فلسطين كلها تتذكر بقلم:د.عبدالله عيسى
تاريخ النشر : 2011-11-24
فلسطين كلها تتذكر بقلم:د.عبدالله عيسى


فلسطين كلها تتذكّر :
ياسر عرفات (1)

د.عبدالله عيسى
مذ ذاك ، حين وصل المطر ُ الفتّأك ُ السماءَ بالأرض ، لحيظات ِ دفن شهيد أيلول الأسود خالد الونّاس ، ووجه الشهيد الذي رأيت ُ راضياً مرضياً تحت زخّات المطر والتراب ، وكذا اسم ياسر عرفات يطارداني . فما أن غرسوا الشهيد في باطن الأرض كبذرة قمح حتى كاد ، ما أن ذُكر اسم ياسر عرفات ليتقدم أحدهم ويخطب باسمه ، سقفُ الغيم ينهار على رؤوسنا من خبط رصاص لعلع في الآفاق وسوّى الفضاء أشبه بقدمين ترتجان يموج على رؤوس الأشهاد بدخان مبلّل ، فيما تغلغلت زغاريد النساء في المسافات الفاصلة بينناماسّة جسدي برعشة ٍ أشبه بفسحة من فخر غامض ، أما هتافات الرجال فقد سوّلت لنفسها أن تنقر كعصافير مهاجرة أرواحنا بالحنين إلى وطن مفقود إلى حين .
وكأنما ذاك يوم الحشر في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك . تتدافع أفئدة من الناس إلى بوابة المقبرة الكبيرة بالأناشيد والزغاريد . ولم أؤخذ بفحيح خوف ، أنا ابن السادسة ولم تصل بعدُ ذراعي الممدودة على وسعها إلى نقرة أبي – كما كانت تمازحني جدتي لأمي عائشة المهاوش ،
إذ تهت ُ عن آلي وصحبي ، خارجا ً من بين الشواهد حيّا ً لا أنطق ُ إلا باسم ياسر عرفات وكأنه تلبّسني كجنّي أزرق ، كما قال زعل الغوراني إذ زجرني فيما بعد ظاناً انه بهذا يطرد الجني ّ ذاك الذي حل ّ بي . شوارع مخيم اليرموك المقيمة على مقربة من مقبرة الشهداء وكأنها تحرس وحشتهم تموج ُ تموج هادرة غاضبة .
وأطل َ علي ّ ياسر عرفات من عل ٍ .
توقّفت ُ بين الأرواح الماضية إلى غضبها على أغان الثورة ، و حدّقت ُ في عينيه خلف النظّارة السوداء . يا إلهي ! شيء غريب ٌ ، أشبه برؤيتي لوجه الشهيد خالد وناس مغسولا ً بالمطر وحفنات التراب المرمية عليه رحيمة لدفنه راضيا ً مرضيا ً ، أعادني إلى نفسي . أنفاسي صعدت بي إلى حلقي . كدت ُ أصرخ على أحد ٍ ما من آلي وصحبي ، عل َ يؤنس وحشتي التي أوغلت ْ بي : " ياسر عرفات شهيد ؟ " . وابتسم عابر ما : " لا . بإذن الله ما يقدرون عليه " . وسألتُ على قلق : " صورته وصورة الشهيد وناس مع بعض " . ولم يُعِرْ لهفتي ما انتظرت ُ من انتباه ٍ ، فقد رفع يدَه هاشاُ الهواء بقبضته وصوتَه على نشيد عال ٍ , وغاص في الجموع المتموجة .
واستفقت ُ على اسمي يعلو به مؤذن جامع فلسطين معلنا ً ضياعي عن أهلي وذوي ّ . وإذ لمّت أمي ونساء المخيم بعدها وكذا أبي ورجال كثيرون لا أذكرهم الآن ، أمام جامع فلسطين ،
جسدي الضائع باحتضانات رؤومة أو معاتبة أو مشفقة ، لم يكن رأسي يهذي إلا باسم ياسر عرفات .
-"حرثت ْ مخّنا بياسر عرفات " . صرخ زعل الغوراني ، رادفاً عباءته على قامته النحيلة الطويلة ، وقد خنخن بكلمات لم تصل آذاننا وهو يغادر بيت عزاء الشهيد خالد الوناس ، مطاردا ً بتأففات زاجرة لم يُشْف َ منها حتى مات .
سألتهم ، وطعمة معي ، فرادى وزرافات عن سر ّ ياسر عرفات . وكأنّ سره من أمر الله لم يكشفه أحد .
اختلفوا في نسبه وتفرقوا فيه طائفتين كادتا تقتتلان أيهما تقول كلمة الحق فيه .
أقسم الشيخ إبراهيم الخليل ، وقد دس َ لحيته البيضاء الشعئاء في يمينه وسعال لاهث يكاد يطبق على الهواء في رئتيه ، أن شجرة ياسر عرفات مقدسية ، لا صفدية ولا خليلية ، وأغلظ محمد الصُلي ّأبو حسين الأيمان ، وقد سمّر عينيه جهة القرآن المحفوظ في بيته الكتّانيّ الأبيض على حائط المضافة في بيتنا ، أن أصله غزاوي ، لا صفدي ّ ولا نقبيّ .
وكأنهم ، بعد لأي ، اتفقوا على أن عِرق َ نسبه يعود إلى دم آل هاشم .
وإذ خلُصت ْ جدّتي عائشة المهاوش لأمر كهذا ، فلا رادّ لشأنها . قالت ، وفي قولها ما صدّقوه :
" تقولون أن ياسر عرفات من القدس الشريف ، ومن بيت الحسيني . يعني مرده إلى نسب الحسين بن علي كرم الله وجهه ، أو تقولون أنه من غزة ، وهي منسوبة إلى هاشم . نسب شريف ، ويشرّف " .
وكأن طعمة الشتيوي سن ّ لسانه بين سنيه الكبيرين ، سائلا ً : " مادام الملك حسين هاشمي ، يعني الدم واحد " .
ورمى الأستاذ فوزي الحسن يديه في الفضاء ، كعادته في مثل هكذا حالات إذ يُصاب بضجر ٍ أو ملل ٍ ، مفرجا ً عن كلماته بابتسامة ساخرة : " لا تنسوا : أبو لهب ، عم ّالرسول ، من آل هاشم " .
ووقع على رأسهم الطير .
كنت ُ مع ياسر عرفات ألوّح بيدي ّ صارخا ً في جامعة القاهرة ، وشوارعها ، ومقاهيها ، وفي كل مكان فيها : " فلسطين عربية " ، وأتوارى معه عن عيون طرّاق الليالي والمخبرين وعملاء الموساد هنا وهناك .و صِحت ُ معه على مسامع ملوك وأمراء وشيوخ ورؤساء العرب بلهجة غزاوية مطعّمة بالمصرية المكسّرة : " الكفاح المسلّح يا اخوانّا طريقنا لفلسطين " . وإذ كادوا لنا ما كادوا ، عدّلت ُ كوفيّتي ، مثله تماما ٌ ، راسما ً منها خريطة فلسطين ، دابّا ً الصوت في المظاهرات والمحطات والقطارات وجنازات الشهداء ، والإذاعات : " إرفعوا ياسادة أيديكم عنّا ، لنحرّر أرضنا " .
وصرت ُ أدخل فلسطين بصحبة ياسر عرفات ، عبر الحدود مع الأردن ، ملثّما ً بكوفية وفي يدي سلاحي وأقوم معه بعملية فدائية تؤرّق مضاجع المحتلين . وأصلّي معه الفجر جماعة في القدس الشريف دون أن يتعرّف علينا أحد . وفي كل ّمرة ، أتسلّل برفقته إلى فلسطين كي " يُطيّن عيشة الاسرائيليين " ، كما تصف ُ جدّتي لأمي عائشة المهاوش ، نزور أخته الكبيرة في غزة ، وإن سدّد على بيتها الأعداء والأصدقاء وما بينهم أعينهم رقيبا ً أو حسيبا ً .
وأصبحت ُ أردّ معه حربا ً لارحمة فيها عن مخيمات الفلسطينين في الأردن . البداوى المكبرين يعبرون بمحاريث القتل على أجساد نسائنا وأطفالنا في المخيم . وكتبت ُ معه رسالته إلى الملوك والرؤوساء العرب بأن آلاف البيوت الفلسطينية تهدّمت على رؤوس أصحابها ، والجثث تتفسخ عرضة للشوحات في الشوارع والمساجد ، والجوع والعطش يأكل شعبنا في الأردن . نموت ، ولن نركع ، ما دام فينا طفل يرضع . لن يمر مخطط تصفية القضية الفلسطينية . صرختُ بصوته ودخلت ُ معه ، ومسدسه على خصره ، قمة العرب في القاهرة . وحافظت ُ على الدم والسلاح الفلسطيني معه من كيد الأشقاء ومن معهم . وكأني كنت ُ أنا القائل معه جملته المشهورة " ياسارية الجبل ، الجبل " ، وجئت ُ مع الفدائيين الذين تدفقوا بعد إذ سمعوه يكلّمهم إلى جبل الشيخ ، ومنطقة العرقوب في لبنان .
ورشّت ْ نساء المخيمات عليه ، وعليّ معه ، الورد والملح والرز مزغردات مستبشرات بدخولنا لبنان مدخل صدق ٍ مرفوعي الرأس . وكنت ُ في كل ّ مرة أصُك ّ أسناني إذ يقف ُ مفرداً كالسيف ، وأتوارى أنا مرعوداً بخوف دفين ، في حضرة الموت ، وأحمد الله أن أنقذه ، وأنا معه ، من عمليات اغتيال حاكتها أصابع أعداء واصدقاء وأشقاء وما بينهم .
حللت ُ معه أينما ذهب في حكايات أهل المخيم والمخيمات الأخرى وما جاورها ، و ارتعش قلبي من خوف ٍ زلزل السماء على رأسي كلما صلصلت القذائف فوقه وأنا معه . وكأنه كان يرميني بابتسامة مطمئنة هامسا ً : " لا تحزن إن الله معنا " .
وأحببت ُ مثله من أحب ّ فلسطين ، وكرهتُ ، كماهو ، ما دون ذلك .
وفي حب ياسر عرفات ، أنا وطعمة وأحمد بن أبي حسين الكردي وانضم إلينا قرناء كثيرون ، شحذنا نقّيفاتنا للانتقام من مبغضيه ممن أدرجناهم في قائمة أعداء فلسطين . و لم يسلَم من نقفِنا منتقدوه ، أو كارهوه ، أو متجاهلو أمره ، من رجال المخيم والمخيمات الأخرى والقرى المحيطة فيها ، أو أساتذة مدرسة البنين في ببيلا حيث كنا نقرض التعليم مع أقراننا السوريين ، أو حزبيين وما دون ذلك .
حتى الشرطي " أبو عبدو الحلبي " الذي صرخ زابداً في وجه أحمد الياسين ، على تأئيمه لاتفاقية فك الاشتباك بين سوريا واسرائيل إثر حرب تشرين ، أمام الصالح والطالح في مقهى " السعّان " في قرية ببيلا ، ، : " لتكون مفكّر حالك ياسر عرفات . أنا كسّار رأسك " ، ألهبنا مؤخرته نقفا ً . وضحكنا إذ سمعناه يقسم على رؤوس الأشهاد أنه سيشيّب شعر فاعلها بمؤخرته ويريه نجوم الظهر . وما أن أخذ ومن معه من شرطة ومخبرين بأنوفهم الطويلة يشمون أثر الجاني ، عشعش الخوف في أعضائنا ، أنا وطعمة وأحمد الكردي ّ ، حتى كادت تخوننا . لكن ّ طعمة وأحمد حلفا بشرف أمهما وأخواتهما أنهما ، في حال اكتشف الشرطيّ أمرنا ، لن يقًرا بمشاركتي للنقف على قفاه " حتى وإن طعماهما ألف فلقة " . وسرت طمأنينة مضاعفة في جسدي الطفلي ّ النحيل ، فليس بمقدور الجن َ الأزرق أن يدري بسر ّ شأن نقفِنا هذا .
لكن ّ الطامة الكبرى وقعت بي أذ جاءني صوت الشرطي ّ مناديا ً على لقب أبي بي . وإذ أدخله ، خلع الرجل بسطاريه خارجا ً ، وما إن جلس على ركبتيه واضعا ً طاقيته العسكرية على اليمنى منهما ، أدركت ُ أن نقفنا لمؤخرته كان شديدا ً . ورميت ُ نظري على بطني إذ اختلس أبي نظرة غاضبة مؤنبة علي ّ .
ولم يرض أبي تسليمي له ، فخرج مكسور الخاطر . ويمّمت ُ ، في غفلة عنهما ، شطر بيت جدتي لأمي عائشة المهاوش نائيا ً بي عن أسئلة قررت ُ ألا أرُدّ عليها وإن وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي . ومذ جيئ بي آناء هزيع المساء إلى بيتنا تكلّفت ُ بالنوم ، فتكفّل بي .
لم تقم الشمس على قامتها إذ راعني أن وقعت ْ روحي ما لاطاقة لي به .
يا الله دخيلك . ياسر عرفات في بيتنا .

...يتبع
(نص من سيرة لم تنشر بعد )
*شاعر فلسطيني مقيم في موسكو
[email protected]
http://www.facebook.com/profile.php?id=100001607112060&ref=tn_tnmn