ما داموا هم ليسوا علماء، وغير مثقفين، وغير مفكرين، ولا هم بالمكثرين، فلن يخرج عنهم شيء، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وإن الجامعات التي تحترم نفسها، بعد أن تمنح الطالب درجتي الماجستير والدكتوراه التي هي عندهم بمثابة تدريب على البحث العلمي، وهي مفتاح بسيط للتعلم الذاتي من حيث تكوين الشخصية الاستقلالية في العلم والتعلم، وبعد مضي عدة سنوات، إذا لم يبحث ذلك الدكتور أبحاثاً جديدة، ويؤلف مؤلفات تضيف للعلم شيئاً جديداً تلغى شهادته ولا يؤبه لها، لا يهتم به أحد ولا ينظر إليه أحد، لذلك هناك نظام الإعارة بين الجامعات، ولذلك هناك نظام التفرغ للبحث العلمي، إن الطالب في جامعات الغرب يقضي ثلاثة أرباع الوقت بين الكتب والمراجع، يدمن النظر في الكتب يتعلم فقط كيف يقرأ؟ وكيف يدرس؟ وكيف يفهم؟ وكيف يبحث عن المعلومات من مظانها الأساسية؟ حيث أن معرفة مظان العلم هي نصف العلم بل قل هي العلم كله.
وقد حددت جامعات أوروبا هدفاً جوهرياً من وراء الجامعات، حيث قررت أن أهم هدف من التعليم العالي بجميع أقسامه الجامعية، هو: نقل الطالب من جو المحاضرة والدرس إلى جو البحث والتنقيب في الكتب والمكتبات، لذلك قرر العلماء الباحثين في تاريخ العلم والمكتبات أنه لو قدر لهذه الحضارة والتكنولوجيا التي نحياها اليوم أن تدمر وبقيت المكتبات، لاستطعنا أن نعيد تلك الحضارة والتكنولوجيا بما كانت عليه، ولكن لو حدث العكس ودمرت المكتبات، لأصبحت حضارتنا من آثار الماضي، انظروا كم هي أهمية الكتب والمكتبات وكم هو أثر الكلمة المكتوبة، فبالكتابة ملك الإنسان ذاكرة غير قابلة للاندثار والموت، وهذا هو سر الرقي والتقدم والحضارة ورحم الله الكاتب القدير جودت سعيد حينما قال: "إن مشكلتنا هي مشكلة أمية مركبة، ومن هنا كان اعتبار القرآن أن الأمية ليست فقط أمية القراءة والكتابة بل أمية الأفكار وذلك في قوله تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}، أي عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظاً وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه، إن مشكلة القراءة هي مشكلتنا الأساسية، القراءة المطلقة والموجهة أو المجردة مما لا فائدة منه، حيث أن تحت سن القلم يبرز المستقبل الإنساني، وكما قرر المفكر الفيلسوف البريطاني (أرنولد توينبي) صاحب كتاب (مختصر دراسة التاريخ) أن ارتفاع نسبة قراء الكلمة المطبوعة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة أو نامية أو متقدمة".
وليس أدل على كلام توينبي إلا هذا البلد القزم اليابان، هذا العملاق القزم الذي محيت فيه الأمية منذ قرن من الزمان، حيث أصبحت نسبة تعليم الفتيات في الثانوية العامة 95% وليس هذا فقط بل بسبب أخذ الكتاب والفكر دوره، حيث حل الكتاب دوراً بارزاً في حياة الفرد. وفي اليابان في كل بيت مكتبة، في الشوارع مكتبات عامة وخاصة وأكاديمية وتجارية، وأكشاك للجرائد والمجلات، مكتبات في المستشفيات وفي المطارات وفي الطائرات، وفي الحافلات وفي الكراجات وفي أقبية السجون والمؤسسات، لذلك تصدر اليابان 35 ألف عنوان جديد كل سنة تقريباً، وهذا يمثل ضعفي ما ينشر في الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا السبب تأتي دولة اليابان الدولة الصناعية الثانية في العالم.
نعم إنها حكمة الله وقانون الله وسننه في الحضارات "من يقرأ أكثر ينل أكثر"، نعم إن القراءة والكتابة التي يفتقدها الدكاترة هي التي تقعد الأقزام على رقاب العمالقة، فترفع الأخلاف فوق أبراج الأسلاف، إن سر إبداع العلماء هو في التهام الكتب، والنهم في القراءة، وبتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الحصول عليها، لذلك إن فقدان دكاترتنا لذلك الباعث والحافز أدى إلى إخفاق المؤسسة العلمية الأولى للتعليم العالي، وعلى رأسها الجامعة، إن إخفاق الجامعة هو إخفاق في السياسة التعليمية قبل كل شيء، إن المؤسسة والجامعة لو نجحت بواسطة الدكاترة أن تعلمنا كيف نقرأ وماذا نقرأ، لجعلت صلتنا بالخبرات البشرية المتراكمة صلة وحيدة، وليعرف الجميع لما فيهم الدكاترة، أنه لا يوجد أعظم من القراءة والبحث والاطلاع في تعليم التجاوز والعبقرية.
وإن من يملك نهم القراءة هو المرشح الأول للإبداع، فلذلك أقول: إن الذين يضربون بسهم وافر في علم القراءة والبحث والاطلاع، هم الذين يمكنهم أن يوفروا لنا الباحثين والمثقفين والمفكرين.
إن ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع، الذي قد يراني البعض أو قل الأكثر، أنني أتطاول على الدكاترة وحملة الشهادات هو رؤيتي المكثفة لأمية الدكاترة، وفقدانهم للثقافة، وتضاؤل معرفتهم، وتآكل أفكارهم وتفاهة اهتماماتهم، وبهذا الصدد حدثني صديق لي عن بعض دكاترة يدرسونه، سألته بصراحة هل تتعلم منهم شيء، قال: لا والله وإنما أحضر محاضرتهم فقط لأعرف طبيعة الأسئلة في امتحاناتهم، ومن ثم لأجب عن أسئلتهم وأنل علاماتهم، ثم ضحك وقال لي: تتصور أن بعض المحاضرين من الدكاترة، الذين يحملون لقباً علمياً طوله سطر ونصف في علم النفس، أستاذ ومحاضر ومشارك و… الخ، هذا الدكتور يا أخي حينما يأتي عندنا ليحاضر فينا، ينظر حوالي دقيقة أو أكثر وهو يحملق في وجوهنا! أتعرف لماذا؟ قلت: لماذا؟، قال: حتى يتذكر نحن تابعون لأي جامعة من الجامعات التي ينتقل بينها محاضراً مثبتاً مع بعض منها، ومع الآخر بنظام الساعات المؤجرات بالدنانير والدولارات، فضحكت ثم أفقت من ضحكتي متعجباً ومندهشاً من نباهة صاحبي.
ثم قدر الله أن أركب في سيارة من غزة إلى رفح، وإذ بدكتور كبير من الدكاترة، هذا الدكتور كنت أعرفه قبل أن "يتدكتر" وقد تفضل عليَّ وتعرف على شخصي المتواضع، بعد أن ظننت أنه نسيني، ولكن أشفق عليَّ وتعرف، فقال: مش أنت أبو …، قلت: نعم، وهل يخفى شكلي على أحد، فقال: "أنت لليوم تقرأ وتكتب وتسهر"، قلت له: نعم، قال لي: كيف تجد الوقت، قلت له: قل بل كيف توجد الوقت للأشياء الأخرى، فأنا عندي أن الأصل في الوقت هو للعلم والقراءة والبحث، وأنا كما تعرف أسهر حتى انتهاء منتصف الليل الأخير، أو أحياناً للفجر، فقال: يا شيخ حرام عليك (امعية اللي قريته، يا راجل أي هو أنت بدك تقابل ربنا في قرايتك)، فضحكت وسكت، والسبب ليس في عدم رغبتي في الرد، ولكن لأنني كنت أستعد للنزول من الحافلة، حيث أن الدكتور كان نائماً طوال الوقت، وبعد أن استيقظ كان يتجادل مع السائق في أنه دفع الأجرة أم لم يدفع، فرددت عليه أطمأنه أنه لم يدفع حيث أنني كنت مستيقظاً وهو نائم، فبالتالي قولي حجة على قوله، فلم أره مد يده ليدفع، ردي عليه بأنه لم يدفع كان هو سبب سؤاله عني. وهكذا كان ما كان، فظن خيراً، ولا تسأل عن الخبر.
وصدق الله العظيم حيث يقول: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الله علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سألت به أعطيت أن تجعلنا منارة للعلم وأهله وفناراً في ظلمات هذا البحر اللجي.
ماذا جنى علينا الدكاترة .. العلاقة بين أمية الأكاديمي ولا أكاديمية المثقف بقلم :عبد اللطيف زكي أبو هاشم
تاريخ النشر : 2005-08-02