اثر سورة الحجرات على اخلاق المجتمع المسلم بقلم:بشير حميد الدليمي
تاريخ النشر : 2012-02-18
اثر سورة الحجرات على اخلاق المجتمع المسلم بشير حميد الدليمي 2004

المقدمة :
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا،
فهذا بحث تناولت فيه ضوابط وآداب المجتمع الإسلامي من خلال سورة الحجرات، وهو موضوع عظيم الأهمية في حياتنا اليوم في زمان تلفق للإسلام فيه كل تهمة وعيب زوراً وبهتاناً، وكأن الأعين قد عميت عن أمثال سورة الحجرات التي تهدي – كما يهدي القرآن كله – إلى التي هي أقوم، لا سيما بعد عقود من تخبط البشرية بين نظريات الشرق والغرب وتُرَّهات الفلاسفة والأخلاقيين الموهومين، فإذا بالعالم اليوم أشد تخبطاً بعد هذه النظريات منه قبلها، وبات لزاماً علينا معشر المسلمين أن نبين للعالم كنوز هذا الدين وروائعه عساهم يفيئون إلى الله ويفرون إليه من شقاوات الشيطان.
ولقد استرعتني هذه السورة المعجزة بما تضمنته من توجيهات ربانية تعيد للأذهان قول بعض السلف : إن كان أهل الجنة على مثل ما نحن عليه إنهم إذاً لفي عيشٍ طيب! وكان منهجي في هذا البحث هو الاستقراء التام للسورة حسب توجيهه سبحانه وتعالى :" أفلا يتدبرون القرآن"[1]، وتمخض عن ذلك ثلاثة مباحث عرضت في أولها تعريفاً عاماً بالسورة ثم تناولت آداب المجتمع الإسلامي في المبحث الثاني ، ثم تناولت في المبحث الثالث وسائل التوجيه التربوي في هذه السورة، وذيلت بالخاتمة، والله تعالى وحده المستعان وعليه التكلان.
المبحث الأول : تعريف عام بسورة الحجرات:
تتألف سورة الحجرات من ثمانية عشرة آية وهي سورة مدنية[2]، وقد حكى الإمام القرطبي الإجماع على ذلك[3]،واسمها "الحجرات" بضمتين جمع حجرة – بسكون الجيم – والمراد بها بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم [4]، لمكان نداء الرجل من وفد بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات كما ورد من عدة طرق كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وإن المتأمل في مضمون هذه السورة يجدها تتناول الكثير من الضوابط والآداب التي تحكم سير المجتمع الإسلامي بما يضمن له الانضباط والانقياد لإمرة هذا الدين العظيم، ويجدها ترتقي بالمجتمع الإسلامي وأفراده إلى آفاق خُلقية سامية، ولقد تأملت السورة فاستخلصت بعض الخصائص المميزة التي ساهمت في تحقيق مهمتها من حيث توجيه وتأصيل المنظومة الأخلاقية للمجتمع الإسلامي حتى صح أن توصف هذه السورة بأنها سورة الأخلاق في القرآن الكريم. وفيما يلي بيان بعض هذه الخصائص :
1- تناولت هذه السورة على قِصرها كل محاور العلاقات الاجتماعية فبيَّنت ضوابط علاقة المجتمع المسلم بمصدر التشريع، وعلاقة المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات، وعلاقته ببعضه البعض أفراداً وجماعات وبيَّنت منظومة المجتمع الأخلاقية التي تحلي جِيده، كما بيَّنت علاقته بالإنسانية جمعاء، فكانت آية في الإيجاز والإعجاز بحيث قدمت ما عجزت الحضارات الإنسانية جمعاء من تقديمه أو تقديم جزء منه على مدى التاريخ، وها نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين والإنسانية لا تزال تتخبط وتتناقض في ضبط علاقاتها وتكييف أخلاقها، ولكن هيهات أن يأتي المخلوق بمثل ما أتي به الخالق عز وجل.
2- يلاحظ أن معظم آيات هذه السورة الكريمة قد نزلت في مناسبات محددة، ومعلوم أن آيات القرآن تنقسم إلى ما نزل لمحض هداية البشر وما نزل للحكم والفصل على واقعة معينة، ولهذا الأمر أهميته القصوى بسبب طبيعة الأمور التي تعالجها هذه السورة، فالأخلاق النظرية المتولدة عن أهواء واضعيها تبقى نظريات مدفونة في كتابات أصحابها ومُنظِّريها لا تلبث أن تئدها الفطرة السليمة فورما تصطدم بها في معترك الواقع، أما الأخلاق السليمة فهي القادرة على التعامل المباشر مع الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من انحراف وخطأ بحيث لا تعجز عن النزول إلى الميدان الاجتماعي مهما كان، فتتعامل معه وتترجم التوجيهات الأخلاقية إلى سلوكيات واقعية عملية تصحح الزلل وتقوم الانحراف، وهذا ما تم فعلاً من خلال تنزلات آي السورة على جملة من الوقائع والأحداث الحقيقية كما سيتبين معنا إن شاء الله.
3- التناسب الدقيق ما بين الآيات وخواتيمها – وهو متحقق في القرآن الكريم كله – ولكنه شديد الوضوح والأهمية في هذه السورة بسبب طبيعة الأمر الذي تتناوله. ففي مقام التنفير من أبشع السلوكيات وفي أكثر مشاهد السورة نفوراً للطبع السليم يأتي التذكير بالتقوى مشفوعاً بالتذكير بأن الله تواب رحيم، وفي مقام رد جفاة الأعراب عن اقتحامهم مجال العلم والعقيدة والسلوك على غير هدى يفتح باب التوبة بالتذكير بأن الله غفور رحيم، وهكذا.
والحقيقة أن أي وصف لخصائص هذه السورة سيأتي قاصراً عن الوفاء بحق الموصوف، ولا مندوحة للمرء من معاينة هذه السورة تلاوةً وتدبراً وتطبيقاً حتى يستطيع التحليق في سمائها والتمثل بتوجيهاتها، نعم إنها سورة الأخلاق في القرآن الكريم.
المبحث الثاني: آداب المجتمع الإسلامي :
إن المجتمع الإسلامي مجتمع محكوم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يعني أن تركيب هذا المجتمع يعتمد على ثلاثة أقطاب : مشرِّع ومبلِّغ ومنفِّذ منقاد. وإن هذا التركيب يفرض أنواعاً من التعاملات والسلوكيات ما بين الرعية والسلطة التشريعية من جهة، والقيادة والرعية من جهة، وأفراد المجتمع المسلم من جهة أخرى. ولسوف نتناول فيما يلي مجموعة الآداب هذه بحسب جهة التعامل كما وردت في هذه السورة إن شاء الله.
المطلب الأول: آداب التعامل مع السلطة التشريعية :
لا شك أن تحرير آداب التعامل مع الله تعالى ومع الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار دوره التشريعي[5] هو الخطوة الأولى في تزكية المجتمع الإسلامي، وهو ما افتتحت السورة الكريمة به تأصيلاً وتأديباً لجماعة المسلمين، قال تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا تقدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم"[6] ولقد تعددت روايات أسباب نزول هذه الآيات ولكنني أقتصر على ذكر بعضها ملتزماً ما صح من جهة ومقتصراً على ما يفي بغرض إظهار المسلك التربوي لهذه السورة من جهة أخرى؛
فقد روى ابن أبي مليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجلٍ آخر – قال نافع [7]لا أحفظ اسمه – فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. قال : ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم" الآية[8]، وفي رواية ابن جريج :فنزلت : " يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله – إلى قوله – ولو أنهم صبروا"[9]، ولقد وردت – كما قلت – أسباب أخرى لنزول الآيات، ولكن في هذه القصة الصحيحة الثابتة ما يكفي من حيث بيان معالم الأدب في التعامل مع الجهة المشرِّعة عموماً ، وبعض خصائص التعامل مع شخص النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً، كما سنبينه لاحقاً، ولكني أردت التعليق على بعض الأمور الظاهرة في قصة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما :
1- إن نفس القصة وكونها في تقديم الرأي في تعيين أميرٍ على وفد من الوفود قصة قد يراها البعض هينة غير ذات شأن، ومع ذلك كان الأخذ شديداً على يد من خرق ضوابط وقواعد الأدب في التعامل مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من حيث التقدم بالحديث والرأي قبل بيان الأمر من جهة المشرِّع؛ إن الجرأة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غير مقبولة وغير واردة البتة من أي فرد من أفراد المجتمع الذي يجب أن يكون دأبه : من الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا السمع والطاعة.
2- إن الأخذ على يد الشيخين الصحابيين الجليلين المبشرين بالجنة وهما خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم دليل آخر على حساسية الأمر وأهمية المبدأ؛ وتأمل معي لفظ راوي الحديث : كاد الخيِّران أن يهلكا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. قلت: فإذا كاد الخيران أن يهلكا بمثل هذه المعصية فما بالك بمن هو دونهما في الفضل والإيمان والسبق والمكانة؟! الأمر عظيم إذاً والخطب جلل بلا ريب.
3- تكفل الوحي بذم هذه المخالفات مباشرة لا عن طريق السنة النبوية لئلا يكون هناك أي حرج في ذلك الذم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحب لأصحابه، ولربما استحيا أن يوبخهم على فعلهم، وقد وردت مراعاة هذا الأصل في غير موضع من القرآن كما قال تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دُعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق"[10]، فكذلك ها هنا تكفل الله تعالى بالانتصار لنبيه صلى الله عليه وسلم وبيان الحق كاملاً، وهذا أيضاً دليل على أهمية هذا الأصل وحساسية هذا الأدب والسلوك، والله أعلم.
وأكتفي بهذه الواقعة كمقدمة تمهد للدخول في تفصيل هذه الآداب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنتقل الى بيان هذه الآداب والضوابط إن شاء الله.
أولاً: تحريم الافتئات على الله والرسول :
والأصل في هذا قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله "[11]، والحقيقة إن هذا الأدب يتناول أمرين اثنين؛ أحدهما توقف المسلم في الأمور الشرعية حتى يأتي بيانها من الشرع والثاني الأدب اللازم في حضرة شخص النبي صلى الله عليه وسلم .
أما بالنسبة للأمر الأول فهو ما عناه مجاهد بقوله :"لا تقدموا" لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه.[12] فهذا نهي صريح للمسلمين كافة عن أن يستبقوا خبر الشرع فيما هو من جنس التشريع أو الخبر الشرعي، لأن ذلك دالٌّ على تقديم العقل على النقل ودالٌّ على جرأة على الله تعالى محرمة مذمومة قطعاً. قال الإمام القرطبي في تفسير الآية : أي لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا.[13]
وأما الأمر الثاني المتعلق بمراعاة الأدب الشرعي في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو يصب في نفس البوتقة ولكن له نوع خصوصية من حيث مراعاة وجود شخص النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، بحيث يكون إثم التقدم بالرأي بين يدي الشارع أعظم لاجتماع الغفلة عن حق الشارع المطلق في التشريع مع تجاهل وجود النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن يكون أدعى إلى استحضار التوقف بين يدي الشارع وعدم المبادرة بإبداء الرأي، والله أعلم.
ثانياً: تحريم رفع الصوت والأمر بغضِّه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم:
ولقد ورد هذا النهي صريحاً في قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي"[14] وفهمه الصحابة فهماً ظاهراً وتمثلوه سلوكاً عملياً لازماً لهم، وتأمل معي هذين النموذجين الذين يجسدان سرعة استجابة وامتثال الصحابة لأوامر الشرع، فبعد حديث ابن أبي مليكة السابق جاء : قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه[15] قلت: وهذا مبالغة منه رضي الله عنه في امتثال النهي والتزام الأدب معه صلى الله عليه وسلم. ثم انظر إلى النموذج الآخر في هذا الحديث : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرٌ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى [16]: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال :" اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة"[17]، وهذه المواقف إن دلت على شيء فإنما تدل على لزوم هذا الفهم الظاهر وأن المنهي عنه هو رفع الصوت الحسي حقيقةً، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم ثابروا على هذا الأدب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف. فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.[18]
وأود أن أشير في هذا المقام إلى أن التوجيه إلى هذا الأدب لا يقتصر على رفع الصوت الحسي في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما ونحن نعلم أن من أساليب الخطاب الشرعي التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ بمعنى أنه إذا كان مجرد رفع الصوت الحسي محرماً ومدعاةً لحبوط الأعمال كما هو ظاهر النص فلأن يرفع الإنسان صوت عقله وأفكاره على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أشد حرمةً وقبحاً في ميزان الشرع، تأمل معي قول عمر بن الخطاب ذاماً هؤلاء : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنة، أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين يُسألوا أن يقولوا : لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم[19]، فلا شك أن هذا الأدب الحسي منبهٌ على ما هو فوقه من الآداب، تماماً كما أن تحريم قول أفٍ للأبوين دالٌ على تحريم ما هو فوقه من ضرب وأذى معنوي وإن لم تصرح به الآية[20]
ويلاحظ أن السورة الكريمة سلكت مسلك الأمر والنهي في تقرير هذا الأدب؛ فنهت عن رفع الصوت من جهة، وأمرت بغض الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، ولم تقف الآية الكريمة عند هذا الحد بل أكدت على أن تحقيق هذا الأدب هو المعيار الحقيقي لتمكن التقوى من قلب المرء، قال تعالى :" إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى"[21]، وهذا النص يدل بمفهوم المخالفة على أن الذين لا يغضون أصواتهم عند رسول الله لم تتمحض التقوى في قلوبهم تمام التمحض، بل ربما لم تكن أهلاً للتقوى ولا محلاً قابلاً لها والعياذ بالله.
ثالثاً: تحريم الجهر بالقول للنبي صلى الله عليه وسلم :
الجهر لغةً: من الجهرة أي ما ظهر، وجهر الكلام أي أعلن به[22]، وهذا الجهر المنهي عنه لا بد من تحرير ضابطه، إذ أن النهي المطلق عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم غير متصور شرعاً ولا عقلاً، فطبيعة الرسالة تستلزم قدراً أدنى من التخاطب والتحاور والكلام، ولهذا جاء النهي في الآية مقيداً –فقال تعالى :" ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض "[23] وفُسر الجهر برفع الصوت كما فُسر بالخطاب المعتاد بين الناس من التنادي بأسمائهم المجردة، قال الإمام القرطبي: أي لا تخاطبوه : يا محمد ويا أحمد، ولكن : يا نبي الله ويا رسول الله توقيراً له[24] ، وقال الحافظ ابن كثير : ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يُخاطب بسكينة ووقار وتعظيم[25]. قلت: فمدار كلام المفسرين على توقير واحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم التخاطب معه كما يخاطب أحدنا الآخر، وذلك كما قال تعالى :" لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً"[26]، ويدخل في هذا النهي كل ما كان مخلاً بالوقار والتعظيم، فلا ينادى باسمه المجرد ولا يرفع الصوت ولا يتقدم بالكلام دون إذن، بل لو قال أحدهم إن رفع الصوت في مجالس العلم وبحضرة العلماء فيه نوع إخلال بهذا الأدب باعتبار أن العلماء هم ورثة الأنبياء لما بعد عن الصواب والله أعلم.
رابعاً: النهي عن إزعاجه صلى الله عليه وسلم:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحتجب عن الناس قط إلا لحاجة لا يسعه إهمالها سواء أكانت لإصلاح شأن أهله أو بيته أو نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، فكان - والحال كذلك – من سوء الأدب أن يقوم أحد من الناس بإزعاجه صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات الخاصة اليسيرة، وكان من سوء الأدب التطاول على خلوته صلى الله عليه وسلم بأهله لأمر ليس ذي بال، كما حصل من الأقرع بن حابس – من وفد بني تميم – حين نادى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم فقال : إن مدحي زين وإن ذمي شين[27]. فأي أمر هذا الذي يزعج النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، ولذلك جاءت الآيات ناهية عن مثل هذا ومنبهةً إلى السلوك اللائق وهو انتظار النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج للمسلمين حين يكون مستعداً لهم متفرغاً لهم وغير منشغلٍ عنهم بأمور أخرى فإن ذلك أدعى لتحقيق مصالح المسلمين من جهة ومراعاة احترام النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، ولذلك قال تعالى :" ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم"[28]
هذه جملةٌ من الآداب التي تضبط تعامل المجتمع المسلم مع الجهة المشرِّعة ومع شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغم ما في بعض هذه الآداب من خصوصياتٍ متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها تحدد للمجتمع المسلم إطاراً أدبياً وسلوكياً يضبط التعامل مع رموز السلطة الإسلامية بما يحفظ للدولة الإسلامية هيبتها، فنحن إذا نظرنا إلى اجتماع دور النبوة ودور القيادة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا أن لأئمة وحكام الأمة الشرعيين نصيب من هذه الآداب باعتبار جهة القيادة والإمامة التي هي موضوعة – كما قال الإمام الماوردي – لخلافة النبوة في حماية الدين وسياسة الدنيا به [29]، وإنما ذكرت هذا لئلا يتوهم أو يوهم البعض بأن هذه الآيات والآداب قد طويت في سياقها التاريخي ولم يعد لها أثرٌ ملزم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد بينَّا في ثنايا الكلام المتقدم نقيض هذه الأوهام فلله الحمد وعليه التكلان.
المطلب الثاني : آداب السياسة الشرعية :
وهنا جملة من الضوابط التي يجب أن تتحلى بها القيادة الإسلامية مما يدور في فلك السياسة الشرعية ولكنه لصيق الصلة بمنظومة الأخلاق والسلوك الاجتماعي لأن مداره على التفاعل مع المجتمع والتعامل مع ما يرد عليه من أخبار وما يطرأ عليه من أحداث. وتتمثل هذه الضوابط في الآيات الخمس التالية من هذه السورة الكريمة، قال تعالى :" يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين. واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعَنِتُّم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم. وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون"[30]
فالقيادة المسلمة تجد نفسها أمام التزام أخلاقي يفرض عليها التريث والتحقق قبل اتخاذ القرارات وعدم الجري وراء كل شائعة وشاردة وواردة، وإلا فإنها قد تدفع بالمجتمع المسلم إلى العنت والمشقة، كما قال تعالى:" لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم"[31]، كما أنها أمام التزام أخلاقي يفرض عليها الحفاظ على رباط الأخوة الإيمانية في نفس الوقت الذي تدعم فيه أركان الأمن السياسي في الأمة المسلمة، ولنستعرض مقومات هذه المنظومة في ضوء هذه الآيات الكريمات:
أولاً: التثبت في الأخبار :
لا شك أن القيادة الإسلامية هي مركز تلقي الأخبار في المجتمع المسلم كما أمر الله تعالى في قوله تعالى:" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"[32]، فلما كان الأمر كذلك وكان يترتب على مثل هذه الأخبار أمورٌ عظام وقرارات مهمة كان الواجب على القيادة المسلمة أن تتبين وتتثبت قبل أن تتصرف بناء على هذه الأخبار لا سيما إذا كان ناقلوها غير عدول، ولا بد من أن ننظر في سبب نزول هذه الآية المتعلقة بالتثبت بالأخبار لندرك خطورة ما قد يترتب على الإخلال بهذا الضابط؛ فقد وردت عدة روايات – مع ملاحظة ضعفها – في أن هذه الآية نزلت بسبب الوليد بن عقبة بن أبي معيط وما افتراه على بني المصطلق من حبسهم الزكاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بعثه وكادوا يقاتلونهم على منع الزكاة لولا أن الحارث بن ضرار استقبل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن لهم الأمر وأنهم استبطأوا جابي الزكاة ، فجلا الأمر وتبين على تنوع في سياق بعض الروايات [33] ، والحادثة تبين لنا – بغض النظر عن ضعفها – ما قد يترتب من عدم مراعاة القيادة الإسلامية لضابط التثبت والتبين في الأخبار لا سيما تلك التي تترتب عليها تبعات وقرارات مهمة قد تضر بالمجتمع المسلم ، ولا شك أن هذا السلوك مما يجب على الفرد التزامه أيضاً في سياق تعامله مع الغير تجنباً لسوء الظن كما سنبين في موضعه إن شاء الله.
وهنا نكتةٌ دقيقة وهي أن أمر الله تعالى بالتبين والتثبت في خبر الفاسق يدل على عدم إهمال خبر الفاسق مطلقاً في نفس الوقت الذي لا يعتمد عليه بثقة مطلقة[34]، فلا يقال : خبر فاسق لا يؤبه له، إذ ربما فوَّت ذلك على الأمة مصلحة ما قد تكون حقيقية في نفس الأمر، وقد ضبطت الآية الهدف من التبين وعللته بالحذر من الوقوع في المفاسد ومنها إصابة قوم من المسلمين بجهالة وما يترتب على ذلك من ندم.
ثانياً: الإصلاح بين المؤمنين:
إن المجتمع الإسلامي لا يخرج عن طبيعته البشرية التي قد تدفع به أحياناً إلى بعض المواقف التي تحيد بأفراده عن الجادة، فتوقع الضغائن والشحناء مع ما يترتب على ذلك من خصومة وشجار وربما قتال في بعض الأحيان؛ وتأمل معي حديث أنس رضي الله عنه قال :
‏قيل للنبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لو أتيت ‏عبد الله بن أُبي ‏ ‏فانطلق إليه النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وركب حماراً فانطلق المسلمون يمشون معه ‏ ‏وهي أرض ‏ ‏سبخة ‏ ‏فلما أتاه النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال ( أي عبد الله بن أُبي): إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال ‏رجل ‏‏من ‏‏الأنصار ‏ ‏منهم: والله لحمار رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أطيب ريحا منك. فغضب ‏‏لعبد الله ‏رجلٌ من قومه فشتمه فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت :" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما "[35] ‏وهذه القصة الثابتة في الصحيحين تقدم لنا مثالاً واقعياً لطبيعة ما قد يحتدم بين المسلمين من خلاف وكيف يجب على القيادة الإسلامية – بل وعلى كل من له وجاهة وسلطة مؤثرة – أن يعمل على رأب الصدع وتجاوز الخلاف حفاظاً على رابطة الأخوة الإيمانية. ولا شك أن إصلاح ذات البين من أهم مقومات سلامة المجتمع الإسلامي كما جاء في حديث أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ‏ ‏ذات البين، ‏ ‏وفساد ‏ ‏ذات البين ‏ ‏الحالقة[36]
ثالثاً: قتال البغاة:
قد لا تجدي مساعي الإصلاح السلمية في رفع الخصومات ووقف الاقتتال، بل قد تتميز فئة من المسلمين وتنحاز بقوة قتالية تواجه بها فئةً أخرى من المسلمين أو ربما المجتمع الإسلامي بأسره فيتربص خطر الفتنة بأمن وسلامة المجتمع كله وتجد القادة الإسلامية نفسها أمام خيار وحيد هو القوة في مواجهة القوة؛ قوة الحق الضاربة على الباطل ولو كان هذا الباطل متمثلاً في إخوةٍ لنا في الدين. قال تعالى: " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا"[37]، ولقد أكدت السنة النبوية المطهرة على تقرير هذا الضابط الشرعي بل وأنه يحصل حقيقةً وبين خيار الناس؛ فعن أبي بكرة قال: "سمعت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏على المنبر ‏‏والحسن ‏إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: ‏‏ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين"[38]، وقد كان كما قال صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن هنا استطراداً لا بد منه لما يصيب كثيراً من المسلمين من التباس حول مسألة قتال البغاة مع رسوخ حرمة قتل المسلم في أذهانهم متوهمين تعارضاً بين النصوص وتضارباً وتناقضاً في الشريعة، ولسوف أوجز في بيان جملة من ضوابط هذا القتال ليتميز عن غيره من القتل والقتال غير المشروع؛ فأما عن دواعي هذا القتال فقد ذكر الإمام الماوردي في قوله تعالى:" فإن بغت إحداهما عن الأخرى"[39] وجهان؛ أحدهما : بغت بالتعدي في القتال، والثاني : بغت بالعدول عن الصلح. وقوله تعالى :"فقاتلوا التي تبغي"[40] يعني بالسيف ردعاً عن البغي وزجراً عن المخالفة.[41]
وقد جعل الشرع لهذا القتال غايةً محددة ، قال الماوردي في قوله تعالى:" حتى تفيء إلى أمر الله"[42] وجهان: أحدهما حتى ترجع إلى الصلح الذي أمر الله تعالى به – وهو قول سعيد بن جبير – والثاني: إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم وهذا قول قتادة.[43]
هذا ويختلف قتال البغاة عن قتال المشركين والمرتدين من ثمانية أوجه فلا يتعمد قتلهم – أي البغاة – ويكف عنهم مدبرين ،ولا يذفف على جرحاهم،ولا يقتل أسراهم، ولا يغنم أموالهم أو يسبي ذراريهم،ولا يستعين على قتالهم بمشرك أو ذمي، ولا يهادنهم أو يوادعهم إلى مدة، ولا ينصب عليهم المجانيق ولا يقطع شجرهم أو يحرق مساكنهم [44]
فهذه خلاصة جملة الضوابط والآداب الواردة في هذه السورة والتي يتعين على القيادة المسلمة التزامها، ولا شك أن التزامها ما بين الأفراد وفي التكتلات الاجتماعية الأصغر مطلوب مع مراعاة بعض الحيثيات التي لا يحق لغير القيادة والسلطة التصرف من خلالها، ولهذه الخصوصية أفردت هذه الضوابط تحت عنوان "آداب السياسة الشرعية".