خطَّ القدرُ, فوق جبيني, أن أعيش في ألمانيا , وأن, أبعُدَ عن العراق الحبيب
أولى خطوات الفراق كانت هو حصولي على الجواز العراقي بعد عناء مميت حيث دفعت وقتها, اكثر من ثلاثة ملايين دينار عراقي كون زوجي سافر قبلي بأربعة اعوام, وبهذا لم يكن يحق لي, أن أسافر بمعية أبنائي,, الابعدما أكملت معاملة الانفصال التي كانت عبارة عن مسرحية قامت بأتقانها المحامية التي وكلتها نيابة عني بمشاركة من القاضي , الذي كان متيقناً كل التيقن من أن ذاك القانون كان مساعدة من النظام كي يكسبون أموالاً بطرق غير صحيحة لكنها تبدو صحيحة من وجهة نظر القانون,كان لايحق لي ولالغيري من النساء السفر الا بمعية محرم كــــ ( الاب او الاخ او ابن الشقيقة , او ابن الشقيق) يالتفاهة تلك القوانين البالية حين تسمح للرجل ان يسافر, ويلهو, ويمتع نفسه بملذات الدنيا, ولاتمنح المرأة الحق في ان تسافر مهما كان السفر ملحاً, حتى وان كان السفر من اجل العلاج, يجب ان يصطحبها محرم,هل هناك عدالة سماوية حين ننظر في هذا الأمر؟المرأة التي تحمل أبنائها شهوراً وتضعهم بعد عذاب أليم, ثم تبدأ رحلة العناء والسهر ليالياً وسنينا وهي تتابع كل خطواتهم , وكم تتفانى من أجل أن يصلوا الى مراتب رفيعة في مراحل حياتهم المتعددة.
كل هذا وليس من حقها أن تصطحبهم بمفردها ها ..أنني أستلمت جوازي , لقد خرجت من مديرية الجوازات العامة, وأستقليت سيارة الأجرة, واذا بسائق السيارة يهنؤني لأني أستلمت الجواز العراقي, حيث كنت أحمله بيدي , كوني لن اصدق حينها انني استلمته بكلتا يديَّ, نعم قال لي مبروك لك سيدتي جوازك ونصيحة مني ( نصحية أخ لأخته) أن تسافري الآن وليس غداً, لأنه لاندري ماذا سيحصل في القادم من الأيام, , هيا ...إحملي حقائبك الآن وأرحلي بألف سلام.
في تلك اللحظات شعرت بأن قلبي يقفز من مكانه, شعور ما تخلل كل خلايايَ ,إنه خوف عميق من الآتي من الأيام, آ......هٍ كم كان خوفي صادقاً!!!
وصلتُ سكنايَ الذي كنت أحلم طيلة الثلاثة عشر عاماً أن يصبح ملكاً لي, كي أنتهي من مشكلة الأيجار ولكن شاء الله ان يظلَّ حلماً عصيباً.
ها ....أنني وصلت الى المسكن الذي كان بالنسبة الى روحي, كأنه اغلى الأملاك, أنه ملكي بل أنا بتُّ ملكاً له لقد ملكني بكل ماتحمل كلمة التملك من معاني , كنت , انظر الى زواياه.. الى أركانه خلف المطبخ كانت هناك مساحة صغيرة متروكة للأغراض التي نحتاجها من معدات السيارات , كنت أضع الاغراض الصغيرة في صندوق خشبي , هل تصدقون لحد هذه اللحظة وأنا أستطيع تذكُّر جميع الأغراض الكبيرة منها والصغيرة التي كان يضمها الصندوق ,. أستطيع الآن ان أعدها وأصف أشكالها وألوانها الصدئة منها والتي لم يتصدأ لونها.
البيتونة ذاك المكان الذي يكون في الطابق الثاني من المنزل.
غرف البيت جميعها أرآها الآن راسخة في مخيلتي بكل تفاصيلها الممتعة والمُحزنة, والمُذلة.
الصالة... والأستقبال ...والمطبخ.. يااللـــــــــــــــــــه ...كم كان جميلاً بمساحته التي تبلغ 24 متراً مربعاً كان وكأنه بيتاً مُصغراً, ففيه أُعدُّ, الطعام وفيه نتناوله , وفيه نشاهد التلفاز حيث كان يحوي منضدة أُعدَّت لتناول الطعام عليها.
عطر بيتي ...لازال عطر بيتي في أنفي, أحياناً حين تقسو عليَّ, لحظات الشوق والحنين, أُحاول جاهدةً كي أشمَّ, ذاك العطر هل تصدقون أنَّ عطره يتسرَّب الى كل المسامات ليتغلغل في خلايايَ.
رائحة تراب حديقتنا, رائحة السطح, رائحة الأغراض, رائحة, شارعنا, وحيُّنا, وعبق الاشياء, لازال يقبع في كل حواسيِّ.
أغراض بيتي ...
يإلهي....أي الأغراض سأبيعها فها أنني أعددت العدة القاتلة كي أرحل الى المجهول,
ياإلهي ....أي الأغراض سأهديها , وأي الأغراض سأتخلى عنها؟
كل تلك الطرق الثلاثة ( البيع, الأهداء, التخلي) لاتعني إليَّ الا شيئاً واحداً, ومحصلة, لعينة , وهي أنني سأفقد تلك الأشياء, تلك التي كانت تعني لي ماتعني من لحظات وجود وكيان , أشياءٌ صغيرةٌ وتحفٌ, بسيطة لكن أغلبها بل جُلَّها ,أشتريتها بتضحية, وتعب وتفكير , كُل منها إحتل مكاناً في قلبي , قبل أن يحتل مكاناً, في احدى زوايا بيتي. كلٌ منها تُذَكِرُني, كيف بخلتُ على نفسي ونسيت أنني أنثى كنت أذهب لأبتاع لي فستاناً ما او حُلية أعجبتني قبل فترة, ولكن دون شعور مني أرى, خطواتي تسبقها نظراتي, الى المحال التي تبيع اغراضاً منزلية وسرعان ماأشتري أغراض للبيت وحين أعود وأخرج الأغراض لأرتبها في زاوية او ركن ما , في تلك اللحظات فقط أتذكر أنني كنت قد ذهبت لأجل أن أشتري لنفسي ماكنت فعلاً بحاجة إليه
حتى في تلك اللحظات لم أكن لألوم نفسي لأن فرحي ببيتي حين يكون زاهياً يغلب عليَّ.
كنت في بعض الأحيان أحزن وأنا أرى نساء الحيِّ يتبارينَّ في إرتداء كل مايظهر من موديلات في الأسواق ولكن حزني كان لايتعدى الثواني واللحظات فحينما اعود لبيتي انسى مواضيع النساء التي لاتتعدى اللبس والحلي وركوب السيارات الفخمة والباهضة الاسعار.
ياترى هل كنت ذكية ,أم ان غبائي هو الذي كان يعدُّ ليَ تصرفاتي؟
ها أنني أبيع هذه الحاجة وأهدي, تلك , وأتخلى عن ذاك, وكل ما أفقد حاجة كأنني افقد شيء في داخلي ماهو هذا الشيء؟ لست ادري.
لقد حجزت الى سوريا وعصر هذا اليوم والذي صادف 15 الشهر التاسع سأعد حقائبي القاسية ,لقد ودعت جميع أهل الحي القريبين مني والبعيدين, ومنهم من تعجب بوفائي له وأحداهن قالت لي بالحرف الواحد, ياعيني عليكِ, وعلى طيبتك, وأصالتك)فأن جارتنا القربية منّا سافرت الى سوريا ولن تكلف نفسها بالتحية علينا وانتِ ستسافرين الى المانيا وتسلمين على الجميع!!.
صفة التعالي والتفاخر كانت سائدة بين أغلب البشر لكني وأحمد الله ليل نهار أن هاتين الصفتين المرضيتان لن تقربا الي طيلة سنين عمري
جاء العصر وجاءت السيارة التي أُعدّت لحمل الاغراض ( أتذكر علياً ابن جارتنا الطيبة وكان عمره ثلاث سنوات لقد تمسك بنهاية السيارة يبكي.. ويبكي.. ويبكي.. ويصرخ الى ان اختفت السيارة ولم يعد يراها
ذهبت الى بيت ابي رحمه الله وموتاكم أجمعين كنت أعتقد أنني سأجد والدتي ولكن للأسف فلقد وجدت البيت موصد الابواب... ياإلهي أية عاصفة من العواطف اجتاحتني وقتها لتدمرني وتقضي على ماتبقى بي من قوة, بكيت بكاءاً, لايقوى على وصفه لو تجمع كل شعراء الارض, والسماء, لااعرف كيف سمحت لنفسي ان افكر بان والدتي لاتهوى ان تودعني كونها لن تكن راضية على سفري
قررتُ الذهاب الى شقيقتي فوصلنا الى بيتها حيث كان الجميع في انتظارنا بدأنا بتوديعهم
فرداً,فرداً نحتضنهم ونودعهم ولكن أيّ أحتضان؟ وأيُّ وداع وأنت تغادر بكل كيانك لتكتشف أن كيانك يغادرك ليظلَّ ملتصقاً بمن كوّن كيانك!!
في هذا الليل الغربي الوحشي , أرى وجه أمي الحبيبة يقرب مني لبضع لحظات توشحني بيديها فتمسح بعض دموع الشوق اللاهب في قلبي بنفس ملامحها السمحة وجدتها تنتظرني في بيت شقيقتي ولأول مرة اشعر بفرح غامر ورائع وكأنني طفلة حين خاب ظني وألتقيتها وشقيقاتي تنتظر توديعي الذي لم ولن تتمنى ان يكون وداعاً
ياربــــــــاه.....
كـأنني عثرت على كنوز الدنيا والارض والسماء والبحار , أمي بكل كيانها وجبروتها وشخصها العظيم تنتظرني انها لاتقوى دون ان تودعني
الله كم كريمة هذه الدنيا معي
جميع اهلي يلوحون لي بوداع مرير.
يتبع...
أوراق عراقية بقلم دلال محمود
تاريخ النشر : 2011-12-08