دراسات نقدية في روايات عزالدين جلاوجي
تاريخ النشر : 2011-08-31
  دراسات نقدية في روايات

 عزالدين جلاوجي

بأقلام نخبة من النقاد والباحثين

 

دراسات تناولت رواية  الرماد الذي غسل الماء

 


الـرد بالكتابـة

قراءة في رواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي الجزائري عز الدين جلاوجي[1]

 

د.أحمد فرشوخ (المغرب)

 

تسعى هذه الورقة لإنجاز قراءة نقدية ثقافية في رواية (الرماد الذي غسل الماء) (1) للمبدع العربي الجزائري عز الدين جلاوجي، وهي لأجل ذلك تبني فرضيتها الأساس على فكرة تنسيبية ترى بأن إنتاج الأدبية مقترن بالسياق الثقافي، إذ لا وجود لأدبية  معيارية تتعالى عن الشروط المكانية والزمنية،كما أن النصوص على اختلاف أنماطها متورطة وجوبا في شبكة العلاقات السياسية الاجتماعية المعقدة. وحيث إن الرواية الجزائرية جزء من آداب الشعوب  المستعمرة، فإن لا شعورها السياسي الجريح يتوق عبر التخييل إلى  توكيد الهوية ورسم الاختلاف من خلال جمالية المقاومة التي تعتبر بديلا للخطاب القومي الأصولي المتشدد. ومن ثم فإن الرد  الروائي على المستعمر لا  يتمثل فقط في الموقف السياسي بل يتجلى أيضا  في الانزياح عن الشكل الروائي التقليدي المتعارف عليه في الكلاسيكيات العربية والغربية . وهذا ما أكده ادوارد سعيد في كتاب "الثقافة والامبريالية"، إذ يرى بأن شعوب المستعمرات القديمة ترد بالكلمة  المقاومة على المركز الإمبراطوري، لذلك اعتبر التخيل منذ القديم الملاذ الوحيد للشعوب المقهورة، كما أنه في الثقافة المعاصرة أضحى فضاء للهروب من سياسات الهيمنة والتبعية. فالمقاومة الإبداعية إذن نهج بديل في تصور التاريخ البشري. ومن المهم أن نختبر قدرة هذا البديل على تحطيم الحواجز القائمة بين الثقافات.ذلك " أن الكتابة ردا على الثقافات الحواضرية، وتخريب السر ديات الأوربية عن الشرق وإفريقيا، واستبدالها بأسلوب سردي جديد أكثر لعبا وأشد قوة، تشكل مكونا رئيسيا في هذه العملية"(2).

ضمن هذا المنحى إذن يكتب عز الدين جلاوجي عمله الروائي الرابع بعد(سرادق الحلم والفجيعة)، و(الفراشات والغيلان)، و(رأس المحنة). وبذلك يكون الكاتب قد جاوز بهذه الرباعية الروائية حدود جنس القصة القصيرة التي ارتادها في مجاميع (لمن تهتف الحناجر؟)، و(خيوط الذاكرة)، و(صهيل الحيرة).

ورواية (الرماد الذي غسل الماء )عمل فني تجريبي يسهم في الانتقال من كتابة اللقطة والحالة والصورة الخاطفة، إلى استكشاف الكلية المركبة والإشكالية المشخصة للعلاقات النثرية العميقة بين الذات والمجتمع والوجود. وفيها نلمس محاولة كسر قانون السرد الغربي والتصرف في قواعده المعيارية، وذلك من خلال تشييد عالم حكائي متميز في نمط خطابه وصيغة تلفظه وطبيعة ارتباطاته بالمتخيل الاجتماعي، وعلاقاته التناصية بالأجناس الأدبية والخطابات المعرفية والأشكال البسيطة والأعراف والقيم الثقافية.

1.سردية النص/ سردية المجتمع: أول ما يواجه القارئ في تلقيه للنص هو الوسم الأجناسي، لأنه علامة ثمينة تفتح أفق انتظار يراعي طبيعة تمثل الكاتب لحدود الجنس الأدبي الذي يرتاد فضاءه بوعي أو بدونه.

وما يلفت النظر في  (الرماد الذي غسل الماء)هو  تسميتها بالرواية على ظهر الغلاف، ووسمها بالحكاية، والحكاية العجيبة في الاستهلال المضمن في شكل رسالة عشق  إلى حبيب مفقود (ص.ص5-7)،

وكذا نعتها بالقصة في الحاشية الأخيرة، وفي خاتمة رسالة العاشقة(ص.259).

ولاشك أن هذا التعدد في التجنيس يستدعي نوعا من التحليل الثقافي، إذ هو يدعو إلى التفكير  مجددا في مفهوم "رواية" العربي، والبحث في أصوله المعرفية والخيالية انطلاقا من طبيعة الاحتكاك بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة، وفي ضوء سفر المفاهيم والأشكال والنظريات.إذ ما طبيعة التداخل بين الحكاية والقصة والرواية؟وما مرد ودية مقارنة التسمية العربية بالتسميات الأوربية؟ وما هو النسب الحقيقي لهذا الجنس الأدبي الجديد؟

 تلك أسئلة تجد ما يسوغ طرحها ضمن النص المقارب، ذلك أن الكاتب وإن أفاد من النموذج السردي الغربي إلا أنه قاومه من الداخل . ويتجلى ذلك في سعيه لتشخيص الكلية الاجتماعية عبر حبكة رئيسية تستوعب مجموع الأفعال والشخوص والأزمنة والفضاءات، بحيث تشغل موقع البؤرة في تنظيم النص وتحريك الحوافز. وهذه الحبكة هي بمثابة بنية سطحية تنهض على عنصري التشويق والتحقيق . وهما كما لايخفى، العلامتان المميزتان للبناء الروائي البوليسي. ذلك أن النص يروي قضية تحقيق أمني للبحث عن  الفاعل الحقيقي لجريمة قتل، وعن سر اختفاء الجثة التي عثر  عليها كريم السامعي في طريق الغابة ليلا...إلا أن السرد لا يحسم في مصير الجثة..ويربك القارئ من خلال طرح الفرضيات المتعددة المفسرة لارتكاب الجريمة، وكذا لاختفاء الجثة أو لهروبها على حد تعبير الحكي.  بل إن المبلغ عن الجريمة - كريم السامعي- يتشكك في حقيقة ما رآه، بحيث يتوه في دوائر القلق متسائلا عن حقيقة الجسم الممدد على طريق الغابة :أهو فعلا إنسان مقتول، أم حيوان دهسته سيارة أثناء العبور، أم كيس تافه لا معنى له (ص.14).  ولأجل توسيع مدى الالتباس يلج السرد مدار التردد والحيرة ملامسا منطقة العجيب وفق منحاه الخاص، وذلك من خلال إشاعة خبر رجوع المقتول إلى الحياة عبر هتافات الصغار(وكان الصغار يلهبون الفضاء يهتكون صمته بأصواتهم العصفورية:" مقتول يرجع الحياة..مقتول يرجع للحياة...". وتهافت الناس منجذبين نحو الأصوات كأنها المغناطيس وراحت الأيدي تمتد مستلمة الجرائد متعجلة تصفحها، ومر قريبا شيخ متمتما :-"أعوذ بالله ستقوم القيامة" ص.252).

هكذا  تغدو قضية الجثة الهاربة بمثابة وسواس يسيطر على الأفعال والمشاعر، بحيث تملأ الفضاء الاجتماعي لمدينة عين الرماد مسرح الأحداث، والجميع ينظر إليها من زاويته الخاصة، بل ويستثمرها لأغراض مرسومة. وفي ذلك تقول الساردة:(ما تكاد قضية الجثة الهاربة تطوى في أذهان الناس حتى تعود للنشر من جديد..واتخذتها الصحافة لعبة تلهي بها القراء، وتثير فضولهم واهتمامهم لكن الشرطة أبدا لم تطو القضية، وراح الضابط سعدون يثيرها كل مرة بشكل جديد..يطرح فرضية جديدة، ويتعب معاونيه في البحث عن حقيقتها  حتى أثار قلق كل من له علاقة بذلك ..قال أحد المساعدين:- يا حضرة الضابط الحقيقة ظهرت، والمحكمة أصدرت حكمها وانتهى الأمر.- لكننا لم نجد الجثة والسر كله في الجثة..لا بد أن نجد الجثة ..لا بد أن نجد الجثة.ص.232).

ومن البين أن هذا التركيب السردي المشدود إلى التشويق والتحقيق لا يعني أننا بالضرورة أمام رواية بوليسية بالمعنى النظري الدقيق للتوصيف، ذلك أن الحبكات الضمنية القابعة في جوف النص تقاوم منطق البناء البوليسي من جهة نسجها لسرود تشتبك بالمتخيل الاجتماعي والعلامات الثقافية الرمزية. فسردية النص تتغذى باطنيا من سردية المجتمع الكبرى. وحينئذ تتمفصل السرديتان إلى حد بلوغ تمثيل ذهنيات وأنماط سلوكية وعلامات ثقافية تصوغ جوانب من واقع  الأمة الجزائرية :الشيء الذي يذكر بعنوان كتاب لامع للناقد ما بعد الكولونيالي هومي بها بها :

ذلك أن رواية الرماد تختزن تلوينا سرديا محليا يتغذى من بنية التأليف القديم "Nation et narration" (المتن والحاشية)، كما تستلهم ضمن لحظات وافرة الأسلوب العربي البياني القديم ضمن محاكاة ساخرة تروم تقويض سلطته الفنية المتحالفة مع السلطة السياسية، وبهذا النمط الأسلوبي صيغت حكايات بمذاق السرد العربي الكلاسيكي على نحو ما نلفيه في  خواطر فاتح يحياوي المدونة في كراسته التي يحملها معه إلى خلوته في الجبل، والموسومة ب:(المنحة، أنا ربكم، الصنم، الاختراق).(ص.181)، هذا فضلا عن بذر الأمثال والأحلام والأغاني الشعبية (الراي) والعبارات المسكوكة، والتعبيرات الشفوية، والنصوص الشعرية، والعلامات الدينية، والألفاظ والتراكيب القرآنية، والأسماء الأدبية والثقافية والسياسية الحاملة لسلطة رمزية قوية في المخيلة الجماعية، إضافة إلى الانفتاح على المدار الخرافي الباعث على الغرابة ممثلا في (مشهد نبش المحيطين بعزيزة لقبر وإخراج الجثة وتمديدها على الأرض، ثم الحاشية التي تقول بأن أبناء المدينة الفقراء والمنبوذين قطعوا عزيزة والجنرال وأتباعهما، ثم أشعلوا النار في كل المدينة فاحترقت كما احترقت روما..ص.258)، وممثلا أيضا في بعث الأولياء، وتقديس الأمكنة. وبهذا تكون سردية النص ملتحمة بالعلامات الخيالية للمجتمع الحارسة لأصوله، الحافظة لشبكة الذاكرة التي تلف بخيوطها مجموع النظام الثقافي للأمة الجزائرية، الحامل لشعور جمعي يشخص الجرح الغائر لمجتمع باحث عن الكرامة والعدل .

2.المتن /الحاشية: وفي ترابط مع هذه الخاصية الواسمة لسرد النص  من جهة التشويش على صفائه التمثيلي وقدرته على تحويل جنس الرواية إلى مقولة قابلة للكسر، نلفي توظيفا مبتكرا لتقنية التحشية التي تخللت النص بوفرة كادت أن تغطي المتن ذاته، إذ بلغ عددها تسعين حاشية، تقوم بوظائف متنوعة تشمل التعريف بالشخصيات ووصف الفضاءات والتعليق على الأفعال. وفي ظني أن استعمال هذه التقنية يروم تقويض مركزية الكتابة في منطقها الغربي، ونقض أسسها المعرفية، في سعي لزحزحة كل هيمنة ممكنة ورد الاعتبار بالتالي للهوامش المغيبة لكي تسمع صوتها. و هذه الطريقة في الكتابة معروفة في التآليف العربية الكلاسيكية، فقد كان القدماء يكتبون حول حياة شاعر وينقدون كتبه ويدرجون ديوانه في الكتاب نفسه.وفي ذات الكتاب يشرحون ويحللون الأبيات الشعرية.لكن الكاتب تصرف في هذه التقنية ومنحها تضمينات لها أثرها في خلق الفجوات، وزرع الالتباسات، ومضاعفة التأجيلات، وتكملة المنقوص، والتشكيك في الحقيقي:الشيء الذي أسهم في خلق الانطباع بتصديع السرد من الداخل، وإرجاء الوصول إلى التفسيرات المطمئنة والمعاني التامة.

ويهمنا هنا أن نطرح تساؤلات بصدد الوضع الاعتباري لهذه الحواشي: هل هي ضرورية أم نافلة؟ هل هي أساسية أم مجرد تكملة؟ هل هي مندمجة مع النص أم غريبة عليه؟ وبالتالي هل هي داخل الرواية أم خارجها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يمكن الاستفادة من مفهوم "الزيادة" كما وظفه التفكيكيون. وعنه يقول دريدا :(الزيادة هي ما يضاف من أجل تكملة نقص، ترسمه وتتركه مفتوحا في نفس الآن.ولكونها آتية كإسراف، فهي ليست ملائمة أبدا.هذا الزائد وهذا الناقص لا يتعادلان أبدا، ولعبتهما تعطل وتصدع كل تعارض بسيط بين الايجابي والسلبي.إن الزيادة إضافة تكسر بمقدار، الحواجز التي لا تتوقف عن إقامتها"(3).

هكذا تغدو الحواشي بما هي زائدة غريبة ومأنوسة في ذات الوقت، فائضة ومنقوصة في نفس الآن.

وبالتالي فإن فعاليتها تؤخر حلول موعد الحضور، الذي قد يغدو حضورا ما ينفك يلاحق موعده ليحل فيه فلا يصيبه.. ومن هنا يمكن القول بأن رواية الرماد تجعل من  مبدإ التقويض رهانا فنيا بطريقتها الخاصة، على نحو يجعل تماسكها  مبنيا وفق تركيب مفارق باعث على تخصيص الهوية السردية. ومن البين أن تصور التماسك السردي المحيل في التحديد النظري على الكلية يحتاج إلى نقاش. إذ تصور الكلية ليس متماثلا في جميع الثقافات، لأنه يظل منبثقا من طبيعة تمثل العالم بكائناته وظواهره وأشيائه. ويمكن ضمن هذا المنحى استدعاء شكلين  من الكلية نراهما نافعين في تقريب الغرض المقصود:أولهما يتصل بالكلية المتكاملة الموحدة والمركزة، حيث التفكير هنا متصل متتابع، وعلاماته متجاورة متجاذبة حد الاستنفاد والعودة إلى نقطة البداية، وهذه الكلية تنتمي لثقافة الكمال والاستمرار، إذ الأجزاء تندمج بقوة كنقاط الماء المتضامنة في محيط.أما الشكل الثاني للتوحيد، فيتخذ صيغة كلية منثورة تجميعية ممتدة، تتكون ظاهريا من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض كما لو أننا أمام أشجار متفرقة في غابة وسيعة.

ورواية الرماد تنتمي إلى التمثل الأخير للكلية، من جهة توزعها على أسفار تتضمن متونا وحواشي كثيرة تترابط وفق نظام قائم على الائتلاف والاختلاف الذي قد يصل حد التناقض. ولا شك أن هذا التركيب الشذري ينحت فوضى سردية جميلة تستدعي قارئا يقظا يتذوق الانفصال والتباعد، ويقدر قيمة الفراغ  بحيث  يساهم بدوره في تشكيل هوية النص  والقبض على رهانه الفني والمعرفي.

3. الواقع/ الخيال:تنتهي الرواية بالحاشية رقم 90 التي تنقض البعد الواقعي لمدينة عين الرماد وللحكايات الجارية فيها مبطلة بذلك كذبة التشخيص.فكيف يمكن الجمع بين هذه الإشارة الفاضحة القوية التأثير بفعل ورودها ضمن ختام النص، وبين التشخيص الدقيق والوصف التفصيلي لمدينة عين الرماد إلى حد تقري معالمها وظواهرها وأناسها؟. ومن المؤكد أن هذه المفارقة التي تشكل الحجر القلق للنص لن يرتاح لها القارئ المتواطئ الذي ينسحر بقوة الإيهام ويلتذ بالتصديق وينخدع بالمحاكاة، لكنها في المقابل ستحفز القارئ الإشكالي على إعادة بناء العلاقة بين الخيالي والمرجعي وفق تصور مغاير ينتصر لذات الكتابة، أي لنسق العلاقات القائمة بين شرائح النص نفسه. ذلك أن ذات الكتابة هي في العمق، فعالية متصلة  ومتباعدة مع مرجعها حسب شبكات معقدة  من الاشتغال والتبنين. وحينها ينبثق مشهد فني يتضمن بداخله انتقالات وتقطعات وتحويلات تستوعب البنية والنفس والمجتمع والعالم(4).

 ومن المؤكد أن الرواية قد استوحت الواقع الجزائري من جهة تمثيل انكساراته الاجتماعية والسياسية وتصوير مظاهر الفساد فيه، كما أنها شخصت حلمه بالعدالة الاجتماعية  في مرحلة ما بعد الاستعمار.غير أن  هذه المقاصد المشكلة للسياق وإن رافقت النص فإنها تموقعت أيضا خارجه، بحيث أفضى ظهورها العرضي والمختلف إلى انتصار الشكل وتجسيد نزاهة الكتابة التي لا تطمس  الإحالة بل تجعلها غامضة ومشرقة. وبذلك تكون رواية الرماد واحدة من  النصوص العربية والإفريقية التي أكدت نديتها لغيرها من روايات الغرب.ذلك أن نقاد أوربا وأمريكا قرؤوا غالبا آداب العالم الثالث ككناية قومية وتعبير سياسي مباشر غافلين طبيعته المميزة ومنتهكين هويته، ومن ثم دراستهم له في الأقسام الجامعية المختصة في الانتروبولوجيا.

 والحال أن رواية مثل رواية الرماد تبين عن نضجها الفني المرتكز على تقنياتها السردية المراوغة، وبنياتها المتأبية على الفهم البسيط الذي يسعى لتضييق المسافة بين النصي والواقعي. وفي ذلك رد على  المفهوم  الكولونيالي للعالمية الذي اعتبر الأداة النقدية الأوربية لتصنيف الثقافات والآداب من منظور يعيدنا إلى تلك العلاقة المشبوهة بين المعرفة والسلطة، بل ويذكرنا بالآثار المتبقية عن إمبراطورية الاستراق التي عمل ادوارد سعيد على تفكيكها، كاشفا عن اختلاقها لشرق يغذي خيالها وقوتها  وتمركزها العرقي وعنصريتها الدفينة. ومن ثم فان النقد الروائي ملزم بتطوير نظرته من الداخل لأجل إنتاج قراءة منصفة للرواية الجزائرية بعامة، قراءة ما لم يقرأ فيها بعد، واستكشاف عناصر تميزها واستراتيجياتها في توكيد الاختلاف الفني والثقافي. ومن المؤكد أن المتن الروائي الجزائري الجديد ممثلا في عز الدين جلاوجي ومجايليه  قد أثبت أن الأدب الجزائري ما زال قادرا على الإضافة، بل وما زال قادرا على الإسهام في الثقافة العالمية إلى جانب الجماعات الثقافية المتنوعة.

هوامش:

 1- عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، مطبعة دار هومة، 2005.

2- ادوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب،  بيروت، 1997،  ص274.

وللتوسع في دلالة مفهوم "الرد بالكتابة "، يمكن الرجوع أيضا إلى :بيل أشكروفت،  غاريت غريفيث،  هيلين تيفن، الرد بالكتابة، النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة، د.شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة،بيروت، 2006.

3-سارة كوفمان، روجي لا بورت، مدخل الى فلسفة جاك دريدا، تفكيك الميتافزيقا واستحضار الأثر، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي،إفريقيا الشرق،الدار البيضاء، 1991،ص58.

4-  من أجل إيضاح أوسع لمفهوم "ذات الكتابة"،يراجع جاك دريدا، مواقع، حوارات، ترجمة وتقديم فريد الزاهي،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،1988،ص81.

 

 

 

 

التوازي ولعبة المرآة

في "الرماد الذي غسل الماء"  للأديب عزالدين جلاوجي

 

حسين فيلالي (جامعة بشار)

 

تعتبر الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية حديثة النشأة، إذ يتفق المؤرخون لهذا الجنس الأدبي على أن الرواية الجزائرية لم تبدأ تتشكل معالمها الفنية إلا مع بداية السبعينيات[2]  وقد تميزت  هذه الفترة بظهور أعمال عديدة تمحورت أغلب موضوعاتها حول التحولات الاجتماعية والسياسية للدولة الجزائرية الفتية.

وقد يلاحظ الدارس أن الكثير من هذه الأعمال الروائية قد غلبت المضمون على الشكل فسقطت في الخطابية والدعائية، ففقدت صوتها، وتحولت في أغلبها إلى خطب سياسية لا تختلف لغتها عن لغة السياسي بل صارت ترجيعا لصوته.

- ولعل مرد ذلك حسب رأينا يرجع إلى:

- غياب النموذج المثال.

-  عدم ترك مسافة بين الرؤيا الإبداعية وبين الأحداث الواقعية.

- الفهم الخاطئ لجنس الرواية كفن له خصائص: لغة تختلف عن لغة التخاطب اليومي، وتخييل قصصي[3]. 

-   ولقد أفرزت مرحلة السبعينيات والثمانينيات أسماء عديدة سرعان ما بدأ البعض منها ينسحب، ويختفي من الساحة الأدبية لتبقى أسماء معدودة ومعروفة تواصل الكتابة، كالطاهر وطار، و ابن هدوقة، وعبد المالك مرتاض، وعلاوة بوجادي، إسماعيل غموقات، شريف شناتلية، علاوة وهبي، وجيلالي خلاص، والسايح لحبيب، ومرزاق بقطاش، محمد مفلاح، وعرعار محمد، وواسيني لعرج، محمد ساري.

ولعل الدارس يجد صعوبة كبيرة، إذ هو حاول رسم منحنى تطور العديد من التجارب  الروائية الفنية في الجزائر، ذلك أن هذه الأخيرة ظلت تتأرجح بين الصعود حينا، والنزول أحيانا كثيرة حتى عند المؤسسين، وهو ما يدعو الباحث إلى التساؤل، ويدفعه إلى الوقوف عند هذه الظاهرة التي لم تقتصر على جيل دون غيره.

فالباحث في الرواية الجزائرية قد يراهن على  تجربة من التجارب، وينتظر نضوجها، بل إضافاتها لكن سرعان ما يخسر الرهان، إذا تبقى التجربة الأولى- في الغالب- هي أنضج تجارب الكاتب  هي البداية والنهاية، وعندها يتوقف منحنى التطور.

- و لعل اللغة الفنية تبقى  الغائب الأول في العديد من التجارب الروائية سواء عند الرواد أو الجيل الجديد وهو ما حرم الرواية الجزائرية من تجاوز المحلية.

-   لقد ألفينا اهتمام كتاب الروائية عندنا  ينصب  على المضمون الذي يكون في الغالب إيديولوجيا حتى بعد مرحلة التأسيس.

- وليس توظيف الإيديولوجي مما يؤخذ على الأديب، أو يرد عليه، فنحن لا نتصور عملا فنيا بدون إيديولوجية إلا على مستوى أذهان المنظرين الجاهلين لماهية الفن المتحدثين من خارج التجربة الإبداعية.

- إن ما ندعو إليه هو إبداع يصهر الإيديولوجي في بوتقة الفني بحيث لا يشعر المتلقي أنه أمام خطاب سياسي مغلف برداء أدبي رث لا يستر عورة المعاني.

- لقد كان على الأدب الجزائري أن ينتظر مرحلة التسعينيات، ليسجل حضوره القوي، على مستوى الكتابة الروائية مع الشاعرة أحلام مستغانمي في روايتها ذاكرة الجسد، التي لقيت نجاحا خارج الجزائر، لفت إليها أنظار الدارسين الجزائريين وزاد الاهتمام بها- نقدا، وانتقادا-  بعد فوزها بجائزة الأديب نجيب محفوظ.

-  وما كان لأحلام أن تتبوأ هذه المكانة لولا اشتغالها في المقام الأول على لغة سردية فنية، وتخييل قصصي، ولعلي لا أجانب الصواب إذا قلت: إن قوة ذاكرة الجسد تكمن في لغتها الفنية. وقد يكون هذا ما جعل البعض يستكثر على الأدب الجزائري هذا العمل الرائد، ويشكك في مقدرة الروائية الجزائرية، بل سارع البعض إلى نسبه إلى شعراء بحجة أن لغة القص التخييلي في ذاكرة الجسد تجنح إلى الشعرية. وأفتح قوسا هنا لأشير إلى الفهم الخاطئ لمفهوم مصطلح الشعرية عند بعض الدارسين العرب حيث اعتقدوا أن الكلمة آتية من الشعر، فراحوا يبحثون عن لغة الشعر في الرواية، والقصة بحجة تداخل الأجناس الأدبية الذي عدوه محمده، فضلوا، وأضلوا،و قد نسوا أن الأجناس الأدبية نشأة متداخلة، ولعل الإشكالية لا تزال قائمة في تاريخ الأدب، فهناك من يعتبر الشعر قد  انبثق من رحم النثر.

-  وسواء انبثق النثر من الشعر أو العكس فإن استقلال الأجناس نعتبره فتحا  في تاريخ الأدب، فمبدأ الاستقلالية نراه أكثر ايجابية من مبدأ الضم، والاحتواء،أو التداخل الذي يميع الأصل، ويغيب خصوصية الجنس.

و لم تكن تجربة أحلام الروائية الوحيدة في الجزائر التي اهتمت باللغة الفنية بل هناك تجربة روائيين لم يلتفت إليهما النقد، ولم ينالا حقهما من الدراسة كما نالت أحلام، ونقصد بذلك الروائي عزا لدين جلاوجي الذي نقف عنده في هذه الدراسة، والروائي لحبيب السايح الذي سنفرد له دراسة خاصة به مستقبلا.

إن هذه التجارب الثلاث تشكل ظاهرة فنية في الرواية الجزائرية  جديرة بالدراسة.

- إن المتتبع لتجربة الروائي عزالدين جلاوجي بدء من سرادق الحلم والفجيعة ومرورا بالفراشات والغيلان، ورأس المحنة، وانتهاء بالرماد الذي غسل الماء يقف على ذلك الاهتمام باللغة الفنية كمكون رئيس من مكونات السرد الروائي.

- يقول ابن رشيق في كتاب العمدة: وكان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب على التغني بمكارم أخلاقها وطيب أعرافها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعرا.

البرامج السردية

إن الملفت للنظر في تجربة الكاتب عزا لدين جلاوجي، هو ذلك التوازي الذي تشتغل عليه جل أعماله، حيث نقف على برنامجين متوازيين، يشتغل عليهما السرد الروائي، ففي الفراشات والغلان يسير برنامج الغيلان بالتوازي مع برنامج الفراشات حتى وإن خدعنا في البداية  بالواو العاطفة بين الفراشات والغيلان، واعتقدنا أنها واو رابطة، فإننا سرعان ما ندرك خطأ هذا الاعتقاد ونحن نلج المتن الروائي، إذ نكتشف أن هذه الواو حققت على مستوى الدلالة نوعا من المفارقة، ولهذا اقترحنا تسميتها بالواو الفارقة[4].

وهذا التوازي نجده في الروايات الأخرى: سرادق الحلم، والفجيعة،ورأس المحنة،و الرماد الذي غسل الماء التي سنقف عند بعض جمالياتها في هذه الدراسة.

سيميائية العنوان:

أول ما يواجه القاري في هذه الرواية عنوانها: الرماد الذي غسل الماء،فيبدأ يقلب هذه الجملة /العنوان، ويفكك إشاراته اللغوية حتى يستطيع إعادة تركيبه والولوج إلى دلالاته.

فالعنوان يتكون  من الوحدات التالية :

الرماد 

الذي

غسل

الماء

يتكون العنوان من أربعة إشارات لغوية دالة، وفاعلة بحيث لا نجد ما يمكن أن نسميه بالفضلة بالمصطلح النحوي، والتي يمكن أن نستغني عنها دلاليا مما يصعب مهمة القاري, ويدفعه إلى إعادة ترتيب عناصر العنوان.

إعادة ترتيب العنوان:

الرماد غسل الماء:    -1

تبقى هذه الجملة ناقصة، إذ لا يمكن للقاري الاستغناء عن اسم الموصول (الذي) كما لا يمكنه أن يتصرف في أسلوب الكاتب بالحذف، ولعل اسم الموصول سمي موصولا لأنه يصل ما قبله بما بعده على مستوى البنية النحوية. واسم الموصول لابد له من صلة وعائد، فصلة الموصول (يغسل الماء) هنا عائدة على الرماد وقد ساعدت دلاليا على  إزالة إبهام جملة الرماد الذي.

-  الذي غسل الماء الرماد:2

هذه الجملة تبقى مساوية للعنوان الأصلي في الدلالة: الرماد الذي غسل الماء حتى وإن تغيرت بنيتها النحوية، فالفعل يبقى واحد، والفاعل هو هو.

فالنتيجة هي أننا أمام اسم متصدر للجملة(الرماد)، وما تبقى من إشارات لغوية تابعة له في المعنى أي أن الجملة واصفة للرماد، والوصف يتبع الموصوف على مستوى البنية النحوية، ويزيد من تعريفه على مستوى الدلالة.

فالعنوان إذن يضعنا أمام مفارقة من خلال التركيز على فعل الرماد، وليس على الرماد. وهو بهذا يضيق مجال القراءة، ويحد من حرية الدارس إذ أن الاسم/الرماد لم يبق في حدود الإطلاق، وإنما قيد الوصف فعل الموصوف وخصه بفعل المحو. وكأني هنا  بالروائي يوحي للقاري باستبعاد رمز الرماد المعروف في الثقافة العربية المرتبط بفعل إيجابي "كثير الرماد"، والذي  هو كناية عن الجود.

هكذا يضعنا الروائي أمام مفارقة دلالية من خلال العنوان الرماد الذي غسل الماء، ويسلبنا ما نعرفه من دلالة عن رمز الرماد، ويرغمنا على اللجوء إلى إعادة صياغة سؤال العنوان.

فكيف يتحول الرماد الذي هو رمز من رموز الفناء، والضعف، إلى عنصر فاعل فعلا ايجابيا؟

وكيف يغسل الرماد الماء، وهو فاقد للحياة، بل هو اثر من آثار الفناء؟

من هنا تبدأ الرواية في استفزاز القارئ، وتجعله يعيد النظر في قراءة العنوان.

وإذا حاولنا توزيع مفردات العنوان حسب انتمائها إلى حقل دلالي ما فإننا لا نجد سوى طريقة وحيدة هي:

الحقل الدلالي الأول: نجد فيه عنصرين:

الماء

يغسل

فالماء رمز الحياة، ومن وظيفته فعل الغسل.

الحقل الدلالي الثاني نجد فيه عنصر وحيد هو:

الرماد وهو رمز الفناء والسكونية.

و يبقى من العنوان: اسم الموصول الذي يسميه النحويون اسم الموصول الخاص ولا اعتبار له دلاليا بمفرده لأنه يحتاج إلى صلة وعائد كما لا اعتبار لدلالة الجملة/العنوان بدونه فهو يخصص الرماد  ويسمه بخاصية المحو(الرماد الذي غسل الماء).

إن بنية عنوان الرواية (الرماد الذي غسل الماء) تخرق الترتيب المنطقي للأشياء، وتقلب المعني المتعارف عليه لفعل الماء، فتجعل الرماد رمز الفناء والسكونية يسلب الماء أحد أهم خصائصه، وهي  الحركة والحياة.

وهكذا ينتصر فعل الموت في العنوان على الحياة، حتى وإن كانت الرواية لا تذكر الموت  بالاسم الصريح، وإنما تتشكل صورته لدى القارئ كفعل يمتد في الزمان، والمكان، والإنسان من خلال سير السرد الروائي.

ونحن ندخل متن الرواية ينتقل الرماد/الموت إلى عين الرماد

 والعين هنا رمز الحياة الذي يتحول عبر الرواية إلى رمز للموت (فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد...).

وينتشر الموت وينتقل إلى المكان  فنقرأ في الرواية(ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز  تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب...).

 وبعد أن زحف الموت على عنصر الحياة وهو العين/ الماء، وعم المدينة رمز الحياة والحضارة   تكون قد تشكلت صورته النهائية من خلال تدرج  فعله في عناصر الحياة :

-  عين الرماد

-   مدينة عين الرماد     

 ويسري فعل الموت/الرماد في  عتبات النص ويتغلغل في المتن من خلال انتصار رمز الرماد/الموت على رمز الماء/الحياة

عتبات النص/خارجيات النص:

يسمى بعض النقاد النصوص الخارجة عن المتن بعتبات النص، وقد تتوفر العتبات على إشارات تصلح لأن تكون مفاتيح للولوج إلى باحة  النص.

إن القاري لرواية الرماد الذي غسل الماء  يجد نفسه أمام إهداءين يتصدران الرواية أحدهما عام، والآخر خاص يمكن اعتبارهما امتدادا لفعل ثنائية العنوان الرماد/الماء.

الإهداء العام:

(يا بشراه...يذبحنا التتار البيض كل مساء، فتجري منا الأرض دموعا ودماء...إلى الأشجار التي وقفت بكبرياء في جنين والفلوجة متحدية زوابع أعداء الإنسانية...)

يتضمن الفعل يذبحنا دلالة صريحة لفعل القتل الجماعي، وتأتي إشارة (كل مساء لتوسع من دائرة القتل وتجعله يتجدد. ثم ينتقل الإهداء من التعميم  إلى التخصيص ومن التصريح إلى  التلميح (الأشجار الواقفة في جنين والفلوجة...).

هكذا تبقى ثنائية العنوان الرماد/الماء امتدادا لفضاء الفلوجة، ولجنين وتبدو الرسالة الموجهة للقاري واضحة الشفرات، ففعل الرماد/الموت يزحف، يمتد من الفلوجة إلى جنين، وهكذا تتشكل خريطة الرماد/ الموت  من بحر العرب حتى سيناء كما يصرح بذلك النص.

الإهداء الخاص:

إلى فلذة الكبد، ودفقه الفؤاد علاء الدين الذي أشرق ليملأ البيت حبورا ثم رحل ذات صباح دون استئذان، موعدنا الجنة.

لا يحتاج  القاري إلى  ذكاء أو براعة تأويل ليصل إلى دلالة هذا النص/ الإهداء  وربطه بفعل العنوان الرماد/الموت.فالنص هنا يركز على الرسالة بل مضمون الرسالة، ويبعثها عارية المعاني، بل هي من المعاني المطروحة في الطريق كما يقول الجاحظ. 

العتبة/المفصل:

جاءت هذه العتبة مخالفة للعتبتين السابقتين، ومشابهة لهما، فهي من جهة لم تسم كسابقتيها المناصات الخارجية (الإهداء العام- الإهداء الخاص)، وإنما جاءت مبتورة التسمية، تدخل القارئ مباشرة في أجواء النص (حبيبي وأنا أتدحرج في مهاوي الأيام، أنكث ضفائر العمر الحزين... تتحداني براثن الليالي الحالكات.. لم أعد أشعر بدفء الحب يحضن قلبي الصغير.. ما عدت أتنشق شذاه يدغدغ الفرح في جوانحي... بحثت عنك كثيرا... قلبت حتى ابتسامات الأطفال وتجاعيد الكبار.. وحلم الأبكار ينتظرن عاشقا على شرفات العمر.. طاردتك خلف زقزقات العصافير الرمادية، وبين ثنايا الصبا يهب حزينا

 منكسا على مدينتنا البائسة.. ساءلت عنك البراءة في وجوه الصغار والدموع المضطربة على شرفات العيون... والأحلام المقبورة في نفوس المقهورين

وكنت دائما أراك خيط دخان ينفلت من بين أصابعي البضة المرتجفة... وتظل تبتعد إلى أعلى يشيعك الحلم في عيني وفي قلبي الصغير عسى أن ألقاك يوما ما.. في مكان ما. وها البأس يا سيدي يتغشاني غمامة رمادية... فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد والناس لا حديث يتجاذبونه أطرافه إلا عنها..).

هذا النص جاء بين خارجيات النص وبين المتن، وهو يختلف عن المنصات الأخرى كما ذكرت من حيث:

المرسل/الراوية، والوظيفة.

العلاقة بين النص المفصل، وبين المتن.

فالراوي في المناصات الأخرى يتحدث بصيغة الجمع بينما تتحدث الراوية هنا بصيغة المفرد، وتخصص المتلقي بصفة حبيبي، سيدي.

نشعر من البداية أن فعل العنوان يسري في النص المفصل من خلال الجمل التالية:

أنا أتدحرج في مهاوي الأيام...

أراك خيط دخان...

اليأس يا سيدي  يتغشاني غمامة من رماد...

يمد أكفانه إلى حلمي وقلبي...

إن هذه الجمل تشترك في عنصر السلبية، إذ يحاول الناص من خلالها إشراك المتلقي، وإشهاده على انهيار الشخصية/ الراوية.

 ولعل جملة اليأس يتغشاني غمامة من رماد.. تمثل امتداد فعل العنوان في النص، إذ ستمطر هذه الغمامة موتا يفيض، ويغمر خريطة النص الروائي.

ونحن ندخل متن الرواية ينتقل الرماد رمز الموت إلى جزء حيوي من المدينة (عين الرماد).

 والعين هنا رمز الحياة الذي يتحول عبر الرواية إلى رمز للموت (فمنذ أن هزت جريمة القتل الشنعاء فرائص عين الرماد...).

 وينتشر الموت، وينتقل إلى حيز أكبر، فنقرأ في الرواية (ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز  تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب...).

ولعل النهر الأجدب الأجرب ينتمي إلى حقل الرماد، ويشترك معه في ففعل الموت.

 وبعد أن زحف الموت على عنصر الحياة وهو العين/ الماء، وعم المدينة رمز الحياة، والحضارة، تكون قد تشكلت صورته النهائية  الرمزية من خلال تدرج  فعله في عناصر الحياة :

  الرماد الذي غسل الماء.

 ولعل الماء المقصود هنا، هو ماء الحياة الذي يتجاوز البعد البيولوجي للكائن الحي، فيشمل البشر، وما له علاقة بهم من عمران وغيره.

 ودليلنا هو أن ترتيب الرماد في بنية الجملة في الرواية من متصدر متبوع في العنوان (الرماد الذي غسل الماء) إلى تابع في متن الرواية:

-  عين الرماد

-  مدينة عين الرماد

- لم يغير في دلالته المركزية حتى وإن تغير ترتيبه في بنية الجملة فأصبح تابعا (مضاف إليه) لا متبوعا، ولكن هذا التابع في البنية النحوية يظل متبوعا على مستوى الدلالة، ولا يعرف ما قبله إلا به.

فالرماد في جملة عين الرماد يظل متصدرا للدلالة فهو المعرف لما قبله (عين) وهو الذي يخرجه من التنكير، إلى المعرفة، فلفظة عين تظل مبهمة ما لم يتدخل الرماد ليزيل الإبهام: عين الرماد. وفي الجملة الثانية يتراجع ترتيب الرماد مرتبتين:

-  مدينة عين الرماد.

ومع ذلك تبقى الجملة مبهمة نكرة (مدينة عين) ما لم يتدخل الرماد (مدينة عين الرماد).

- إن تحول الرماد/الموت من متصدر لبنية العنوان معرفا نحويا بنفسه (الرماد)، إلى معرفا لغيره عبر المتن الروائي أي مضافا إلى عين الرماد، أو مدينة عين الرماد يجعله يشكل النواة المركزية التي تتفرع عنها كل الدلالات الأخرى في الرواية.

  ولعلنا نستأنس هنا بمقولة كانط (يسهل عليك أن تكشف شيئا ما بعد أن يكون قد أشير عليك في أي اتجاه ينبغي أن تنظر لكي تراه.).

 ولعل رواية الرماد الذي غسل الماء تشير علينا أن ننظر إليها وفق بنية التوازي التي تشتغل عليها ثنائية الحياة/ الموت والتقديم، والتأخير في بنية الجملة لا يأتي عبثا وإنما غالبا ما يأتي لعلة بلاغية ودلالية.

إن الرواية ستظل تشتغل على ثنائية الحياة/ الموت، ويظل الموت يزحف على كل أثر من آثار الحياة في الرواية.

الحاشية/المرآة:

تأتي الحاشية في التراث العربي لتوضيح معنى، أو تزيل غموضا، أو تضيف رأيا، أو تعليقا على رأي، وهي على العموم من خارجيات النص.

لكن الروائي يجعل الحواشي هنا جزءا من المتن، متعلق وجودها بوجود النص الأصلي نفسه، ويعطيها وظيفة هامة،هي وظيفة التعريف.

 فالروائي يوقف سير السرد، ويكسر خطيته ليضع أمام القارئ حاشية/ مرآة تعكس إما صورة الشخصية، وإما صورة المكان وإما صورة الزمان.

صورة الشخصية.

حاشية2:

(لا أحد يدري بالضبط من أين جاءت لعلوعة..فقد ملكت على الجميع نفوسهم، وقلوبهم، وشغلتهم  بجمالها، فصارت حديث مجالسه، وسمرهم،ولكنها هي تذكر جيدا أنها درجت صغيرة في ضاحية، منعزلة في ضواحي مدينة عين الرماد، وتذكر جيدا ذلك الصباح الذي كانت برفقة أمها في السوق  تجمعان فضلات الخضر، والفواكه لتعودا بها مساء إلى بيتهما القز ديري المعزول... ولم تمض إلا أشهر حتى صارت لعلوعة حديث الناس، والقصور، والجرائد، والقنوات... وتحدث عنها مسؤول كبير قائلا: لقد رفعت راية الوطن في دول العالم وقيل ممثل الثقافة حينها.)

  إن الحاشية هنا  تغدو  بمثابة وثيقة تعريف إضافية للشخصية، فهي الكاشفة لما هو مخفي من صورتها .

الماقبل /المابعد:

نسجل في هذه الحاشية خبرين متوازيين متعلقين بالشخصية، يمكن أن نطلق عليهما خبر الماقبل، وخبر المابعد.

خبر الماقبل تمثله جملة (لا أحد يدري بالضبط من أين جاءت لعلوعة).

هذا الخبر يؤدي وظيفة هامة يمكن أن نطلق عليها وظيفة التنكير،و التحفيز، تنكير جزء من حياة الشخصية، وتحفيز القارئ على البحث عما هو مجهول من حياتها.

وخبر المابعد تمثله جملة (فقد ملكت على الجميع نفوسهم وقلوبهم، وشغلتهم بجمالها، فصارت حديث مجالسهم، وسمرهم).

هذا الخبر يؤدي وظيفة التعريف بالشخصية التي صارت حديث الناس.

 وهكذا يظل خبر (لا احد يدري,...) يعمل في توازي مع خبر (شغلتهم بجمالها.. لم تمض إلا أشهر حتى صارت لعلوعة حديث الناس، والقصور، والجرائد، والقنوات...)

 وإذا كان ما بعد المجيء معروفا لدى الجميع (فقد ملكت على الجميع نفوسهم وقلوبهم، وشغلتهم بجمالها، فصارت حديث مجالسه، وسمرهم).فإن ما قبل المجيء يظل سرا تحتفظ به الشخصية حتى تتدخل الحاشية/المرآة فتكشف ما لا تود الشخصية البوح به عبر السرد الروائي، وتعكس السر، وتفضحه (هي تذكر جيدا أنها درجت صغيرة في ضاحية، منعزلة في ضواحي مدينة عين الرماد، وتذكر جيدا ذلك الصباح الذي كانت برفقة أمها في السوق  تجمعان فضلات الخضر، والفواكه لتعودا بها مساء إلى بيتهما القز ديري المعزول.)

إن لعلوعة التي صارت نجمة تتحدث عنها وسائل الإعلام، ويحج إليها الولاة والوزراء والجنرالات والأثرياء كما يقول النص الروائي نراها هنا تبوح بماضيها الذي لا يعرفه غيرها، فكأنها تقف أمام مرآة تحدث نفسها أو هي  في حالة لا وعي، غير قادرة على التحكم في ما ينبعث من العقل الباطن. ولعل المرآة هنا تصبح كاشفة للداخل وليس للخارج فهي بمثابة التنويم المغنطيسي الذي يحرر اللاوعي.

صورة المكان والزمان.

حاشية :3

 (ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز، تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب تملأه الفضلات التي يرمي بها الناس والتي تتقاذفها الرياح..تتدحرج فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق يسد عليها الريح  من الجنوب أشجار غابة صغيرة..تعاود الانحدار مرة ثانية على جبل صغير تشقه طريق معبد، تنزوي قريبا منها عين الرماد الأصلية...و تمتد المدينة من الجهة الأخرى مرتفعة قليلا ثم مستوية ثم هابطة إلى أسباخ نخرة..و تمتلئ مدينة عين الرماد بالحفر، وببرك المياه  القذرة... إلى جانب من جنوبها تمتد مساحة كبيرة مستوية  تلتصق بالمدينة ثم تغوص في الغابة...وحدها هذه الجهة تقوم بها بنايات أنيقة منظمة أقامها الفرنسيون يوم أسسوا المدينة التي سموها La belle ville المدينة الجميلة.)

إن الروائي يضع في هذه الحاشية/ المرآة صورتين متوازيتين، أو مرآتين متوازيتين، تعكس الأولى وجه حاضر المدينة، والأخرى ماضي المدينة.

المرآة الأولى

تمثل هذا المرآة  الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل:

- تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب.

- تملأه الفضلات.

-  تتدحرج  فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق.

-  تنزوي  قريبا منها عين الرماد الأصلية.

-  تمتلئ مدينة عين الرماد بالحفر وببرك المياه القذرة.

هكذا يقدم الراوي أوصافا متعددة لوجه حاضر المدينة، ويترك الراوي هذه الوصاف تشع بمعاني  يمكن من خلالها أن يشكل المتلقي  الصورة  النهائية لوجه للمدينة.و كأننا بالكاتب عجز عن إيجاد وصف يرتضيه لمدينة عين الرماد، أو أحجم عن فعل ذلك، فراح يفصل في أوصافها، ويشرك القارئ في التسمية النهائية للمدينة، والتي لن تكون سوى المدينة القبيحة. ولعل وصف المدينة بالمومس العجوز إيحاء بما وصلت إليه من القبح بحيث لم تعد تستطيع أن  تجذب حتى الشواذ.

المرآة الثانية

 العيش خارج الزمن الخاص.

 إذا كان الروي في المرآة الأولى قد قدم تفصيلات لأوصاف مدينة عين الرماد، اضمر فيها رسالة موجهة إلى القارئ  يمكن أن تقرأ على أن المدينة تتجه نحو الموت، فإن الحنين إلى الزمن الماضي يظل قابعا في أعماق الراوي حتى وإن كان هذا الزمن هو الزمن الكولونيالي (... إلى جانب من جنوبها تمتد مساحة كبيرة مستوية  تلتصق بالمدينة ثم تغوص في الغابة...وحدها هذه الجهة تقوم بها بنايات أنيقة منظمة أقامها الفرنسيون يوم أسسوا المدينة التي سموها la belle ville المدينة الجميلة.).

وهكذا يتم التوازي بين المكان المتضمن للزمن الحاضر (المدينة القبيحة) والمكان المتضمن للزمن الماضي والتي تعبر عنه  جملة المدينة الجميلة (la belle ville).

إن الراوي بهذا الشعور يظل رهين الزمن الماضي، فهو في الواقع يعيش في الحاضر بإحساس الماضي.

هذا الإحساس يتولد عنه الشعور بالاكتئاب، ويجعل الراوي مشدودا إلى زمن هو في الواقع خارج  زمنه المعيش، ولعل هذا ما جعل البعض يعرف الاكتئاب على أنه  العيش بإحساس الماضي في الزمن الحاضر.

المكان الرمز:

عبر السرد الروائي يتم تشكيل المكان الذي تجري فيه الأحداث، وذلك بالانتقال من الجزء إلى الكل: 

-  الرماد 

-  ثم عين الرماد

-  ثم مدينة عين الرماد.

فالرماد كما سبق وأن ذكرنا يزحف على عنصر الحياة/الماء، ويغمر العين، ويمتد فعل الرماد إلى المدينة رمز الحضارة، ويسري في شرايينها.

 وإذ يحقق الرماد فعل الانتشار يتم عندها فعل التسمية، تسمية المكان (مدينة عين الرماد).

هكذا ندخل الرواية، وقد اعتقادنا أننا قبضنا على صورة المكان الرئيسي الذي تدور فيه الأحداث (مدينة عين الرماد)، ورسمنا أبعاده، وصفاته.

 إن وهم القبض على المكان الجغرافي  يظل يرافقنا إلى نهاية الرواية حيث تصدمنا الحاشية الأخيرة رقم 90 فتبدد ما تصورناه عن المكان: (عمد علماء الثار إلى البحث عن مدينة عين الرماد فلم يجدوا لها أثرا فاجزموا أنها لا تعدو أن تكون قصة نسجت خيوطها. مخيلة أحد الأدباء..).

من هنا يبدأ سؤال البحث عن المكان يتجدد، فعلماء الآثار لم يجدوا مكانا ماديا ملموسا، فاجزموا أنه لا وجود لما يسمى بمدينة عين الرماد لأنهم حكموا على وجود المكان من خلال قرائن مادية، ومعايير خاصة بهم.

وتظهر الراوية التي اختفت عبر مسار السرد الروائي لتنهي الرواية كما بدأتها، وتجيب على سؤال المكان، ونكتشف أنها هي القائمة بالحكي، العالمة بأسرار الحكاية على غرار شهرزاد  سيدي (هاذي عين الرماد... وهي ليست شبرا من الجغرافيا ولا حفنة من دواب البشر كما تتوهم بل هي امتداد من الأرض رهيب وهدير من الغثاء تجمد على سطح الأرض...حتى صرت أينما تولوا فثم عين الرماد..).

إن الراوية تعلن في النهاية أن مدينة عين الرماد ليست ذات أبعاد جغرافية بل هي امتداد من الأرض بحيث تتحول مدينة عين الرماد إلى رمز لكل مدينة تتصف بصفات مدينة عين الرماد.

 

المصادر والمراجع  

1.          عزالدين جلاوجي،ط1، 2005، رواية الرماد الذي غسل الماء، دار هومة، الجزائر. 2.          ينظر على سبيل المثال عبد الله الركيبي تطور النثر الجزائري الحديث- المؤسسة الوطنية للكتاب-1963 ص:199 3.          شلوميت ريمون - التخيييل القصصي- الشعرية المعاصرة- ت- لحسن حمامة –دار الثقافة الدار البيضاء –ط.1/1995    

 

 

بلاغة التقابل

في رواية الرماد الذي غسل الماء

 

د. بوشعيب الساوري (المغرب)

 

الحياة لا نعيشها كواقع مادي وإنما نعيشها كتمثلات وأوهام وتخيلات كما أكد بورديو على أن الوظائف الاجتماعية ليست إلا تخييلات وأوهام اجتماعية(1). تلك التمثلات التي تساعدنا على التغلب على فظاعة الواقع وإكراهاته، وتدفعنا إلى مواصلة الحياة. ينطبق هذا الكلام على النص الأدبي الذي يشخص الراهن أملا في مستقبل أحسن، لأن الأدب على الرغم من تناوله للواقع الراهن أو عودته إلى الماضي فهو منشد نحو المستقبل.

1- التقابل الزمني

 يسعفنا هذا التقديم في مقاربة رواية الرماد الذي غسل الماء لعزالدين جلاوجي(2) التي تشخص لنا الراهن عبر التخييل، فتقدم لنا الواقع بفظاعته لكن كما تمثلته مخيلة الكاتب. والتي تصدم المتلقي انطلاقا من عتبة العنوان الذي يعد وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه(3) فهو "علامة تهدف إلى تبئير انتباه المتلقي، على اعتبار أنه تسمية مصاحبة للعمل الأدبي، مؤشرة عليه." (4) يقوم تركيب العنوان على قلب دلالي صادم إذ يسحب من الماء مهمته الطبيعية ويوكلها إلى الرماد الذي لا يغسل وإنما يوسخ في العادة.

كما أن العنوان يحيل على فعل محكوم بالزمن وهو الغسل والذي يقضي تسلسل حدثين أو فعلين وهما وجود الماء وسبقه الزمني في إحالة على الماضي، ثم جاء بعده الرماد(جاء فيما بعد) فغسله، يعني محاه، فالغسل هنا معناه المحو، أو بصيغة أخرى سلب الرماد من الماء مهمته، فلا يمكن أن يتعايش الماء والرماد فعندما حضر الرماد غاب الماء.

فالماء رمز للحياة والطهارة والنقاء بينما الرماد رمز للموت والبقايا والعفن، فالماء ارتباطا بالحالة الزمنية مرتبط بالماضي(ماضي المكان والشخصية) والرماد مرتبط بحاضرها.

ويبدو ذلك من خلال الزمن المؤطر وهو الراهن العربي وما يتعرض له العرب من غزو وانحدار وتردي. وقد أشر على ذلك من خلال الاستهلال الشعري الذي افتتح به الرواية:

يذبحنا التتار البيض كل مساءْ

فتجري منا الأرض دموعا ودماء

من بحرنا حتى سيْناء(ص..)

 وكذلك من خلال المؤشر الزمني المؤطر لأحداث الرواية وهو الخريف. فالحاضر الذي يحيل عليه الرماد بكل حمولاته وقيمه السلبية قد أزاح الماء الذي يحيل على الماضي بكل حمولاته الدلالية الإيجابية. بهيمنة ذوي النفوذ والجهلاء وتلاعبهم بمصائر الشرفاء والبسطاء وحاملي القيم النبيلة. فتضعنا الرواية منذ البداية في تصادم ومواجهة بين زمنين؛ الماضي الذي يمثله الماء رمز النقاء والصفاء والحاضر الذي يمثله الرماد رمز التلوث.

وبذاك تكون الرواية قراءة جمالية للواقع والراهن المأزوم المتعفن بخيباته وانكساراته في علاقتهما بالماضي، فأثر ذلك على البناء السردي للرواية ففعل الغسل الذي طال الماضي ألزم الرواية سرديا أن تتراوح بين سرد أساسي منكب على الحاضر، حاضر الشخصيات والمكان تأطيرا وتشخيصا، تتخلله استرجاعات واستيهامات تحيل على الماضي، لكن مع هيمنة للحاضر، والاسترجاعات التي تتم لتبرز المفارقة بين الحاضر والماضي، وتبرز بالفعل كيف غسل رماد الحاضر ماء الماضي. تتقوى الفكرة السابقة بكون الحاضر الرمادي لا زال يغسل الماضي يوما عن يوم. وكل محاولة لبعث الماء يتم إقبارها أمام سلطة الحاضر الرمادي وسلطة من يمثلوه. مقابل خفوت صوت الماء، وإسكات من يمثله مثل إسكات المثقف فاتح اليحياوي عبر تكالب رموز الحاضر الرديء.

وسنلمس هذا التصادم والمواجهة من خلال أحداث الرواية التي تكرس سيادة العديد من القيم السلبية ونفوذ من يمثلها من شخصيات(عزيزة، المختار الدابة، الجنرال، الحاج حشحوش..) مقابل خفوت القيم الإيجابية وتهميش من يمثلها (فاتح اليحياوي، كريم، الضابط سعدون، بدرة...). وكذلك على مستوى المكان عبر المقابلة بين حاضره وماضيه وتحوله إلى الأسوأ. وكذلك عبر مستوى السرد حيث نلاحظ هيمنة أحداث الحاضر على السرد مقابل قلة السرد المرتبط بالماضي.

2- التقابل المكاني      

على الرغم من الإحالة التمويهية التي أشار فيها الكاتب في نهاية الرواية على أن مدينة عين الرماد مدينة خيالية."عمد علماء الآثار إلى البحث عن مدينة عين الرماد فلم يجدوا لها أثرا فأجزموا أنها لا تعدو أن تكون قصة نسجت خيوطها مخيلة أحد الأدباء ثم نشرها إلى الناس لتكون عبرة لهم ولأبنائهم من بعدهم."(ص.259.)  فإن تناول الرواية للمكان يؤكد طبيعته الإحالية المرجعية، فهو يتقاطع مع العديد من الأمكنة الواقعية. فيتعلق الأمر بنوع من الإغرابية التي يقوم بها جلاوجي في تشكيل عالمه الروائي كما فعل في رواية سرادق الحلم والفجيعة التي أغرقت في الرمزية والأسطرة، من أجل أن يمنح نصه سحريته وجاذبية القراءة. فالرواية تجريد للواقع، كما جاء في نهايتها لأن ما وقع فيها من أحداث قد يقع في أي مدينة جزائرية، بل في كل مكان توفرت فيه الشروط نفسها.

 هناك تركيز من الرواية على وضع المكان، بين الماضي والحاضر وهو الذي يحفزها على المقارنة وإبراز مدى ثبات المكان أو تحوله؛ مع التأكيد على أن كل شيء جميل في الماضي على مستوى المكان تم تخريبه في  الحاضر.

تظهر الرواية أن  الأماكن ظلت على حالها أي لم تتحول بعد الاستقلال أو أنها تحولت إلى الأسوأ. التحول الذي يقود السارد إلى العودة إلى ماضي المكان زمن الاستعمار، ثم إبراز تحولاته خلال زمن الاستقلال، وخلال الراهن من أجل إبراز التحول الذي طاله، كما هو الشأن بالنسبة لملهى الحمراء: "كان زمن الاستعمار بيتا لحاكم المدينة.. وصار بعد الاستقلال مركزا لبحوث الزراعة.. وتنازلت عنه الدولة لجنرال متقاعد ليحوله إلى ملهى يؤمه كبراء القوم وساداتهم، ولا يدري الناس لماذا سماه هذا الجنرال ملهى الحمراء؟" (ص.12.). ويقول مؤشرا على التحول الذي طال المسرح البلدي بين الماضي والحاضر: "المسرح البلدي تحفة المدينة، بناه الفرنسيون قبل الثورة، وزرعوا فيه الحياة حين ينقلون إليه حركتهم ليلا، ويضخون شرايينه فنا وإبداعا، ومذ غادر الفرنسيون المدينة تسللت إليه يد اليأس والقنوط، وتغشاه حزن عميق رهيب لف الجدران البيضاء والأبواب البنية والتماثيل التي ثبتت من الخارج رمزا لآلهة الفن والجمال. " (ص.61.)

       وينطبق الأمر كذلك على حديقة الأمير عبد القادر. يقول:" وحديقة الأمير التي تتوسط المدينة كانت تحفتها وعروسها، تتربع على مساحة مستطيلة تملؤها أشجار الزان والفلين والزينة من كل نوع.. وتزينها أشكال وأنواع من الأزهار.. وتضحك في جنباتها برك فوارة تقذف بابتساماتها في أوجه الزوار.. وتتنوع فيها الممرات الإسفلتية والحجرية التي تناثرت عليها كراس حديدية مزخرفة هنا وهناك.. ووقفت في كل زاوية منها أعمدة وتماثيل رومانية تذكر الجميع بالحضارات والشعوب التي مرت على المدينة.. وعصفت بها يد الزمن، فلم يمض إلا عقدان أو أكثر بقليل حتى تناهبها جشع البطون الكبيرة، لتتقلص أمتارا أمام زحف الإسمنت المسلح الذي كومه حشحوش وعزيزة من كل جانب."(ص.65.)

       ينطبق الأمر نفسه على مقبرة النصارى التي طالها الإهمال:" تقع مقبرة النصارى كما يطلق عليها السكان أعلى مدينة عين الرماد قريبا من الغابة، أحاطها الفرنسيون أيام تواجدهم بعناية فائقة حيث كان يمثل سورها تحفة رائعة، وتمثل هندسة قبورها ومازرع فيها من أشجار وأزهار لوحة لإبداع الإنسان والطبيعة، ومثلت القبور الرخامية تحفا مختلفة الأشكال والألوان.

       وماكادت فرنسا تنسحب بعساكرها حتى بدأ الهجوم على المقابر، فسلب شباك المقبرة، وهدم سورها، ونبشت قبورها، وتحولت صحراء قاحلة تحتضن السكارى والشواذ."  (ص.108.)

       هكذا تبرز الرواية كيف أفسد رماد الحاضر ماء الماضي المتمثل في العديد من الأماكن الأثرية برجاله ونسائه الذين تواطؤا على إفساد كل جميل فيه. والإفراط في إهماله أو تخريبه وتشويهه.

كما أن الأماكن في الرواية تصير لها دلالة تراتبية تكرس الطبقية كالتقابل بين "خربة الأحلام" التي لا يدخلها إلا المهمشين أما ملهى الحمراء فخاص بذوي النفوذ. تعكس التقابل الموجود بين شخصيات الرواية.

3- تقابل الشخصيات

تظل الشخصية الروائية مكونا هاما في الرواية، وفي جــل الأنــواع السردية. لكن حضورها يختلف بين نص سردي وآخر، بحسب طبيعة النص، وكذا حسب طريقة الروائي في تقديم الشخصية التي لا تنفصل في الغالب الأعم عن البنية العميقة المتحكمة في الرواية.

يمكن أن نصنف شخصيات الرواية عدة تصنيفات، بين الثبات والتحول، بين الغنى والفقر، بين المعرفة والجهل، بين الخير والشر. وبنية التقابل في رواية الرماد الذي غسل الماء بين الماضي(الماء) الحاضر(الرماد) فرضت تقابلا بين فئتين من الشخصيات؛ شخصيات من زمن الرماد وشخصيات ما تزال  متمسكة بالماضي وبقيمه التي غسلها رماد الحاضر وما يزال. كما يمكن أن نصنف شخصيات الرواية إلى صنفين: شخصيات سكونية ثابتة لا تتغير طوال السرد (عزيزة، فواز المختار الدابة...)، وشخصيات دينامية طالها التغيير وتغيرت من حال إلى أخرى(سمير المرنيني، كريم، سالم بوطويل.)

ورغم تعدد المستويات الاجتماعية للشخصيات الروائية يمكن أن نحصرها في فئتين متصارعتين: فئة الفقراء والبسطاء وفئة الأغنياء وذوي النفوذ والمتلاعبين بالسلطة. وتؤكد الرواية انسجاما مع بنيتها العميقة أن الفئة الأولى ضحية للفئة الثانية سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.

فعلى المستوى المباشر نجد شخصية عزيزة الجنرال المتسلطة، واستغلالها لنفوذها، ابتداء من تواطؤها مع الطبيب فيصل و استغلال علاقتها الغرامية معه. لإبعاد التهمة عن ابنها فواز:" في حين ركب الطبيب مع عزيزة التي أخبرته في الطريق أن ابنها تخاصم مع صاحب ملهى الحمراء، وإذا مارُفعت دعوى ضده سيكون ذلك تشويها لسمعة العائلة.. وطلبت منه في الأخير أن يراعي ذلك فيشهد أن فواز قد دخل المصحة في حدود الرابعة مساء لتكون دليلا له على عدم ارتكابه الجرم." (ص.16.) تفعل ما تشاء: "وهي تعرف الجميع، تمد خيوطها السحرية فإذا الحق باطل والباطل حق، وقد سماها الناس الجنرال لقوتها ولعلاقتها بالجنرال صاحب ملهى الحمراء.. والجميع يعرف أيضا أنها وراء وصول مختار الدابة ونصير الجان إلى كرسي البلدية لتسهل على نفسها تحقيق ما تريد، وهي أيضا كانت وراء سجن فاتح اليحياوي الذي حرض الناس ضدها وضد مختار الدابة بعد استيلائها على قطعة أرض وسط المدينة، وعلى جزء من حديقة الأمير، وعلى مدرسة ابتدائية صرح كذبا وزورا أنها مهددة بالسقوط. "(ص.75.) تتحكم في كل أفراد أسرتها؛ في علاقتها بزوجها سالم بوطويل الذي أقبرت كل أحلامه وجعلته مجرد تابع لها لارأي له داخل بيتها وأبنائها كابنها فواز الذي لا يأتمر إلا بأمرها وتوريط كذلك ابنتا فريدة معه حتى يكون قنطرة سهلة لقضاء مآربها مثل تعاونه معها في قضية ابنها فواز بمنحه شهادة طبية مزورة تثبت أنه دخل عشية الجريمة المستشفى. والتحكم في زوجة ابنها بدرة. بل تتجاوز سلطتها بيتها لتعم سكان عين الرماد. انطلاقا من الطريقة التي لفقت بها تهمة القتل لكريم بعدما شغلته بالعودة إلى الفن ودست كيسا يتضمن بصماته وهراوة عليها دم عزوز في مزرعة والد كريم أثناء انشغاله بالسهرات وعودته المتأخرة إلى البيت. فثبتت عليه الجريمة وحوكم بعشرين سنة سجنا. ولما كشف الضابط خيطا يوصله إلى الجاني استغلت عزيزة نفوذها معارفها وتم إرسال الضابط سعدون إلى الصحراء. وخرج ابنها ومعه الطبيب الذي كتب له شهادة تثبت أنه كان بالمستشفى ذلك المساء. وكذلك إسكاتها لصوت فاتح اليحياوي وإلزامه بالصمت بعد إدخاله السجن بعدما حاول الوقوف حجرة عثرة أمامها. ثم كذلك تلاعبها بأسرة كريم المتهم البريء في جريمة قتل عزوز المرنيني أولا تزويج ابنها فواز من أخته بدرة حتى تتمكن من الوصول إلى مجاله وتنفيذ مخططها الدنيء، وتحكمها في بدرة بعد زواجها من ابنها الذي وصل حتى إلى مسالة اختيار اسم ابنتها الذي أرادته أن يكون على اسم أمها عرجونة وكذلك إبعادها عنها. ومنعتها من رؤيتها بعد الطلاق.

من مميزات شخصية عزيزة القدرة على التحايل، وتجلى ذلك في عدة مواقف: إيهام الشرطة بأن ابنها كان مريضا بالمستشفى، إيهام الناس بترميم مقبرة النصارى لإخفاء جثة عزوز، التفكير في تزويج ابنها من أخت كريم. تفعل ما تريد لتصبح أفعالها علامات استفهام بالنسبة للشخصيات القريبة منها مثل زوجها سالم بوطويل وابنها فواز وابنتها فريدة.

وقد نجح جلاوجي في تصوير شخصية عزيزة الجنرال تصويرا دقيقا عبر الغوص في أعماق نفسيتها بتقديم تحليل نفسي لشخصيتها عبر استرجاعاتها لمشاهد تعنيف والدها لأمها وهي طفلة صغيرة.

  شخصية المختار الدابة: يقول عنها:" ومختار الدابة هو شيخ البلدية ورئيسها، بدأ حياته خضارا متواضعا، ثم سائقا لشاحنة خضر، ثم بائعا للمواد الغذائية بالجملة، ثم نشيطا في الحزب وممولا رئيسيا لفريق نجوم المدينة، ومقربا من الإعلام ورجال الدولة، ثم مرشحا للانتخابات البلدية"(ص.40.) مختار الدابة نموذج للشخصية الوصولية التي استطاعت أن تتسلق الدرجات على الرغم من جهلها. تستغل نفوذها لإرضاء نزواتها، واستغلاله لفقر عائلة المرنيني انطلاقا من الأم سليمة التي عانت من ظروف العمل القاسية حتى الموت، وكذلك سعيه إلى التقرب من ابنتها العطرة عن طريق إمداد أسرتها بسكن اقتصادي من حقها إذ استغل توزيع المساكن للاستحواذ على العطرة.

لقد جعل جلاوجي من الشخصيات الخيرة (الماء) حالات اجتماعية ونفسية محاصرة بالكثير من التحولات التي تفرضها عليها الشخصيات الشريرة(الرماد). تخضع الشخصيات الخيرة(الماء) لبنية مهيمنة وهي المفارقة بين ماضيها وحاضرها الذي تجسد فيما عبر عنه جلاوجي استعاريا بالرماد الذي غسل الماء. ويمكن أن نمثل لذلك بثلاث شخصيات وهي:

      - سالم بوطويل، زوج عزيزة الجنرال، حاضره المأزوم وأحساسه بأنه مجرد تابع لزوجته عزيزة، لا رأي له أمامها يدفعه إلى الاستنجاد بالماضي، فماضيه ماء وحاضره رماد. يقول مبرزا لا مبالاة زوجته عزيزة به:"واندفعت إلى مكتب الطبيب الذي خرج صدفة فحيا عزيزة التحية الحارة، ودخل معها إلى المكتب يقودها من يمناها دون أن يعير سالما أي اهتمام  وتأثر سالم فاستدار إلى الجدار، وضربه بقبضته وهو يردد اللعنة على هذا الزمن."(ص.24.) لأن حاضره يقتل ماضيه:" ودخلت عزيزة تبحث عنه فاغتالت أحلامه".(ص.25.) يحاول في الغالب الاحتماء بماضيه يقول:" تأمل الأب سالم بوطويل الوجوه الجامدة، وهو يسند خده على راحة يده، ويبحث عن الدفء الذي كان يشيع في القلوب حرارة  أيام كان في أسرة أبويه، لم تكن عندهم دارة ولا سيارة ولا تلفزيون، ولم يكونوا يأكلون على الطاولات والكراسي، ولا ينامون على الأسرة، ولكن كان للحياة طعم ومذاق، وكان الحب الذي يحملونه في مخازن قلوبهم هو رصيدهم الأكبر.. ورث أبوه عن جده الأراضي الشاسعة وقطعان الغنم والبقر، وبقدر ماكان جده يحب التوسع في المال كان خيرا، يفتح بيته وقلبه للجميع.. الفقراء والمساكين وأبناء القبيلة.. وكان يلقب بأبي الفقراء."(ص.44-45.)

        يحتمي بذاكرته أمام فراغ الحاضر وخيبته بسبب العفن الذي تصنعه زوجته عزيزة كل يوم دون أن تعير اهتماما لرأيه. أكثر من ذلك طلبت منه أن يعترف أمام الشرطة بجريمة قتل عزوز المرنيني بدل من ابنه فواز فيطرح العديد من الأسئلة حول الاختيار:" لماذا لم يتزوج ذهبية بنت الطاهر وكانت رفيقة صباه؟ ورفيقة أيام الدراسة؟ لماذا لم يجرؤ ويصيح في الجميع إني أحبها ولا أريد غيرها؟

وانسابت ذاكرته تعود به إلى المحطات الأولى التي بدأ قلباهما يخفقان بالحب، وبدأ كل منهما يختصر العالم في الآخر.. لم يجرؤ كي يقول لها أحبك، ولم تجرؤ هي أيضا.. ولكن كل نبضة في جسديهما كانت تدل على ذلك.. في العيون.. والشفاه.. والخدود.. وفي اليدين.. والقدمين.. وحتى في اللباس.. في نسمات الهواء التي كانا ينشقان.. وتزوجت ذهبية شابا جاءها من بعيد.. التقتها أمه في الحمام، وأعجبت بها، وتم الزواج.. هل هو قدر الله؟ أم هي خيباتنا ننسبها زورا وبهتانا لله؟(ص.18.)

- خليفة والد كريم يعيش على ذكريات زوجته الأولى على الرغم من زواجه بعدها. الأولى أنجبت له والثانية لم تنجب وكانت بديلا سيئا للأولى: "دخلت زوجة أبيه فطومة العقيم التي تزوجها أبوه خليفة بعد إلحاح ولديه عليه لتقوم على شؤونه، وتؤنسه في وحدته، فلا هي فعلت هذا، ولا فعلت ذاك، ولا تركته يهنأ ويطمئن، ولم تكن إلا بديلا سيئا عن زوجته.."(ص.28.) فالرماد الذي غسل الماء ينطبق كذلك على عائلة كريم التي كانت تعيش الهدوء والسعادة، بعد حادث الجثة ستفقد هدوءها وسيزداد حالها ترديا بعد اقتراب عزيزة منها بتدبير زواج ابنها فواز من بدرة. مآل الشخصيات وتحولها عائلة كريم.

- فاتح اليحياوي يمثل صوت المثقف الذي اعتزل الناس بعد أن تم إسكاته بفعل تكالب ذوي النفوذ، خصوصا عزيزة الجنرال، مع السلطة ضده. نموذج للمثقف العضوي الحالم بالتغيير لكنه يجد الواقع أقوى منه. يتأمل في الناس من خلال كرة القدم وما تفعله بهم. وجد نفسه وحيدا بعيدا عن ما يقوم به الناس داخل المدينة. شخصية إشكالية تسائل. يمثل اغتراب المثقف. حاول التغيير لكنه أحبط بسبب قوة نفوذ عزيزة الجنرال. يقول:" كان فاتح اليحياوي أكثر الشباب حماسة، وأكثرهم ثورة على كل مظاهر الانحراف الاجتماعي والسياسي، وكان يدرك جيدا أن سكان عين الرماد هم ضحية مؤامرة بين من يملكون الدينار ومن يملكون القانون.. وماكادت عزيزة الجنرال تستولي على أراضي الفلاحين البسطاء، وتأخذها منهم عنوة، وماكادت تشتري شركة البناء التي تشغل مئات العمال، وماكادت تضع يدها على أملاك دولة فتشتريها بأسعار رمزية حتى ثار في المدينة يقود الناقمين.. وحدث مالم يكن يتوقعه.. لقد تدخلت القوات العمومية وفرقت المتظاهرين، ليحاكم فاتح، ويَشهد بعض المتضررين على صحة ماوجه إليه من تهم.. حين زاره كريم في السجن، وقد تجلبب بالحزن العميق قال له :"التاريخ يعيد نفسه، كأني من ذرية علي، وكأن سكان عين الرماد من ذرية أهل العراق.. عليها اللعنة أمة تجمعها الزرنة والبندير، وتفرقها العصا.  "(ص.43.) فاتح يحياوي نموذج لإحباط المثقف ويأسه من التغيير.

 جمع جلاوجي بين أسلوبين في رسم شخصياته: الأول تصويري يرسم الروائي فيه الشخصية من خلال حركتها وفعلها وصراعها مع ذاتها أو مع غيرها، راصداً نموها من خلال الوقائع والأحداث، حيث أولى اهتماما أكبر بالعالم الخارجي كما قام جلاوجي بتحليلها تحليلا سوسيولوجيا. والثاني استبطاني يلجُ فيه الروائي العالم الداخلي للشخصية الروائية بإظهار مونولوجاتها واستيهاماتها وهواجسها. فصور الحالة النفسية التي تعاني منها ويبرز انفعالاتها.

ساهم الحدث في هيمنة الانفعالات على الأفعال مثل الحيرة التي قربت الرواية من البحث البوليسي(التحقيق). بالتركيز على ردود أفعال الشخصيات بدقة كبيرة انطلاقا من إبراز ملامح الوجه، وانفعالاتها، وحركاتها، وأوضاعها، في ارتباط بالحدث المركزي وهي تقنية لا شك مسرحية. انطلاقا من فعل الحيرة الذي طال كل الشخصيات فتغدو الانفعالات مهمة والتركيز عليها ضروري فبراز مخلفات الحدث على الشخصيات. ومن ثمة فحضور الوصف ليس تزيينيا بقدر ما هو مكون بنائي بربط حالة الشخصية مع حالة الهواء وحالة الشخصية مع حالة العصفور المماثلة بين الشخصية والمكان والسياق الذي توجد به.

انطلاقا من هذا البناء التقابلي للشخصيات تلقي الرواية الضوء على المجتمع لتجس نبضه وتفاعله في حياته في صراعه وتوتره. وإبراز تناقضاته ومفارقاته. انسجاما مع البنية العميقة للرواية تحاول الرواية التأكيد عليها وهي "غسل الرماد للماء" أو التكالب على إطفاء كل شعلة للأمل والحياة نظرا لقدرة ذوي النفوذ على فعل أي شيء بما في ذلك التحكم في الناس وتحويلهم والتلاعب بهم.

4- التقابل السردي

 انسجاما مع البنية الناظمة للرواية وهي المفارقة بين الماضي والحاضر وسطوة الثاني على الأول، تميز السرد بدوره بالخضوع لهذه البنية، فهيمن فيه تشخيص الراهن وأحداثه المثيرة ومفارقاته من خلال حدث أساسي وهو اختفاء جثة عزوز المرنيني الحدث الذي سيولد عدة محكيات تكون بمثابة روافد له سواء في المتن أو في الهامش، تبرز المسكوت عنه لدى بعض الشخصيات.(شخصية المختار الدابة، الجنرال، الحاج حشحوش...)

 يتطور السرد عبر تقنية البحث البوليسي ومفاجآته وتطوراته المثيرة انطلاقا من حدث مثير الحدث الذي كان نقطة بداية الحبكة، وهو اختفاء الجثة. ليضعنا جلاوجي أمام حبكة روائية منسوجة بإتقان ترغم القارئ على المتابعة وفهم ما جرى  ومعرفة القاتل الحقيقي منذ شروعه في القراءة وتحقق الرواية مقروئيتها وتضمنها عبر حبكتها، وبحدثها الذي حير الجميع (الشرطة، عائلة كريم السامعي، عائلة عزوز المرنيني، عائلة سالم بوطويل والد فواز، الإعلام، حيرة العصابة المتورطة في المخدرات... ) لذلك نسميها برواية الحدث لأنه هو المتحكم في كل الأفعال اللاحقة للشخصيات.

 لكن الرواية على الرغم من ذلك لا تبقى حبيسة الحدث والبحث البوليسي والتحري، بل تجعله مطية لإبراز مفارقات المجتمع وتناقضاته؛ وهو ما تبناه السرد الرئيسي. الحدث الذي سمح بتسليط الضوء على مجموعة من القضايا التي يعرفها المجتمع، تسليط الضوء على حياة المهمشين. يقول مثلا:" الناس يعيشون في بيوت تشبه المغارات " الفصل 13 وعلى حياة الفاشلين والمنحرفين. كما تخلله رصد العديد من المفارقات. مثل الوضع المزري بالمستشفى. يقول:" صدقت لا شيء في مشافينا حتى النظافة." (ص.13.)  والوضع المزري للطبقة المسحوقة. يقول:" الناس يعيشون في بيوت تشبه المغارات." (ص.54.) وإبراز بعض المظاهر الاجتماعية السلبية التي تنخر المجتمع مثل الرشوة والمحسوبية وسلطة ذوي النفوذ.

تتخلل السرد الرئيسي المطبوع باليقين نتوءات سردية تعود إلى الماضي عبر الاستيهامات التي تبرز حنين الشخصية إلى الماضي الذي غسله رماد الحاضر. خصوصا بالنسبة لسالم بوطويل الذي يعيش على ماضيه واستيهاماته وأحلامه التي قتلها حاضره مع زوجته المتسلطة عزيزة الجنرال.

 وكذلك مذكرات فاتح اليحياوي التي تقدم قراءة تخييلية للراهن عبر الحكاية والأسلوب الاستعاري المفرط في السخرية. وطابعها المفارق التي تعتبر خلاصة لتجربته في الحياة وصورة متخيلة لواقع السيطرة واستغلال النفوذ والخضوع وشراء الذمم.

أدى انشغال السارد العليم بتشخيص الواقع بتناقضاته ومفارقاته والإحاطة به إلى ترواحه بين وضعين:

- وضع اليقين: وهو ما يسرده انطلاقا من الشخصية ومن دواخلها وما يختلجها. وفي هذه الحالة يكون السارد قريبا من الشخصيات.(المتن) إذ يعمل السارد العليم على استغوار نفسيات الشخصيات ووساوسها وهواجسها وأحلامها واستيهاماتها وتطلعاتها، مع الحرص على تصوير انفعالاتها مع الأحداث والمواقف التي تستجد على مستوى تطور أحداث الرواية. إذ يقوم السارد أحيانا بتحليل نفسي للشخصيات، كما هي الحال مع شخصية عزيزة التي يرجع سلوكات شخصيتها وقسوتها وصلابتها إلى عنف أبيها على أمها وهي طفلة. وذلك عبر تقنية التذكر عبر الصور التي تتراءى لها بين الفينة والأخرى. عنف الأب  الذي حولها إلى إنسانة شريرة. وبذلك يعمل السارد على استغوار خبايا الشخصية وإظهار وساوسها وهواجسها وأحلامها واستهاماتها وتطلعاتها.

كما يقوم بتحليل اجتماعي لأوضاع بعض الشخصيات، عندما يعمل على التفسير الاجتماعي للفقر والتسكع. مع حضور قوي لكل طبقات المجتمع (فقراء، أغنياء، لصوص، بائعي المخدرات...) ومن أجيال مختلفة. لتقدم لنا الرواية مجتمعا متفاعلا.

- وضع غياب اليقين: وذلك عندما يكون السارد بعيدا عن الشخصية و يركز فقط على ما سمعه وما يشاع عنها من أخبار وأقاويل مجهولة المصدر أو هناك  اختلاف حول صحتها، وهو ما يدرجه في الحواشي التي تطلع ب:

- إضاءة المكان؛ مثل إضاءة المسرح البلدي وما تعرض له من إهمال بعد الاستقلال.

-إضاءة الشخصية ووصفها ووضعها الاجتماعي وألقابها وتفسير سبب نزولها، فتصير بمثابة بطائق تعريف لها، تقدم صورة عن الشخصية قبل دخولها مسرح الأحداث. لتقدم سيرا موجزة عن الشخصيات ولماذا هي على حالها، وكيف آلت إليه. يقول مثلا عن المختار الدابة:" ومختار الدابة هو شيخ البلدية ورئيسها، بدأ حياته خضارا متواضعا، ثم سائقا لشاحنة خضر، ثم بائعا للمواد الغذائية بالجملة، ثم نشيطا في الحزب وممولا رئيسيا لفريق نجوم المدينة، ومقربا من الإعلام ورجال الدولة، ثم مرشحا للانتخابات البلدية"(ص.40.)

- إضاءة ألقاب بعض الشخصيات. يقول مثلا عن قدور الخبزة :" ولقبه الناس بالخبزة لأنه كلما سئل عن أجرته قال: أعطوني ثمن خبزة، قدور لا يطلب إلا خبزة ويعطيه المستأجر ماقدر أنه حقه، وقد يكون أكثر أو أقل." الحاشية رقم 19 وتفسير  بعض المواقف أو السلوكات.

كما  تتضمن الحواشي بعض الإشاعات التي تعمل على تنسيب المحكي الرئيسي. فالكلام الذي يرد في الحواشي غالبا ما يكون مطبوعا بالتنسيب، ينتمي إلى الإشاعة والأخبار غير اليقينية. يقول عن خيرا راجل:" وأكثر الناس من نسج الحكايا حولها وحول جنسها بالذات، فقال بعضهم لا علامة لها، وقال آخرون إنها تحمل عضوين أحدهما مؤنث والآخر مذكر، وقال لفيف ثالث هي مذكر من الأسفل مؤنث من الأعلى، وقال أحد أئمة المسجد إن ظهورها من علامات اقتراب الساعة.. وستخرج الدابة قريبا لتطبع الناس بالكفر أو الإيمان." (ص.20.)

ومع ذلك يبقى السرد الأول في حاجة إلى السرد الثاني لأنه مكمل له ومضيء له، إذ تعمل الحواشي على إضاءة الشخصيات والأمكنة والأحداث والسلوكات والانفعالات. وذلك في إطار اشتغال الروائي على النص بصريا فجعله بدوره قائما على التقابل فجاء مقسما إلى متن وهامش.

       5- تركيب

الهدف من التقابل بين الماضي والحاضر هو نقد الزمن الراهن وتشخيصه وإبراز مفارقاته. التقابل الذي تحكم في العناصر الروائية الأخرى؛ فجعل المكان بدوره محكوما بالتقابل بين ماضيه وحاضره وكيف أفسد حاضره ماضيه، والشيء نفسه ينطبق على الشخصيات فجعلها منقسمة إلى فئتين فئة الخير وفئة الشر الأولى ضحية للثانية انسجاما مع روح الرواية وهي أن الرماد(الشر، العفن، التلوث...) غسل الماء(الحياة، الصفاء،). وتأثر السرد بدوره بذلك التقابل العميق فهيمن عليه تشخيص الواقع وإبراز تناقضاته في حين كان حضور النتوءات السردية قليلا حتى وإن حضرت فهي في خدمة المحكي الأساس.

 

 

الإحالات:

 

1- بيار بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار تويقال، البيضاء، 1986، ص.49.

2- عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء،

3- شعيب حليفي، هوية العلامات، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2005، ص.11.

4- نفسه، ص. نفسها.

 

 

 

سؤال العنوان- عتبة اللامنظور

قراءة في رواية :الرّماد الذي غسل الماء

 

أ: اليامين بن تومي (جامعة سطيف)

 

 لُزوم اللُّزوم :

    إذا كانت القبيلة قد قالت نفسها من خلال الشعر، فإن المدينة قلبت هذا النسق أو المنظور إلى الرواية، لأن وعاء الشعر لم يقدر على حمل التعدد الذي صار إليه المجتمع العربي، فالشعر ينطقه لسان واحد بينما الرواية تتفرق بها الملفوظات فتدخل في حالة من الحوار والتأسلب، حيث يجد كل منطلق أيديولوجيته الخاصة . وكل ملفوظ يشكل وعيه الخالص بالعالم الذي ينتمي إليه اتساقا وانسجاما .

وهذا أس التفاعل الذي حصل داخل رواية " الرماد الذي غسل الماء " حيث أنها انفتحت على الأصوات الاجتماعية المتعددة .

    تعتبر تجربة الكتابة الروائية عند عزالدين جلاوجي لافتة ومهمة حيث أنها تعتمد على قلق مثلث يشكل الدافع الأساس في ثراء الموضوع وهو؛ قلق الأفكار، قلق السؤال، قلق الأشياء وفي هذه الرواية بالذات نجد الروائي قد أحالنا على هذه الفوبيا الاجتماعية المطبوعة بجزائرية خالصة. لذلك لم أجد نفسي غريبا في عوالمها، إذ أن أحداثها وأشخاصها بنية ثابتة في المتخيل الاجتماعي .

   ولعل الدافع هنا بالأساس شخصيات الرواية، التي نقلها الروائي من فضائها الاجتماعي إلى فضاء المتخيل بشكل نسج فيه ذاكرتنا الجماعية، فهل الأدب إلا هذه النقلة التي تحدثها الأسلبة إن على مستوى التهجين أو على مستوى تعدد الأصوات الناطق  داخل متن الحكاية. فالرواية كما يتصورها باختين من أنها :" بمثابة بيئة خارج – أدبية "1 ولعل الصارخ في هذه الرواية الخاضعة لتحليلنا أنها جاءت على شاكلة المتعدد لسانيا وصوتيا حيث تعددت داخلها الطبقات المعرفية فشكلت لا تجانسا أسلوبيا عبر عن التناقض الاجتماعي أو الاختلاف السوسيوثقافي في منظومة الحوار اللغوي . فوحدها اللغة بمقدورها أن تنقل أشكال الوجود المختلف باعتبارها البيت الذي تسكنه الكينونة فردية كانت أم جماعية .

إن الرواية فتحت المجال واسعا للشخصيات أن تتحدث عن نفسها دون أية سلطة أو رقابة وهذه الميزة خاصية أصبحت تتعلق بالكتابة الروائية الجزائرية عموما، خاصة مع النقلة التي عرفها المجتمع مع الرسملة التي أصبحت تمارس هيمنتها في صناعة الخطاب عموما والخطاب الأدبي على وجه الخصوص فولج الخطاب الروائي في حالة توصيف لهذا الواقع.

    وبدا لي السارد مندفعا في نقد الرسملة التي تخطت وحطمت مع قدومها كل القيم الاجتماعية والأخلاقية للأسرة الجزائرية . إن الرسملة في التصور المبدئي لنقادها ومنهم جوريس: يعتبرها أنها تحمل الحرب كما يحمل السحاب المطر .هذا يشفع للسارد تفاعله وفاعليته في تشريح الإيديولوجيا الجديدة ومدى ضخها للخطاب الروائي الجديد .و بالتالي جاءت شخصياته محملة برؤية عميقة لعالمها ودالة عليه من خلال المتلفظ أو المشار إليه.

   تتأسس الكتابة عند عزالدين جلاوجي على المختلف، الذي يبني نظامه الخاص داخل النص المكتوب، فهي تفاوت بين النص والحاشية: وفيه تغلب النصوص الثواني النص الأصلي، فيبرز الهامش وينسحب المتن، إن الكتابة عند الروائي عزالدين جلاوجي توهم القارئ بحالة  تعطل المعني، ذلك أن الحاشية على نقيض المتن، أي أن الحاشية على خلاف النص.

   فالحاشية هي التي تستقر خارج النص، أو على الأقل تكون عادة في حالة مفاعلة نصية أو هي على الأقل نص شارح هذا على مستوى النص النقدي أو الفلسفي أما النص الروائي فهذا أمر  إضافي إلى تقنيات السرد في الرواية الجزائرية.

الحاشية هنا ليست ممارسة معجمية لغوية بل هي تعبير ذهني عن حالة الخواء التي يعيشها المتكلم اجتماعيا، هي ممارسة واحدة على هامش الألاعيب اللغوية الكثيرة للنص الأصل . هي في العرف الاجتماعي تلفظ مكرور يشرح نصا مغيبا يعيش حالة من الموات الأخلاقي والإقصاء التلفظي . إنه تعبير عن قلق الأصول أو تجاوزها  لأننا نعيش عالما مليئا بالتناقض والتصادم.

التمس عزالدين جلاوجي هذا النوع من الممارسة في مادة الكتابة كلعبة يختزل فيها التحول الملفوظي الجديد، ليمرر موقفه من القضايا الاجتماعية المختلفة.

مساءلة نظرية :

لو انطلقنا من الفرضية التي تزعم أن العنوان بنية سابقة، لمتضمن في فعل الحكي، لجاز لنا القول أن الحكاية مبنية في الكينونة – العنوان- الصفر. مع العلم أن العنوان هو لاحق معرفي وسابق بنيوي، فاللاحق منه يحدد سبق القول الذي يتحدد حكاية، قبل أن يوجد عنوانا لأن الحكاية قد مضت في حالة تسمية حتى تشكل الوسم المتقدم الذي أطلقناه في شكل عنونة والسابق البنيوي هو عبارة بصرية :"عازمة على القول"2 متضمنة لأفعالها ومحفزة للدلالة أن تقول مقولا؛ يعني أن العنوان سيؤول إلى القول أو هو متضمن معنى القول؛ لعل هذا المنطلق الذي ينزع فيه القول منزع التلميح تارة والتصريح تارة أخرى. هو الذي حددته دلالات العنوان في اللسان العربي والذي مدار الإبانة فيه على جانبين3 :

     -1الظهور يقال " عنا النبت يعنو إذا ظهر"

    -2الأثر قال ابن بري, والعنوان الأثر, قال سوّار بن المضرّب

وحاجة دون أخرى قد سنحت بها       جعلتها للتي أخفيت عنوانا

ومع أن دلالة "عنا" في المعجم العربي قصد بها أكثر من دلالة إلا أن أقربها إلى ما نريد تصوره هي دلاله الظهور والأثر، لكون العنوان يشتغل على الإبانة البصرية التي تحيل نفسها على الإغراء الدلالي.

   والظهور والبروز يعني الإبانة عن الجسد، وهي حركة بصرية تحيل على الرؤية لأن البارز يبين عن نفسه فهو يتجسد نصا، يكشف عن مفاتنه وهل النص غير الوضوح والبروز؟ ولعله القاسم الذي يجعل العنوان نصا, فالعنوان يدفع نصيّتة تجري إلى القول من خلال المتبقي من القول داخله، لأن آثار الحكي تبدو سيميائيا في شكل طاقة كامنة داخله، فإذا كان اللفظ هو الواضح عنوانا، فإن القول هو الخفي معنى . وهذه لعبة الحضور والغياب لذلك قال هيدجر :"الوضوح هو أكثر الأشياء غموضا".

و الظهور في خاصية العنونة لا يكون إلا سمة أو علامة على معنى يحيل أو يفضى إليه,فهولا يدل بنفسه  وإنما بالحكاية التي سيرويها هذا العنوان. بالحكاية يتحدد معنى هذا النص، لذلك فالعلاقة التي تحكم المرسل بالمرسل إليه هي علاقة تفاعل نصي، والبنية المتقدمة العنوان جزء من هذا البناء العام لعالم النص ويلج العالم في مفاعلة ناتجة عن نشاط التعاضد التأويلي Activité impérative يقدمه القارئ، منطلقه البدئي هو العلامة العنوانية.

وعليه يشتغل العنوان على الإنابة فهو ينوب عن النص/ الحكاية، يقول مالا تقوله إنه مصادرة على المطلوب .

العنوان إذا من أهم العلامات التي تحقق نصيّة النص لأن النص لا يتكامل إلا إذا شكل عنونته، فهو تكامل قائم على أساس الإحالة البينية بين العنوان والحكاية، هو نوع من التناص والرابط أساسا نحوي لأن العنوان نص؛ مبتدأ في نصيّته والحكاية ككل هي الخبر، العنوان مسند والحكاية /المتن مسند إليه، هنا يرى أندريه مارتنيه :"أن العنوان يشكل مرتكزا دلاليا يجب أن ينتبه عليه فعل التلقي , بوصفه أعلى سلطة تلق ممكنة ولتمييزه بأعلى اقتصاد لغوي ممكن  ولاكتنازه بعلاقات إحالة (مقصدية) حرة إلى العالم وإلى النص وإلى المرسل "4 لذلك علينا أن نفكّك الشيفرة التي يختزنها العنوان .

وانطلاقا؛ من النظام البلاغي الذي يحيل عليه العنوان :"ّدون أن ننسى أن التحليل اللغوي لدلالة الإيحاء ينبغي أن لا يختلط بـ  أسلوبية الأزمنة  لأن الأسلوبية تعني بدراسة الشيفرات التي تعمل على مستوى اللغة Langue"5

تتحقق شعرية العنوان وجماليته من خلال الخاصية الأسلوبية التي يختزنها، فهو مركب أسلوبي تعدل به الشيفرة إلى الإحالة الناتجة عن التأويل وهنا يحقق التأويل شعريته. فبين المركب الأسلوبي والتلقي التأويلي مسافة جمالية ينتقل فيها العنوان من كونه نصّا مغلقا على بنيته إلى انفتاح على شعرية التأويل.

يندرج العنوان كمؤشر واحد على جملة من العلامات السيميائية تتعاضد فيما بينها لتبني لنا موضوع الحكاية وتدخل كلها في دور واحد نطلق عليه شبكة القراءة .

وحده القارئ النموذجي الذي يستطيع أن يفل أو يفك هذه العتبات Seuil,هذه الشبكة التي تدخل مع النسق السوسيوثقافي للقراء في تفاعل نصي مشترك ,من خلال هذا التفاعل يتم بناء العوامل المرجعية للنص .إن القارئ النموذجي هو الذي يملك أدوات الربط بين هذه العوالم ؛ العنوان باعتباره مرجعا للنص والنص باعتباره مركبا مرجعيا للعنوان.

وتأسيسا على ما تم تحديده؛ للعنونة استراتيجية خاصة وجب معها أن نعيد بناء الموضوع الجمالي انطلاقا من قيمة الاقتصاد اللغوي. ونقصد هنا طبيعة العلاقات الإيحائية للعنوان لأنها كما يقول دوسوسيرذات منشأ لغوي حيث تنفذ لغة العنوان إلى جوانية النّص فتحدث فيه انتشارا لمعانيه ومقاصده، فإذا كان العنوان /دال، فالنص/مدلول ,حيث تنتشر الدلالة وتتشتت في ربوع النص,وعن هذا التشتت الدلالي تتخلق شعرية النص نتيجة الإرجاء والتأجيل الدلالي .

"إن دال1 لا يملك مدلول1 فيما يعبر عنه حظ العلاقة المؤجلة الرأسي إلا بالتفاعل السيميوطيقي المتجه من العنوان إلى العمل  وكذلك الحال مع دال2 ومدلول 2 فعلاقتهما هي الأخيرة مؤجلة لحين التفاعل السيميوطيقي المتجه من العمل إلى عنوانه."6

حاصلهُ إذا أن اللعبة علامية بالدرجة الأولى، ولقد اهتم عديد الباحثين بالعنونة وجعلوها عتبة مهمة في الولوج للنص وعلى هذا التحصيل وجب أن نحدد ملامح المطارحة النقدية للرواية بشكل خاص حيث أن الدراسة النقدية تهتم بجانبين مهمين هما : 

-  جانب شكلي محض

-جانب العلامات السيميائية من خلال تتبع مسار المعنى داخل النص.

وهذا الموضوع من اختصاص السيميوطيقيا التي تعنى :"بدراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى."7

والعناوين رسائل مشفرة لها نظامها الخاص، لذلك استفادت التحليلات التطبيقية من المدونة النظرية التي تركها ياكبسون في كتابه "قضايا الشعرية " فيتبين أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية وميتا لغوية .تتسع هذه الوظائف لتشمل مثلا عند هنري ميتران (Henri Mitterrand)الوظيفة التعيينية ,التحريضية .... وقد يكون للعنوان وظيفة بصرية وأيقونية."8

ولما كان العنوان يناصص نفسه على سبيل الإغراء والتحريض فإن شعريته تتلخص في بروز القيمة المهيمنة منه، ويعد العنوان من أكثر العناصر التي يرتكز عليها مفهوم النص الموازي Paratexeعند جيرار جينت، في كتابه "Seuil"عتبات " يدرس هذه الظاهرة وقسم النص الموازي إلى قسمين:9

- مستوى "محيط النص وحوله           Péri texte

- وما يقع خارجه وعنه                  Epitexte

أو ما يمكن ترجمته بالنص المحيطي والنص الخارجي ,حيث يتضمن المستوى الأول: "كل ما يتعلق بالنص وينتشر معه (حتى في زواياه مثل الفصول) وما يوجد في الكتاب مثل تقديم الناشر Présentation éditorialeواسم المؤلف والعنوان والعنوانات الفرعية inter titreو التمهيدdédicaceوالعبارة التوجيهية épigraphe والتمهيد  préface  والملاحظات notes.."10

"أما النص الخارجي فيحيل إلى عناصر تتعلق بالنص ولكنها منشورة خارج الكتاب مثل المقابلات والمراسلات والمذكرات الخاصة .... "11

و النص المحيطي هو :"الذي ينجز تحت المسؤولية المباشرة والرئيسية للمنتج (......) هذه الخاصية للمناص هي الأساس الفضائي والمادي ."12

عتبة المتعة /مساءلة الإغراء:

من محصول الذي سبق؛ أنه الذي تأسست عليه رواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي عزالدين جلاوجي، حيث أننا نلمح فيها إغراءا فنيا أسس لنفسه بنية جمالية متميزة على المستوى الأسلوبي بشكل خاص والفني بشكل عام.

شكل عنوان الرواية "الرماد الذي غسل الماء" نصا منفتحا معنى ومبنى، وهي عبارة تحمل في طياتها مضمون القول بمعنى أنها ستقول مقولا، لذلك فالعنوان شكل رسالة تمتد هذه الرسالة في لحظة ظهور "الرماد" حكاية وجودية ناتجة عن ظاهرة طبيعية، لذلك فالبداية الإخبارية كانت حسية فالاستلزام أن تكون النتيجة جوابا للمقدمة فكانت حسية كذلك "الذي غسل الماء"

والحاصل أن العنوان أطره مدلول حسي بقيت فيه الدائرة مفرغة حيث أن الحسّي يكون ناتجا ولا يكون ابتداءا، بمعنى أن العنوان في ذاته خبر عن مبتدأ لنص محذوف، وهذا ما نطلق عليه "بما قبل العنونة " Apriorititre " وفيه تتحدد هذه القبليات  نتيجة الإسناد الاجتماعي الذي وضح الإطار الحسي، لأن الرواية مسكونة في المجتمع والعنوان اجتماعيا هو حاصل دلالي عن هذا الارتباط الحسي بشكل عام.

بمعنى أن العنوان تحدد مسندا إليه والحكي مسندا لأن الرواية قد تحركت خيوطها اجتماعيا قبل أن تصاغ جماليا. والعنوان هنا هو الصيغة التأويلية للحكاية.

وهذا العنوان "الرماد الذي غسل الماء" فيه عدول عن نسق الدلالة فهو انزياح لغوي قلب الملفوظ حيث أن العنوان أراد أن يرسم صورة غير التي نقلها المعنى الحافي للدلالة ونكشف هذه المراوغة من خلال خاصيتين:

-التضمين .

-الاستبدال.

من سياق الدلالة نكشف أن الغسل من وظائف الماء، وفي العنوان نسب مجازا للرماد فأصبح الرّماد هم المادة التي تغسل الماء، ولكن خاصية الاستبدال تعطينا المواضعة الحقيقية للمرجع وهو "الماء الذي غسل الرماد" ذلك لأن الرماد ليس أصلا بل هو فرع عن التصور والصورة  تكتمل بإعادة الألفاظ إلى معانيها، وهنا نعيد تركيب الصورة من خلال ما أحالت عليه العبارة.

الناتجة عن مقدمة لمحذوف حيث أن الرماد ناتج عن سابق وهو البركان، لأنه  لولا الحمم لما كان الرماد هذه هي بؤرة شعرية العنونة حيث أنها تحيلنا على المتخيل بمعنى الأنساق القبلية التي هيكلت العبارة فأبقت في بطنها الدلالة التي تحمل وجوه المعاني.

فالرماد ليس المقصود به ذلك المعنى الحسي، بل يحيل هنا معنى داخل المعنى، فالمراد به معنى حسي يحيل على البركان كبنية ثابتة تستدعي المشار إليه كتحصيل حاصل.

ومعنى المعنى كبنية متحولة تستدعي المتخيل والافتراض للدلالة على حالة أنطلوجية  من الفوضى واللامعنى.

فالرماد المقصود هو الناتج الملفوظ عن حالة التلفظ، فمعنى المعني هنا فلت لأن المحذوف منه يقتضي إدماجه في الدلالة لتركيب صورة  ذات بعد مشهدي أهّل نفسه لأن يكون في حالة انفتاح.

نتيجة له تولدت المراوغة الأسلوبية اللامقصودة إذا هو انزياح على مستوى صورة المشهد الذي يحمله العنوان .التي أحالت على صورتين:

- صورة اللاتلاؤم.

- صورة التلاؤم الجديد









اللا تلازم السابق- الصورة السابقة

 

الماء الذي غسل الرماد

 




الرماد الذي غسل الماء

الصورة الجديدة / التلازم الجديد

     

 

 

 

 

 

 

 

 

 


                                

 

 

  وهنا يقول كمال أبو ديب :"من أجل أ، تقول الاستعارة  ينبغي على المرء  أن يستمر في تمييز اللاتلاؤم السابق من خلال التلاؤم الجديد."13 وهنا نشأت علاقة توتر شديدة نتجت بين المعنى الأولى أو بين المعطى التأويلي القبلي وبين المعنى الطارئ الجديد، وبين هذين المعنيين تشكلت الفجوة الفاصلة للمعنى الدلالي الذي أدى إلى انزياح المعنى الرماد إلا اللامعنى الفوضى.     الرماد هو الذي شكل القلق الشعري الذي أحال الدلالة لأن المفهوم لا تقتصر فاعليته على الشعرية بل إنه الأساس في التجربة الإنسانية بأكملها، بيد أنه خصيصة مميزة أو شرط ضروري للتجربة الفنية.

إن شعرية العنوان وجماليته شكلها مفهوم الرماد الذي غيب وظائفه واكتسب قيمة جمالية من اللحظة التي سلب فيها الماء عنصر "الغسل". فالغسل وظيفة أدبية التمسها أرسطو حيث يسارع الجمهور إلى تنقية حسه من الانفعالات، لأن الغسل من أهم خصائصه ومميزاته التطهير، تطهير النفس من أدرانها وانفعالاتها الشريرة، فسلب الغسل هذه الدلالة المعجمية قامت على أنقاضه دلالة جديدة أضيفت إلى الرماد.

فإذا كان الغسل مضافا إلى الماء يفيد التعرية والنبش والتطهير والتنقية والتزكية.

فإن الغسل مضاف إلى الرماد يعني الردم، القهر، التغطية، الحجب.

إن هذه التجربة الإنسانية أحالت إليها هذه العلائقية الغامضة التي شكلت تدلالا على فيض المعنى. وانصهاره في لحظة اقتران المفاهيم-الماء-الغسل-الرماد



الرماد2

   
الرماد1 !1 ا

               






الماء2

 
   

 


 

 -الدلالة الأولى هي الدرجة الصفر للمعنى اللغوي المعجمي، وهي ذات معطى اجتماعي حددته الجماعة سلفا لأنها مدركة للوظيفة التي يقوم بها الماء وهي بالضرورة الغسل .

 -أما الدلالة الثانية وهي الدرجة التأويلية للمعنى، وهي ذات معطى متعالي فرداني حددته البنية السياقية لأنها مدركة للوظيفة الجمالية التي يقوم بها الرماد في اقترانه بالغسل. وهكذا تعدد



 

 

 

 

 

 

 

 


وهكذا تحددت البنية الكبرى للإحالة التي تفرعت موضوعين :

            الماء/موضوع

            الرماد/موضوع

فاكتسب الماء شخصية التي أهلته لأن يخوض مشروعه السردي وتمكن الرماد بفضل تقنية المراوغة الأسلوبية من اكتساب خاصية دلالية تتحول كلا من الماء والرماد إلى ذاتين أساسا نفسيهما عاملين في المشروع الروائي .

ولو تأملنا الرماد في متن النص لوجدنا الكتاب يعطيها تخريجا أكثر غرائبية ممن يدل علي حالة اللامعنى التي وقع فيها معنى الرماد.

يبدأ المقطع السردي في الحاشية 09 بحالة توصيف سردي للمكان حيث تتدخل اللغة الواصفة أوmétalangage كحلقة لإضفاء المشهد السحري، هذه الغرابة التي ترسم عالما عجائبيا مقتضبا يقول:

"وحين يخرج من مدينة عين الرماد جنوبا تنهض غابة الصنوبر في وجهك ..."شجرة هنا وأخرى هناك وربوة صغيرة عليها شجرة شيمة لا يدرك أحد من أي نوع هي ولا من أي زمان غرست وتحتها ينبع عين الرماد شحيحة قيل إنها عريض أحد الصالحين منها يرتوي ويسقي الشجرة يستظل (.....)ثم تكاثر الناس حوله ودب الفساد بينهم فاختفى الصالح ,قيل إنهم رأوه يعرج إلى السماء ,وقيل أنه غار في عين الماء ومنذ ذاك جفت المياه المتدفقة , حال لون الشجرة العجيبة وفقدت ثمارها للأبد ...وقيل إن العين رمتهم بحمم من الرماد أياما وليالي (.....)ومنذ ذاك سميت مدينتهم عين الرماد"14

إذا الرماد الذي يقصده الروائي هو مكان قرية عين الرماد، لكنه حذف كلمة عين التي تلجم الدلالة وتفتح الفضاء أكثر على الاحتمال لتكون منه مدلولا إضافيا لا يكتف بالمعنى السياقي لـ "عين الرماد "ليصبح "الرماد " حالة منفصلة عن المعنى الحاف نتيجة الدلالة الخطية، ويشظى الرماد إلى كونه متعددا بتنوع التجارب الإنسانية –الوجودية- لهذه القرية وعليه فالأمر أحدث إرباكا على مستوى الإحالة بين مستويين :

–مستوى مرجعي؛ كون كلمة -عين – هي السياق المرجعي  الذي ثبتت دلالة حافة للرماد، وهي دلالة مكانية.

-مستوى تأويلي؛ أخرج الرماد عن سياق المعجم إلى سياقات تدليلية يفقد فيها المعنى مرجعه أو المشار إليه.  

عتبة المنظور / سيميائية الأهواء :

يعتبر الشكلانيون أن الوظيفة :" هي عمل الفاعل معرف من حيث معناه في سير الحكاية " 15و لو تأملنا الرواية جيدا للاحظنا أن الحكاية تبدأ من لحظة الشعور بالافتقار، فقدان جثة "عزوز المرنيني" وبالتالي فإن الجثة هي الفاعل وباقي الأحداث تجري في فلكها.

عادة ما تكون الرواية مشفوعة في خاصية الفقدان  بحالتين :

-  حالة الفقدان النفسي: القلق .

-  حالة الفقدان الكلامي: التعبير عن حالة الإضاعة سواء من خلال ملفوظات صريحة أو متضمنات في فعل الحكي.

ورواية التي بين أيدينا تجاوزت نسق الشكلانييين في تعبيرهم عن الفقدان فهو فقدان بأبعاد مختلفة:

-  فقدان جسدي؛ الإعلان عن حالة الضياع من خلال المتبقي من الجسد النعل.

-  فقدان نفسي؛ الجو النفسي الذي خلفه فقدان الابن لدى العائلة خاصة الأم والأب.

-  فقدان قهري؛ ناتج عن تراكم الفعل في الحدث، ولد شبه إيمان من أن الابن لن يعود.

فقدان داخل الفقدان Manque dans le manque

حيث أن عزوز المرنيني – الجثة – مات من حالة الموات الجديد الناتجة عن إضاعة الجثة.

هذه الحالة أدخلت عناصر فاعلة إلى ساحة الفعل الكلامي داخل القصة أخصبت قيمة المحادثة، هذه القيمة التي أثمرت ظاهرة متميزة وسمها باختين بـ: La polyphonie تعدد الأصوات، هذا التعدد لم يخرج أصلا عن الوظيفة الموكلة إليه داخل السرد.

تمتد الرواية على طول ثلاثة دوائر سردية حركتها سيميائيا حالة فقدان جثة عزوز المرنيني لتدخل باقي الشخصيات في دائرة الإجابة عن السؤال.

عائلة عزيزة الجنرال : المتسبب الأساسي في حصول الإساءة، تمثل دائرة المعتدي المتمثل في الابن القاتل، وهي ملفوظ اجتماعي عن الطبقة الجدية التي برزت في المجتمع نتيجة تجاوز القيم التقيلدية للأسرة الجزائرية، وقد ساعدها على هذا الفعل الكلامي المنحصر في الإساءة عزوز الدابة ويمثل دائرة المساعد على الإساءة .أما الضحية فهي أسرة الضحية .

و أخيرا تنتهي الأحداث بفعل تمجيدي للحق المطلق، وهذه لفتة يمنحها السارد للاشخصية لتبقى  منفتحة على قيمة اجتماعية واسعة .

 

متاهة الراهن  في رواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي  عزالدين جلاوجي                                                           

أ.عبد الحميد ختالة (جامعة خنشلة)  

تؤمن هذه الدراسة بمسلمة مفادها أن الإبداع الفني قدر مشترك بين كل من امتلك قدرة التعبير عن المألوف بنسق غير مألوف. وإن كان بين عناصر هذه الفئة ذاتها تفاوت وتمايز يعود بالأساس إلى خصوصية كل واحد منهم. كما يحصل التأثر والتأثير بين الأجيال فيعمد اللاحق للاستفادة من السابق. ولذلك فإذا حدث التقاطع أو التواصل بين الإبداع فإن ذلك يعد سمة جمالية داخل النص، ومفهوم حضاري خارجه.

بناءا على هذا التقديم المنهجي جاء الاهتمام برواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي عزالدين جلاوجي. ذلك لأنها تمردت إلى حد كبير عن تقليد الكتابة الروائية سواء أكان ذلك عند الجيل السابق وهو الجيل المؤسس، أو الجيل اللاحق وهو جيل الشباب. وهي أيضا _الرواية_ إنزياح عن ذلك الخط الذي رسمه الروائي لنفسه من خلال رواياته "سرادق الحلم والفجيعة"، و"الفراشات والفيلان". و"راس المحنة"

إن أول تمرد عن المألوف في الرواية وهو ذلك الذي نقرأه في العنوان الذي اختاره الروائي ليلخص به نص الرواية على دفتي الكتاب. وهذا الذي يقود هذه الدراسة إلى البحث في سيمياء العنوان لرواية "الرماد الذي غسل الماء"[10]

1- رسالة العنوان: 

يثير العنوان عادة تساؤلات لا نلقى لها إجابة إلا مع نهاية الرواية، ونسجل في هذه الدراسة أنه من غير العادي أن يسخر الرماد من أجل غسل الماء، ما لم تحمل الصيغة برسالة إلى القارئ، ومن الواضح أن عنوان الرواية يعد العنصر الأول الذي يظهر على واجهة الكتاب كإعلان إشهاري محفز للقراءة، وتظهر رغبة الكاتب في تحريك القارئ في الطريقة التي بنى عليها العنوان، إلا أن عكس ذلك الذي أثبت وهو قلب لسلم القيم. ثم إن العنوان يحمل إثارة أخرى فالذي تغلب على الماء ليس النار التي قد يتوقع منها ذلك إذا زاد حجمها، إلا أن القائم على ذلك في العنوان هو الرماد قد خضع لتفعيل من طرف محرك خارج عنه.

حدد الروائي "الرماد" ب "ألـ" التعريف وهذه إشارة منه إلى أن المقصود في الرواية هو رماد بعينه قد لا يحمل المواصفات العامة للرماد. ولا يمكن أن نتصور أن المفعول الذي هو الماء متعدد، ذلك أن الماء واحد. إضافة إلى أن أداة التحضيض "الذي" متعلقة بالرماد وليس الماء. فالذي يجب أن يعرفه القارىء ويحدد ماهيته في الرواية هو "الرماد" الذي خرج عن إطار المعهود وتمرد عن المألوف.

تعتبر علاقة (العنوان/النص) المدركة عبر هذا التدرج الرسالة الأولى التي يسعى الكاتب إلى تبليغها للقارئ بهدف إثارة فضوله وتحريضه على قراءة النص. أما العلاقة الثانية الممتدة من النص إلى العنوان، فإنها تقودنا إلى النظر في النص على أنه وسيلة لقراءة العنوان وبناء الدلالة. حيث يدخل العنوان والرواية في علاقة تكاملية وترابطية، فالأول يعلن رمزا والثاني يفسرا دلالة، وقد يتأخر التفسير ليأتي في خاتمة الرواية لإعادة إنتاج العنوان من جديد.

يعد محيط النص أو المناص كما سماه جيرار جنيت[11] السبيل الأول الذي يمكن أن يوجه القارىء ويساعده على ولوج عالم النص. وهذا بالذات ماقدمه "الرماد الذي غسل الماء" الذي أحال على متاهات متعددة داخل النص، يمكن أن نقف عندها في النص وهي:

1- متاهة المحنة: عاشت شخصيات مختلفة في الرواية متاهة المحنة، وقد تعددت هذه المحنة وتنوعت. بتنوع اهتمام هذه الشخصيات في الحياة. ولعل المحنة الأبرز. هي محنة "كريم السامعي" الذي ظل يسارع حيرته فيما رأى في تلك الليلة الممطرة على يمين الطريق، "ظل كريم السامعي يغالب ظنا يلح علة نفسه إلحاحا مقلقا.. ما الذي رآه ممتدا على قارعة الطريق؟ أم هو حيوان من الحيوانات الكثيرة التي إعتادت أن تعبر الطريق على غير هدي فتلقم ضربة قاتلة؟ أو ربما لا يعدو ما رأى أن يكون كيسا تافها لا معنى له"[12].

تعرض "كريم السامعي" إلى محن كثيرة انجرت كلها عن هذه المحنة الأولى أدت به في النهاية إلى السجن، لأنه أبلغ الشرطة على أنه وجد قتيلا مرميا بالطريق إلا أن الشرطة لم تعثر على جثة القتيل، فأصبح ملزما بالحضور يوميا إلى مركز الشرطة وعند انتهاء التحقيق وجد نفسه المتهم الوحيد في القضية.

أما المحنة الثانية فهي محنة صدق المبادىء التي تنبثق عن محنة العلم، وقد تجلت في الرواية مع شخصية "فاتح اليحياوي"، "وقد قضى فاتح اليحياوي سنوات معتزلا الناس. يقضي وقته في القراءة والتأمل وسماع الموسيقى، والوحيد الذي كان يجرؤ على اقتحام خلوته هو صديق الطفولة كريم السامعي. الذي كان يسميه حي بن يقظان"[13].

استمرت محنة فاتح اليحياوي لينتهي به الأمر إلى الاعتزال كليا عن الناس بعدما رفض أن يكتب مذكرات الجنرال إيمانا بأنه لا يستحق أن يكتب له إلا أن نقمة على الأرض، وبعدها "تعرض فاتح اليحياوي لانتكاسات كبيرة جعلته يعيد كل حساباته، ويصاب بإحباط رهيب، ويفقد الثقة في الناس جميعا فينطوي على نفسه بعيدا عن الجميع وقد آمن أن هذا النوع من البشر لا يمكن إصلاحهم"[14].

تثير الرواية محنة الحب الذي طغى عليه الرماد فيعيش فواز تشجنجا كبيرا في حبه للراقصة لعلوعة، لأنها لم تكن تأبه به إطلاقا، حتى أمه "عزيزة الجنرال" لم تكن لتقبل بها زوجة لابنها، ف "أحس أنه يضيع شطر عمره بمغادرته أجواء الحفل الراقص وأنه يضيع عمره كله حين يدع جسد لعلوعة الراقصة للعيون الشرهة تلتهمه دون شفقة.."[15].

عاشت معظم شخصيات الرواية محنة الحب، حتى العطرة التي فقدت أخاها في تلك الحادثة الغامضة، تفقد حبها مع زكريا الذي التحق بصفوف المتمردين عن الجميع، "دق قلبها الصغير وعيناها تعانقان عيني زكريا بن الجنرال، ودق أشد وهو يتجرأ فيمد يده إليها مصافحا وضاغطا على أصابعها ولأن قلبها المرتعش بصمت طويل...ولم تمر سنوات حتى وجد زكريا.. نفسه متهما بالتستر على جماعة إرهابية... ولكن الفتى لم يفلح في ذلك فوقع في قبضة رجال الجيش الذين قتلوه.." [16].

هكذا يطغى الرماد على البراءة والصدق والعلم والحب. وهي متاهة عميقة تسقط فيها حيثيات الرواية فتتعدد المحن وتتقاطع لتجسد شراسة الرماد وتراجع الماء.

2- متاهة الزمن: تعيش الرواية متاهة الزمن لما تنطلق أحداث الرواية من زمن قل ما يدل على الاستقرار والثبوت على حال. ولعل اختيار الروائي لمساحة الليل برسم نقطة بداية أحداث الرواية فيه ما يعبر عن عمق تلك المحنة التي ستعيشها شخصياته في النص.

يخرج "فواز بوطويل" من الملهى ليلا، إلا أن الروائي يختار أول الليل لأن ما سيأتي من تأزم على مستوى الحدث سيحتاج إلى ليل أطول، يقول: "حين خرج فواز بوطويل من ملهى الحمراء لم تبلغ عقارب الساعة التاسعة ليلا.."[17]. وهنا نقرأ إشارة لغوية قوية إلى ما سيصير إلى فواز من متاهة في النص. فالخروج ليلا محفوف بالمخاطر واللامدركات. سيما وأن الأمطار كانت تزيد تكثيفا ظلاميا آخر، وهو ما قاد فواز لارتكاب جرم القتل، يضاف إلى كل ذلك استعانة الليل والأمطار بجرأة ما شرب فواز من خمر في فتح بوابة المتاهة على كل الاحتمالات السيئة.

وفي الإطار الزمني ذاته يقع "كريم السامعي" في مخالب التهمة بالقتل، بعدما وجد جثة القتيل مرمية بالطريق ليلا. ولم يدع الروائي مجالا للقارئ لان يخرج من محنة الليل، فما يأتي بعد الليل إلا الصبح، إلا أن النص يقتل هذا الشعور بالأمان. حينما يقرر أن التنقل ليلا هو ضرب من المغامرة. يقول: "...فها تدركان أن ظروف البلاد تحت ظروف حالة الطوارىء واشتداد هول الإرهاب أصبحت صعبة جدا، وأن التنقل ليلا يعد مغامرة خطيرة العواقب..."[18].

تستمر متاهة الزمن في الرواية من خلال الليل فكل التجاوزات التي خططت لها الجنرال كانت تتم ليلا، كما أن جماعة المخدرات تلتقي في سوقها الغابي ليلا. وقد أبدع الروائي في استثمار تقنية الزمن لما جعله طرفا مهما في أزمة الأحداث من خلال الرصد الدقيق لكل الإطارات الزمنية التي شغلتها المقاطع السردية المفتاح في النص الروائي.

تنتهي الرواية بإشارة زمنية تفضح سيرورة الزمن الخطية التي عهدها المتلقي في السرد الروائي. حيث تحمل (الحاشية89) حركة دورانية عميقة تعيد خلخلة ما رتبه القارئ من بداية الرواية، يقول: "قيل أن الولي الصالح قد بعث إلى الحياة. وإن منبع العين تدفق رمادا أسود حارا على الأيام والليالي حتى ردمها"[19].

وهكذا يغرق الزمن هو الآخر في متاهة الرماد، لينفلت مرة أخرى من القارئ ويصبح مشغوفا للبحث عنه. إلا الرواية تنتهي ليجد القارئ نفسه أمام ضرورة إعادة بناء الحدث أو إتمامه ليكتمل المشهد. وهذا الذي يطلق عنه النهايات المفتوحة للرواية.

3- متاهة المكان:

إذا كانت الرواية فنا أدبيا زمنيا، فإنها من جهة أخرى تشارك الفنون الأخرى التي تشكل بناءا على المكان. وقد ظهر بناء المكان في رواية "الرماد الذي غسل الماء "بداية من العنوان فالرماد لا يمكن أن يكون في فراغ. فالمحسوس المتجزأ لا يمكن أن يتجسد إلا في إطار المكان وهذا الحال مع الرماد والماء معا. إلا أن المكان داخل النص ولد تكثيفا آخر بعدما أصبح الرماد هو الصفة الغالبة على كل الأمكنة حتى أن المدينة التي جرت فيها كل أحداث الرواية هي بالذات تسمى "عين الرماد".

أضفى الروائي على المكان دلالة الانفتاح الذي يؤدي إلى الضياع، فتبدأ الرواية بملهى الحمراء وهو بقدر ما يعنيه من انفتاح على الآخر يعني كذلك الضياع في عشق الخمر والأجساد وهذا ما كان يعيشه "فواز بوطويل". هذا الضياع في المكان الذي انفتح على مكان آخر كان مسرحا لجريمة القتل، فخروج "فواز" من الملهى كان إلى طريق الغابة، هذه الأخيرة التي استغرقت في الانفتاح حتى تجاوزت حدود الحياة وتكون فضاء للقتل والهروب من الجريمة، وضياع جثة القتيل، كل هذا ولد متاهة حقيقية في المكان.

تدور أحداث الرواية بمدينة عين الرماد. هذه المدينة التي جعلها الروائي تسهم في صوغ متاهة المكان ف "مدينة عين الرماد ك العجوز. تنفرج على ضفتي نهر أجدب أجرب تملأه الفضلات... تتدرج فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق.. تنز قريبا منها عين الرماد الأصلية التي قيل إن السكان قد هجروها ثم اتخذوها مزارا ومعبدا.

وتمتلىء مدينة عين الرماد بالحفر وببرك المياه القذرة.. يتوسطها سوق منهار السور.. تتلوى شوارعها وأزقتها التي تضيق وتتسع في غير نظام"[20]

نتساءل في البداية عن الغاية من هذا الوصف الدقيق لمدينة عين الرماد، هل يدخل ضمن إستراتيجية الحكي عند الروائي. أم أن ذلك يثبت عمق متاهة المكان التي جعلت الروائي يعيش هو الآخر إحساس شخصياته الروائية بالضياع في هذه المدينة المقتولة بالراهن الحزين.

تتعدد الأماكن في الرواية وتختلف ليرتسم الفضاء العام للمدينة من الملهى الواقع وسط الغابة والذي يبتعد عن تلك الساحة المهيئة من طرف مجموعة المخدرات وهم شباب لم تسعفهم الحياة ليكونوا من رواد الملهى، ثم مكان مزرعة الشيخ خليفة أب كريم السامعي، ومقهى المدينة البائس، وهي كلها أمكنة زادت من صياغة درجة الضياع الذي هيمن على مدينة عين الرماد.

يشكل المكان واحدا من الفواعل الحقيقية في الرواية. فقد أسهمت الغابة في ضياع الجثة التي أدخلت كريم السامعي السجن. كما كانت المقبرة المسيحية القريبة من مزرعة "عزيزة الجنرال" معادلا موضوعيا للخفي عن معالم القتل في بداية الرواية، إلا أنها ستكون مسرحا لأحداث النهاية حيث يكشف القبر عن خيوط الجريمة من بدايتها. يقول: "وراح المحيطون بها ينبشون القبر وراحت تدفعهم بقوة نائحة باكية مهددة الجميع بأسوأ العقاب...

ولم تمض إلا ساعة من زمن حتى ارتخت عزيزة تعبة عاجزة عن فك الحبال التي عقلت رجليها ويديها وتسلل أحدهم إلى القبر وأخرج الجثة فمددها على الأرض"[21]

4- متاهة القارئ والنص:

تقترب رواية "الرماد الذي غسل الماء" من الروايات البوليسية، ذلك أنها تروي قضية تحقيق أمني للبحث عن القاتل الحقيقي وعن سر اختفاء الجثة التي عثر عليها كريم السامعي على طريق الغابة ليلا. إلا أن حقيقة الحكي كانت تذهب إلى رصد محنة الراهن المسدود الذي  كانت تعيشه مدينة "عين الرماد"، وتصور مدى البؤس الاجتماعي الذي يعيشه الشباب جراء انتحار كل أحلامهم في تحقيق غاياتهم في الحياة.

إلا أنه وعلى مستوى الحكي يعش القارئ لرواية "الرماد الذي غسل الماء" متاهة أخرى. ذلك أن الروائي مارس حضورا قويا في النص الروائي. من خلال تلك الحواشي التي كانت تتخلل متن الرواية، يلجأ فيها الروائي إلى التعليق عن الأحداث مرة، ووصف المكان بدقة مفضوحة مرة أخرى، كما استغلت هذه الحواشي في للرواية لتقديم الشخصيات تقديما موضوعيا قد يبعدها في بعض الحالات عن الفنية.

استهل الروائي روايته رسالة مشفرة عنونها: "حبيبي" هي لا تدخل ضمن المتن الروائي إلا أنها ترسم لدى القارئ أفقا خاصا يحتاج لقراءة. خاصة وأنها لا تبتعد فنيا وموضوعاتيا على أحداث الرواية. كما كان حضور الروائي صريحا في نهاية الرواية حينما علق على حقيقة عين الرماد. يقول في "الحاشية 90"؛ "عمد علماء الآثار إلى البحث عن مدينة عين الرماد فلم يجدوا لها أثرا فأجزموا أنها لا تعدو أن تكون قصة نسجت خيوطها مخيلة أحد الأدباء ثم نشرها إلى الناس لتكون عبرة لهم ولأبنائهم من بعدهم"[22].

قد يفقد هذا الحضور الصريح والفاعل للروائي القارئ متعةً ولذةً كان قد جناها من خيوط الرواية إلا أنه بالمقابل يغرقه في متاهة التحالف الذي يحصل على مستوى الذهن بين الواقع والخيال. وقد يتأزم التعالق أكثر في النص المتميز خطيا عن متن الرواية، الذي أضافه الروائي يخاطب فيه القارئ خطابا صريحا يجعل عين الرماد ذلك النموذج الذي تنصهر فيه ملامح كل المدن التي يضنها القارئ آمنة من زحف الرماد.

 

 

بنية الزمن

في رواية "الرماد الذي غسل الماء" لعزالدين جلاوجي

 

أ.عبد الحفيظ بن جلولي (بشار)

 

عندما يتأَسَس النص عند مستويات إيحائية تكون الدلالة أقرب الوسائل لتعرية متخفية لأنَ "البحث عن الدلالة معناه اللجوء إلى التأويل الذي هو إنتاج المعنى".1.. نص" الرماد الذي غسل الماء" لعزالدين جلاوجى، انطلاقا من عنوانه يعَلق استفهامه في ذهن القارئ بفعل طبيعته التشويقية، وبالغوص في النص وتعمق دلالاته يتجلى سؤال الزمن كبنية باعتبار سيرورة النص فارق بين لحظتين.

العنوان/الدلالة/الزمن:

في سياق الإبداع الروائي عند جلاوجي نثبت أن للنص لا وعيه الخاص به كما يؤكد النقد النفساني، والدليل على ذلك أن اللغة تحمل في طياتها معان تخفى على المؤلف نفسه"2. فعند مستوى الدلالة الإيحائية "أي ما توحي به الكلمة للقارئ "3 نكتشف مستويين للقراءة عند مقاربة بعض العناوين الروائية لدى الناص، المستوى الأول يتمثل في الموقف الهادئ للناص، فجملة" الفراشات والغيلان" "قد حققت انفصالا بالتضاد"4 تنقل الذهن عبر مساحتين للوعي، وعي مدرك (الفراشات) ووعي مبهم (الغيلان)، وانتصار الوعي المدرك باعتبار التقديم الذي له دلالته، أما على مستوى الزمن فالجملة تفصل بين زمنين، زمن ظاهر (الربيع، الفراشات)، وزمن أسطوري غامض (الغيلان) وإذا قاربنا عنوان"راس المحنة 1+1=0"، حدوث المحنة محصلة عدمية لواقعين لم ينخرطا في عملية توليد ابتكاري، فهو إدانة للحاضر الذي لم يستثمر الماضي، أما عنوان الرواية التي بين أيدينا "الرماد ألدى غسل الماء" فدلالته تكشف عن موقف الناص من الواقع، بحيث يدينه من خلال اتجاهه الخاطئ والذي يعتقد (الواقع) بصوابه، فتحول السلبي إلى إيجابي، يجعل من الرماد يغسل الماء، خطاب تهكمي هادئ، فطبيعة الرماد التلوث وطبيعة الماء النقاء، فإذا انقلبت المعادلة وأسقطت على الواقع، حققت مفعولها في إطار زمن تصريف الفعل غسل وهو الماضي، فتصبح الجملة بالتعبير النقدي"لاحقة "وتتمثل  في سرد أحداث في الماضي في حين يوردها الكاتب في الحاضر كحدث له أولوية زمنية بالنسبة للأحداث التي هو بصدد سردها"5 و"تشكل هذه النقلة الزمانية في الماضي لاحقة سردية...وكأنها جزء من الحاضر"6، ساقها الناص لإبراز اختلال ميزان الحاضر الذي اعتم إضاءات الماضي فتحول الماء رمادا، فالرماد (الهباء) طبيعة الحاضر والماء (الحياة) طبيعة الماضي ومن هذه الرؤية جاءت الإدانة للحظة زمنية حاضرة هباء، وجاءت الجملة مصَرفة في الماضي لتثبت نقاءه ولتؤكد استمراريته في وعي المتلقي، وفي النص العديد من الإشارات الدالة على إدانة الزمن الحاضر، منها،" اللعنة على هذا الزمن"ص42 و"الزمن الخائن" ص121.

الزمن كبنية:

تكسير خطية الزمن الذي قامت عليه الرواية ما قبل الحديثة وتحطيم التسلسل الزمني ووضع" الزمن بين هلالين"7، جعل له بنيته الخاصة داخل بنية النص، والبنية يحددها النقاد على أنها "النظام الأدبي الذي يقوم على مجموع العلاقات الداخلية الموجودة بين مختلف عناصر النص"8.

باعتبار الزمن من عناصر النص، فهو ينفصل بذاته ليشكل علامة داخل النص، ويتصل بالنص ليؤدي المعنى، والزمن في الرواية من خلال بعض مدلولاته ينفصل لإنتاج مفهوم ستاتيكي يستذهن من خلال نسق معين، كالساعة الحائطية التي تكرر ذكرها ثلاث مرات وأنتجت تميزها داخل محيط النص انطلاقا من المعنى الذي هو "نتيجة بناء كلمات على نحو معين وتحت شرط علاقات تقوم بينها تخضع لقوانين وقواعد ثابتة " 9 و"الكلمة تعني وتقبل الإدراك لأنها تختلف عما سواها"9  الناص كون الجملة الزمنية وجعل لها مستويات تدرك عند اختلافها عما يقابلها، فالجملة الزمنية "الساعة الحائطية " ص 20 عندما أشارت إلى ما بعد منتصف الليل أسست للزمن الهاجس، "فالشارع معتم " ص20، " وليس من عادة كريم أن يتأخر" ص20، "واشتداد هول الإرهاب" ص 20، بنيات الخطاب، كرست مدلول الهاجس في التصاق إبداعي بالزمن، لأن الهاجس يندرج في حركة الزمن أكثر من اندراجه في حركة المكان، وتؤكد ذلك المقولة الدارجة في الوعي الجمعي "الوقت ليس مناسبا" وإن كان الهاجس وليد تداعيات المكان، وهذا ما توصل إليه الناص من خلال فحص الحقل المفرداتي للهاجس (التأخر، الحيرة، معتم، الإرهاب)، وبالانتقال إلى الجملة الزمنية "الساعة الحائطية" ص 22 ومقابلتها بسابقتها ندرك أن الزمن لا ينطوي على الهاجس ودلالة ذلك الحقل المفرداتي للاهاجس (المؤذن، يجلجل، اعتدل، عاد بالذاكرة) ص 22، وما أن نقارب الجملة الزمنية الثالثة "وعلى الجدران ساعة حائطية صامتة" حتى نستبين تعريفها لوحدها من دون الجملتين السابقتين بالإضافة إلى الصمت، فنكتشف القيمة المضافة للزمن في سياق النص، فالناص أحدث الهاجس ثم أزاله في تركيبي مفاهيمي، وخلال المسافة بين الهاجس واللاهاجس أنجز الزمن الإبداعي الذي تدل عليه الفقرات ذات التجلي الوصفي الدقيق للحظة نصية مولدة للمعنى عبر اسطيطقيا اللغة ومنها (وقف كريم...... .على طاولة صغيرة.) ص28 -29. 

التركيب الموضوعي لبنية الزمن يقود إلى إنتاج معادلة ذات دوال ثلاث منشأها مصدر واحد (الساعة الحائطية)، يتفاعل طرفاها (زمن الهاجس + زمن اللاهاجس) لينتجا الزمن الصامت، وهو الوحيد المعرف بالإضافة إلى الساعة الحائطية، والصمت قيمة جمالية وليس الإحالة إلى طبيعة ما، زمن هادئ تخَلق عبر مخطط زمني واضح، فالتركيب أنتج القيمة، وهو ما يستفاد من المقابلة بين المتضادات حيث المعرفة تقوم كنتيجة "للعلاقة البنيوية التي تنجم عن التضاد"10، و"لأن الكتابة البشرية (الإبداع) لا يمكن أن تنطلق من فراغ وإلا أصبحت وحيا"11 فإن"الزمن القيمة" يعبَر عن الزمن الإبداعي للناص قرَبه عبر اللاوعي لأفق تلقى القارئ من خلال الزمن الروائي، وبالتالي قد يكون فاتح اليحياوي مدرّس علم الاجتماع هو ذاته الكاتب بدلالة عزلة المثقف (مفهوم إبداعي) وطقوسه الخلواتية (ص12) لعدم تجاوبه مع زمن الحاضر (زمن الرماد).

الزمن الإنساني/ معرفية الزمن :

العتبة النصية تداهم وعي المتلقي بتفجير شكوكية تتعلق باللاتوافق بين الإهداء الذي يتوجه به الناص إلى مشردي جنين، والنص الذي يعقد شراكاته الفنية مع المحلي، لكن سرعان ما تتبَدد هذه الشكوكية عند تفكيك مغلق العنوان كمفهوم ينطوي على الزمن، فالرماد أداة الحاضر والماء غسل في الماضي، والعبارة مدرجة في سياق الحاضر بصيغة الماضي، المقطع يفرغ حمولته على الزمن، حيث تنطرح أعمدة النص على تنويعات زمنية المراد منها تبئيره (الزمن) واستمداد أطياف منه تؤدى مراد العنوان كمعلمة استفتاحية للنص وقصدية إغلاقها على اللامعلن لإثارة التشويق وهيمنة السؤال، وبالتالي تثوير البنية الزمنية بانفتاحها على دلالات محلية، قومية وإنسانية، فزمن جنين زمن استعمار، وبتعبير الرواية (رماد)، وهذه من انفراجات النص الزمنية (زمن قومي/إنساني)، ما سهل للناص ذلك استعمال تقنية التطعيم التي لم تكن على مستوى التراث (الحاشية والسفر) فحسب وما فيه من إحالة إلى الزمن، بل كانت أيضا على مستوى القيم، باستيعاب السياق السردي تلاقحات معرفية حملت معها بنية الزمن الذي أنتجها فذكر سقراط، الغزالي، كانط، ابن رشد، السوريالية، تشومسكى...، تثويرا لزمن النقاء في مواجهة زمن الرماد.

تضطلع الرواية بإنتاج معرفي للزمن بخلق القيمة في إطار الضدية لبعث الموقف التنافسي، فـ"المسرح البلدي تحفة المدينة، بناه الفرنسيون قبل الثورة وزرعوا فيه الحياة، ومذ غادره الفرنسيون تغشاه حزن عميق"، الجملة تنطوي على (زمن ثقافي إنساني) في ظل سيادة العائق (زمن استعمار)، في إطار هذه اللعبة الزمنية، نستشف المستوى المعرفي الذي يرمي إليه الناص، فهو لا يمجد زمنا معينا (زمن الاستعمار) وإنما يعري لحظة سلبية راهنة ذاتية (بؤس الثقافة)، وجملة "تغشاه حزن عميق"ص61، جاءت للتنبيه إلى إيجابية الآخر والإحالة إلى عكس الموقف على مستوى الذاكرة، أي سلبية الآخر وإيجابية الذات في لحظة ماضية (زمن حضاري قومي) استثمرها الآخر معرفيا لصالحه لاندراجها في سياق الوعي بالزمن الإنساني.

الإطار الزمني العام:

"النص لا يقتصر على بنية داخلية تحتوى كل المعاني الواردة فيها، فهو أولا وقبل كل شيء نقل عن الواقع ".12  الجملة الزمنية" الرماد الذي غسل الماء" فتحت النص على غوص عميق في الصمت المتستر خلف حزن اللغة بإبرام علاقة بين المفردة المتشنجة وعنف المعنى لإنتاج الزمن المتعلق مع أداة التلوث (الرماد) المهيمنة على لحظة الحاضر، ومن ثم إنتاج الإطار الزمني العام الذي يمحور لاتجاه النص ويعمق دلالاته الاتهامية، ولقد وفق الناص في اختيار الزمن الإطار بالإشارة العابرة في خلال السياق السردي إلى حدث ذو دلالات فاصلة في سيرورة الزمن الراهن وهو تفجير" "مركز التجارة العالمي"ص 57، وقبل ذلك يشير إلى أنه "كان الفصل خريفا" ص56 ولكي يعوم هذا الزمن المادي الذي ألقى بظلاله على الواقع فأظلم إضاءاته، قذف (الناص) انبراقه في لحظة غائمة مغيَبة (جلسة خمر) لينتفي الأثر المادي وتنبثق الدلالة الرمادية، سواء على مستوى الحدث في حد ذاته (11 سبتمبر وما تلاه) أو على مستوى جلسة الخمر "خربة الأحلام"ص 57، فالناص استلهم الزمن المرجعي (الواقعي) روائيا وفصله عن زمن النص باعتبار تشكل دلالاته الجديدة حسب معاني النص، وفى سياق النص هذا الانفصال يؤسس للزمن القيمة الذي اختاره الناص بدلالة الأثر، زمن الواقع أو زمن خارج النص (الخريف) يحيل لطبيعة11 سبتمبر التدميرية، وبذلك غطت ضبابية الزمن المرجعي على فضاء النص و"مقتطف ما في العنوان"

الزمن الإحالة :

الزمن هو العامل الأساسي الذي يربط النص بالخارج، إذ أنه يضفى على النص صبغة واقعية (متخيلة أو معاشة)13. جاءت التناصات في الرواية بهذا المعنى، تحمل شحنة الزمن في إحالات دالة على لحظات تبرق في الذهن إشارات مفعلة للترابط بين إدراك المعنى في سياق النص والموضوع المحال إليه، وحينها يكون الزمن الإحالة، زمن طائف يراود الذهن لحظة الانغماس في قراءة النص، فتتشكل برهة التناص.

تشكل هذه الإحالات – الزمنية- وحدات انفصلت عن الوعي لحظة انقطاعه عنها نصيا وانزوت في عتمة اللاوعي إلى أن تبعث نفسيا عن طريق ما يسميه علم النفس الاسترجاع، وهو علاقة الذواكر بمشكلة حاضرة يثيرها النص في ذهن القارئ، لهذا "تعتقد الناقدة مارت روبير في ما يختص بعلاقة النص الروائي بالزمن، إن الرواية فن الماضي الذي يعود بعناد إلى الحاضر ويهاجمه، إنه البحث عن الزمن الضائع كما يقول مرسال بروست" 14، فالتناصات، أزمنة ضائعة داخل النص تمهله انفتاحه الإبداعي وعلائقه المعرفية الجادة، وفى نفس الوقت تفتح في وعي المتلقي أقواس زمنية معينة بكل ظروفها وزخمها لتعيدها إلى سياق الحاضر واستيضاح مبرراتها من خلال سيرورة النص حسب ما ذهبت إليه م- روبير وبروست.

الرواية تحيل من خلال السياق السردي إلى فلاشات تناصية فتحت النص على اكتنازات اللاوعي وفتوحات المعرفي، فعندما نقرأ الفقرة ص 101 "واستمرا صامتين... آلات الرش" نحال إلى زمن الرومانسية الجميل، وهناك عدة فقرات في الرواية منسوجة على هذا المنوال، تيقظ في أعماق المتلقي تلك الإضاءات الرومانسية القابعة في اللاوعي، المغيبة تحت هالات التراكيب الحداثية.

تفعل الرواية الإحالات الزمنية فيتكرر لفظ الخمار عدة مرات، منها "ملفوفة بخمار صمتها"ص111، وفى هذا إحالة إلى زمن البيت وإعادة اكتشافه من جوانب عدة من خلال حركة المرأة المختمرة، ويأخذ التناص مفهوم استعادة اللحظة المفهومية من خلال الإشارة الحاثة للوعي.. المفرزة لتداعياتها الزمنية عبر التفاعل السريع للجملة في رسم متجليها الذهني، فعندما نقرأ "خنجرا صدئا"ص111، التجلي الذهني الذي تقذفه، عبارة عن استعادة المتلقي لحظة لقائه المجموعة القصصية "السكاكين الصدئة" لحسين فيلالى، وتستمر هذه الظاهرة مع الجملة" وفى نفسها رجاء ويأس" ص146، التجلي الذهني الذي ترسمه، عبارة "وفى مقلتيه رجاء جريح" في آخر قصيدة الصياد والبحر، الصفحة 80 من مجموعة "حقول البنفسج" للخضر فلوس، كذلك المقطع "كأتان مبقورة ترفع رجليها إلى أعلى" ص160، يحيل إلى مقطع مشابه لبقرة في رواية "البحر ليس بملآن" لجميل عطية، والنص أيضا تتخلله تراكيب لفظية ذات معنى يحيل إلى النص المرجع، فاستعمال كلمات من مثل: دهاقا، فجاج، لف ساقا على ساق، تحيل إلى اللحظة القرآنية المتراوحة ساحة الوعي.

أخلص من خلال الزمن الإحالة إلى إن التناص كما هو معرف نقديا بأنه عبارة عن علاقة النص الأدبي بنص أدبي آخر، العلاقة التي تحيل إلى النص الأدبي الآخر، هي من صميم نسيج البناء الروائي وفى نفس الوقت هي جزء من ماضي المتلقي يستدعيه من لا وعيه الناص فهو" زمن ضائع "بتعبير بروست في علاقة النص الروائي بالزمن، يعثر عليه المتلقي من خلال الرواية.

الزمن بدلالات المكان:

يعرف ميخائيل باختين الزمكانية بأنها "الترابط الداخلي الفني لعلاقات الزمان والمكان المعبر عنها في الأدب"15. رواية الرماد الذي غسل الماء تنبني على التقابل الفني بين واقعين متواجدين، واقع ملوث (الرماد) وواقع نقى(الماء)، تحنكهما أبعاد زمانية، ماض (نقاء) وحاضر (رماد)، ركبها الناص لتقديم رؤية للعالم والذات باعتبارهم عنصري الحدث ولاندراج مفهوم النقاء والتلوث في الوعي العام والخاص، لأن من "خصائص أشكال الزمكانية تترسخ أهمية التفاعل بين الخاص والعام، الكتابة والكاتب، بين الحاضر والماضي"16.

الرواية تضع هذه المقاربات الزمكانية كاستلهامات لتفتح أواصر الحوار بين الأمكنة والأزمنة، والناص والمتلقي كأطر معرفية لمحاولة تحريض أفق المتلقي ودفع إنتاجية الأدب الذي   ينظر إليه باختين على أنه "حوار بين النصوص من جهة، وبين المعرفة المسبقة لدى القراء والمؤلفين من جهة ثانية " 17، فالزمكانية بهذا المنظور، "تعنى أيضا بالاستراتجيات الذهنية الإدراكية التي يستخدمها القراء والمؤلفون"17، الرواية على مستوى تراكيب جملها تنتج هذه الإدراكات الذهنية واستخدام المعرفة المسبقة، "فملهى الحمراء" ص12، لا تدرك دلالاته إلا عندما يستذهن القارئ حركية المكان الذي لا ينشط إلا ليلا، وبهذا يحصل الوعي تلقائيا على النتيجة (الليل)، وعليه فالمكان كان دلالة عن الزمن، ولان الناص يحتمي بالذاكرة (الماء) لإدانة الحاضر (الرماد)، يستنجد بضدية زمكانية من الماضي"قصر الحمراء" ص12، والملاحظ أن الرابط بينهما اللون الأحمر، الذي يوحي بالتفجر فهو في المكان الأول تفجر عبثي وفي الزمكان الثاني تفجر إبداعي، إلا إن الدلالات تختلف خلال السياق السردي، فملهى الحمراء ينتمي زمكانيا إلى الحاضر/ المحلى وقصر الحمراء إلى الماضي/القومي (الأندلس)، ليقابل في الوعي بين الزمكانين عبر رابط الضياع "وضيعوه بين الخمرة والجواري" ص12، ونستنتج بالضرورة أن ماضي "الحاضر/المحلي" كان إنمائيا تماما" كالماضي/ القومي"، لكنه ضيع الإنمائية عبر المشترك الهدمي بين الزمكانين الذين عبر عنه الناص في مستوياته الرمزية بـ "الخمرة والجواري ".

الزمن الهاجس /بنية الهدم :

بنية الهدم تتأكد من خلال الزمن الهاجس، "فواز مغمور بهواجسه ووساوسه" ص109، الصراع النفسي صراع زمني ينتاب الشخص ثم يزول، تتضح هذه البنية في إطار الضدية، ففي غمرة الهواجس لجأ  فواز إلى الدخان، الناص لم يهمل هذه اللحظة لأنها تربط بين الزمن والذات، فكرس انغرازها في ذاكرة النص لانطوائها على مفهوم هدمي (زمن الرماد زمن هاجس)، نسج في إطاره بنية النص الدلالية (الرماد) بالإحالة إلى الهاجس المسيطر على فواز، حتى حركة الباب عالجها بمعنى يساهم في تهجيس اللحظة "صرَ الباب"ص109، وكذلك حضور الشرطي، ولكي يشير إلى حركية الهدم صَور بعناية اتجاه أمواج الدخان، "اصاعدت إلى السقف"، "بدأت تنزل إلى الأسفل" ص109، والهاجس الذي يقض مضجع ألذات هو نفسه الهاجس الذي يهيمن على الزمكان باعتباره لحظة عجز، "وعجزها عن اختراق السقف" ص109، فالمكان وما يحيطه من حركة، "صر الباب" و"الشرطي" أحال الزمن إلى لحظة توتر.

ينغلق النص على الضدية المنتجة لزمن الهاجس حين تعلق النهاية الاستفهام حول مصير الجثة وتربك لحظة القراءة بإعلان عودتها إلى الحياة، "مقتول يرجع إلى الحياة" ص252، الجملة تنطوي على ثنائية ضدية تحمل مفهوم الزمن الهاجس، فالقتل زمن سكون، والحياة زمن حركة، وحركة الموت باتجاه الحياة مستحيلة الحدوث، لكن الاستفهام يطرح إمكانيات الانبعاث للواقع المشلول في خضم العبث الذي يشمل أنساقه، لأن الهاجس هو وسط بين الحركة والسكون، ويتولد من حركة السكون اتجاه الحركة.

فتح الناص النهاية على الهاجس حيث عمد إلى أسطرتها، ليلتقي الزمن الهاجس بالفضاء المؤسطر، وبذلك يحيل الزمن الرماد إلى اللامعقول، وتلتقي البداية والنهاية في حالة" تجاوب فيما يخص عناصر السرد من شخصيات وأحداث"18، باعتبارهما يسردان من قبل الراوي، وكونهما عنصري مكان، فـ"ملهى الحمراء" ص9، مكان واقعي ومدينة عين الرماد "لم يجدوا لها أثرا" ص259، مكان أسطوري، ولأن ملهى الحمراء من عناصر مكان عين الرماد، فهو يخضع بالضرورة للإسقاط الأسطوري الذي يشي بهدف الناص في تعرية الواقع عبر وصمه بالرمادية التي هي وسط بين لونين، الأسود والأبيض، بما يضفى نوعا من الحركة الكاذبة على المكان، باعتبار الأسود تعبيرا عن اللاحركة والأبيض تعبير عن الحركة.

النهاية الأسطورية تكشف إيهامية النص بالانفتاح على البوليسي، حيث تخالف توقع المتلقي، لإنتاج التشويق، والإيهام بالبوليسي إنضاف إلى مستويين تشويقيين أولاهما: تطعيم النص الحداثي بهوامش التراتي (السفر والحاشية)، حيث تمَ استحضار الزخم الماضوي بكل نسقيته المعرفية لخلخلة الوعي وتوجيهه إلى إمكانية نفض رماد الحاضر. وثانيهما: قذف القلق كعامل لتغذية التشويق، فيطرح اسم الشخصية عابرا حتى يظن المتلقي أنه لا محل له في سياق السرد، ثم تطل عليه الحاشية تفك مبهم العابر، تعريف الاسم بهذه الطريقة ينقل الوعي إلى مستويات نفسية، يدرك عبرها أن نفض الرماد يكون عبر تسمية الأشياء بمسمَياتها.

 

الإحالات:

 

1- السمة والنص السردي- حسين فيلالي- رابطة أهل القلم- ط1-ص30.

2- مبادئ تحليل النصوص الأدبية- د-ب-بركة، د- م- قو يدر، د-ه- الأيوبي مكتبة لبنان –ط-1- ص 25.

 3- المرجع السابق ص 25.

4- السمة والنص السردي – ص39

 5- المرجع السابق ص 107.

 6- نفس المرجع ص107

7 – ألان روب-غرييه – عن المرجع السابق- ص 52.

8 – المرجع السابق – ص30 – 31.

9 ـ دليل الناقد الأدبي ـ د ـ الرويلى ـ د البازعى ـ المركز الثقافى العربى ـ الطبعة 3 ـ ص 108.

 10 - المرجع السابق ـ ص112  

 11 ـ السمة والنص السردي   ـ ص 22  

12 -  مبادئ تحليل النصوص الأدبية ص  176.

13- مبادئ تحليل النصوص الأدبية - ص 79.

 14- المرجع السابق –ص 59.  

15- دليل الناقد الأدبي- ص170.  

16- المرجع السابق – ص173.  

17- المرجع السابق – ص 171.   

18- مبادئ تحليل النصوص الأدبية –ص 137.

 

الإبداع السردي والانهيار الاجتماعي

في رواية الرماد الذي غسل الماء لعزالدين جلاوجي

 

أ – وليد بوعديلة- جامعة سكيكدة

                                                                               

لعل أول ما يجلب انتباه القراء في الرواية هو جمالية العنوان، حيث يستعين الروائي بتقنية العدول والانحراف معتمدا لغة شعرية، فإذا كان الماء يغسل بقايا الرماد في الواقع اليومي، فان الأمر ينعكس في الخطاب الإبداعي، حتى أن كلمة (صورة) "الرماد" تأتي في تشكيل بصري يطغى ويفوق تشكيل كلمة "الماء"

إن الرماد هنا يسقط على الماء، انه يخنقه وبحاصره وهنا نتساءل: ما العلاقة بين العنوان والمتن؟ وكذلك: هل يمكن أن نكتشف شعرية العنوان بصورة أعمق عندما نقرأ المتن؟

إن الموضوع الأساسي للرواية هو اختفاء جثة القتيل "عزوز" ورحلة سردية جمالية واجتماعية بحثا عنها، ومن هذا الموضوع تقدم الرواية موضوعات فرعية كثيرة، تشمل قضايا الدين والسياسة، بالإضافة إلى مسألة الحضور الثقافي في مجتمع عربي استهلاكي متخلف يعاني الكثير من الانهيارات الحضارية.

رغم أن القاريء يريد منذ الصفحات الأولى معرفة القاتل والمقتول (الجثة) إلا أنه لا يدخل في أحاسيس القلق والانزعاج، لأن السارد يعتمد التشويق السردي، عبر الانتقال بين الأمكنة والأزمنة والمواقف، كما يستعين بالموروث الشعبي الجزائري، وينوع في لغة خطابه، كما ينوع في مستويات الشخوص (اجتماعا وثقافة)، ويستعمل طريقة الحاشية التي تقدم شروحات وتوضيحات عن بعض الشخصيات والأحداث، ووصف بعض الأماكن، وهي تقنية لم نألفها ولم نصادفها في روايات جزائرية أخرى، وإن قرأناها في شعر عزالدين المناصرة الذي يعتمد الهامش الشارح للقصيدة.

تكشف الرواية بعض الحقائق السياسية الجزائرية، فالزمن الإرهابي الجزائري حصد الأرواح البريئة، والممارسة السياسية تغرق في الفوضى، والمسؤوليات الهامة الكبرى تقدم بطرق غير شرعية، والمثقف الذي يريد التغيير يعاني من الغبن والاقتصاء الاجتماعي والسياسي يتساءل الضابط في الرواية «هل يمكن أن يكون عزوز ضحية هذا الإرهاب الذي راح يضرب بجنون البلاد والعباد؟ ولكن أي نوع من الإرهاب، وقد فرخ وتعدد في هذه البلاد» (ص63 ).

يوظف الروائي التاريخ العربي الإسلامي، ويفضح رموز الإقصاء ويطلب المساعدة والعون من رموز التحدي، لأن الراهن هو إعادة الماضي، ويبقى المثقف «فاتح اليحياوي» روح/ ضمير الأمة الذي يعاني الغربة والاغتراب في مجتمع يقدس أصحاب الأرجل و(...) ثم يدنس أصحاب العقول؟! ويرضى بالأنظمة المستبدة. ويعجز عن التغيير؟

لا تغيب شعرية السرد عن الرواية مثل: الحديث عن علاقة الفلاح بأرضه، وهذا في وصف وجدانه في النصوص الأسطورية،  وكذلك عند  الحديث السردي الشاعري عن عاطفة الأمومة (ص212)، كما اتجه جلاوجي نحو أسئلة فلسفية في أسفاره أو بعض فصول روايته حول الحياة والوجود والموت (...).

إن شخصيات الرواية تنتابها المشاعر والأفكار المختلفة، وتدخل في عواطف/علاقات من التفاهم والصراع أومن الألفة والاختلاف، أما الزمن فيتجه –غالبا- نحو المستقبل مع عملية استذكارية من حين إلى آخر، بخاصة عندما يتعلق السياق/الأمر بتذكر زوج عزيزة ذهبية التي أحبها ولكن لم يتزوجها، أو عودة الكاتب/السارد لقصة سجن المثقف عندما واجه مافيا السياسة والمال.

تبقى الرواية تتجه أماما، تمارس فعل الإغراء والإغواء على القارىء، في بنية واضحة غير مراوغة تكشف مواقف سياسية ساخرة، وتفضح كل الأخطاء والسلبيات في المجتمع وأجهزة الدولة، حيث ينتشر التزوير فيه، ويغلب اللاقانون على القانون، ويتفوق المال على العلم ؟؟(...).

تريد الرواية أن لا تهادن، كما تريد أن تكون صادقة، لذلك فهي تكشف لنا ممارسات "عزيزة" التي ترمز إلى المافيا المالية والسياسية، كما تفتح أمامنا قضية عميقة، فأن يتوب الإنسان "عمر كرموسة" من الذنوب ويعود إلى الله شيء جميل ومستحب، ولكن أن يتقدم للرقية الشرعية والعلاج الروحاني فهذا أمر خطير، ولكن للأسف هذا هو الواقع الجزائري بل الواقع العربي الإسلامي، حيث الكلمة للجهل والقشور وليس للمعرفة والجوهر، وفي آخر سطور الرواية ينتقل جلاوجي من الواقعية إلى العجائبية، فالنهاية الروائية مفتوحة على الغرابة والأفق الخرافي لأن "عزيزة" تدخل المقبرة وتنبش قبرا مجهولا ثم تأتي شخصيات الرواية لتحاصرها، وهنا يستعيد السارد (هل هو الكاتب؟) بتقنية الحواشي مرة أخرى، ليقدم التفسيرات والتساؤلات في مشاهد عجائبية وخارقة، عندما تتأخر فيها الحقيقة وتتقدم مشاهد الأحلام والأساطير والأولياء (...)

عندما يكتب عزالدين جلاوجي نصوصه فهو ينطلق من تربة اجتماعية وثقافية جزائرية، كما ينطلق من مرجعية ثقافية ممتدة من المعارف والفنون، يتقاطع فيها جمال النص الأدبي مع الكتابة الدرامية، ليمتزج التأليف والتمثيل، وكأنه يريد لكل نص جديد يكتبه أن يكون مشروع عمل تلفزيوني أو مسرحي وسينمائي، وروايته الأخيرة هذه "الرماد الذي غسل الماء" تحمل خصوصيات فنية وإشارات فكرية تدعو القارئ إلى تأملها.

 

 

 

دلالة العتبات وشعرية الحواشي

في "الرماد الذي غسل الماء" لعز الدين جلاوجي

 

الدكتورة : سليمة لوكام (جامعة تبسة)

 

 

طالعنا الروائي الجزائري "عز الدين جلاوجي" بنص خاض معركة اكتساب الحضور وخرج منها ظافرا، حائزا على هويته الثقافية، مؤمنا تداوليته في فضاء قرائي واسع ومميز.

إنه نص "الرماد الذي غسل الماء"1 الذي قدم إلينا بوصفه رواية، وهو تحديد أجناسي ينهض بوظائف موصولة بالإبداع والتلقي على حد سواء.

     إذا،  نجح المؤلف في أن يقد نصا روائيا من:

-        مرجعي يثوي في تضاعيفه، يقربنا منه حتى لكأننا نعيشه أو نخال أننا نعيشه ونعرفه حق المعرفة.

-        تخييلي يرسو على ضفافه، يلقي بظلال من الغرابة على المكان والزمان ومعها الشخصيات، أنشأ عالما واقعيا رصد فيه حاضرا جزائريا توخى فيه تسجيل تفاصيله وتوقيع دقائقه، انطلق فيه من حدث يومي يعد بمكانه وزمانه وشخوصه بسيطا جدا وعاديا جدا ومألوفا جدا: إنها جريمة قتل مواطن جزائري مغمور في قرية نائية زمن القتل العشوائي المجاني في جزائر التسعينيات وما بعدها من طرف مجهول.

حول هذا الحدث وبه حاك الروائي خيوط نسج هذا العالم المحكي، مفوضا في المتن ساردا واحدا عهد إليه بمهمة، ولسنا ندري، أهي إيهامنا بالخيال، أو تثبيت الواقع؟

عمد هذا السارد إلى التشكيل والتنضيد والتأثيث متوسلا آليات السرد حينا، وتقنيات الوصف أحيانا كثيرة.

وهكذا، فقد توزع عالم الرواية على أربعة أقسام وسمت بالأسفار، يضم كل سفر أجزاء مرقمة، وتتفاوت عدد الأجزاء من سفر إلى آخر، إذ بينما يضم السفران الأول والثاني أربعة وعشرين جزءا بالتساوي يتضاءل عدد أجزاء السفر الثالث ثلاثة عشر جزءا والسفر الأخير إلى ثلاثة أجزاء، وهو ما أدى اقتضاء إلى تفاوت هذه الأسفار في امتدادها المطبعي.

ولم يكن الروائي وهو ينحو هذا النحو مخالفا تقاليد الكتابة الروائية، ولم يخرق مألوفها، فقد درج على مثل هذا التعامل، لكن ما لفت انتباهنا في هذا النص الذي ينوس بين البساطة والتعقيد، بين المرونة والتمنع، بين التقليد والتجريب، هو وجود ما سماه الروائي بالحواشي، وعددها تسعون، وهي مقاطع تخلل الأجزاء المكونة للأسفار تارة إذ تندس بينها حينا، وتتراص في تتابع واضح حينا آخر فتوقف مجرى الأجزاء.

ويبدو لأول وهلة أن هذه الحواشي تؤدي وظيفة إخبارية، للوصف فيها سلطان وغلبة، فيقر في الأذهان أن ثمة فصلا ظاهرا بين السرد الذي يصلنا عبر الأجزاء المرقمة والوصف الذي تحمله الحواشي.

وهنا ينتصب السؤال صارما: إذا كانت هذه هي الحواشي، وهذه هي وظيفتها، فهل يمكن عد ما تبقى متنا؟

-        ويتفرع عن هذا سؤال ثان يرتبط بمدى تيميم الروائي وجهه شطر كتابة روائية تقليدية تأسس على تبعية الوصف للسرد على النحو الذي رآه بعض الدارسين ومنهم "ج. جينيت"G.Genette الذي صرح أن السرد في المحكي يكون "متبوعا لا تابعا، مهيمنا وإن قل حضوره على المستوى المادي، فلئن كان تصور الوصف خاليا نهائيا من أي عنصر سردي أمرا ممكنا، فإن عكس الوضعية لا يستقيم."2

ويحسن بنا ونحن نهم بالإجابة، أن نسوق نماذج من هذه الحواشي نعزز بها ما نحن إليه بسبيل:

-        حاشية 1 "يقع ملهى الحمراء في جوف الغابة، تحضنه أشجار الصنوبر والفلين من كل حدب وصوب كقلب محاط بالأضلاع، كان زمن الاستعمار بيتا لحاكم المدينة..."3

-        حاشية 3 "ومدينة عين الرماد كالمومس العجوز، تنفرج على ضفتي نهر أجدب تملأه الفضلات التي يرمي بها الناس والتي تتقاذفها الرياح... تتدرج فيها البنايات على غير نظام ولا تناسق، يسد عليها الريح من الجنوب أشجار غابة صغيرة..."4

-        حاشية 22ّ "والخبطة في الخامسة والأربعين، ممتد القامة، ممتلئ الجسم، نحيف الشفتين، لامع العينيين، مجعد الشعر ، أبيض اللون، يميل إلى الحمرة ،معتد بصحته، لا يلبس إلا الملابس الخفيفة صيفا وشتاء كأنه يتعمد إظهار الرسومات التي وشمها على ساعديه المكتنزتين كساعدي ملاكم جبار."5

-        حاشية 86  "تناقلت الأنباء أن عزيزة اختفت من المدينة بأسرها وكأنها فص ملح داهمته الأمواج العاتية... وأن الناس ظلوا الأيام الطوال ينتظرون المحاكمة دون جدوى..."6

-        إن تقصي أنحاء النظر في هذه النماذج التي، وإن لم تكن لتجزئ عن غيرها من الحواشي، فإنها تمكننا من نشر بقعة ضوء عليها، فهي كما نرى ترد وصفية خالصة كما في الحاشية3  وحاشية 22، مثلما تحتكر وظيفة سردية بامتياز كما في "الحاشية 86 " وقد تجمع بين الوظيفتين كما في الحاشية 1.

لكن ما يباين بين هذه الومضات الإخبارية وبين الحواشي، أن الأولى وردت بوصفها معلومات قدمت في ملف خاص سلمه الشرطيان للضابط "سعدون" المكلف بالبحث في "جريمة القتل" واختفاء الجثة في حين أن ما انطوت عليه الحواشي ينضوي في سياق آخر كنا قد أشرنا إليه ، ويحسن بنا أن نشير إلى أن ما ورد من تفاصيل في هذه المقاطع التي يحويها تقرير الشرطة يفيض عن حاجة المعلومات التي تطلب في هذه المواضع، ويرتد ذلك فيما نحسب إلى السلطة التي بسطها السارد على كل شيء: على الشخصيات، والزمان والمكان والأحداث، إنه السارد العليم LE NARRATEUR OMNISCIENT .

وأكثر من هذا، فقد وقفنا ونحن نجوس في مجاهل هذا النص على مقاطع كثيرة تتماثل إلى حد التطابق في بنياتها ومحمولاتها على حد سواء مع  الحواشي، ولنضرب مثالا على ذلك ما نجده في الجزء 15 من السفر الأول، إذ ألفينا السارد يقدم لنا ثلاث شخصيات على التوالي:

- "عمار كرموسة شاب في السابعة والثلاثين من عمره، قصير القامة، بدين، يملأ الوشم كثيرا من أنحاء جسده ...نشأ يتيم الأب في أسرة معدمة تسكن الأحياء القصديرية...تسرب من المدرسة في سنواته الأولى..."7

- "مراد لعور في الثلاثين من العمر... طويل، نحيف، أحول العين اليمنى، نشأ في أسرة ميسورة، تميل إلى التدين، معظم أفرادها يحفظون القرآن الكريم..."8

- فواز بوطويل في الخامسة والثلاثين من عمره، معتدل القامة، بهي الطلعة، أنيق اللباس، يعيش في أسرة ميسورة الحال، يملك مزارع شاسعة، فشل في البكالوريا ثلاث مرات..."9

وصفوة القول إن الحواشي بما هي مقاطع تتكيء على السرد حينا وعلى الوصف حينا آخر، وبما هي أجزاء مطبعية تأخذ شكل ومضات لم يكن قياد الرواية يسلس إلا بها، فإن دلالتها تنأى بها عن مقابلتها بما هو متن، وبالتالي وضعها على التخوم لإضاءة زوايا أوصال المتن ذاته، بل إنها لحمته وسداه فلا استقامة له إلا بها .

يتحصل لدينا إذن نص روائي متشظ توزع على أكثر من صعيد: الأسفار والأجزاء المرقمة والحواشي، وكلها أسهمت في تشظية هذا النسيج، بل إن ذلك الغدو والرواح ما بين السرود والأوصاف، وذلك الإقدام والإحجام بين الأخبار التقريرية وبين الومضات الإيحائية ما يشي برغبة جامحة في قول كل شيء، برصد كل الوقائع، ونقل كل الأحداث، وتقليب الأمر على وجوه شتى، أو كما يقول الدغمومي في ارتباط الرواية بالواقع الاجتماعي: "اكتسبت منه صفات جعلت منها نصا أكثر تعقيدا، ليس مجرد محاولات سردية تحكي ما كان ببساطة وسذاجة أحيانا، ولكنها تجريب مدروس وتخطيط يريد أن يماثل الواقع في غناه وتعقده وقلقه وغموضه، ولتقدم اللغة مشحونة بأصوات متناقضة..."10     

وهكذا،

- يشف هذا النص الروائي حينا عن خطابية مباشرة سافرة عالية النبرة، كما لاحظناه في الأوصاف والنعوت: "عزيزة الجنرال"، "مختار الدابة"، "نصير الجان"، "عمار كرموسة"، "مراد لعور"، "قدور الخبزة"، "خيرة راجل"، "عياش لبوطة"، "صالح الميقري"، "الزربوط"، "الخبطة"...

وليس بخاف ما في هذه الألقاب من أثر في توجيه القارئ من عملية تأثيث العالم التخييلي للرواية وأشكال خطابية تمثل مقصدية المؤلف فيها قطب الرحى.

 - ويكشف حينا آخر عن موقف نقدي بالغ الأهمية طالما أن الرواية عكفت على الاجتماعي اليومي، وأوغلت فيه إيغالا يحمل على الاعتقاد بأنه على الرغم من سعي السارد -ومن ورائه المؤلف- إلى التواري خلف الشخصيات، فإن موضعته إياها في زاوية معينة واختراقه مستودع أفكارها وعواطفها، وملازمته لها في السر والعلن يسلمنا إلى ترجيح إمكان تسلل تجربة الذات والذاكرة الفردية، ويدفعنا في مرحلة تالية إلى النبش في أخاديد المصاحبات النصية التي تحف بالرواية، وكنا قد تركناها وراءنا إذ لم نستطع أن نفك شفراتها ومضينا مسرعين إلى النص نسائله فلم يرو ظمأ معرفتنا فقفلنا عائدين.

-        وكان أظهر ما طالعنا من هذه المصاحبات النصية: اسم المؤلف والعنوان والإهداء والتصدير l'épigraphe.

تنفتح واجهة الغلاف على اسم المؤلف بخط عريض "عز الدين جلاوجي" وأسفل منه كلمة "الرماد" بخط أسود عريض، وأكثر حجما من اسم المؤلف تتبعه عبارة "الذي غسل الماء" وهو ما يشكل العنوان. وتحته، وفي أقصى يسار الصفحة، الإشارة الأجناسية"رواية" أما أسفل الصفحة فقد حمل إشارة إلى الدار التي تولت طبع ونشر هذا الكتاب وهي "دار المتون" لا "الحواشي". 

وتنبسط هذه المصاحبات على غلاف رمادي لا ندري أهو لون الماء وقد كدر صفاؤه ونقاؤه؟ أم لون رماد اكتسب بريقا من غسله الماء وهو يحاط على الجانبين بهامشين: أولهما رمادي أيضا والثاني بني متموج وينتهي بهامش بني على اليسار.

يقول جينيت في كتابه "عتبات": "ينهض المؤلف بوظيفة تعاقدية، تتغير أهميتها بتغير الأجناس ، فهي تضعف وتتلاشى إذا كان العمل تخييليا، أما إن كان الأمر موصولا بأنواع الكتابة المرجعية فإن هذه الوظيفة تتعزز وتتوسع".

وفي نص "الرماد الذي غسل الماء" الذي متح في جانب، من مرجعي ثر يلامس بعنفه ومأساويته تخوم التخييل، وتخييلي حاكته تفاصيل ملتقطة مما يقبع في مغاور الذات الواعية ومما يحفها من غلالات الغموض المولد للتهاويل والتهويمات، إنه التخييلي الذي نكتشف فيه الحقيقي والواقعي، لما تسقط أمامنا الحجب فتتجلي الرؤية.

 هكذا تظهر الوظيفة التعاقدية حينا وتضمر حينا آخر:

- تظهر حين يعلق "جلاوجي" على لسان راويه، حين يصف، حين ينقل تفاصيل الحياة اليومية، حين يسمي الأشياء بأسمائها، حين لا يكني ولا يلمح، حين يفصح ويصرح، وما أكثر هذه المواضع: "وصف الأماكن ( عين الرماد، ملهى الحمراء، الأحياء الفقيرة، الريف،...) وتصوير الشخصيات (عزيزة الجنرال، نساء الحي الفقير ورجاله، ...)، وتوثيق العادات (الجلوس في المقاهي، لعب التسلية الشعبية، الأكلات الشعبية، الحفلات والأعراس،...) ورصد الحالات الاجتماعية (الفقر، الثراء، الفساد ، الانحراف، المخدرات،...) وتسجيل الأحداث السياسية (الاستقلال، الاستعمار، الانتخابات البلدية...) أو لها بالسياسة آصرة (مقابلات كرة القدم، رأي العامة في"بن لادن"...)

- وتضمر حين يصوغ الروائي كل ذلك في ذوب جمالي يستشير فضولنا ويباعد ما بيننا وبينه، فقد أسس حول حدث، كان إلى وقت قريب عاديا في جزائر الفوضى والعنف والقتل العشوائي، وأحاطه بما عاش وسمع ورأى، وقد راق له ذلك واستطابه لما نكفأ به على سحر المتخيل يستعير منه أدوات تسعفه على التشكيل والتأليف، فوزع الأدوار وأثث الأمكنة واستدعى الأزمنة واستحضر اللغة وأطلق للفن العنان ليمارس سطوته فكان النص.

أما المصاحب النصي الثاني "العنوان" فهو العتبة التي تضطلع بوظائف فصل جينيت القول فيها لما جعلها "التعيين والتعريف والوصف والإيحاء والإغواء".12

ولئن كان "الرماد الذي غسل الماء"مضافا إليه التحديد الأجناسي "رواية" قد حدد لنا الأطر المضمونية والشكلية التي يمكن أن نتحرك ضمنها، وأمدنا بما يمكننا من كشف أسرار بنياته ودلالاته، فإنه في المقابل، تزيا بزي الاستفزاز لما ينشره من غموض، يرتد إلى قلب طبيعة الأشياء ومنطقها، فالماء هو الذي يغسل الرماد بعد أن يطفئ النار، وليس العكس، والرماد بما هو أثر من آثار اشتعال يزال بالماء كما يزال بغيره . فأنى يستقيم هذا التركيب؟

وللإجابة انعطفنا إلى النص نسائله ونراوده عن مرجعيه ومتخيله، عن الاجتماعي فيه والسياسي، عن الإنساني فيه والذاتي فألفينا الضبابية تلف كل شيء، وأمر الإنسان في هذا الحيز الزماني والمكاني بكل تداعياته وارتداداته، موكول إلى قوة تحول الوجود رمادا، لعله يومىء إلى "ولو نارا نفخت فيها أضاءت ولكنك تنفخ في رماد"، إلى حياة صارت الحقيقة فيها إلى منطقة مريبة بين البياض والسواد، زاوية ملتبسة بين الشك واليقين، إلى حالة مفجعة ينوب فيها الرماد عن الجذوات المشتعلة، بل إنه يتجاوز النار ليبحر إلى الماء فيغسل جريانه، ويبطئ وتيرته ويمتزج به في محاولة غسل صفائه وبريقه ونقائه، فكان له ذلك وكان "الرماد الذي غسل الماء" أيعقل هذا؟ نعم يعقل أو هكذا يبدو لما يهمش العقل، ويسود الظلم، ويسحق  الإنسان، وتقلب موازين الأخلاق، ويكسر سلم القيم فيتعتم النظر وتغيم الرؤية، وكنا نخال أن ما بعد العنوان سيفتح أمامنا كوى نستطلع من خلالها ما استغلق علينا ولكننا وقعنا على خطاب يقيني لا نملك أمامه إلا الامتثال ويتمثل في الآية الكريمة "فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد"الآية 45 من سورة الحج.13

 وتتبدى لنا العظة المحال عليها هنا، إذ ترتبط أساسا بالظلم المفضي إلى الهلاك الذي من أماراته الخواء والتعطل وزيف بهرج الدنيا، تلي ذلك عبارة تشف عن حكمة "إنكم لا ترونهم كبارا إلا لأنكم ساجدون"14 تشيع منها رائحة التقريع الذي يروم فتح الأعين على حقيقة رؤيتنا للآخر ومستوياتها.

وهنا ينطرح السؤال الأولي: إلى أي ضرب من العتبات ينتمي هذا الخطاب؟

قد يكون تصديرا، لكننا وقعنا على خطاب آخر قمين بأن يكون تصديرا، لا سيما أن المؤلف قد أنزله منزل التصدير لما جعله بعد الإهداء، وضمنه توضيحا لبعض جوانب النص، فكان بمثابة خطاب الاستشهاد، وسنرجىء الحديث عنه إلى حين الفراغ من أمر هذا النص الموازي الذي، وإن وقع خارج العمل، فإن له به نسبا صريحا ذلك أنه تضمن إشارة من طرف خفي إلى ما يمكن أن يخالطه هذا النص من قضايا، أو يعرضه من مسائل، فهيأ أفق انتظار القارىء، لكننا لا نملك الجزم بالقول إن كان هذا التهييىء بالألفة أم بالخرق.

أما عتبة الإهداء فهي غالبا ما تتسور بالغموض فيما هو موصول بهوية المهدى إليه ذلك أننا نقف على مهدى إليه محدد من قبل المؤلف- بصرف النظر عن كونه شخصية معينة أو كيانا حقيقيا أو افتراضيا-، ويرتد الغموض إلى دخول القارئ طرفا في العملية، يتوازى مع المهدى إليه تأسيسا على حضوره الضمني.

وفي "الرماد الذي غسل الماء" انشطر الإهداء جزءين، جاء الأول مقطعا شعريا مقبوسا من نص إبداعي آخر للمؤلف نفسه، بدا مرثية للواقع العربي الحزين، يقيم في آن وشيجة مع أمل بالبعث، وابثاق للخير، فبعد أن نقرأ "يذبحنا التتار البيض كل مساء...فتجري منا الأرض دموعا ودماء...من بحرنا حتى سيناء..."15 ونصاب بوخز الإحباط وطعن الخيبة، ينقلنا  الروائي إلى باحات الإشراق والحياة " غير أن كل صباح...نبعث أنبياء...نزرع الأرض زهرا...نضمخها عطرا وإخاء."16

ههنا، وفي هذا المقام، روعي - فيما نحسب-  موقع القارئ إذ إننا أدركنا انصراف المؤلف  عن الإمعان في تعميق القتامة وتكثيف الضبابية التي رافقت عتبتي العنوان والاستشهاد ، وكذا الجزء الأول من الإهداء الذي يبتعد عن أن يكون إهداء، أو شكلا من أشكاله المعروفة ذلك أنه لا يعدو أن يكون خطابا موجزا يقرر واقعا، أو يكتنز رؤية لهذا الواقع.

ورفع الإهداء في الجزء الثاني من "نص الإهداء" إلى "الأشجار التي وقفت بكبرياء في جنين والفلوجة متحدية زوابع أعداء الإنسانية..."17

من البين أن ما رامه المهدي هو عقد صلة بين ما سينجزه من إبداع وبين ما ينضد به له من استهلالات وفواتح تستفز القارئ بالقدر الذي تمنحه ضمانات لولوج مجاهله، لقد أفصح المؤلف عن المهدى إليه الذي دلت هويته عن الآصرة التي تربطه به "العرق والدين"، إنه مهدى إليه يتجسد كيانا تجمعه بالنص المرفوع إليه مناسبة "ضبابية الوضع السياسي، القوى الوطنية المتصارعة، الآثار المترتبة عن ذلك:الظلم، القهر، الفساد..."   

يقول جينيت:"يكون المهدى إليه دائما، وبشكل ما من الأشكال، مسؤولا عن العمل الذي أهدي إليه، إذ يكون، شاء أم أبى، قد قدم إليه بعضا من دعمه، وهذا يعني أنه شارك فيه بطريقة ما."18

إن قراءة متأنية في هذا الاستنتاج الذي انتهى إليه "جينيت" من تمحضه لوظيفة الإهداء، توقفنا على جانب بالغ الأهمية، يرتبط بالدور الذي يمكن للمهدى إليه يضطلع به في إنجاز العمل الإبداعي نفسه، إنه الإلهام الذي أومأ إليه "جينيت" من خلال إيراده لكلمتي "الدعم"  la participationوالمشاركةle soutien            

وفي نص "جلاوجي" ما يشف عن هذا الإلهام، أو ذلك الدعم وتلك المشاركة التي تحسسنا حضورها في الجزء الأول من الإهداء، وفي كل لحظة زمنية مقتنصة من حيوات الشخصيات، وفي كل ومضة سردية توقع مصائر البشر السادرين في درب الرواية، لا فرق بين أهل "عين الرماد" و"أهل جنين" وأهل الفلوجة" ، فالمأساة نفسها وإن بدت مسبباتها مختلفة، والقهر واحد وإن كانت أساليب إحداثه متباينة، إنها معاناة الإنسان العربي التي تنفتح على أكثر من واجهة، وتلبس أكثر من رداء لتفضي إلى مأساة واحدة سحق الإنسان العربي وإذلاله.

بقي أن نعرج على الطرف الآخر الذي كنا قد أشرنا إليه، وهو القارئ الذي أهدي العمل إليه ضمنا أو افتراضا، إنه لم يذهب إلى العمل بحثا عن ذاته، أو عن مساحة له داخل العمل، فإذا به يلفي العمل مهدى إليه أو هكذا خيل إليه، فمضى يتقرى إيماءات يوقع بها حضوره،ويتسلل من منافذ يثبت بها وجوده، ويؤكد من خلالها دعمه ومساندته.

أما آخر مصاحب نصي نعرض له: التصدير فيندرج ضمن العتبات الاستهلالية، ويعرفه "جينيت" بما يلي:"إنه استشهاد يرد على ٍرأس عمل ما، أو على جزء منه، أو على حافته، وغالبا ما يكون في موقع قريبا جدا من النص، أي بعد الإهداء، إن وجد."19

ويجرنا مثل هذا التعريف إلى عد الخطاب الذي تموضع بين نص الرواية والإهداء، مستهلا بعبارة ندائية "حبيبي" تصديرا، لكن ما حواه هذا الخطاب من توضيحات ينأى به عن أن يكون تصديرا، ويعضد ما نذهب إليه ما حد به "جينيت" التصدير في موضع آخر إذ يقول: "إنه حركة صامتة يتحمل القارئ تبعة تأويلها."20 فماذا يمكن أن نعد هذا الخطاب؟

-        Une instance préfacielle أهو مقدمة، أم تمهيد، أم ما يسميه "جينيت" هيئة مقدماتية؟

يحسن بنا قبل أن نسعى للإجابة، أن ننشغل بما انطوى عليه هذا الخطاب من دلالات، وما حواه من مضامين بوسعها أن تشق لنا مسلكا إلى التصنيف، ونظفر بكشف ما يمكن أن يكون قد احتجب علينا.

تقدمت إلينا هذه العتبة الاستهلالية بخطاب نداء "حبيبي" ينفتح على مناجاة تأخذ شكل الخاطرة، نداء يحقق مقاما تواصليا يحضر فيه المنادى صورة تشكلها ذات متكلمة (المؤلف كناية لا تصريحا) موجوعة بفقد هذا المنادى الحبيب "المجهول"، ذات يائسة من حلم عودة الحبيب، باثة إياه لواعج بعده عنها، تروم امتلاكه بفتنة القص إذ تشرع أمامه أبوابا لشهوة الحكي، ملوحة في ذلك بالعجيب والغريب والمدهش، خاتمة إيقاعها بإشارة إلى حصول اختلاف في اختيار عنوان لهذه "الحكاية العجيبة"، فمن العناوين التي شاعت بين الناس "سوق النساء" و"الجثة الهاربة"، أما هذه الذات المتكلمة فانفردت باحتيار "الرماد الذي غسل الماء"  لكنها لا ترى غضاضة  في أن يسمها الحبيب المنادى بما يشاء، وله أن يمتنع عن تسميتها كلية.              

أما التوقيع الذي ذيل به هذا الخطاب "قلب أحبك بجنون"21 فيحفه غموض متسرب مما  ثوى في تضاعيف هذا الخطاب من مخاتلة ومداورة وسع بها المؤلف مدارات التخييل، وحمل المتلقي على بسط أشرعته في كل اتجاه لعله يثبت قدما أدرك أنها ستزل منذ أن واجه العتبات الأولى.  

يتحصل لدينا إذا، ونحن نهم بإنهاء مقاربتنا لعتبات الاستهلال في هذه الرواية، أن هذا النص العتبة ضم ما يختلف وما يأتلف من خطابات مما يفيض عن حاجة التصدير، ومما لا يمكن أن يتسع له التمهيد أو المقدمة.

  هنا يتساءل متسائل فيقول: أيتأطر هذا ضمن الآفات المعطبات التي تضئل من قيمة النص الروائي، وتخلخل أبنيته؟ أكان ذهن المؤلف، وهو يدبج هذه السطور، خلوا من أي تصور مسبق لما تكون عليه العتبات الاستهلالية في صيغتها ومحتواها؟

فلا نملك هنا إلا أن نجيب بسؤال نراه حقيقا بالتثبيت: أمن الضروري أن يتبع المبدع سمت سابقيه أو مجايليه في هذا؟ ثم ما حظ فعل الخرق المولد لكل جديد وخاص ومتميز ودال على الإبداع؟

وجماع القول إن خطابا كهذا يند عن المحاصرة التصنيفية، ويتزأبق على التجنيس التنظيري خليق بأن يعد عتبة استهلالية مقدماتية تصديرية تؤمن وظائف متنوعة، كالتعليق على النص، والتعليق على العنوان، وتوجيه المتلقي وتصعيد حساسيته، والإعلان عن قصد المؤلف من إنتاجه هذا النص، وتحديد جنس العمل المبدع، ومراحل تكونه، وما إلى ذلك مما يشترك فيه كل من التصدير والخطاب المقدماتي في النهوض به.

إنه ضرب من ضروب الهيئات المقدماتية التي، وإن تفلت من الوسم الأجناسي، فإنه أدى دورا في فتح النص على ممكناته ومستحيلاته في آن، واستفز قارئا لاحق ذاتا هاربة أو "جثة هاربة"، فأبحر في ماء غسله الرماد لعله بذلك يتطهر من فضوله، أو يكتسب مناعة أمام عتبات مغريات طالما نصبت شباكا وأحابيل أمامه وانصاع لها مفتونا مستطيبا وقوعه وانصياعه.   

 

الهوامش:

1 – عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، دار المتون للطباعة والنشر، الجزائر، ط1 ، 2005 .

2- Gérard Genette,Frontières du récit,in communications 8, Editions du Seuil, Paris,1981.

3- عز الدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، ص17،18.

4- المصدر نفسه، ص19.

5- المصدر نفسه،ص90.

6- المصدر نفسه، ص396.

7- المصدر نفسه، ص 91.

8- المصدر نفسه، ص92.

9- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

10 – محمد الدغمومي، الرواية المغربية والتغير الاجتماعي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،1991،ص48.

11- يقول جينيت في كتابه Seuils : "المصاحب النصي، في كل أشكاله، خطاب غير مستقل hétéronome  ، فهو ظهير وقف نفسه لخدمة طرف آخر يمثل سبب وجوده ألا وهو النص" G.Genette,Seuils, Editions du Seuil,Paris, 1987, p37.

12- G.Genette,Seuils,p44.

13- عز الدين جلاوجي، سرادق الحلم والفجيعة، رواية، منشورات دار القلم، 2006.

14- عز الدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، ص 8.

15- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

16- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

17- G.Genette,Seuils,p139.

18- Ibid,P147.

19- ibid, p159.

20- الرماد الذي غسل الماء، ص12.

21- يرن جينيت في كتابه Seuils أن "صيغ الخطاب المقدماتي لا يمكن أن تخرج عن ثلاثة أشكال: صيغة درامية وصيغة سردية وصيغة شعرية"ص( 173، 174.)

ونلاجظ أن ما كتبه الروائي يزاوج بين الصيغة الدرامية المتجسدة في المقدمة الحوارية، والصيغة السردية التي تتصل بظروف تحرير النص وملابسات إنتاجه.

 

 

 

 

 

دراسات تناولت رواية

سرادق الحلم والفجيعة

 

 

شعرية الرواية وهاجس التجريب

في "سرادق الحلم والفجيعة" للروائي عز الدين جلاوجي[23]

أ‌.        الخامسة علاوي (جامعة قسنطينة)

 

"سُرادق الحلم والفجيعة[24] رواية لصاحبها عز الدين جلاوجي*، اختار فيها الروائي أن يُغلّف الأحداث والشخصيات والفضاءات بل وحتى الأزمنة بغلاف عجائبي يثير في النفس الحيرة والتردد، و الغرابة المقلقة والرعب المعنوي، و يُحيل على تساؤلات لا نسلم بأنّ العقل البشري يقف عاجزا عن الإجابة عليها مطلقا، ولكن ليكن ذلك على الأقل مؤقتا . لعل من أهم التساؤلات التي لا يفتأ القارئ لهذه الرواية يطرحها: - لماذا عرض الروائي روايته بهذا الشكل (الخاتمة في مقدمة الرواية والمقدمة في نهايتها)؟ هل نزوع الروائي إلى الكتابة بهذه الطريقة، هو في الحقيقة إعلان منه عن رفض النمطية والتقليد واجترار الشكل التقليدي؟ أم  هل  هو نوع من التجريب غايته المثلى الوصول إلى  كتابة رواية تجريبية؟ -     لماذا العودة إلى الخطابات "الأليغورية"، هل ذلك مجرد اختيار اعتباطي أم هل هو اختيار مؤَسَس نحا إليه الكاتب نحوا لغايات دلالية تضيفها طبيعة الحيوانات الموظفة في الرواية؟ -     لماذا استعار الكاتب لفضاء الرواية الممثل بالمدينة صورة المرأة العاهرة المومس، الكاشفة لكل ما خُفي؟.. وأي رسالة يريد أن يوصلها من وراء هذا الفضاء الحلولي المقرف؟ -     لماذا هذا الكم الهائل من التناصات، وخاصة ما جاء منها على مستوى النص القرآني المفعم بالدلالات والإيحاءات والرموز المحتاجة إلى ثقافة تراثية تمكّن من الإحاطة بها؟ مما لا شك فيه أن الإجابة عن هذه الأسئلة المطروحة وأخرى لم يتم الإفصاح عنها ستتضمنها هذه الدراسة التي نحاول من خلالها " استكشاف المجهول، واستكناه المعدوم"[25]  طبعا إذا سلمنا جدلا أنّ " الكتابة بحث عن الجواني الغائر في مجاهل الذات عبْر البراني الذي يبدو هو أيضا بعيدَ المنال، شديد المِحال"[26]، وسلمنا أيضا أنّه إذا استحوذت على الكاتب مشكلة ذات أبعاد عميقة "فإنه لا يجد غير الرواية معينا للتعبير، لما لها من مرونة تتسع لاستيعاب هذه الأبعاد"[27]، وكأنّ عز الدين جلاوجي أدرك أخيرا أنّ النصوص المسرحية والقصص القصيرة لم تعد قادرة على استيعاب ما تطفح به نفسه من وهج الكتابة، لذلك راح يجرّب كتابة الرواية*بحس روائي واعٍ، وبإيمان جازم أنّ الكتابة في حقيقتها خرق، و"أنّ قوة الروائي الحقيقية تكمن في أن يبتكر، ويبتكر بحرية تامة دون تقيد بنموذج أو مثل"[28]، ولأجل ذلك جاءت روايته "سرادق الحلم والفجيعة "موضوع الدراسة فَلْتة في الرواية الجزائرية – إن جاز لنا أن نعتبرها كذلك - ؛ لأنها خرجت عن تقاليد نوعها ونتاج عصرها وبيئتها؛ ذلك أنها جاءت معلنة تمردها- شكلا ومضمونا– على كل القوانين والقوالب التقليدية التي عرفت بها الكتابة الروائية، فلا الشخصيات جاءت واضحة الملامح، ولا الأحداث تنم عن تسلسل منطقي وان كان نسبيا، ولا الزمن كان على وتيرة واحدة، أما اللغة فتارة تبدو بسيطة تحتضنها الجمل القصيرة (التي تتميز بها القصة عادة)، وتارة أخرى تأتي معتاصة تعتريها دلالات مختلفة يعجز حتى السياق عن  تحديد واحدة منها، ناهيك عن طابع الشعرية الذي يلف الرواية لغة وسردا.

ولعل هذا الصبغة التي اصطبغت بها الرواية هي في واقع الأمر مستوحاة من إيمان كاتبها بأنّ "الرواية هي ذلك الجنس الأدبي الذي يجدد إمكاناته التيماتيكية والتركيبية والأسلوبية... ولا يبقى حبيس القوالب الجامدة .إنّ أي بناء تقدمه الرواية الجديدة يظل مؤقتا تتجاوزه إلى بناء آخر"[29]، وأنّ الموضوع الروائي ذات متجددة لا موضوعات مألوفة كما تؤكد ذلك فرجينيا وولف في عبارتها الشهيرة[30] .

ومن أجل ذلك جاءت روايته هذه على هذه الشاكلة تتصدر الخاتمة الصفحات الأولى بينما تؤجل المقدمة إلى آخر صفحة من الرواية، جامعة  في عنوانها  بين الحلم (لقاء الحبيبة نون) والفجيعة (انتظار الطوفان المهلك والمنقذ في آن واحد) وما أشبه هذا الطوفان بالطوفان الذي أهلك قوم نوح عليه السلام، وفي ذلك قلب لموازين الخطاب الروائي. فهل يمكن عدّ هذا الخرق من الكاتب تطعيما للخطاب الروائي التجريبي في الجزائر بهذا النموذج الحسي، أم هل هو  مجرد خرق اعتباطي لا يسعى الروائي من ورائه إلا إلى "الاستجابة لأنانية الذات، وغرور الطموح، وشطحات الرغبة، وارتعاشات الجسد "[31] -على حد تعبير عبد الملك مرتاض – بكل ما تحمله هذه العبارات من دلالات .

إنّ الحقيقة التي لا محيد عنها أنّ الكاتب أبدع في بناء روايته بناءً معماريا نقيضا للبناء الكلاسيكي، حيث عبّر من خلاله عن رؤية جديدة متطورة فنيا، تميزت أساسا على مستوى تشكيلة الرواية التي جاءت مبنية على مجموعة مقاطع تبدو لأول وهلة مستقلة، لكنها مترابطة، ومطعمة بالكثير من الاقتباسات والتضمينات، التي وسمت النص ببنية عميقة، غنية بالدلالات، مليئة بالشفرات والإشارات والرموز،  التي تجبر المتلقي على التزود بمخزون ثقافي وأدبي لعله يستطيع به أن يفك تلك الرموز،  وينجز نصا إبداعيا موازيا قائما على القراءة الصحيحة للنص الأصل ،إذا سلمنا جدلا بأن القراءة في ذاتها إنتاج.

إذا ففي جو من العبثية والمغامرة في نحت الألفاظ والعبارات نسجت رواية "سرادق الحلم والفجيعة" أحداثها المغرقة في الغرابة والتعجيب، حيث ابتدع السارد عالما متخيلا يحيلنا على عالم كليلة ودمنة، حيث الشخصيات تمثلها حيوانات مُنحت القدرة على التواصل فيما بينها بلغة شفوية، وتتحرك في فضاء غايةً في القذارة والعفن، إنه فضاء المدينة بل بوابة المبولة العامة لها، أين تتوسد المدينة ذراعيها باسطة جسدها المهترئ، كاشفة عن مفاتنها، تلوك علكتها، تمارس العهر جهارا دون حياء، ولا رادع يردعها. 

فالملاحظ أن الروائي  اختار لروايته فضاءً حلوليا*، فهل يعني  ذلك يا ترى  أنّ المدينة في إحدى تجلياتها امرأة، وهي أيضا مكان من أمكنة اللعنات الشيطانية تماما كما كانت في روايات غالب هلسا[32]، أم أنّ الأمر لا يتعدى مجرد التطعيم للبعد العجائبي الذي اختاره شكلا وتقنية في السرد، فراح بوعي فني كبير يجسد الفضاء في صورة المرأة المومس التي تبيع الهوى والشهوة على بوابة المبولة، تعرش فوق مفاتنها الطحالب... الفئران...، الخنافس، ويُطارد في أزقتها الغرباء، فاتحا الباب على مصراعيه للمخيلة باعتبارها المركز البؤري الثرّ"الذي ينطلق منه الفانتاستيك ليؤسس عوالمه الدالة"[33] القادرة على استيعاب شتى التحولات والامتساخات لتمرير خطابات ذات طابع انتقادي لكثير من الأوضاع، متكئا على  الرموز بإيحاءاتها واللغة الشعرية بخصوصياتها القادرة على قولبة  الأحداث  المروية.

شعرية السرد :

تعد "الرواية الشعرية ذروة الرواية بمعناها المطلق"[34] -كما يذهب إلى ذلك عبد الرحمن منيف– لما يمتاز خطابها "بخصوصيته الأسلوبية واستثماراته البلاغية ونزعته نحو التكثيف والاقتصاد اللغوي، حيث يصبح للكلمة في هذا النوع من الكتابة قانونها الخاص وإيقاعها المتميز"[35]، مما يدعو إلى هيمنة الوظيفة الشعرية على سائر الوظائف التي تنهض بها الرواية عادة.

  ونحن إذ نحاول في  هذه الدراسة العجلى الوقوف على شعرية الخطاب السردي في رواية جلاوجي، فإننا نسعى أولا إلى التركيز على لغة الرواية وأسلوبها، ثم أسلوب التضمين (التناص) باعتبار أن الرواية كانت ملتقى لتقاطع خطابات متنوعة، لنصل في نهاية المطاف إلى مدى تمثل الخطاب الروائي الجلاوجي لمقومات شعرية الخطاب السردي وانفراط العمود السرد ي فيه .

اللغة الشعرية :

لعل ما يتفق عليه معظم قراء هذه الرواية هو اعتبار الروائي فيها ناحتا للعبارات والألفاظ متلاعبا باللغة، مخرجا إياها من وظيفتها الإخبارية الإبلاغية إلى وظيفة بلاغية تعتمد الإيحاء بالمعنى عبر عبارات تكون في كثير من الأحيان تمتح من أكثر من إطار مرجعي "محاولة خرْق الترابط الدلالي والنحوي والعدول عن الاستعمال العادي"[36] ؛ وكأنّ اللغة في هذه الرواية "تتجاوز النقل إلى الإبداع والتصوير إلى الخلق، إنها تُبْدع واقعها وتخلق  عالمها وتحقق بالتالي شعريتها"[37] تماما كما كانت لغة (مخلوقات الأشواق الطائرة) لادوار الخراط على حد تعبير جمال بوطيب.

ولنتأمل هذه المقاطع المصطفاة :

"ثنى عطفه... جمع دموعه من بين ثنايا التراب في خيط من عسجد قلّدها جيده عِقدا لؤلئيا... تأملني بحيرة المفارق... سبحت في عينيه بحيرتين غامضتين... تركني ومضى... فرّ من أمامي كأنّه حمر مستنفرة فرّت من قسورة... اعترتني قشعريرة رهيبة اصطك لها شعر رأسي فجلست القرفصاء أتأمله وهو يغيب بعيدا بعيدا عني"[38].

"ويا صفصافتي يازيتونتي... يا شفائف النور... يا ساقية... جدولا فضيا... ويا مهرة برية بيضاء... تعشقين التمرد... تعشقين الكبرياء...

ويا... حمامة بيضاء لا تحسن إلا أن تحلق في الفضاء...

إليك أهرع كطفل صغير أفزعته الذئاب...

ضميني إلى حضنك... هدهديني بجفون عينيك... ضميني إلى القلب الملتهب...

دعيني أكن قطرة حمراء تعدو متوهجة جذلى في شرايينك...

خفقة حبلى في فؤادك... صهيلا في كبريائك...

ذوبيني فيك...

هأنذا أستجديك يا... ضميني إليك...

عطريني من وجنتيك... من سنا شفتيك....

اغمسيني في القلب... اللب... العمق... الجوهر...

امنحيني الحياة "*[39]....

ألا تبدو هذه المقاطع طافحةً بالشاعرية؟، ألم تسْمُ بجوهر لغتها إلى قمة الإبداع والخلق...؟

مما لا يختلف فيه اثنان أن القارئ لهذه المقتطفات  ينسى كلية أنّه يقرأ رواية، فيهيم في عالم شعري دليله فيه الكلمة المتّقدة، والروح المنفعلة، والنفس التواقة إلى الإبحار دونما مجاديف، لان الروائي اعتنى عناية كبيرة "بتراكيب الكلام التي بلا معنى، بوضع الكلمة في تشكيل جديد غير مألوف وغير متوقع، بتحرير الكلمة العادية، باللغة غير العقلانية والتي تولد تأثيرا غير مألوف"[40].

لقد حقق الروائي انزياحا لغويا، أخرج فيه اللغة عن كونها لغة روائية محضة إلى لغة شعرية تتوسل بالمجاز والرموز سبيلا لتحقيق شعريتها، ومما زان هذه اللغة أن ألفاظها وعباراتها كانت منتقاة من  عبارات النص القرآني ذات النسق الإيقاعي الجميل.     

وهنا نتوقف لحظات لنتحدث عن تطعيم الروائيين لنصوصهم الإبداعية بنصوص قرآنية، أحيانا تزيد النص رونقا وجمالا وتكثف  دلالاته، وأحيانا أخرى تُقْحم في النص فتنحرف به إلى منطقة اللاتأويل، و يشوب النص الالتباس معجميا ودلاليا.

 وإنا لا نود أن تُحسب علينا هذه دعوى إلى إبعاد النص القرآني المقدس عن النصوص الإبداعية، بقدر ما نود أن نُؤكد على ضرورة حسن التعامل مع هذا النص المفعم بالدلالة، القادر على استيعاب الماضي و الحاضر والمستقبل بكل تقلباتها .

 التناص:

مما لا ريب فيه أنّ ظاهرة التناص تعتبر من الظواهر الفنية المفروضة على كل النصوص حيث "تتجلى نصية النص، من خلال فاعلية التناص؛ إذ تبرز من خلالها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص أخرى ومعانقتها وعلى إنتاج نص جديد"[41] يحتفظ بخصوصيته رغم كل الإمدادات؛ لأنّ"كل نص يتناص، أي يتفاعل مع غيره من النصوص، وينتمي إلى مجال تناصي لا يجب الخلط بينه وبين الأصول أو المصادر التي ينحدر منها"[42] على حد تعبير صبري حافظ في مقاله (التناص وإشاريات النص الأدبي).

وقد نجح جلاوجي في توظيف هذه الظاهرة في تجربته الروائية هذه، حيث أغناها بإشارات ورموز وعناصر لغوية مستنبطة من القرآن والقصص الديني والموروث الشعبي، كشفت عن قدرة الناص على"تذويب الحدود بين العبارات المتناصة في الجملة الواحدة، ثمّ في الفقرة الواحدة، وأحيانا في العبارة الواحدة"[43].

    ولعل خير مثال نضربه في هذا المقام هو مقطع (العجائز والقمر) الذي يروي فيه الناص أنّ القمر "قد عشق المدينة وهام بها حبا وسعى إلى الخلوة بها فلما تم ّله ذلك راودها عن نفسها أقصد راودته عن نفسه لأنها شبقية، فاستعصم وفر ّفأمسكت به فقدت قميصه من قُبُل وشهد شاهد من أهلها قال :

إن قدّت قميصه من قبُل فكذب وكانت من الصادقين ...

وإن قدت قميصه من دُبر فصدقت وكان من الكاذبين ..."[44] .

   لا شك أن هذه الفقرة الأخيرة من شأنها أن تجعل النص الغائب (قصة يوسف مع زوجة العزيز) حاضرا في ذهن المتلقي، مما يؤدي إلى تحول"علاقات الحضور والغياب إلى علاقات حضور حية رغم اختفائها على مستوى الكتابة وتجليها في مستوى القراءة "[45].

والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها مقطع " الحلول وحديث الإشارة"[46]، حيث أخذ الناص على كاهله وصف الشيخ المجدوب المنكفئ على نفسه، الذي اتخذ لنفسه ظل صخرة كبيرة بعيدا عن المدينة، ماسكا عصاه مرة بيمناه، وأخرى بيسراه، رافعا رأسه يتأمل السماء دون أن يتحرك البتة كتمثال مرمري قديم وُضع دونما عناية عند سفح صخرة كبيرة أحاطت بها حشائش خضراء يانعة. يقوم بطقوس خاصة لا يعرفها إلا هو، ولا يقوم بها إلا هو...، كما لا يمكن أن يحل طلاسمها ورموزها إلا هو... فقد تحيلنا هذه الفقرة على قصة تحنث الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء الليالي ذوات العدد  كما يمكن أن تحيلنا على قصة زكريا عليه السلام الذي نذر أن لا يكلم الناس إلا رمزا. وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على أنّ الناص قد حاول بكل ما أوتي من قدرة إبداعية أن يبني بناءً فنيا متكاملا لروايته، اعتمد فيه على المتخيل السردي والفنتازي والأسطوري السحري والعوالم الشعبية الآسرة،  يقول في إحدى رواياته عن قصة  (العجائز والقمر):

"اجتمعت العجائز عند بوابة المبولة واستحضرن كل الشياطين والعفاريت والمردة ويأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون وعلى كل ضامر يأتون وحُشر كل ساحر عليم...

وفعلا جاء القمر من عرشه يسعى ونزل القصعة المملوءة ماء... حينذاك أقبلت المدينة تتهادى في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها شكوتاها... تضرب الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة.

تأملت صفحة القمر المضيئة وهي تلوك علكتها... فرأت صورتها بشعة مفزعة... مخيفة... مهلعة... مهلكة... قهقهت عاليا تنوح ثم ّقالت:

    مرآتي يا مرآتي من هي أجمل الجميلات؟

وأجابتها صفحة القمر صمتا... سخرية... هُزُءً... تكبرا... تعاليا... فلما اشتد حنق المدينة وأدركها ليل القنوط سكتت عن الكلام المباح... وأوحت إلى العجائز أن شوهن محيا القمر..."[47].

فالمقطع رغم قصره أحالنا على عوالم شعبية عجيبة (استحضار الشياطين والعفاريت) وعبّر عما تملكه العجائز (الساحرات)  من  قوى خارقة تمكنهن من استقطاب حتى يأجوج ومأجوج لمجالسهن لرؤية القمر وهو ينزل إلى قصعة الماء المعدة له، حيث يلقى مصيره المحتوم (التشويه على أيدي العجائز).

 أما عبارة "مرآتي  يا مرآتي من هي أجمل الجميلات؟ "فقد تحيلنا رأسا على الحكاية الشعبية المعروفة بـ (" بياض الثلج" «Blanche Neige»)، وكأنّ الذي تكنه المدينة من الغيظ والحقد على القمر هو بحجم الغيظ والحقد  الذي ملأ قلب زوجة الأب الشريرة من ابنة زوجها "ثُليجة" لأنها أجمل منها، فراحت تكيد لها كيدا.

كما تحيلنا عبارة "فلما اشتد حنق المدينة وأدركها ليل القنوط سكتت عن الكلام المباح..." على الليالي وحكايات شهرزاد التي أعلن سارد الرواية منذ البداية أنه معرض عن حكاياتها، معوضا إياها بدنيا زاد التي تروي له من القصص ما لم يسمعه إنسي ولا جنـي[48]، إيمانا من السارد أن حكايات شهرزاد بلغت من التداولية ما أفقدها سحرها ولذةَ حكيها، فاختار دنيا زاد بادئ ذي بدء لتكون راوية لأحداث روايته، ولكنه سرعان ما يعدل عنها ليعهد بالحكي لكليلة ودمنة اللذين رداه بدورهما إلى الراوي (بطل الرواية)، هذا الأخير الذي ظل إلى آخر لحظة غير معلن عن اسمه وإن كانوا في المدينة ينادونه أحيانا بـ(حي بن يقظان)، وقصة حي في الأدب العربي أشهر من نار على علم.

لقد أثبت جلاوجي فعلا من خلال هذه الرواية قدرته العجيبة على استحضار النصوص الغائبة وتذويبها بعضها داخل بعض للحصول على نص حاضر يتناص مع الكثير من النصوص الذائبة فيه والمتفاعلة معه، فمن عبارات من خطبة قس بن ساعدة الأيادي[49]، إلى عبارات من النص القرآني إلى الأقوال المأثورة[50]، إلى أخرى من ألف ليلة وليلة ،إلى كليلة ودمنة، وقصص الأنبياء والمرسلين (حيث استحضر قصص يوسف وموسى ونوح عليهم السلام أجمعين....)، ولعل غرضه من وراء ذلك تكثيف السرد وإحلال دلالات عميقة في جسد النص، وجعل الرواية أفقا لتقاطع الملفوظات المتباينة، التي تفتح آفاقاً قرائية مختلفة كما أشرنا إلى ذلك سلفا.

وعلى الرغم من الخصائص الفنية التي تميزت بها الرواية كنص وخطاب فإنّ ذلك لا يجعلنا نغفل بعض الهفوات التي وقع فيها الكاتب والتي من أهمها مبالغته في تمويه القارئ، هذا التمويه الذي أغرق به الكاتبُ النصَّ في أجواء ضبابية تجعل من الصعب الوصول إلى تحديد هدف ورسالة تنهض بها الرواية، وقد كان لهذا التمويه صورا متعددة؛ إذ  وقع على مستوى العبارة [51](والحقيقة أنّ الروائي كان في هذه النقطة وفيا لعتبة[52] من عتبات نصه)، كما وقع على مستوى الروايات المتعددة للخبر الواحد (حكاية العجائز والقمر[53]، الروايات المختلفة عن قدوم الطوفان وعدم قدومه[54]، تعدد الروايات حول مصير الشياطين الملاعين والأبالسة الماكرين الذين تعهد الرجل الصالح القضاء عليهم من على وجه الأرض، وانفراط الكيس وفرار الشياطين منه وسكناها أرجاء المدينة المومس)[55]، هذه المدينة التي تعدّ بحق محلا للعنات الشيطانية، ولأجل ذلك غادرها (عسل النحل، نور الشمس، الأسمر ذو العينين العسليتين، سنان الرمح، شذا الزهر، والحبيبة نون)، غادروها جميعا بحثا عن مدن أخرى أجمل وأحسن، آثروا السكنى في الكهوف والجبال على البقاء في مدينة شبقية تستدرج كلَّ دارج بها، هربوا بدينهم من دنيا الدنس والعفن، وأقاموا حياة جميلة في كهوفهم المصطفاة[56]، التي استأثر الكاتب بمعرفته لمكانها...

     هذا إضافة إلى إغراقه في الوصف ومبالغته في بعض المشاهد التي تدعو إلى التقزز في كثير من الأحيان[57]، والتي تحس في كثير من الأحيان أنّ الكاتب تعمّد فيها الدقة في الوصف لا لتعطيل السرد وإنما لخلق مشاهد مثيرة للدهشة (مقطع الماء مثلا)[58].

 ملامح شعرية الخطاب السردي:

إنّ "رهان الشعرية الروائية الحاسم يكون في اللغة في الكلمة والتركيب..."[59] بهذا ختم نبيل سليمان عبارته التي حدد فيها الملامح الأساسية التي يلزم توفرها لكي يكون إطلاق مصطلح "الشعرية السردية" صميما، والتي أجملها في "كسر الترتيب السردي، وفك العقدة التقليدية، وتحطيم الزمن المستقيم، وتهديد بنية اللغة المكرسة، وتوسيع دلالة الواقع ليعود إليها الحلم والأسطورة والشعر، واستخدام صيغة الأنا لتعرية الذات..."[60].

وكأنّ نبيل سليمان من خلال هذه العبارة يؤكد أنّ اللغة هي المركز البؤري الذي  تتحدد عليه "الشعرية السردية"؛ حيث يُعمد إليها فتغيّر من وظيفتها الإبلاغية إلى وظائف أخرى أكثر عمقا ودلالة، فتغدو بذلك "لغة متواترة، مشحونة، منزاحة عن الأنماط المألوفة، وتلك ميزة هذه الرواية التي سعى فيها جلاوجي إلى الانزياح بلغته عن اللغة المعتادة؛ إذ حاول أن يسمها باللغة الشعرية القائمة على الكثير من المجازات والتشبيهات والاستعارات، وخاصة أثناء رسمه للشخصيات( الحبيبة نون )[61]و( المدينة المومس)[62] على سبيل المثال .     

-     أما عن البناء الفني للرواية فقد جاءت عبارة عن مقاطع سردية معنونة تميزت لغتها بصفة الشعرية – كما أشرنا إلى ذلك سلفا – وتخللتها مقاطع شعرية[63] هي أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر التي برع  بنظمها بعض الحداثيين، القائمة أساسا على تحطيم عمود القصيدة، وكأنّ حمولة الراوي من الحرية كانت كبيرة؛ إذ لم تقف عند حدود تحطيمه لعمود السرد والحكي، بل تعدت إلى الشعر فاختار قصيدة النثر وعاءً يصُبُّ فيه دفقه الشعري، فجاءت هذه المقاطع الشعرية مكتوبة بطريقة الشعر الجديد، حيث للبياض مكانته ومن ثمّ شعريته ولغته التي لا تقلّ أهمية عن شعرية اللغة المسطورة.

-     مما تميزت به الرواية وكان محققا لشعرية السرد فيها تفكك المادة الحكائية لانفراط الحبكة، وتشتت الراوي" بين قول شيء  و محاولة القص"[64].

-     جاءت الرواية مقسمة إلى مقاطع سردية معنونة ومرقمة، بلغ عددها ستةً وثلاثين مقطعا، تبدو لأول وهلة مستقلة بعضها عن  بعض، لكن سرعان ما يلمح القارئ مدى ترابطها فيما بينها.

-     كثافة السرد: "كشفت الدراسات السردية المتخصصة وجود ضربين من السرد، سرد شفاف وسرد كثيف، فحينما يختفي السارد ويتوارى إلى أقصى حد لصالح الحكاية يظهر السرد الشفاف الذي يجعل الأحداث تسرد نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الوسيط السردي، أما حين يشير الراوي إلى نفسه فإن المتلقي لا يندمج مع الأحداث ولا تتحقق واقعية الحكاية وإنما يتمزق الإبهام وتنكسر مقوماته، فالراوي يتدخل متحدثا عن نفسه وعن دوره مبديا ملاحظات حول كل شيء، وهنا يظهر السرد الكثيف"[65]،الذي كان واضح الملامح في الرواية لاسيما وأنّ الراوي قد أعلن منذ الوهلة الأولى (في مقطع أنا والمدينة) أنّ الحكاية التي يقدمها راويا لأحداثها هو نفسه بطلها. فالأحداث التي تروى تروى طازجة (وقت حدوثها) مما يجعل العلاقة بين (هو) الحكاية و(أنا) الخطاب متساوية(الراوي= الشخصية)، وهو ما يعبر عنها «Jean Pouillon» بـ (الرؤية مع) «Vision avec».

مما تقدم نلحظ أنّ الرواية جاءت طافحة بالروح الشعرية التي تجسدت في هاجس الحرية، مع توفر عناصر السرد التي جاءت في مجملها نموذجا ناضجا لشعرية السرد والحكي، كثيرا ما توسل بانزياحات الصورة الشعرية في نقل الأحداث مفعمة بالحالات الانفعالية الدالة على حالة التيه والضياع التي كانت تعاني منها الشخصية الرئيسة وهي تحوم في أرجاء المدينة المومس، التي ظلت "تتهادى في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها... شكوتاها... تضرب الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة"*.

في ختام هذه الدراسة لا يسعنا إلاّ أن نقول أن جلاوجي بهذه الرواية العجائبية الطابع، الشعرية الحكي سعى إلى إخراج التلقي من السكونية السالبة إلى الجمالية الموجبة، كما أبان أنّه لا يسعى من خلال روايته هذه إلى تقديم حلول لمجتمعه بقدر ما هي نافذة نطلّ منها لنرى الواقع. 

 

 

جمالية المقاومة:

طرائق اشتغال الأدب الشعبي في سرادق الحلم والفجيعة

                                                     د. أحمد فرشوخ (المغرب)

 

تتوخى هذه الدراسة تحليل أشكال استثمار الثقافة الشعبية في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" للأديب العربي الجزائري عز الدين جلاوجي انطلاقا من فرضية أساسية ترى بأن الإبداع الشعبي قادر على مقاومة الهيمنة وتنسيب السرديات المتمركزة عبر مراجعة التصنيفات الأدبية والثقافية وكسر المقاييس الأدبية المعيارية. ذلك أن إنتاج الأدبية مقترن بالسياق الثقافي، إذ لا وجود لأدبية وحيدة  تتجاوز الشروط المكانية والزمنية،كما أن النصوص على اختلاف أنواعها متورطة وجوبا في شبكة العلاقات السياسية الاجتماعية المعقدة. وحيث إن الرواية العربية جزء من آداب الشعوب المستعمرة، فإن لا شعورها السياسي الجريح يتوق عبر التخييل إلى  توكيد الهوية ورسم الاختلاف من خلال جمالية المقاومة التي تعتبر محاولة لنقض المفهوم الكولونيالي للعالمية. ومن ثم فإن الرد  الروائي على العنف المادي للمستعمر لا يتمثل فقط في الموقف السياسي بل يتجلى أيضا في ممارسة عنف رمزي قوامه العودة القوية إلى تراث الشعب المقهور، وإبراز عناصر القوة المطمورة فيه،تلك التي يمكنها أن تنافس ثقافة المركز الغازية بل وأن تضاهيها وتكون ندة لها. ومن هنا توق  الكثير من الكتاب العرب إلى الانزياح عن الشكل الروائي المعهود في الكلاسيكيات العربية والغربية معا، وذلك من خلال تشييد بناءات فنية مزحزحة لموقع حركة الحداثة الأوربية الساعية إلى دمج الثقافات كافة في ما تزعمه بالجمالية العالمية. ومن ثم فان استثمار تعبيرات الأدب الشعبي تروم مقاومة النموذج الروائي الغربي من الداخل رغم الاستفادة منه: الشيء الذي يدعو إلى انجاز قراءة طباقية قادرة على استكشاف مظاهر الاستفادة من التقنية الروائية الغربية وكذا صيغ تطعيمها و تبيئتها، بل وتقويض بعض أسسها المعرفية.

وهكذا فان تحليل طرائق اشتغال الأدب الشعبي في الرواية العربية والإفريقية من شأنه أن ينير جوانب من  البعد الحواري لهذه الرواية، ويكشف عن القوة الشاعرية للشعب بعيدا عن النظرة المتعالية التي تحصر الأدب في المكتوب وفي الثقافة العالمة .

في هذا الضوء، سنسعى لتحليل بعض بنيات ومقاصد اشتغال الأدب الشعبي في رواية سرادق الحلم والفجيعة للأديب عز الدين جلاوجي، بوصفها نصا سرديا عربيا وافريقيا يمتص ويستثمر كثيرا من الصيغ والأنماط والتقنيات الفنية الشعبية، بحيث يحولها إلى علامات تضيء عمق الشعب  وتكشف عن أحلامه الدفينة، و فضائله المنسية  وجروحه الغائرة ،وعما لا يعرفه عن نفسه.

1.النغمة المزدوجة

ومن ثم فان قراءة الرواية من هذه الزاوية ينير الأثر الجمالي القوي للأنواع الأدبية الشعبية في تركيبها ومقصدها، وهو الأثر الذي يموقع النص ضمن منطقة أجناسية بينية تنهل من الرواية الغربية والحكي الشعبي معا، إذ اغتراف الرواية من التقاليد الشفوية واستثمارها للحكايات الخرافية ،وتمثيلها لطقوس الواقع المحلي وعاداته وتقاليده ومعتقداته المقترنة بالمتخيل الاجتماعي؛إنما يفك عقدة التعارض بين قطبي الكتابة والمشافهة، وتقليص الفجوة بين الثقافة العالمة والشعبية،بحيث نستطيع استخلاص العناصر الشفوية من النص دون نقض نسيجه الكتابي، أي أن ثمة جدلا بين الشفوي والمكتوب، يمكننا من تحليل التمفصل بين البعد الشعبي للحكاية والبعد العالم للرواية. فالكتابة ضمن النص ليست مجرد تقييد للشفوي، كما أن هذا الأخير لا ينتفي حالما تنبثق الكتابة. وهنا يمكن أن نتساءل عن طبيعة الكتابة ذاتها في "سرادق الحلم والفجيعة"، بوصفها مثالا لنماذج روائية عربية واعية بخصوصيتها واستقلاليتها، من منظور مقارنتها بمنطق الكتابة في الثقافة الغربية، وكذا بيان الخصوصية التي أضفتها الأشكال الشعبية على الرواية من جهة انبثاقها عن الجذور الشفوية وتصويرها لواقع مختلف يتداخل فيه الملموس بالمجرد والطبيعي بالعجائبي والعادي بالمدهش: الشيء الذي يجعل رواية السرادق كاشفة عن واقع محلي وعربي مختلف عن الفهم الغربي، الأمر الذي يفيد كون الشعوب تشيد هويتها بواسطة السرد، مصداقا لقول ادوارد سعيد : (إنما الأمم سرديات).

 وعليه، فان الكاتب ينفتح على فهم جديد للسرد يقرنه بكل ما يروى وما يحمل خطابا مفتوحا لا يتقيد بثنائية الأدب الراقي والأدب الوضيع ،إذ ثمةجدل خصب بين الشفوي والمكتوب في الرواية، يفضي إلى وعي  فني مزدوج يسعى للتسوية بين التناص مع الرواية الغربية على مستوى  منجزها النصي وفلسفتها النظرية، وبين النهل من معين التراث الشعبي بغناه الفني ورؤيته للعالم.

وهكذا فان تمثيل الواقع في السرادق لا يخضع لمنحى ضيق أو مستعار، بل هو معجون بخيالات الخرافة والسحر والأسطورة والعجيب والمعتقدات الراسخة.

2. خيال الشعب

ويمكن ضمن هذا المنحى رصد بعض تجليات التراث الشعبي في الرواية من خلال استثمارها لصيغ فنية وأنماط ثقافية زاخرة بالرموز والخيالات المنتقدة والساخرة.

* الليالي: تستثمر رواية جلاوجي العالم التخييلي لكتاب ألف ليلة على مستوى محاكاة شكلها الدائري الذي يجعل السرد يلتف حول نفسه عبر نظم حكايات متكوكبة،وحبكات متوازية، وخلق أصداء ونقرات لصوت الحكاية الأصلي، أي للحكاية الإطار التي هي رحم الليالي.

ومن ثم نلفي السرد في رواية السرادق مستطيلا هو الآخر بفضل التوليد الحكائي المستند إلى محكي أساس يتجلى في مقطع (وحدي أنا والمدينة) المشخص لعلاقة التوتريين السارد والمدينة المنعوتة بالمومس، حيث الإحساس بالاغتراب نتيجة الإخفاق في الحب والسياسة، ونتيجة انهيار القيم وفقدان المعنى. ومن رحم هذا المحكي الإطار الممثل لشعور الاغتراب تتولد محكيات صغيرة وافرة تنجذب لذاك الشعور الذي يتحول إلى استعارة موسعة تتنامى بداخلها صور الفقدان والعبث والإخفاق والعجز والتوق إلى العدالة والكرامة والمواطنة الإنسانية.

وإذا كانت قوة الحكي في الليالي تنهض على تأجيل الموت لفائدة الحياة، فان قوة حكي السرادق تقوم على تأجيل الفجيعة واستشراف الحلم من خلال توليد إرهاصات البشارة المشعة ببارقة الأمل ولمعة الخلاص،الشيء الذي يحول التشاؤم المنبعث من النص إلى تشاؤم حي، يجسد تشاؤم الفن في مقابل تفاؤل الإرادة. ومن هنا القيمة الإنسانية للرواية اذ هي لا تصنع الأمل الكب ولا التفاؤل الزائف الذي يخفي قبح الواقع وفجيعة الذات والمجتمع.

وفضلا عن هذا التناص البنائي،ثمة إشارات مبثوثة في النص تستوحي شخصيات القصة الإطار لليالي حيث حضور شهريار وشهرزاد ودنيازاد، كما في الخاتمة:(غير أن الملك شهريار أذاع يقينا أن ما حدث إن هو إلا أساطير الأولين ابتدعتها شهرزاد وعجائز المدينة الماكرات..إن كيدهن عظيم..ص9). فهاهنا نلاحظ مزجا لشذرات حكائية من عالم الليالي وعالم القرآن الكريم،كما لو أنهما كتابان مؤسسان لعلامات المتخيل في الثقافة العربية الإسلامية التي ينهل منها الكاتب. ومن ثم استثمار قوتهما النصية والدلالية وفق مقاصد جديدة تعتمد التهجين والأسلبة. أو كما في المقدمة حيث يقول السارد:(وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح. حين ولى النهار وراح. حين تثعبن الدامس الطامس وصاح..حين ضل الزمان وجاح.. قالت دنيازاد أنا أقص عليك حكاية لم يسمعها انسي ولاجان... ص.126). ففي هذا المقطع نلفي استيحاء لقفل الحكي المعهود في الليالي والمنظم للتوالد السردي،لكن السارد يوشيه بالأسلوب البلاغي المسجوع تعبيرا عن قوة اللغة المستلهمة من لغة البديع التي شخصت قوة الدولة الإسلامية في أوج عظمتها السياسية المقترنة بالفتوحات. فهل تكون لغة الكاتب بحثا عن قوة مفتقدة؟ وبالتالي حنينا إلى زمن قومي أسطوري شهد تحالفا بين المعرفة والسلطة؟.

* كليلية ودمنة: تستوحي الرواية  المجاز الإليغوري لهذا الكتاب الأساسي في الثقافة العربية، الذي يقدم عادة على أنه كتاب معتمد يحوز الشرعية الأدبية بخلاف الليالي التي أقصتها المؤسسة الأدبية،لكن  ازدواجية الكتاب على مستوى التلقي، تجعله موجها في آن واحد للنخبة الباحثة عن معرفة السياسة والحكمة، وكذا للعامة الراغبة في المتعة والتسلية. ومن هنا ذيوعه في الحقل الأدبي ونيله لحظوة شعبية سعى الكاتب لاستثمارها في اتجاه توظيف رمزية الحيوان بالأساس، حيث تحويل الغراب والنسر، والثعلب والفأر والدود إلى قوى فاعلة (بلغة غريماس) تحفز السرد وتشيد مساراته الخطابية والدلالية. وفي سياق مزج الخيالات والمرجعيات النصية  يؤلف السارد بين الليالي وكليلة ودمنة كما في الخاتمة:(وخشيت أن تكون دنيازاد هي المومس الغاوية..الساهية اللاهية..فلم أثق بها حتى جاءني كليلة ودمنة وكلاهما استعداد لرواية الحكاية عني وعن حبيبتي الحسناء نون.. وعن حاء ميم وعن المدينة وما وقع فيها من غرائب وعجائب. قالا كان يا ما كان في قديم الزمان.. وسالف العصر والأوان.. كانت مدينة من أغرب البلدان.. عاش فيها خلق ليسوا من بني الجان ولا الحيوان ولا الإنسان وقعت لهم أحداث أقرب إلى البهتان. .يرويها لكم البطل السيد فلان ص..126). فدنيازاد تغدو هنا هي الراوية لا أختها، وكليلة ودمنة يشاركانها الرواية نيابة عن السارد ومدينته وحبيبته. وبذلك نكون أما أقنعة للسارد مستوحاة من خطاطات خيالية مرسومة في كتابين متعارضين على مستوى التسنين الثقافي، لكن السرد يجمعهما في مشهد يتوسل الطقوس الحكائية الشعبية (طقس الاستهلال: كان يا ما كان...) لكن في اتجاه تقويض الرواية من الداخل  من خلال جعل حكايتها أقرب إلى المستحيل(أغرب البلدان، خلق لاهم انس ولا حيوان ولا جان؟ أحداث أقرب إلى البهتان..) فكأن السارد يقول: لقد كان ما حكيت ولم يكن. فهل في ذلك نقض للواقع برمته وإعلاء من شأن الكتابة وجعلها مجرد تمثيل لا غير؟ أم تراه اعتراف بالهوة التي لا ردم لها بين النص والسياق (المجتمع،العالم)، الأمر الذي يؤكد  وعي الكاتب بأزمة التمثيل، كما في منظورات ما بعد الحداثة.

*القرآن: تحضر لغة القرآن الكريم وقصصه بشكل لافت في الرواية، ومن ذلك استلهام الأسلوب القرآني وفق تحويرات تروم منح قوة أسلوبية للنص مع خلق مقاصد جديدة، وكذا استيحاء قصة الطوفان في اتجاه التعبير عن الكارثة التي تنتظرها المدينة جزاء إغراقها في الفساد السياسي والاجتماعي. ومن ثم فان هذه القصة الثرية بالرموز والنماذج تعتبر جزءا من الوجدان الشعبي للقارئ حتى ولو أنها مضمنة في كتاب مقدس،كما أنها تعتبر، في تقديري،من علامات مقاومة السرد الكولونيالي في اتجاه ابتداع رواية تقوم  بتهجين السرد المعهود، ونقض أسسه المعرفية. ومن الهام تأويل هذا التعلق بالنص القرآني في ضوء وعي مقارن يستحضر فرضية ( نورثروب فراي) في كتابه (تشريح النقد) التي ترى بأن الإنجيل يشكل القانون الأكبر للأدب الغربي. فهل يكون القرآن بدوره قانونا أكبر للأدب العربي الإسلامي على مستوى التأثر المقصود وكذا على مستوى العلامات والرموز والأساليب ورؤية الكون المضمرة في لاوعيه النصي؟ ذلك سؤال يستحق الاستنطاق ،وقراءة الرواية حافز على الاقتراب منه.

* الخرافة: يستفيد السرد من القوة الخيالية لخرافات عديدة تكشف مكبوت الشعب وتبوح بجرحه السري،ولا شك أن خرافة (العجائز والقمر ) تعتبر من أبدع ما استلهمه الكاتب ،فقد ضمنها مقاصد ملتحمة بالبناء العضوي للرواية، مستثمرا ما تبوح به من تآويل تفسر سواد القمر(هل هو بسبب كذا أم كذا..ص.52)؛ وكذا ما يحتمله تعدد الروايات،ومن ذلك إنزال العجائز للقمر في قصعة مملوءة بالماء. واللافت أن السرد يدرج مشهدا من قصة يوسف القرآنية في الخرافة ضمن تأويل يزعم بأن المدينة عشقت القمر فراودته عن نفسه فأبى وفر فأمسكت به وقدت قميصه من قبل، وشهد شاهد من أهلها ...(ص.52). وهذا ما يؤكد لدى الكاتب وسواس النهل من الثقافة القرآنية ودسها ضمن الكثير من الأشكال والصيغ والأنماط الشعبية.

* العجيب:يخترق العجيب مجموع مفاصل السرد، وهو مستوحى من مصادر عديدة لا تتحدد بالمقاييس النظرية الغربية (شعرية الفانطاستيك عند تودوروف وآخرين)، ذلك أننا نجد إنطاق الحيوان وأنسنته في كليلة ودمنة،وفي الليالي، وفي عجائب القزويني، وفي الحكايات الشعبية القديمة. كما أننا نجد العجيب الخلاب في القرآن الكريم أيضا وفق ما يرى ذلك محمد أركون (هل يمكن الحديث عن العجيب الخلاب في القرآن؟/ الفكر الإسلامي، قراءة علمية). لأجل كل هذا فان الكاتب استوحى المدونة العجائبية في الثقافة العربية والإسلامية أساسا، ولو انه لقحها في بعض الصور السردية بالعجيب الكافكاوي كما في فقرة (المسخ) (ضحكت ببلاهة وبلادة.. لقد فقدت كل شيء كان في ذاكرتي.. كل شيء غدا أمامي جميلا وبديعا، وأحسست كأن طبقة الشعر التي كانت تغطيني قد ازدادت كثافة، وان ذراعي قد بدأت تنبت زوائد صغيرة تشبه إلى حد بعيد زوائد جناحي الوطواط، ودار في يقيني أنني روح خفاش....ص.112). ويعرف القارئ أن هذا المشهد الغرائبي يتناص مع استهلال رواية المسخ لكافكا: (استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة،فوجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم).  ومن ثم فان العجيب في رواية السرادق يشف في عدة لحظات عن مسحة وجودية تستوحي كامو وسارتر وبيكت وكافكا لكن ضمن وعي فني يقوم على التهجين والتبيئة. إذ وجودية جلاوجي ليست عدمية بل هي متشبتة بالأمل الإنساني، تحفر وراء اليأس إلى أن تجد لمعة ضوء.

* القدسي: تتجلى مظاهر القدسي أساسا في توظيف الاعتقاد بقيمة البركة، استشراف الغيب. ومن ثم حضور شخصيات المجذوب، والشيخ مولانا، حيث أجواء الحضرة والسحر والتعاويذ والطقوس واللغة الملغزة المؤمنة بالقوة السحرية للكلمات. وذلك ما نلفيه في فقرات ( في حضرته، في رحاب الصخرة، عاقبة الشيخ، في حضرة مولانا..). ويتغيا هذا التوظيف بالأساس الغور في طبقات عميقة من الوجدان الشعبي للكشف عن حضور الخيالي في الواقعي خلافا لتلك المنظورات الضيقة التي تعزلهما، لان الواقع المرصود يتضمن مستويات إدراك، ويحضن طبقات تفكير متمازجة، وأنماط عيش  لا انفصام فيها بين العقلاني واللاعقلاني.

3. الكتابة  والهامش

ينبثق وعي الكتابة من خلال مدى الاشتباك بالقوى الاجتماعية، والتموقع ضمنها،بحثا عن كل ما يضمن انتشار الفكر المغير  والحافز على الحياة، و بالتالي فإن حدة هذا الوعي تتوقف على كيفية معالجة الترابط الخفي بين بنى السلطة المادية و بنى الفكر و الخطاب الفوقية: الشيء الذي يشكل دنيوية النص و يصنع تورطه في التاريخ.

و من تجليات هذا التورط انحياز الكتابة الواعية إلى الجماعات المهمشة مانحة إياها صوتا مقلقا، و جاعلة من خطابها الضعيف سلطة ضدية تضغط على الوحدة السعيدة للدولة. فبذلك تتحقق (العدالة الشعرية la justice poétique )  القائمة على تشريح الظلم و كشف قناع الاستغلال و إنصاف المضطهدين .ومن تبعات هذه العدالة تعبئة الفكر المناوئ، و بعث التساؤل الحر، و فضح تبريرات الاستعباد، و من نتائجها أيضا تقوية حس المقاومة ضمن عمل دؤوب ينتصر لتفاؤل الإرادة حتى و لو أفضى التحليل الملموس للواقع إلى تشاؤم العقل. و قد يكون هذا المعنى واحدا من المقاصد العميقة و العديدة التي رمى إليها المفكر رومان رولاند، العزيز على غرامشي، من وراء مقولته الشهيرة : ( تشاؤم الفكر و تفاؤل الإرادة) .

هكذا( تلتحق الكتابة من تلقاء ذاتها، عندما لا تكون رسمية، بالأقليات الهامشية التي لا تكتب لنفسها، و التي لا نكتب عنها [ مباشرة]، أي لا نتناولها كموضوع [جاهز]، و لكنها تجرنا إليها، في مقابل ذلك، عن كره أو عن طواعية / جيل دولوز،حوارات...). و إذن فالكتابة الملتزمة بعمق تلتقي دائما بجماعة هامشية لا تكتب، بل و تقتنص صيرورتها و تلتحق بخطها الملتوي المكسور. فالأمر لا يتعلق بالمحاكاة، و إنما بالاقتران حيث يتأثر الكاتب على مستوى لا وعيه الاجتماعي و الثقافي بصيرورة هامشية لا خلاص منها. و عليه ،فإن اختيار الكتابة لموقعها المقاوم ضمن نظام السلط الرمزية والمواقع الاجتماعية، يحميها من أن تكون حشوا في خدمة القوى السائدة، و يزج بها بالتالي ضمن معترك تحرير المقهورين و المقموعين الذين أسيء تمثيلهم، من خلال تقويض الإيديولوجيات و المؤسسات التي تسعى لتسويغ اضطداهم .

و من المؤكد أن حقل الأدب واجهة مؤثرة في معركة الوعي، لما له من قدرة على التوليد والتأمل و الانزياح و الارتياب و الحركة، و لما له بالتالي من كفاءة في تحويل تجربة المعاناة الحسية و المتناثرة و المضمرة إلى نص يطوي الحدث الخارجي فيصنع منه قيمة و عالما  يقبل المشاركة و الانفتاح و الثورة، و يتيح بالتالي إمكان ولادة و تجريب القوى الكامنة.

 من هنا يمكن اعتبار الشعب منبعا لكتابة رواية السرادق لأنه كان سباقا إلى منح حكايته الاجتماعية (أقواله وتعبيراته وفنونه ومعتقداته...) إلى الكاتب. و هذا إذ يكتب النص إنما يبادله الرواية بالحكاية، أي يهديه رواية من خلال سردية اجتماعية موهوبة. و هنا يتخذ  التلاحم بين السرد الاجتماعي والسرد الفني كامل رمزيته العميقة و كامل دلالته الجمالية و الثقافية .

و عليه، و كما أكد ذلك جيل دولوز ( حوارات..)، فإن المستقبل الثوري للكتابة لا يمر بالضرورة عبر المناضلين. فالأمر لا يتعلق بتقليد رطانات الثوريين، و لا بمحاكاة أصوات المقموعين، بل تلزمنا صيرورة هامشية قادرة على ابتكار قوى و أسلحة جديدة .

هكذا تحتفي الكتابة الروائية بالهامش منجذبة إلى من لا صوت لهم و إلى من حجبتهم الخطابات التاريخية الرسمية، أو شوهت صورتهم. وبذلك تكون رواية "سرادق الحلم والفجيعة" نصا باحثا عن لغة الشعب، لأجل تخصيص السرد وتمييزه خطابيا ونفسيا واجتماعيا، وذلك في سياق العودة إلى أحلام الشعب وكلامه الجواني وحنينه وغربته المقلقة، وبالتالي في سياق كتابة التاريخ الجزائري من منظور مغاير يبتعد عن الرواية الكولونيالية والرسمية، ويعيد الاعتبار لرواية المغيبين من الفئات الشعبية. ولذلك وجدنا عز الدين جلاوجي ينأى عن السرديات الكبرى المقترنة بالروايات السياسية السائدة ،مقتربا من سرديات صغيرة تهتم بجماعات صغيرة وهامشية  لها أثرها القوي في ابتداع وطن مغاير للفهم السياسي التقليدي والمعهود.لذا فان اللغة الشعبية والوجدانية في الرواية إنما تتوخى السخرية من اللغة الشمولية القامعة، وتقويض ادعاءاتها الزائفة.

 

 

خطاب العتبات... وغرائبية الحكي

في سرادق الحلم والفجيعة لعز الدين جلاوجي
بوغنوط روفيا جامعة أم البواقي



العتبات تعلو النص وتحيطه به . تمنحه النور.. تدعوك لتتبعه.. لكن في كل ذلك عليك أن تحذر منها، سعى عزالدين جلاوجي في "سرادق الحلم والفجيعةّ إلى تجاوز الواقع عبر اختراق عالم غريب من حيث الأحداث والأمكنة والشخصيات ،عالم يستمد روحه من إنتاج المتخيل ،إن هذا المتخيل الذي ابتدعه جلاوجي لم يكن في حقيقة الأمر إلا قناع شكل ملامحه من اختلاط الغرائبي بالتراث للعبث بواقع لا يقل غرائبية عن الحكي الغرائبي .

وإذا نأخذ نص / رواية جلاوجي بالوصف الغرائبي فذلك بناء على العتبة النصية التي حضي بها الوجه الثاني للغلاف ،إنها نوع من التصريح بمقصديه الغرائبي ،كما أن لجوء المؤلف إلى البعد الغرائبي – في اعتقادنا – يعود إلى القوة التي يخلفها في نفس القارئ الذي ينجذب لقراءة النص مشدودا بما فيه من إثارة للأهوال ، والمخاوف وإيقاظ الرغبة في الاستطلاع لمعرفة الآتي.

إن اشتغال النص الروائي العربي على الغرائبي والعجائبي يحوله بالنسبة لنا إلى ّطرسّ أو لنقل ،إن الكتابة الروائية في حد ذاتها تطريس إذ تتمادى (المخيلة إلى أقصاها ضاربة عرض الحائط بكل الضوابط العقلية، المتداولة ومنجزة في الوقت نفسه ضوابطها الخاصة ضمن متخيل هي أنشأته إبداعيا ).

ولنبدأ من النص الصغير العنوان بوصفه عتبة نصية تساهم بشكل أو بآخر في الكشف عن المداليل الأساسية للمتن، تؤسس لمعانيه وتبحث فيها، هي أيضا مرآة مصغرة أو مرايا متجاورة توجه الملتقى وتقوده إلى خيالات الواقع على حد قول سعيد يقطن.

فالعنوان ليس كملة تنشأ في الهواء وترمى هكذا . إنه الوسيلة الأولى لإثارة شهية القارئ (تختبئ تحت كلماته المباشرة طبقات متعددة من المعاني والدلالات التي تحتاج حتما إلى قراءة أخرى غير القراءة المباشرة) لعبة غواية لا تنتهي .

تشحن الطاقة الدلالية للعنوان "سرادق الحلم و الفجيعة " بداية من الحد المعجمي فالعنوان يحمل ذاتيا معنى الغرابة و الغموض، فدال (سرادق ) من تسردق البيت نصب السرادق، والسرادق الفسطاط الذي يمتد فوق صحن البيت (الخيمة)، الغبار والدخان المرتفع المحيط بالشيء (كلمة فارسية)،أما دال (الحلم) حلم حلما في منامه رؤيا و الفجيعة ما ينزل بالإنسان حزنا عظيما.

أما الحد التركيبي فلنا أن نأخذه وفق تأويلين:

التأويل الأول :

المسند إليه المقدر ب(هذه/ تلك)، أما المسند فالجملة الاسمية( سرادق الحلم و الفجيعة )، ونجد أن المسند الخبري يمتد إلى التركيب الإضافي(الحلم و الفجيعة) ليأخذ وجهة وصفية للسرادق، مما يكفل إخراج العنوان من الغموض الدلالي -مؤقتا – بحيث لا يبقى السرادق في حال الإبهام وعدم التحديد.

التأويل الثاني:

نؤول البنية التركيبية للعنوان ( سرادق الحلم والفجيعة ) بوصفها مسند إليه ليكون المسند الخبري هو النص / المتن الروائي. أي أن اللوحات أو المشاهد التي تضمنها المتن تقوم بوظيفة الإخبار عن شؤون السرادق (المسند إليه).

وتجدر الإشارة إلى أن جلاوجي قسم الرواية إلى 36 لوحة / مشهدا ﺒـ 36 عنوانا يندرج تحت العنوان الداخلي الواحد، عناوين فرعية أخرى.

وإذا أضفنا (المقدمة و الخاتمة بوصفهما لوحتين) يكتمل عدد المشاهد ( 38مشهدا) ولسنا ندري أهي المقصدية أن تمر على الجزائر / المدينة من الاستقلال إلى غاية تاريخ نشر الرواية ( 38-200 سنة) ليكون بذلك السرادق هو الغبار والدخان الذي غطى سماء المدينة في زمن من الأزمنة ليحق لنا القول :

إن رواية سرادق الحلم والفجيعة رواية أزمة /قضية في المقام الأول ،محي فيها الواقع وكتب عليه المتخيل الغرائبي فأنتجت لنا تطريسات جلاوجي نص السرادق، بالعودة إلى الحد العجمي للدال الأول (سرادق) نجد أن مدلوله يحيل على التغطية والحجب ، ناهيك عن أصل الكلمة الفارسي كما وجد في المنجد مما يضفي نوعا آخر من الغموض في ذهن القارئ .

يتفاعل دال سرادق مع التركيب الوصفي (الحلم والفجيعة) فالحلم ما يتراءى للمؤمن حديث النفس وآمالها وتخاويفها وأحزانها ،فالفجيعة (معطوف عليه ) يثبت أحزان النفس وتؤكد سوداوية الأحلام في مدينة قال عنها الروائي الشاهد الذات الكاتبة (في مدينة من أغرب البلدان عاش فيها خلق ليسوا من بني الجان ..ولا الحيوان، ولا الإنسان ، وقعت لهم فيها أحداث أقوى إلى البهتان .. يروها لكم بطلها السيد فلان.

فالرواية /العنوان يقوم بالأساس على فعل السردق سواء من قبل الذات الكاتبة أو من قبل الأحداث الأقرب إلى البهتان ،فسردق البيت نصب السرادق فعل قصدي ألحق بالمدينة لأجل الوصول إلى المدينة المومس بإغرائها وإغوائها والتي تعادل في رأينا السلطة يقول عنها :

أيتها المدينة المومس

إلى من تفتحين ذراعيك

للبلهاء

إلى متى ترضعين الحمقى والأغبياء

إلى متى أيتها المدينة تمارسين

العهر جهارا دون حياء

إلى متى تعرش فوق مفاتنك

الطحالب ..الفئران، الخنافس.

مدينتي مبغى كبير .

من الطريف أن تلتقي مدينة جلاوجي مع مدينة بدر شاكر السّياب التي لم يرها إلا مبغى كبير :

بغداد مبغى كبير  لواحظ مغنية كساعة تتك في الجدار

إن السردق هنا فعل قصدي ،إنها فعل روي بوصفه رواية لا من الناحية الأجناسية (قصة طويلة) وإنما مصدر الفعل (روي يروي، رواية) أي حكي على حكي ،هي تقنية لجأ إليها جلاوجي ليتملص من يقينه الحدث ، فتعدد الرواة والروايات كفيل بأن لا يثبت مثلا نهاية محددة وهو ما كان في نهاية الرواية.

من اللافت أن جلاوجي سردق عتبات نصه بطريقة مغرية ، تبعث على التساؤل فلا ينفك الغموض والإبهام يلازم العتبات بدءا من اللعب بأمكنة (المقدمة) و(الخاتمة) الخارجة في حقيقة الأمر على إستراتيجية الخطاب المقدماتي في المتن الروائي وإن كنا نرى أن الخاتمة التي احتلت موضع المقدمة لم تكن إلا خاتمة لحكي كان سابقا لنص السرادق ، فكان موضعها بالتالي مناسبا ،أما المقدمة فما هي إلا مقدمة لحكي آت ، ما بعد " السرادق" (جعل النص في حالة تعالق مع ما كان ، ومع ما سيأتي مروياته هو/عزالدين جلاوجي) .

أما عتبة الإهداء فقد أهدى جلاوجي نصه الرواية إلى (الغرباء في المدينة) والغربة كما قال عنها المجدوب (أن تبحث عن ذاتك فلا تجدها ،ثم إذا وجدتها فقدت شمسك التي تسبح في فلكها ).وهو ما يفضي إلى أن الحبيبة نون" التي ظل الشاهد/ الراوي يبحث عنها كالغريب بين أهله ما هي إلا نون الوجود إنها في المقام الأول غربة الذات عن نفسها ومكانها وزمانها ومن هنا يأتي الشعور بالدهشة والتعجب وهي الدلالة التي تدعمها عتبة التصدير المستجلب من سياقه الأصلي المنسوب إلى أبي حيان التوحيدي ولاسم العلم سلطة وحضور ، أعادت اليد الثانية (عزالدين جلاوجي) تدوين مقولته ،والتصديرات عموما تطرح دوما إشكالية الكلام المقول سلفا وعلاقته بالنص.

تقودنا كلمات التصدير إلى دائرة الغرابة التي تسكنها الذات ،إنها تسبح في دائرة المحال فلا تنفك تخرج من التعمية والتغطية حتى تعود إليها يقول أبو حيان التوحيدي.

الهوى مركبي ...والهدى مطلبي...

فلا أنا أنزل عن مركبي ..ولا أنا أصل إلى مطلبي .

أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة.

إنه إعلان صريح عن نية السردق ،فحقيقة الخبر لن تدرك في الرواية ما دام تحويل العبارة فعل قصدي ،سعت الذات الكاتبة عبره إلى محو النصوص المرويات العربية القديمة (غرائبية الحكي في ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة ...) وكتبت نصها الجديد، يبدو لنا جلاوجي من هذه الناحية كأنه يعيش ويكتب في زمن خاص مواز للزمن الحاضر ،زمن يبحث فيه عن الهدوء والحياة والاستقرار والنماء، وهي الدلالة التي يحملها اللون الأخضر لون الغلاف إنها الرغبة في التغيير والتحول فالمرء إذا أراد أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب (وداهمني الساعة موج الرغبة في الهجرة...الهجرة وحدها تكشف عن سر حبيبتي نون...).

وما يحسب لعزالدين جلاوجي بالإضافة إلى صناعة الأفكار تلك اللغة الشعرية التي حولت الحكاية إلى رؤيا، وهو في اعتقادنا لم يستخدم تلك اللغة الشعرية إلا ليبعد عنا العالم الحكائي ،كما أن المؤشرات /العتبات النصية التي تسلطت على المتلقي كان لها تسلطها الداخلي على الخطاب، ولنا أن نشير إلى عتبة نصية نجدها أكثر دلالة وثراء ، قلما تؤخذ بعين الدراسة. وهي البداية السردية أو ما أصطلح عليه بالجملة العتبة فالبداية أو الاستهلال السردي (بداية الحكي) هي عتبة أولى بعد العنوان للتخيل يقول شعيب حليفي في مقال له منشور في مجلة الكرمل عدد61 سنة 1999 بعنوان " وظيفة البداية في الرواية العربية) تفرز البداية الروائية العديد من الاستنتاجات خصوصا إذا كان ما يؤطر هذه الاستخلاصات هو أن البداية نفسها مكون أساسي من مكونات الخطاب الروائي وما يشفع كونها مكونا داخليا هو أنها مدخل يقود نحو النص وخارجه أي نحو ما هو لغوي ويحيل إليه هذا اللغوي في الخارج فالبداية هي مناورة تتأسس على الصورة الخادعة.."

ولنا في النهاية أن نقول إن نص (سرداق الحلم والفجيعة) حكاية عربية لفت بالغرابة وأتبت تفرد الكاتب والمكتوب

 

 

دلالة المكان  

في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" لعزالدين جلاوجي

 

د.عبد الحميد هيمة (جامعة ورقلة)

 

مدخل عام:‏

عزالدين جلاوجي من الروائيين الجزائريين الشباب الذين استطاعوا في السنوات الأخيرة أن يفرضوا حضورهم الإبداعي بفضل أعمال قصصية جيدة تنطلق من الواقع ولكنها تتجاوزه بعد ذلك لتحلق في سماء الخيال والفن؛ لأن الإبداع الحقيقي ليس انعكاساً للواقع، وإنما هو تجاوز مستمر له، ولعل من أهم أعماله الروائية التي أحسب أنها حققت هذا التجاوز: رواية "سرادق الحلم والفجيعة" التي تجمع بين عمق التجربة وصدق الشعور، بين وضوح العقيدة وبسالة الدفاع عنها.‏

ففي هذه الرواية يقدم لنا الكاتب نموذجاً ناضجاً لفن القصة يدهش القارئ باكتمال إبداعه وتماسك وحداته، وقدرته على تجديد وعي الإنسان بالواقع عندما تخترقه نظرة الكاتب بغية الوصول إلى عمق التجربة بطريقة فنية تجمع عناصر الواقع وتكشف عن التناقضات الكامنة فيه.‏

ولعل أهم ما تتميز به هذه الرواية هو نزوعها نحو التجريب وتحطيم الشكل التقليدي للرواية، وهذا التجريب يكشف عن نفسه للوهلة الأولى من خلال ما تتيحه القراءة البصرية للنص الذي يتخذ في مواضع كثيرة عبر الرواية شكل السطر الشعري "وهذا يتطلب التعديل في تركيبه الجملة اللغوية بالتقديم والتأخير، وضبط الإيقاع لتثبيت هذا الوهم الشعري"(1) كما أن التجريب مس هيكل الرواية كذلك حيث عمد (جلاوجي) إلى تقنية تقديم الخاتمة، وتأخير المقدمة، وهذا يدل دلالة واضحة على ما يهدف إليه السارد من تحول، ورغبة في التجريب ولذلك فأنا لا أجد أبلغ من عبارة (لوكاتش) الشهيرة لتحديد معنى القصة بأنها "رواية عمليات التحول" سواء كان هذا التحول شكلياً يقرأ بالبصر أم يتعداه إلى إنتاج الدلالة، فالواضح أن هذا التقديم بالإضافة إلى وظيفته الشكلية يؤدي وظيفة دلالية تسهم في تعميق الشعور بالتجربة القصصية.‏

إن هذه الرواية الجديدة لعزالدين جلاوجي تغري بالقراءة إذ أن بنيتها مثيرة بسبب نزوعها إلى التجريب –كما أسلفنا- ويطال هذا التجريب كل المستويات بدءاً بالشكل العام للرواية، إنها تجربة بل مغامرة جديدة في الرواية الجزائرية المعاصرة تستحق منا البحث والتأمل، كما أن أحداثها غريبة جداً تتقاطع مع الرمزي والأسطوري الخيالي إنها تصور الواقع بمنظور ذاتي وشخصي فريد وخاص.‏

لماذا المكان؟‏

لم يكن اختيارنا للمكان في هذه الرواية ليكون موضوع بحثنا هذا اعتباطياً، وإنما لسبب جوهري وهو تضمن الرواية حضوراً قوياً لعنصر المكان، فقد طغى المكان في رواية (سرادق الحلم والفجيعة) على العناصر الأساسية للخطاب السردي وفي مقدمتها الشخصيات والسرد الذي يعد أهم مبدأ أو خاصية يقوم عليها الخطاب الروائي حتى أن (جيرار جينيت) يحدد سردية الخطاب بالنظر إلى هيمنة صيغة السرد فيه (2).‏

بالنسبة إلى هذه الرواية نلاحظ ثراء كبيراً لعنصر المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، بل إن المكان يتحول فيها إلى شخصيات روائية فاعلة "تتجاوز وظيفتها الأساسية المتمثلة في كونها إطاراً أو ديكوراً، لتصبح عنصراً مهما من عناصر تطور الحدث"(3). ولم يعتمد السارد في نقل المكان على مجرد الوصف الفوتوغرافي الذي يعيد تشكيل الواقع حسب صورته المفترضة وإنما كان يقدم المكان من خلال نظرته الخاصة، وقد انعكس ذلك على أفعال الشخصيات فحمل المكان بذلك قيماً مختلفة وأحياناً متعاكسة مثلما هو الشأن بالنسبة لفضاء المدينة وهو المكان الرئيس في هذه الرواية ومجال دراستنا في هذه المداخلة.‏

المكان في الرواية:‏

نتناول في هذه المداخلة عنصر المكان في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" ولأن الأمكنة متعددة في هذه الرواية فسأختار (المدينة) وسوف لن تكون قراءتنا لهذا الفضاء "مجرد ابتلاع استهلاك، وترديد لأفكار ونوايا النص وحده، بل إنها لا تستقيم ولا تتحقق فعلياً إلا من خلال تفاعلها مع الذات القارئة"(4).‏

وهكذا فإن النص لا يقرأ بشكل واحد لأنه يعطي لكل قارئ معاني ودلالات تختلف بحسب ثقافة ومعارف كل قارئ "بهذا المعنى ليست القراءة شيئاً معطى بواسطة النص الذي نقرؤه، بل وهي فعل نبنيه وننميه عبر سفر جميل، ونعيد نسجه عبر ذواتنا ونتيج له إمكانية حياة جديدة"(5)، ومن هنا تأتي أهمية فعالية القراءة والتي هي "كتابة ثانية" كما يقول منذر عياشي في كتابه "الكتابة الثانية وفاتحة المتعة": "فالقراءة لا تنفك تدور في فلك القراءة، بل هي كتابة ولكن بطريقة أخرى... والنص نظام يستدعي القراءة وينعكس فيها، ولولا هذا لاستعصى إدراكه واستحال فهمه، ولاندثر معناه وغاب حضوره"(6) ومن هنا تأتي أهمية وجود القارئ الجيد الذي يستطيع استنطاق مجاهل النص وسبر أغواره الخفية حتى لا تبقى دلالاته مخبوءة، وهذا من شأنه أن يسمح للقراءة على حد تعبير (ميشيل فوكو): "أن تقول في الأخير ما كان منطوقاً به بصمت هناك"(7).‏

وباستنطاق النص يبدو لنا فضاء (المدينة) مرادفاً للموت والانهيار، مدينة منفصلة عن عالم الإنسان كل شيء فيها موت وخراب ودمار، وانحلال ورذيلة إنها مدينة مومس تبيح نفسها لكل المارة والعابرين، والذي يقرأ الرواية فإنه لن يجد صورة للمدينة أكثر شناعة وتجهماً وانحطاطاً من هذه الصورة.‏

إننا أمام مبغى مديني كبير يمتهن كرامة الإنسان... وهكذا نرى كيف أن الفضاء في هذه الرواية ليس مجرد خريطة جغرافية على حد تعبير (يوري لوتمان) أنه نتاج "لاشتغال تراكمي للدلالة وذلك من حيث أنه كباقي العناصر التكوينية للخطاب الروائي يعيد القارئ بناء معناه ويشكل مظهراً من مظاهر نشاط القراءة"(8).‏

وعلى العموم فالكاتب يصور هنا المسخ الذي لحق المدينة هذه المدينة التي كانت حلماً راود الفلاسفة والمفكرين المدينة المثل العليا والقيم السامية غير أن الأمر في الرواية تحول وانقلب رأساً على عقب، ومسخت المدينة فغدت مومساً همها إشباع غرائزها، ولم يقع لها ذلك إلا بعد أن سيطر عليها أراذل أهلها (كالغراب) وساعده (نعل) رمز الضعة والحقارة. فأصبحت مرتعاً للفئران والكلاب وجحافل الدود.‏

الغربة ملح أجاج‏

وحدي أنا والمدينة‏

لا ورد ينمو ههنا.. لا قمر.. لا حبيبة‏

لا دفء في القلب الحزين..‏

وحدي أنا والظلام(9)‏

الظلام هو الجو النفسي والطبيعي الذي يلازم الفاجعة فنحن أمام تجربة الخطيئة، وهي تجربة بطبيعتها تؤثر الظلام للتقية وتكره النور الفضاح"(10) السارد في النص السابق ثائر على هذا الليل رافض لواقع المدينة حيث يكشف وجهها البشع دون ذكر الوجه الآخر للمدينة وهو وجه متخيل لأنه غير موجود في الواقع وغير مصرح به، لكنه يملك شرعية وجوده.‏

والسارد يركز على هذا الوجه القبيح للمدينة لينتج دلالة معرفية بالأزمة بالمأساة التي تعيش فيها المدينة والتي قد تكون وسيلة لتفادي عدم تكرار المحنة. ورفض الزمن القائم لينمو الزمن الآخر المغاير، ومن هذه المعرفة التي يولدها الخطاب نصل في النهاية إلى البداية حيث تبدأ حكاية أخرى خارج الرواية، حكاية من صنع الواقع الحاضر الذي علينا أن نصفه، ونصوغ خطوطه الجديدة بأيدينا ولعل تلك المقدمة التي تأتي في ختام الرواية تضع نفسها بداية لهذه الرواية التي لم يكتبها الروائي بعد. وهذا الحلم الذي لم تكتمل صورته.‏

إن الكاتب يعبر في الرواية عن التدهور في سلم القيم في حياة الناس في هذه "المدينة المومس" والمجتمع الحيواني الذي لم يتطهر بالفن ولم يرق بالعلم، وتتقمص المدينة هنا دور البطولة فيه فتتحول من مجرد إطار مكاني ساكن إلى شخصية أساسية داخل النص السردي، فهي سبب كل الشرور، ومصدر جميع الآثام، وعلة المفاسد الاجتماعية وهذه الأمور جميعها تجسيد لموت الإنسان وتفريغه من أصالته(11) المدينة إذن هي سبب الشرور يقول (جلاوجي) مخاطباً المدينة:‏

أيتها المدينة المومس‏

إلى متى تفتحين ذراعيك للبلهاء..؟؟‏

إلى متى أيتها المدينة تمارسين العهر جهاراً دون حياء..؟(12)‏

وقد نجح الكاتب في رسم صورة "المدينة المومس" وذلك من خلال استخدام كل الطاقات الفنية المتاحة لتقوية البعد الدرامي، وتعميق الوعي بالذات والواقع المعيش، وكذا تأكيد الهوية من خلال الانكسارات الاجتماعية والثقافية والسياسية لواقع الشخصية الروائية، ويتأكد ذلك من خلال إصرار الكاتب دائماً على حضور صورة الآخر ضمن وعي الأنا الساردة، وعلى هذا الأساس تستدعي الحكاية تركيباً حديثاً يتخذ من الفضاء بؤرة للفعل السردي، إنها تكوين روائي جديد عند (جلاوجي) ينتقل بمركز الثقل من الإنسان إلى المكان ممثلاً في "المدينة المومس" المدينة المرأة:‏

مدينتي بقايا الآسن بجوف الغدير‏

مدينتي مبغى كبير(13)‏

ونشير هنا إلى أن صورة المدينة في الأدب العربي الحديث تتحد بصورة المرأة البغي، فالمدينة في اللغة (مؤنثة) وفي معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحاً واجتياحاً واغتصاباً لها ولنسائها، ولمواردها وهي ما تزال إلى اليوم، ثم أن الكاتب يألف هذه الصورة الجنسية في زمن يشيع فيه الاغتصاب في المدن الكبرى كما تشيع الدعوة إلى الانطلاق التام من القيود المتصلة بالجنس (الدعارة) ولذلك يجد الكاتب هذه الصورة قريبة المنال والأداء(14)، الرواية إذن تتراوح بين الفجيعة التي هي راهن المدينة، والحلم الذي هو استشراف للمستقبل، ولذلك نلمس في النص أسلوب التقابل أو الثنائيات الضدية من خلال هذا الصراع والتناحر، وهذا الراهن والاستشراف وهذا الحلم والفجيعة في كل شيء ابتداء من العنوان:‏

"سرادق الحلم والفجيعة" إلى هندسة الرواية وشكلها إلى لغتها إلى شخصياتها إلى المكان والزمان إلى أنسنة الشيء كالنخلة والصخرة والهدهد والزيتونة والفئران إلى تشييئ الإنسان كالغراب..."(15) قول (جلاوجي) في مقطع الفأر والحصاة: "من بالوعة القاذورات يخرج فأر أغبر يمشي الخيلاء.. يبصر قطاً متكوراً على نفسه يضحك الفأر ضحكة هستيرية.. يجري خلفه.. يفزع القط يندفع فأراً"(16).‏

في هذا المقطع نلاحظ كيف يمضي (جلاوجي) في نزعته التحويلية فالفأر يصبح قطاً، وأراذل الناس يصبحون سادتهم، ثم ينتقل الكاتب بمركز الثقل من الحيوان إلى الجماد إلى "بالوعة القاذورات" رمزاً للمدينة المومس، المدينة القبيحة، فالبالوعة تتحول إلى شخصية روائية تمارس فعل الحضارة كل شيء في هذه المدينة قذر حتى المقهى التي يجتمع فيها أهل المدينة تتحول إلى فضاء مغلق يحمل دلالة الركود والضياع والعجز عن التغيير: "دخلت مقهانا الشعبية.. دخان يتصاعد من الزاوية يغازل أنوف المكومين.. السقف ملعب تمارس فيه العناكب هواياتها المفضلة.. أجساد متهالكة هنا وهناك كرؤوس ماشية منحورة"(17)، وهنا يقع التحول للمرة الثانية عندما يمضي الكاتب في وصف الإنسان المثقل بأعباء الحياة في صورة "ماشية منحورة" دلالة على العجز والاستسلام للواقع أما في مقطع (قبحون) فدور البطولة فيه يتقمصه (الغراب) وهو بطل عكسي للإنسان، يعكس غياب قيم الإنسانية وغلبة النزعة الحيوانية على الناس مما يعمق مأساة الإنسان في هذه المدينة الظالمة التي تبتلع الجميع.. كلهم على جسدها المتهدل المهترئ.. يغدون حلزونات لا تحسن إلا التلذذ بالالتصاق وأنا أرفض.. أكره.. أنبذ الالتصاق"(18).‏

هذا المشهد يجسد رؤية الكاتب للمدينة المومس والتي يصور وجودها المادي الثقيل عبر مجموعة من المقاطع المفعمة بالأسطوري والمجازي الغريب، حيث ينطلق الكاتب من الواقع من أحداث بسيطة ثم سرعان ما يفجر فيها قدرة التحول الأسطوري، وهذا يجعلنا نذكر كلمات (نتالي ساروت) عن الواقع حيث تشير إلى أن "هناك واقع يراه كل الناس ويدركونه بشكل فوري مباشر، واقع معروف ومدروس ومحدد واقع اجترته أشكال تعبيرية، أصبحت هي نفسها معروفة ومسطحة لكثرة تكرارها، وهذا الواقع ليس أبداً واقع الكاتب الروائي، فهو مجرد مظهر يوهم بالواقع، الواقع بالنسبة للروائي هو المجهول واللامرئي، وهو ما يراه بمفرده، وما يبدو أنه أول من يستطيع رصده، الواقع لديه هو ما تعجز الأشكال التعبيرية المألوفة والمستهلكة عن التقاطه"(19) وهكذا تغدو الرواية تخييلاً ينطلق من منظور من رؤية، ويحمل منظوراً أو رؤية، أو لنقل إن ثمة قدراً من الانزياح في الرواية بحكم طبيعتها كمتخيل كفن ثمة نزوع إلى التجديد والرمز تجعل المكان الروائي مشاهد رمزية غامضة والكاتب لا يقف عند حد وصف هذا الواقع العجيب وإنما يقف موقفاً رافضاً لهذا الواقع، يأتي هذا الرفض في الصورة الثانية للمدينة (الطرف النقيض) وهي المدينة الحلم (حبيبتي ن) منبع الفطرة الأولى ومصدر الصفاء والسكينة:‏

آه مدينتي..‏

عفواً أقصد حبيبتي، لماذا تهرب منا اللحظات الرائعة الجميلة‏

أولم تكوني يوماً ابتسامة بريئة أرصع بها قلبي المتوهج؟‏

أولم تكوني يوماً نوراً يملأ الآكام الضاحكة؟‏

أولم تكوني يوما.. موجاً.. شوقاً يدغدغ أعماقي بأوتاره الرنانة‏

هل تذكرين حبيبتي..(20)‏

هنا يستحضر الكاتب المكان /الماضي ليواجه به المكان/ الحاضر يستحضر ماضي المدينة السعيد عندما كانت تنعم بالحسن والجمال قبل أن تدنسها يد (الغراب) وساعده (نعل).‏

ويواصل الكاتب معتمداً على الوصف والذي هو حتمية لا مناص منها في السرد كما يقول "عبد الملك مرتاض"(21) فيقدم مشهداً طافحاً بالجمال للمدينة الحلم قائلاً:‏

حسناء، حبيبتي يا لون الفرح والقمح البري..‏

يا طعم الطفولة والحلم والليمون..‏

يا قامة الصفصاف وكبرياء السرو..‏

يا.. نسيم البراءة.. يا براءة النسيم‏

يا.. القوزح.. الجوهر.. السر.. اللب.. العمق.. الكنه(22)‏

وبهذا يقدم الكاتب صورة جديدة لهذه المدينة كما كانت قبل أن يمتص حيويتها الغراب فيحولها إلى تلك الصورة القبيحة التي رسمها منذ بدء الرواية (المدينة المومس) وبذلك فقد جاء الوصف لغرض فني ولم يأت بشكل اعتباطي وهو جعل الرواية تحمل شقين أو مرحلتين، مرحلة ما قبل المأساة وهي مرحلة الحلم، ومرحلة المأساة وهي مرحلة الانهيار، وبين المرحلتين يقف الكاتب حائراً، تارة يتجه بخياله إلى‏

الواقع يعريه ويكشف زيفه، وتارة أخرى يرتد إلى الماضي وينخرط في ذلك الحلم الجميل، ويتوحد مع مدينته راسماً ملامحها بريشة الفنان العاشق لفنه ولكن هذه الصورة المتخيلة سرعان ما تتلاشى لأنها لا تملك قوة الثبات والديمومة إنها حلم، حلم جميل حلم محروم من الانبناء حتى إن اسم هذه المدينة الحبيبة هو "ن" وهو حرف صغير، حرف واحد، غير مصرح به، ولعل سقوط حروف اسم المدينة، واكتفاء الكاتب بالحرف "ن" يدل على عدم اكتمال هذا الحلم وتحقيق وجود هذه المدينة على أرض الواقع يقول الكاتب "لعل الأمر لا يعدو أن يكون حلماً جميلاً"(23).‏

واكتفاء الكاتب بالحد الأدنى ببعض الحلم اكتفاء غير مرغوب فيه إنه نتيجة حتمية لمضايقات الواقع وشدة وطأة الحاضر.‏

وعلى العموم لو أردنا ترتيب المكان في هذه الرواية فإننا نجد ثلاث مراحل:‏

1-مرحلة المدينة المومس: وهي تحتل أول الرواية بدءاً بالمقطع الأول وهو "أنا والمدينة" وكأن السارد أراد من خلال ذلك أن يضعنا مباشرة في مواجهة المأساة ليعمق شعورنا بفداحتها.‏

2-مرحلة المدينة الحلم "الحبيبة ن" وتقع في وسط الرواية.‏

3-مرحلة الهزيمة ونهاية الرواية بانتصار المدينة المومس واستسلام البطل لغوايتها في هذه المرحلة يسقط الحلم وتسقط رموزه "نور الشمس" شذا الزهر، وسنان الرمح، ويسقط البطل فيصيبه المسخ والوباء الذي أصاب أهل المدينة المومس نجد ذلك بداية من المقطع الثلاثين في الرواية، ولكن هذا المسخ والسقوط كما يتبين من المقطعين 35، 36 وهما "النبع والمجذوب" و"الطوفان والفلك" سقوط مؤقت لأن "المجذوب" رمز الحكمة والنبراس الهادي ينجح في إنقاذ البطل من السقوط الكلي حيث يعود قوياً كما كان يمارس من جديد فعل الصمود والمواجهة "وقفت عند زيتونة عرشت على الأرض تخفي بمكر شديد منهل الشلال.. وقفت عنده.. انبسطت أساريري دمعت الزيتونة زيتاً يضيء نوراً على نور"(24).‏

والكاتب هنا ينتقل بمركز الثقل إلى أماكن مناقضة "للمدينة المومس" هناك مثلاً الشلال المختبئ والذي يحمل في النص دلالة البقاء واستمرارية الحياة، هناك كذلك الصخرة والتي تحمل دلالة الصمود والمواجهة، فقد كانت مصدر الحياة لموسى (عليه السلام) وكانت مرقى الرسول (إلى السماوات العليا في حادثة الإسراء والمعراج، بالإضافة إلى شجرة الزيتون وهي مصدر الحياة بالنسبة للبطل ومصدر الحنان والرأفة، وهي كذلك رمز للأمن والسلام.‏

وجلاوجي "لا يقول لنا ذلك بداهة بطريقة الرومانسيين وإنما بمنطق الفن الواقعي الماكر، وبطولة الشجرة أو الشلال على ما فيها من نقد للحياة، وهجاء للمجتمع عودة إلى النموذج الأول لصلة الإنسان بعناصر الأرض ونباتها"(25) وبفضل إعادة هذه الصلة المقطوعة بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والشلال تعود للبطل حيويته بعد أن غسله "المجذوب" بمياه الشلال ونقاه من أدران المدينة المومس، وأمره بصنع الفلك رمز النجاة من الطوفان الذي غدا يهدد المدينة ويوشك أن يغرقها.‏

الطوفان قادم.. الطوفان قادم‏

وأصنع الفلك بأعيننا ولا تخاطبني في الغافلين.. الضالين‏

السامدين.. التائهين.. المدهنين(26)‏

وهكذا تنتهي الرواية نهاية مفتوحة على المجهول لا شيء إلا أسئلة مطروحة واحتمالات متخيلة، لينقلنا الكاتب بعد ذلك إلى الجزء الثاني من الرواية، وهو بعنوان "أصحاب الكهف والرقيم" وهذا العنوان ينقل القارئ إلى متاهة أخرى من الضبابية والغموض وهو عنوان. يجعلنا نستحضر قصة أهل الكهف الذين فروا بدينهم إلى الكهف خوفاً من أن يفتنهم قومهم عن دينهم ويردوهم بعد إيمانهم كافرين وهكذا فكما فر الفتية المؤمنين إلى الكهف بحثاً عن الأمن والسكينة، يفر الكاتب إلى الكهف، وهو يرمز بذلك إلى القيم الروحية، فيصبح لجوء الكاتب إلى الكهف في الجزء الثاني من الرواية لجوء إلى القيم الروحية التي هي برأيه السبيل الوحيد لإنقاذ المدينة.‏

الإحالات:

(1)صلاح فضل، شفرات، النص، دار الآداب، بيروت 1999، ص215.‏

(2)- ينظر سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي‏

(3)- إبراهيم صحراوي، تحليل الخطاب الأدبي، دار الآفاق، الجزائر، 1999، ص207.‏

(4)- حسن نجمي، شعرية الفضاء، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000، ص76.‏

(5)- المرجع نفسه، ص77.‏

(6)- منذر عياشي، الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص5، وما بعدها.‏

(7)- ميشل فوكو، نظام الخطاب، ت. محمد سبيلا، ص19.‏

(8)- حسن نجمي، شعرية الفضاء، ص80.‏

(9)- عزالدين جلاوجي، رواية سرادق الحلم والفجيعة، مطبعة هومة الجزائر 2000، ص8.‏

(10)- مختار على أبوغالي، المدينة في الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة ص 128.‏

(11)- انظر محمد حمود، الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص261.‏

(12)- عزالدين جلاوجي، الرواية، ص9.‏

(13)- المصدر نفسه، ص10.‏

(14)- محمد حمود، الحداثة في الشعر العربي المعاصر.‏

(15)- رسالة من المؤلف بتاريخ: 5 ماي 2001.‏

(16)- عزالدين جلاوجي الرواية ص10.‏

(17)- الرواية، ص11.‏

(18)- الرواية، ص18.‏

(19)- صلاح فضل، شفرات النص، ص221، 222.‏

(20)- الرواية، ص25.‏

(21)- ينظر عبد الملك مرتاض –تحليل الخطاب السردي، ص264.‏

(22)- الرواية، ص26.‏

(23)- الرواية، ص59.‏

(24)- الرواية، ص123.‏

(25)- صلاح فضل، شفرات النص، ص217.‏

(26)- الرواية، ص128

 

 

التخييل الأسطوري للراهن

في رواية سرادق الحلم والفجيعة

د. بوشعيب الساوري (المغرب)

 

 

1- تقديم

 على الرغم من قصر مسار الكتابة لدى عزالدين جلاوجي، الذي لم يدخل عالم الكتابة إلا سنة 1994 بمجموعته القصصية لمن تهتف الحناجر، فإن ما حققه من تراكم إبداعي يؤكد توفره على طاقة إبداعية متميزة متعددة الروافد من قصة ومسرح ورواية وأدب الأطفال. فهو يكتب بالتناوب في كل هذه الأجناس التعبيرية. ولا أدل على ذلك هو رصيد إنتاجاته المتنوعة الذي يتجاوز خمسة عشر عملا بين رواية وقصة ومسرحية ونصوص للأطفال.

والذي يهمنا من هذه التجربة هو الأعمال الروائية إذ أصدر لحد الآن، أربع روايات؛ في سنة 2000 أصدر روايتين متباينين شكلا ومضمونا وكذلك من حيث القيمة الفنية وهما الفراشات والغيلان، وسرادق الحلم والفجيعة.

فالأول يفتقر إلى أهم خصوصيات النص الروائي وهي الوضع الإشكالي للبطل وتنسيب العالم الروائي. بينما جاء النص الثاني قويا وناضجا من حيث بناؤه الفني. ثم أصدر بعد ذلك روايتين متميزتين، أكدتا على ثراء تجربته الروائية؛ وهما رأس المحنة (2003) والرماد الذي غسل الماء (2005).

تتمحور الكتابة الروائية لدى عزالدين جلاوجي حول متخيل روائي أساس ينشغل، وبدرجات متفاوتة، بأسئلة الراهن وأزمة ووضع الإنسان داخل واقع تراجعت فيه القيم النبيلة لصالح قيم منحطة، مع العناية بالشكل الروائي، انطلاقا من وعيه بأن الجنس الروائي غير مكتمل، وفي ارتباط بالدور الموكول للرواية ألا وهو«الكشف عن عالم في حاجة دائمة للكشف»، وسعيها الدائم إلى زعزعة الانتظارات المكرسة.

ينهض المتخيل الروائي في رواية سرادق الحلم والفجيعة1 على تشخيص الأزمة، عبر بناء أسطوري ينفتح ويتفاعل مع أشكال إبداعية مجاورة، كما يوظف الموروث الحكائي والتاريخي والديني، بهدف رصد مفارقات الراهن، عبر نقد اجتماعي يراهن على الرمزية، باعتماد لغة تنحو إلى الإيحاء والرمز، بعيدة كل البعد عن الأسلوب التقريري المباشر. فيتم نقد الواقع عبر ملاحظات ساخرة، بانية للمعاني والتصورات. نظرا لكون الرواية مكتوبة انطلاقا من رؤية موجهة وهي رصد مفارقات الراهن ونقده، لكن عبر تمثله وتخيله وإعادة كتابته روائيا.

2-     أسطرة الواقع

أثناء حديثه عن الأساطير، من وجهة نظر التحليل النفسي، أكد إريك فروم أن لغة الحلم والأسطورة واحدة. فعندما نقارن بين لغة الحلم ولغة الأسطورة، نجد أنهما تستعملان نظاما إشاريا محملا بالدلالات والرموز، وتعتمدان سردا غير متتابع، يضرب عرض الحائط بالخطية والتسلسل المنطقي.

يمكن للرواية أن تشترك مع الأسطورة في بنية واحدة أيضا شبيهة ببنية الحلم، وذلك عندما تريد الرواية التنويع من إمكاناتها السردية ورؤاها الإبداعية. ونقصد عندما تتمثل الرواية الواقع تمثلا أسطوريا؛ وهو ما تبلور في الرواية الأمريكولاتينية تحت اسم الواقعية السحرية حيث يتحول الواقع إلى أسطورة فاتنة ومدهشة وحتى جارحة في قسوتها. وقد لمسنا هذا المنحى في أعمال واسيني الأعرج التي خصصها للأزمة الجزائرية وخصوصا روايته حارسة الظلال(دار الجمل، ألمانيا، 1999.) الذي أكد أن الواقع نفسه معقد وأسطوري ويشعر الإنسان فيه بأنه يعيش، في الآن ذاته، داخل الواقع وداخل الأسطورة. كما لمسناها لدى الطاهر وطار في روايته الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي(سلسلة روايات الزمن، منشورات الزمن، الرباط،2000.)2. وهذا هو، بالفعل، الوضع الحقيقي لمجتمعنا العربي الراهن.

شغلت أزمة وضع الإنسان في العالم العديد من الروائيين العالميين، لكن اختلفت طرق تعاملهم معها، فنجد أن البير كامي قد واجه الأزمة بالتمرد، وسارتر بالمسؤولية والالتزام، وكافكا باليأس، وآخرون بالمواجهة والفضح. وكتاب أمريكا اللاتينية قد ألبسوها لباس الواقعية السحرية. فهناك من نحا نحو التجريد والفانتازيا، بالانطلاق من الواقع المأزوم بغية رصد تناقضاته ولكن بطريقة رمزية إيحائية. ضمن هذا الاتجاه الأخير يمكن أن ندرج رواية سرادق الحلم والفجيعة. ويجعل هذا التصور الفانتازي الرواية قريبة من الافتراض الفلسفي الذي وضعه الفلاسفة كتخيلات عن الواقع وخصوصا الفيلسوف الانجليزي هوبز في كتابه الليفياتان. كما تقترب الرواية من المحكيات الفلسفية وتصورات الفلاسفة حول المدينة(المدن الفاضلة)، لكننا نشهد في هذه الرواية قلبا، فإذا كان الفلاسفة قد تصوروا مدنا جميلة يسود فيها العدل والمساواة والسعادة (المدن الفاضلة)، فإن عزالدين جلاوجي يقدم صورة فانتازية مخالفة تصور مدينة ممسوخة، فضاء للقبح والاستغلال والاستعباد، يسوده الموت والخراب والدمار، والانحلال والرذيلة. إنها مدينة مومس تبيح نفسها لكل المارة والعابرين. فيكون هدفه تقديم صورة للمدينة تفرض ضرورة البحث عن حلول لتجاوزها. لأن الرواية كما يقول كونديرا ليست تحليلا للواقع وإنما تحليل للوجود الإنساني، باعتباره حقلا للمكنات الإنسانية3. ليعمّق تشخيصه وتفسيره له، وليؤكّده، وربما ليمعن في هجاء العقم والفوضى اللذين يسودانه، ويصدّعان معنى الإنسانيّ فيه.4

قبل ذلك لا بد من تقديم تعريف للأسطورة وهي حكاية مقدّسة، تروي تاريخاً مقدّساً، أو حدثاً جرى في الزمن البدئي، وتعلّل كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها كائنات عليا، اتصفت أفعالها بالقدسيّ والخارق 5 وإذا كانت سابقة على النصوص، فإنها تظهر في النصوص كوسيلة من وسائل الاشتغال.6

ما يميز هذه النظرة، في رواية سرادق الحلم والفجيعة هي أنها إنسانية يمكن أن تحدث في أي مكان من الأرض، إننا أمام كتابة تعانق الكوني الإنساني وتتجاوز النزعة المحلية الضيقة التي قد تمنع من تداول بعض النصوص على نطاق أوسع.

تبدو أحداث الرواية غريبة جداً تتقاطع مع الرمزي والأسطوري الخيالي.لأنها تسعى إلى تصوير الواقع بمنظور أسطوري فانتازي. وقيام الرواية على بناء أسطوري يجعل كل شيء فيها محملا بالدلالات والإيحاءات الرمزية.

3- البطل المأساوي

نلمس مأساوية البطل انطلاقا من الإهداء:"إلى الغرباء في المدينة." وكذلك من خلال نص التوحيدي الذي يفتتح به روايته: "الهوى مركبي...والهدى مطلبي... فلا أنا أنزل عن مركبي... ولا أنا أصل إلى مطلبي... أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة..."(ص.6.) الذي يحيل على التماهي مع شخصية التوحيدي تلك الشخصية القلقة التي عاشت محنة المثقف وغربته وتهميشه. مما يسمح للرواية بتكوين صورة واحدة لغربة المثقف تتجاوز الزمان والمكان. فيغدو استحضار التوحيدي توظيفا رمزيا. وشهادة على تراجع دور المثقف، لتجعل البطل المأساوي يستمد خصوصيته من التراث.

تتقوى هذه المأساوية بعزلة الشاهد البطل، بعد أن استبيحت المدينة واستولى عليها الغرباء الذين عملوا على طمس كل القيم النبيلة مقابل إشاعة قيم منحطة وقبيحة، واكتفائه بالتحسر على راهن المدينة. يقول: "وانكفأت على نفسي وجلست القرفصاء بعيدا أنظر المشهد حزنا... حسرة... إنها لا تعمى الأبصار ولكن..."(ص. 50.) وانعدام حرية الرأي والتعبير. يقول: "قالوا إن أردت أن تعيش بيننا سليما معافى في جسمك وجسدك وبدنك وقدك وقوامك يأتيك رزقك ما يسد رمقك ويستر عورتك... فاسكت. "(ص.68.) وخضوع الناس واستسلامهم لسلطة الغراب سيد المدينة الجديد ولا معارض أو منتقد. يقول: "تشرئب أعناقهم للسيد الغراب في إعجاب شديد... ترتفع صيحاتهم وتصفيقاتهم وتهليلاتهم في كل لحظة وعند كل جملة مؤيدين ما تفوه به الغراب."(ص.80.).

يجسد "الشاهد" عزلة وغربة المثقف الواعي الرافض لهذا الوضع المتردي والراغب في تجاوزه، لكنه لا يجد آذانا صاغية بل الكل منغمس في الخنوع والذل والركون إلى الصمت. لا يجد الشاهد لديهم أي مؤازرة لتجاوز الوضع المأساوي الذي آلت إليه المدينة، ومواجهة استبداد الغزاة. الأمر الذي عمّق إحساس الشاهد بالخيبة والفشل في تغيير الوضع المتردي الذي آلت إليه المدينة المومس. مما يجعل الشخصية الروائية تقتنع بأنها متمسكة بقيم أصبحت متجاوزة في زمنها الرديء. وتعجز عن تغيير واقعها. يقول:"الأحداث لا أقدر على تغييرها ربما لأن القدر قد رسم هذا وجف القلم وطويت الصحف، وأنا قشة لا يمكن أن اصمد أما التيار الجارف..." (ص.88.) الأمر الذي يقوي الوضع الإشكالي والمأساوي للشخصية ويزيد معاناتها وهمومها.

أمام هذا الوضع المأساوي يحاول البطل البحث عن معنى لوجوده فيحتمي، بين الفينة والأخرى، بالمجدوب تلك الشخصية المنفلتة، التي يوهمنا السارد بوجودها، لتقوي من عزيمته لمواجهة مأساة مدينته. بتوجيه العديد من التساؤلات للمجدوب عله يساعده على فهم ما يجري من تردي بالمدينة. يقول:" دنوت منه في تحنان... استعطاف... استلطاف... استشفاق… استرحام... لا بد أن يجيبني عما يحيرني عن المدينة..."(ص.78.) وهو الأمر الذي يفسر هيمنة أسلوب الاستفهام على الرواية ويرتبط كذلك بمحاولة الشاهد فهم ما جرى.

إذا كانت الأسطورة تقدم فهما للعالم، فالرواية، من خلال اعتمادها البناء الأسطوري، تحاول عبر شخصية الشاهد فهم ما جرى وفهم الحال التي سارت إليها المدينة، والبحث عن حقيقة ما جرى. يقول:"لا يجوز أن أضيع الوقت لا بد من اكتشاف الحقيقة."(ص.75.) مما جعل الشخصية دائمة السير والبحث بهدف فهم ما جرى فتقوم برحلة دائرية داخل المدينة انطلاقا من العفن الذي أصاب المدينة ومحاولة الاستنجاد بالمجدوب والبحث عن الأحبة والشوق والحنين غلى الحبيبة نون. وبذلك تعانق الرواية المحكي الشعري.

انعكس الوضع المأساوي للبطل ولواقعه المتردي على طريقة كتابة الرواية، فاعتمد اسراتيجية أساسها القلب، وتكسير خطية السرد، واعتماد البناء الدائري المغلق.

4- البناء الأسطوري

انسجاما مع روح الأسطورة الذي تتبناه الرواية، نسجل الحضور القوي للخطيئة واللعنة وهي مفاهيم مرتبطة بالميتولوجيا، في إطار صراع الخير والشر، ينقسم العالم إلى شقين شق الشر وشق الخير، والشاهد يجد أن شق الشر قد انتصر بعد أن تمت إباحة المدينة محاولا التمسك بقيم الخير التي لم يعد لها وجود في الواقع وهو الذي يعمق أزمته ويمنح النص مأساويته.

فالشاهد وهو يحاول القيام بمهمته الرسولية (بعث الخير واستعادة ملامح المدينة السابقة) يسقط في "المبولة" فيلطخه العفن والشر المستفحل في المدينة فيمسخ وينقلب على قيمه ويصبح في صف فريق الشر، وسيصبح من المدافعين عن هذه القيم المتعفنة. لكن ذلك لم يدم طويلا سيزول عندما غسله الشيخ المجدوب بماء الشلال وأعاده إلى حاله عندما رماه بالماء."ثم رماني وسط حوض الماء[...] وقفز الشيخ المجدوب فوقي برجليه وراح يدلكني دلكا شديدا وللماء مور شديد فأغدو تحت رجليه كالعهن يخرج مني عفن... نتن..." (ص.124.) وسيستعيد وعيه السابق، ويظل الأمل في التغيير قائما.

تتأسس الرواية، شأنها شأن الأسطورة، انطلاقا من عنوانها الذي يختصر معناها العام، على ثنائية كبرى وهي الحلم والفجيعة، أو ثنائية الموت والحياة. وتتولد عنها العديد من الثنائيات الضدية (الخير/الشر، القبح/ الجمال، النور/ الظلام، الأمن/ الخوف...) فالفجيعة مرتبطة زمنيا بالوضع المأساوي الذي آلت إليه المدينة في الحاضر(الزمن المتعفن، وأبطاله الغراب والفئران والثعالب والنسور، ونعل، الأخدان... إذ نلاحظ أن الكاتب استعار لها أسماء مقززة ومنفرة، بالإضافة إلى استدعاء صفاتها وقبحها، والذي يتمثل في الصفات التالية؛ السواد، الخبت، الخيانة، التخريب، الفساد..) أما الحلم فهو يحيل على ما هو مفتقد(البحث عن الزمن المفقود) من حب ونقاء، وصفاء، ونظام... يقول مناجيا حبيبته نون التي تمثل هذه القيم: "يا طعم الطفولة والحلم والليمون."(ص. 25.) والبحث عن ماضي المدينة الجميل. يقول:"كانت واحة من نخيل شماريخها ذهب إبريز، ورطبها در مكنون، بها أطيار خضر، وسواقي حمر، وماء غمر، وعشب وزهر، الكلام فيها موسيقى، والنظر إمعان..."(ص. 33.) البحث عن الحلم في إطار بحث الشاهد عن القيم المفتقدة.

كما تتخذ هذه الثنائية صيغة أخرى وهي الحضور والغياب فالحضور حضور للقيم السلبية (الشر، العنف، العفن، الوباء، القحط...) ومن يمثلها كالغراب والفئران والثعالب والنسور. في مقابل غياب القيم النبيلة التي افتقدها الشاهد(الخير، النقاء، الحب، الصفاء...) أو من يمثلها من شخصيات خيرة وهي "نور الشمس"، "عسل النحل"، "شذا الزهر"، "سنان الرمح". كما أن القيم الجميلة مرتبطة بالماضي الضائع الهارب. يقول:"لم تعد في المدينة أزهار..."(ص.57.) وكذا بالحلم المرغوب فيه. أما القيم السلبية فتسود الحاضر الذي تقدم الرواية بديلا أسطوريا عنه من أجل إبراز تناقضاته وانحطاطه وترديه.

 كما تتأسس هذه الأسطرة على تداخل الإنسان بالطبيعة وأنسنة الأشياء والجمادات ونسبة أفعال إنسانية إليها فتغدو المدينة امرأة عاهرة. يقول:"تقهقه المدينة العاهرة في سمعي... تتهادى أمام بصري في ثوبها الشفاف... يتصافح ثدياها... شكوتاها... تضرب على الأرض بكعبها... تدندن أغنيتها المفضلة."(ص.9.)

ويرتكز الاشتغال الأسطوري على الرمز من خلال الحضور القوي لعنصر الماء باعتباره رمزا  للحياة يعيد للبطل حيويته بعد أن غسله "المجدوب" بمياه الشلال ونقاه من أدران المدينة المومس، وأمره بصنع الفلك رمزا للخلاص من الطوفان اللعنة التي غدت مهددة للمدينة وتوشك أن توقعها في الغرق.‏ يقول:"الطوفان آت.. الطوفان آت... وأصنع الفلك بأعيننا ووحينا..."(ص.126.)‏

إن استدعاء قصة الطوفان كما وردت في القرآن، وبالأخص فعل الطوفان كحدث حاسم، يؤكد يأس وعجز الشاهد، وفقدانه الأمل وانهيار أحلامه الكبرى في التغيير، بعد أن انهارت كل القيم  فيمثل الطوفان، اللعنة التي ننتظرها، أمام الانهيارات المتواصلة التي يعيشها راهننا، يوما عن يوم.

إننا أمام رؤية فانتازية للواقع، أو تجريد تأملي للواقع والراهن، أو كتابة الواقع أسطوريا في إطار اتجاه يروم بناء عوالم تفضح الواقع من أجل مجاوزته.7  كما أن وراء هذه الفانتازيا "إيحاء دلالي بالرغبة في التجاوز والتعديل للموقف القائمين."8  تدمج الواقعي بالغرائبي بوضع اليد على تناقضات الواقع. كما تتضمن الرواية عدة حكايات خرافية لكائنات عجيبة، تعمل على خلق جو أسطوري.

5- السرد

نجد أنفسنا أمام كتابة روائية تنحو إلى أسطرة الواقع، من خلال توظيف الأسطورة، لكنها تحافظ على روح الرواية، بحضور البطل الإشكالي المأساوي المتشبث بقيم أصبحت منحطة ولا وجود لها في واقعه. بطل يتماهى مع النبي، يقاوم تعفن الواقع وتغير العالم متشبث بمثله التي يستمد منها القوة ( المجدوب، حب المدينة، الإخلاص للمبادئ...) يتحقق هذا الوضع الإشكالي للشاهد من خلال تجربة الغربة التي يعيشها بعد أن تغيرت المدينة واكتساحها وإباحتها من قبل الغرباء.(الغراب والنسور والفئران والثعالب...) يحاول السارد البطل في الرواية فهم ما جرى وما يجري، وينتقد ذاته. يقول:"وبالفعل ها أنذا أبقى بعيدا متفرجا...متفرج سلبي لا يقدر على شيء."(ص.82.) ومن ثمة يكون السارد متراوحا بين دورين في مهمته السردية؛ فهو من جهة شاهد على أحداث الحاضر وتحولاته الغريبة، ومتذكر ومستفهم عما وقع لماذا وقع ما وقع؟ وكيف؟ يقول:"لماذا رحل الجميع وبقيت أنا؟" (ص.56.) وبعبارة أخرى تشخيص راهن المدينة، وذلك بتوظيف كل حواسه أثناء المشاهد الوصفية والتساؤل عن مصيرها.

يتراوح السرد بين فضح الواقع وإبراز تناقضاته، يتساءل عن المفارقات التي وجدها السارد أمامه، عبر سخرية مبطنة. مثل نقد "الديمقراطية"، من خلال طريقة اختيار الحاكم في المدينة بعد أن استباحها الغزاة. يقول:" أما الطريقة فهي أن يقف المترشحون للرئاسيات صفا واحدا، وتحت مرأى الجميع وسمعهم ستُرسل الأرواح الطاهرة الزكية من عالم الغيب بمباركة الإله قبحون طائرا لسنا ندري شكله ولونه وحجمه، وسيحط على من يرى فيه الصلاح، ومن حط عليه فقد اختاره الإله لقيادتكم وسياستكم وهكذا نكون قد فُقنا كل المدن والقرى الأخرى في طريقة اختيار الأكفأ… الأجدر... الأنسب… الأصلح… الأقدر ليواصل ما بدأناه من إنجازات عظيمة والتي صرنا بفضلها مضرب المثل في الكبائر أقصد أكبر الأشياء أي العظائم..." (ص.82.) فالسارد ليس شاهدا محايدا، وإنما يعلق، يحلل، ويبدي رأيه من تحولات مدينته. يقول:"تقزز قلبي من المنظر الشنيع ومن مشهد أسنانها المهترئة وتعالت الهتافات تملأ الساحة ويتردد صداها في فم المبولة النتن..."(ص.81.) وهنا يطلع السارد بالنقد الاجتماعي الذي يرصد المفارقات. ويقول أيضا:."لم يثر ذلك في نفسي شيئا جديدا قد غدت هذه المناظر المقرفة روتينية تزرع الكوابيس حتى في أحلام يقظتي."(ص.11.) ويحتمي بالماضي المشرق الحلم الجميل، ويبحث عن الحبيبة المجهولة الاسم التي تشده إلى الماضي الجميل والمستقبل المشرق، بحثا عن الأمل والحلم.

تتبني الرواية بناء دائريا الذي يتجلى عادة في المحكيات التي تبدأ من النهاية،( رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست). تعمل هذه البنية على تكسير الزمن وتكسير السير العادي للحبكة ويجعلها مغلقة على ذاتها. 9 إنها بنية ثابتة تعمل على تثبيت الزمن وتوقيفه. إنها تعني الصفر ولاشيء. 10

وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة على عدة احتمالات متخيلة، وذلك انسجاما مع المنطلق الذي يرتكز عليه هذا العمل الروائي وهو تقديم رؤية فانتازية للراهن، مما جعل النهاية مفتوحة على عدة احتمالات، في ارتباط بتنسيب العمل الروائي، التأكيد على أن الرواية تخييل للواقع وليست وصفة سحرية لتقديم الحلول، للتأكيد على أن الفجيعة لا زالت قائمة ومستمرة والطوفان قادم إن لم نع وننتبه إلى الفجيعة التي نعيشها وإلى تبعاتها.

يظهر مطمح التجديد واضحا من بداية النص فتبدأ الرواية بخاتمة وتنتهي بمقدمة يذكر فيها بداية الحكاية. يؤكد البناء الدائري أن الرواية لم تنته، ما دامت صورة فانتازية للراهن المأزوم. حيث صدر عمله "بخاتمة". يقول: إن "الأجيال المتعاقبة مازالت تبحث عن قمة الجودي حيث رست السفينة".(ص.7.) وهذا القلب، بالإضافة إلى وظيفته الشكلية يؤدي وظيفة تشويقية تسهم في إشراك القارئ وتدخله إلى عمق التجربة المتحدث عنها.

تؤدي البداية بالخاتمة دورين وهما: تكسير خطية السرد وإثارة اهتمام القارئ. والتأكيد على أن الأمر يتعلق بطريقة جديدة في السرد تشرك القارئ وتدخله إلى عالم الرواية: "ومازالت الأجيال..." وكأن القارئ على علم بالحكاية، وهو بالفعل على علم بها كما وردت في القرآن الكريم. بالإضافة إلى أسلوب الاستفهام الذي يحاول فهم الأحداث السابقة على حدث الطوفان. فبالفعل البداية بالخاتمة فعل مستفز للقارئ يحفزه على متابعة القراءة.

تكسير الخطية بتقسيم الرواية إلى فصول معنونة ومرقمة والتي تتضمن بدورها فصولا صغرى معنونة، التي تكسر رتابة الامتداد الخطي للسرد. بالإضافة إلى توظيف الحواشي، التي تضيء المتن، وتشد القارئ. فليس هناك تتابع وإنما يعمل السارد بين الفينة والأخرى على تقديم إشارات تضيء الأحداث والشخصيات.

القلب اللغوي الذي يستند على استرتيجية اللعب وتشويه المفردات:"ولقد سماه لعن السارمي...إنه قبحون...قبحون العظيم..."(ص.14.) ومنه "رب اللظام واللكام والشيهب..." (ص.15.) ويقصد الظلام والكلام.

تكسير الحدود بين الأجناس، من خلال خلق تداخل بين الأجناس، الشعر الرواية والمسرح،، التداخل الذي تتغير فيه درجة اللغة وكذلك الأسلوب، في ارتباط بوضع السارد، مما جعل اللغة الروائية طبقات ودرجات بحسب المقام، فهناك اللغة الشعرية الموحية المعبرة عن المشاعر الدفينة، واللغة الصوفية الملتبسة العبارة، ولغة الشهادة. مما جعل الرواية تتوزع على مجموعة من المقامات اللغوية:

- مقام المناجاة(مقام الذات): الشعر للحبيبة نون والصفصافة من خلال مقاطع شعرية مفعمة بالحنين والشوق.

- مقام الحضور الصوفي(مقام الروح): ويحضر الحوار المفعم بالاستفهام وفك طلاسم العبارات التي يسمعها الشاهد من المجدوب. أثناء الحوار، ويستمد خصوصياته من المسرح. وتصبح اللغة صوفية متعالية.

- مقام الحسرة(مقام الشهادة): برصد المفارقات والتحولات السلبية التي آلت إليها المدينة(الواقع) . ويتخذ السارد موقف الشاهد العاجز عن التغيير.

- مقام الحنين: تذكر الماضي(بالحنين إلى القيم التي اختفت).

- مقام الأمل: استشراف المستقبل (المفعم بالأمل والحلم.)

كما يتميز السرد بخاصية وهي التنسيب والاحتمال؛ يبدو السارد غير متأكد من محكيه، خصوصا عندما يكون في حضرة المجدوب. يقول:"هكذا قلت له... أو لم أقل... أو خيل إلي."(ص.51.) وهو ما يعطي مسحة فانتازية للأحداث ويزكي كذلك طابع الأحداث التي تبدو قريبة من الحلم. كما يجعلها قريبة من المحكي الشعري النثري الذي يقلب كل المعايير المعتادة في الحكي، لأنه يجمع بين خصائص الشعر والنثر، فهو شكل من المحكي "يستعير من القصيدة وسائلها في الفعل والتأثير." 11 يحافظ على عنصر التخييل، الذي تقوم عليه الرواية، شخصياته تعيش قصة من القصص في مكان ما، وله، في الوقت نفسه، طرائق سردية مستمدة من القصيدة. سينتج عن هذا الازدواج مواجهة بين الوظيفة المرجعية والوظيفة الشعرية التي تثير الانتباه إلى شكل الرسالة. بما يوحي بتداخل الواقع بالحلم. فيختلط الأمر على السارد الذي لا يقدر على التمييز بين الواقع والخيال والحلم:"ولعل الأمر لا يعدو أن يكون حلما جميلا."(ص.26.) فأصبح السارد يعيش الواقع ككابوس ولا يرى إلا الكوابيس. وذلك انسجاما مع رهان الرواية على تقديم رؤية فانتازية للراهن.

ويتأكد فعل التنسيب من خلال جدل المتن والهامش، إذ ضمن عزالدين جلاوجي روايته هوامش عديدة على طريقة الدراسات الأكاديمية، في أسفل الصفحات، ليشرح مجموعة من الألفاظ أو يقدم توضيحات عن ما جاء ملتبسا في المتن.

تعزز خصوصيات السرد في هذه الرواية شغف الكاتب بالبحث عن أشكال سردية تستمد جماليتها من التراث، لكنها محملة بدلالات وإشكالات الراهن؛ فالعودة إلى التراث ليست عودة مجانية، وإنما من أجل إغنائه وجعل أشكاله السردية قادرة على التعبير عن قضايا الراهن.

6- التفاعل النصي

يأتي اهتمام الروائيين العرب بالتراث في إطار بحثهم عن إمكانات جديدة للسرد الروائي. وعزالدين جلاوجي واحد من الروائيين الذين انفتحوا على التراث السردي والثقافي العربي الإسلامي. وذلك وفق منظور جديد يجعل روافد التراث المستدعاة في خدمة الرؤية الناظمة للعمل الروائي، وهي تمثل الراهن تمثلا أسطوريا. ومن الروافد التي اعتمدتها رواية سرادق الحلم والفجيعة نشير إلى قصص الأنبياء، المحكي الصوفي، المحكي التاريخي، الانفتاح على القرآن، وكتب الأخبار والعجائب، والانفتاح على بعض الأجناس التعبيرية الحديثة...

فعلى مستوى حضور كتب العجائب نجد أثرها في فعل التغريب الذي يميز اللغة الواصفة للعالم الروائي. يقول مثلا:" طائر غريب لم أره في حياتي…له جناحان ممتدان طويلان كجناحي الوطواط… وله رأس كالخنزير… وله ذنب كالحمار… ومخلب كالنسر…ويغطيه ريش أسود كثيف.."(ص.97.)

وتحضر كتب الإخباريين عبر فعل التأصيل الذي تطلع به الرواية، محاولة منها فهم بعض الحوادث الأصلية التي حدثت في المدينة، مثلا كيف تم تلطيخ القمر(سواده). ويقدم عدة أخبار وروايات حول حدث واحد، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تنسيب الأحداث، التي تتوافق مع خصوصيات الجنس الروائي.

كما تستدعي الرواية قصص الأنبياء مع أقوامهم(موسى، آدم، يوسف، إبراهيم) قصة نوح والطوفان، إذ أنبأه المجدوب بحلول الطوفان ودعاه إلى صنع الفلك. هذا الاستدعاء الذي يغدو تقنية بنائية تسهم في التشخيص البليغ لبعض المواقف والأحداث.

كما توظف الرواية محكي الكرامات وحكايات الأولياء والذي يرتبط في الرواية بشخصية المجدوب المنفلتة. يقول:" واستوى الشيخ أمامي بشرا إنسا سويا... إنه الشيخ المجذوب…لا إنه الشيخ مولانا... بل المجذوب... بل مولانا... لقد تشابها علي... أهو هو... هو مزيج بين هو هو... لا تكاد تجزم أنه هو... حتى تميل إلى أنه هو... أم هما لم يكونا إلا واحدا لا شريك له... فلما نظرت إليهما بعيني القاصرتين رأيتهما اثنين." (ص.78.)

أما المحكي التاريخي فيحضر من خلال قصة هولاكو وغزو بغداد، إذ شبه غزو الغراب لمدينة الشاهد بغزو هولاكو لبغداد، في إطار استدعاء التاريخ وقراءة الراهن به لكنه يوظفها توظيفا أسطوريا. يقول:" والمهم أنها ضاجعتنا كما ضاجع هولاكو دار السلام ذات تاريخ. "(ص.68.)

 كما يتقاطع الشاهد مع النبي الذي يقاوم الظلمات ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ويريد أن يسود العدل والمساواة بين الناس. مدعم من قبل قوى غيبية تتمثل في المجدوب الذي يستمد منه الطاقة الروحية للاستمرار في محاربة القبح والفساد في الواقع، لكنه نبي فاشل عاجز عن تغيير واقعه، ينتظر المعجزة التي قد تأتي ولا تأتي. وذلك في إطار مراهنة الرواية على جعل سمات البطل الإشكالي نابعة من الثقافة العربية الإسلامية.

بالنسبة لتوظيف القرآن نلاحظ الحضور الكبير للقرآن سواء على مستوى استدعاء قصص الأنبياء أو اقتباس اللغة القرآنية في الوصف والتشخيص. يقول: "وأذن فيهم مؤذن الغراب فهرعوا ملبين ينسلون من كل فج عميق…عميق…من تحت الأرصفة…من عمق البالوعات… من طمي المبولة البوالة…من تشققات الجدران الخربة…وتكأكأوا عليه كبة… وحملته جماعة فوق الأكتاف وما كاد يعلو فوقَ فوقَ حتى تدثر الجميعُ صمتا ونصبوا آذانهم سمعا…إنصاتا… طاعة…كأنهم في حضرة إله جبار…قهار… دمار… مكار." (ص.13.) لكن المثير في الرواية هو حرص الكاتب على تكسير الحواجز بين اللغة القرآنية واللغة العادية. فلا يتم وضع الآيات القرآنية بين مزدوجتين. كل ذلك انسجاما مع استراتيجية التداخل التي تنهجها الرواية التي تكسر الحدود بين اللغات. بهدف جعل اللغة تعبر عن دنيوية الإنسان.12

انفتاح النص الروائي على أشكال تعبيرية مجاورة كالشعر والمسرح. فعلى مستوى الشعر نجد أسلوب المناجاة (الصفصافة) في المقاطع الشعرية نجده يناجي الصفصافة، أو الحبيبة الغائبة نون. مناجاة مفعمة بالحلم بما هو جميل والتسامي عن الواقع المأزوم وكذا التعبير عن الفقد والحنين والشوق. يقول مناجيا الصفصافة:" ويا صفصافتي يا زيتونتي…ياشفائف النور…ياساقية…جدولا فضيا...  ويا...  مهرة برية بيضاء…تعشقين التمرد… تعشقين الكبرياء... 

ويا...  حمامة بيضاء لا تحسن إلا أن تحلق في الفضاء…

إليك أهرع كطفل صغير أفزعته الذئاب…

ضميني إلى حضنك…هدهديني بجفون عينيك…ضميني إلى القلب الملتهب…"(ص.89.)

 أما الانفتاح على المسرح فيتجلى في حضور المشاهد الحوارية القائمة على الأدرمة والعناية بالديكور، وبأوضاع الشخصية وحركاتها وانفعالاتها، وهو ما يسمى بالوصف المصاحب؛ ويتجلى ذلك، خصوصا، في حوارات الشاهد مع المجدوب. الذي يحتمي به:" جئت من أجل أن أشكو إليه همي من المدينة المومس ثم نسيت كل ذلك وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره."(ص.20.) وكذلك في تقنية أسماء الشخصيات "الكابوس الجميل" و"الخطبة العصماء" و"حي بن يقظان" أسماء لشخوصه مثل "بن غفلان" سوحب" التي تعكس موهبته المسرحية.

كما نجد من آثار انفتاح الرواية على الشعر والقرآن، خاصية التكرار التي أعطت للرواية إيقاعا ويعكس كذلك الوضع المأساوي للشاهد ومعاناته داخل المدينة. يقول:" أما الغراب فقد شرع لتوه يحتفل بنصره بطريقته الخاصة، وهي مضاجعة المدينة، أما المدينة المومس فكانت تحدق فيَ بنظرات شبقية فيها قحط شديد، أما أنا فقد تسللت بعيدا."(ص.98.)

بحثا منه عن أشكال سردية تغني الكتابة الروائية ينفتح عزالدين جلاوجي في هذه الرواية على مجموعة من المحكيات التراثية.

7- تركيب

تكمن أصالة أيّ نصّ روائي في خروجه على المألوف وتجاوزه الأشكال السائدة، وذلك مصحوب بوعي ناضج بأدوات الكتابة الروائية الجديدة، كالقدرة علي توظيف تقنيات السّرد الحديثة، والانفتاح علي النصوص، حوارًا ومساءلةً، بحثًا منه عن تأسيس رؤية فنية أصيلة، لا تكتفي برصد حيثيات الراهن بقدر ما تسعي لبعث قضايا وإشكالات الماضي، ينطبق هذا القول على رواية سرادق الحلم والفجيعة، من خلال اشتغالها على متخيل الأزمة والوضع السلبي للمثقف.

كما تتأطر الرؤية الإبداعية لرواية سرادق الحلم والفجيعة في قالب فني أساسه القلب والخرق. يتأثر شكل كتابة الرواية بدوره بمنطق الثنائيات الذي يحكم البناء العام للرواية.

-   تكسير خطية السرد، إذ تتخلل السرد تقاطعات وتداخلات.

-   البداية بالخاتمة.

-   تكسير الصفحة وتقسيمها إلى متن وهامش. تقوم الحواشي بإضاءة المتن، فلا تستقيم المتون بفعل الغرائبية التي تميز أحداثها إلا بالحواشي التي تضيئها، ذلك بفعل لعبة التعتيم والإضاءة.

-   تكسير الحدود بين بين اللغة العادية واللغة القرآنية.

-   ردم الهوة بين الرواية والأجناس المجاورة كالمسرح والشعر.

-   تحويل السرد إلى لعب عبر تقنية القلب التي تطال مجموعة من المكونات(اللغة، البناء...)

-   ترسيخ الاحتمال والنسبية والممكن واستبعاد اليقين.

-   عملت الرواية على دمج الإيديولوجي بالجمالي، والواقعي بالمتخيل، التاريخي بالفني.

عموما إننا أمام عمل روائي يتأسس على رؤية تركيبية بين الواقع المعيش والواقع المتمثل والمتخيل، بين المقدس والمدنس، الحاضر والماضي والمستقبل. تتم صهر كل هذه الثنائيات ضمن رؤية مأساوية موسومة بخصوصية الثقافة التي ينتمي إليه الشاهد البطل، فجعله نبيا بدون معجزات.

 

الإحالات

1- عزالدين جلاوجي، سرادق الحلم والفجيعة، دار هومة، الجزائر، الطبعة الأولى 2000.

2- ولمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة بوشعيب الساوري، "حينما يتحول الواقع إلي أسطورة، قراءة في رواية الولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي"، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 5 يناير2001.

3- M. Kundera, l’art du roman, Ed. Gallimard, 1986, p.61.

4- نضال صالح، النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص.161.

5- نفسه، ص.12.

6- P. Brunel, Mythocritique, 1992, p.61.

7- محمد الدغمومي، "الرواية العربية وثقافة ما بعد الحداثة"، ضمن الرواية العربية في نهاية القرن، رؤى ومسارات، أعمال ندوة 25-26-27- شنتبر 2003، منشورات وزارة الثقافة، سلسلة ندوات، الرباط، 2003، ص.288.

8- عبد الحميد عقار، الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب، منشورات المدارس، الدار البيضاء، 2000، ص.75.

9- J. Yves Tadie, le récit poétique, Ed. PUF, 1978, p.119.

10-                 Ibid, p. 121.

11-                 Ibid, p.7.

12-                 محمد الدغمومي، مرجع مذكور، ص.288.

 

 

الاغتراب

في رواية سرادق الحلم والفجيعة

 

د. أحمد موساوي (جامعة ورقلة)

 

يفتتح الروائي نصه السردي بإهداء كان موضوعه هو موجهي إلى الكتابة عن الاغتراب في هذه الرواية، وهو إهداء توجه به إلى الغرباء في المدينة التي تاه فيها المبدع وبطل روايته، وهذه غربة المثقف في كل زمان ومكان، وربما كان المثقفون المعاصرون أكثر عرضة لتصدع الذات والغربة، وانعدام مشاعر القدرة وفقدان الإحساس بالأمن والسكينة  (1) فهي غربة أبي حيان التوحيدي في مدينته وعصره.

ويبدأ النص من البداية من المواجهة المباشرة بين بطل الرواية والمدينة "وحدي أنا والمدينة"، (2) وكانت النتيجة "الغربة ملح أجاج"، (3) مذاقها مر ومعاشرتها لا تورث إلا اغترابا ومعاناة، وإحساسا بالضعف أمام تسلط الزمن وقسوة المكان.

ويكون المشهد الأول من الرواية بيانا للغربة تشكله مجموعة إشارات وعلامات تقدم صورة المغترب ونداء خاصة بالغرباء "ياغرباء الأرض اتحدوا"(4) في تمظهر الاغتراب هنا على مستوى الوجدان حيث افتقاد الهوى والسكينة وغياب الحبيبة والدفء والشوق، فالمشاعر الجوانية تكشف وطأة الغربة وتدلل على أنها بدأت عند بطل الرواية من الذات مباشرة بعد الاحتكاك بالمدينة التي جرعته الخوف والفزع فثكل الهوى وثكل السكينة.

والاغتراب الوجداني لدى الشخصية هنا نابع من الفشل في العلاقة مع المرأة، الفشل في الحب "ثكلت الهوى" (5)، "حبيبتي التي لم ترد على رسائلي قط"، (6) فقدان حبيبتي نون وذهبت كل محاولاتي للبحث عنها أدراج العواصف الهوجاء "(7).

وإذا كان الآخرون يرون أن ارتياد عالم المومسات يحل تناقضاتهم الداخلية ومشاكلهم الوجدانية، فإن الشخصية الروائية ترى أن في المدينة العاهرة يعقد ذلك أكثر، ولذا نجدها ترفض الانصياع لصوتها "اقشعر بدني، قمت من مكاني، انزويت إلى طاولة... لقد قررت أن أكتب رسالة إلى حبيبتي نون... "، (8) فالاغتراب أسلم من الوقوع في أحضان المدينة المومس، والارتباط بحلم يتحقق أو لا يتحقق أفضل من مجاراة المدينة في عهرها، فالتذمر بائن من هذه العوالم التي تكرس الغربة وتجعلها أكثر إيلاما وقسوة وتخلف مرارة في النفس حينما يصطدم الحلم بالواقع.

المدينة/المومس، لا تسمح هنا لهذه الشخصية أن تغذي الوجدان بحب حقيقي وبحلم نقي بل تتفنن في عرض مفاتنها والإغراء والدعوة إلى الشهوة لأنها مدينة لا تؤمن أصلا بالعفة والصدق والنقاء، "لقد تشابهت علي الدروب والمسالك...كلها تفوح برائحة الكلاب المشردة المبللة"،(9) "المدينة تمتد خائرة مبعثرة الجوارح أمام المبولة...إنها متعددة الصلاحيات بالنسبة إليه يركبها... يضاجعها... يلاعبها... يتدثرها... يلتهم منها إذا جاع..."(10).

إن الفرق الشاسع بين حب الشخصية لنون، وبين حب المدينة المومس لها ورثها هذا الاغتراب المرير، وكشف عن الاغتراب العاطفي الذي تعيشه والصراع المشتعل بداخلها، هل تخضع أم تنصرف إلى معاودة لقاء الحبيبة الحقة والحب الصادق النقي؟ فهذا الصراع كانت له اليد الطولى في اشتداد وطأة الاغتراب الوجداني وامتداده من بداية الرواية إلى نهايتها.

والمدينة في حقيقتها مجتمع مليء بالأفراد كثيف العدد ولكن شعور الفرد بالغربة لا يظهر إلا فيه ويبدو أن تلك الكثافة هي التي هبطت بقيمة الشخصية/الفرد إلى حد أدنى، بل حولته إلى رقم من الأرقام العديدة والمسميات المختلفة وحتى كثرة العناوين الفرعية في الرواية تعد علامة من علامات هذا العدد الهائل من الأشياء التي جعلت الشخصية غير قادرة على التخلص من غربتها الوجدانية فهي هنا شيء من الأشياء بل هي أشد الأشياء عجزا نتيجة اضطرابها وتوهانها فمع "... الغربة يتولد الشعور بالخوف، الخوف من الآخرين، والخوف من المستقبل، بل الخوف من الحاضر نفسه..."(11)، (والحقيقة أني جئت أسأله عن المدينة المومس...يا سيدي يا مولاي...يا من أوتيت رحمة وعلما...لم لا تخرج إليها تمنعها عني لقد أصبحت أخشاها..أرهبها "(12)

فالاغتراب في المدينة اغتراب للأشياء كلها ففيها تفقد خصوصيتها وشخصيتها "يفزع القط يندفع فارا تتناثر أعضاؤه هنا وهناك...يهتف العجاج عاليا لبطولة الفأر"(13)، فلم تعد الفئران تخاف ولا ترهب شيئا بل "هذه مدينة الفئران...وأكد أن هناك أمرا عظيما يطبخ في الخفاء سيمكن الفئران اكتساح المدينة وتركيع كل ما فيها..."(14)، وفي هذه المدينة أيضا "أحسست كأن طبقة الشعر التي كانت تغطيني قد ازدادت كثافة وأن ذراعي قد بدأت تنبت زوائد صغيرة تشبه إلى حد بعيد زوائد جناحي الوطواط ودار في خلدي يقينا أنني روح خفاش..."(15) وهنا تفقد الشخصية إنسانيتها وتتحول إلى مسخ غريب عن البشر فهي وطواط وتتبول كالحمار، فالمعركة في أدغال المدن، كما يرى بريخت(16)، وهي معركة روحية وجدانية وليست معركة جسدية فالاغتراب روحي وليس جسديا فالروح تفقد صفاءها ونقاءها مما ينعكس بدوره على المثقف الذي يعيش يائسا داخل هذا المجتمع ويعاني أزمة وجدانية حقيقية.

أما الاغتراب الفكري التي تجسده الشخصية الروائية المثقفة فإنه يتمظهر من خلال تلك المعاناة والهموم التي تجدها في المدينة وهذا الاغتراب يتقاطع مع غربة التوحيدي الذي لم يجد لفكره وفلسفته موقعا في مدينته فينسحب وينعزل حاملا في مخيلته المدينة التي تقبله بفكرة الحر وشخصيته المتكاملة وهكذا شخصيتنا الروائية المغتربة بفكرها في مدينتها "...فاخرج منها إن الملأ يأتمرون بك..."(17)، وكثيرا ما سعت الشخصية إلى إيجاد مخرج من واقعها المأزوم "ضاقت بي الأرض بما رحبت...فكرت بادئ الأمر أن أزور المجدوب في حضرته لعلي أسمع منه كلمة تنتشلني من الضياع والقلق اللذين أحياهما..."(18)، فالمجدوب هنا لا يؤمن بالفكر الشرقي أو الغربي بل يريد مدينة تؤمن "بالعاديات ضبحا" (19)، فالاغتراب الفكري تسببت فيه أحذية العساكر التي أذلت أعزة المدينة مما جعلها تسلك طريقا أفقدها وحولها إلى مومس وحول ساكنيها إلى غرباء.

إن أحذية العساكر دينها شرقي أو غربي فكرها شمالي أو جنوبي، ولكن لا علاقة له بديننا لأنها "لا تعبد ما نعبد..."(20)، والمدينة تحت سطوة الأحذية لا تسمح بالكتابة والتفكير، "اسكت...واحذر أن تفتن الناس في دينهم...لا إكراه في الدين"(21)، إن الفكر والثقافة التي تبشر بها المدينة المومس ترهق كاهل الشخصية الروائية وتهد كيانها وتؤرقها وتغربها وهي بين بني جلدتها، وإن أفكار أصحاب الأحذية وأصدقاء الفئران وعبيد الغراب لم توجد إلا في دهاليز المدينة ولم تستطع الاستقرار في دهاليز وتلافيف روح الشخصية الروائية، وبالفعل تهاجر باحثة عن ملجإ لعقيدتها وفكرها فوجدته في الشيخ المجدوب "دنوت منه في تحنان.. استعطاف.. استشفاق..استرحام..لابد أن يجيبني عما يحيرني عن المدينة..."(22).

وكان التأكيد على الطريق والعقيدة الحقة التي ستتشبث بها الشخصية حفاظها على تماسكها في المدينة المومس ومحاولة للخروج من الاغتراب الفكري الذي أرقها فكانت "زيتونة لا شرقية وغربية" (23)، ففكر الشيخ المجدوب له دور أساسي في تحرير الشخصية/الإنسان في المدينة المومس ومن الاغتراب، ومن الطوفان الذي سيكتسح المدينة، وإيمان الشخصية الروائية بذلك سيسهم في تحقيق المبتغى "...وتخيلته يهدر... أمواجه كقطع الليل المتلاطمة يبتلع المدينة في طرفة عين كأن لم تكن بالأمس" (24).

وأما الاغتراب السياسي في الرواية فيكتشف من خلال طبيعة المدينة المومس ومشكلاتها المختلفة هذه المدينة التي صنعت طبقة سياسة مشوهة جعلت الشخصية الرواية تعاني الخيبة والإحساس بالغربة. إن الممارسة السياسية تتجلى أكثر في المدينة التي تزخر بطبقات شعبية متباينة وتتعقد فيها العلاقات وتشتد الصراعات وتتباين الرؤى والمشاريع السياسية وهذا التعقد أنتج واقعا سياسيا مشوها يصعب التعامل معه، فالمسميات نفسها تشوهت وانقلبت رأسا على عقب، فنعل تحول إلى لعن والسامري أصبح السارمي.

فمدينة الروائي لا بد لها من إله "لابد لهذه المدينة من إله جبار...يحفظ الديار...ويرد الأشرار... ويحمينا من العار والشنار..."(25)، إن المدينة المومس بدون مسؤول سياسي تعيش اضطرابا.. غيابا للنظام وكل هذا تسبب في اغتراب أهلها، والبطل الروائي وأصبح الغراب صاحب أكبر حزب "كان الغراب على رأس أكبر حزب في المقهى كلها، سماه حزب جماهير الديمقراطيات الشعبيات..."(26)، وليس الغراب إلا رمزا للشؤم السياسي والتفسخ على مستوى الطبقة السياسية وأما بقية الأحزاب فما هي إلا تبع لأكبر حزب تسبح في فلكه. 

إن الفساد السياسي جعل الروائي يختار كلمة الغراب التي لا تبتعد كثيرا عن كلمة الاغتراب ليؤكد على غربة وضياع سياسي حقيقي يبعث في النفس الخيبة والإحباط، ولعل الاستهزاء من صرح الديمقراطية الذي يبنيه الغراب يكشف أكثر تلك الخيبة والغربة السياسية السائدة في المدينة، "...ورفع الجميع أكف الضراعة أن يرزق الغراب بولي العهد أملا في استكمال صرح الديمقراطية وحكم الشعب الذي بدأه والده"(27).

وكان لتدني الوعي السياسي لدى سكان المدينة انعكاسه السيئ على نفسية البطل، مما جعل الشعور بالعزلة والاغتراب يتنامى أكثر فأكثر داخله "وتعتقد أمرك لا ينكشف؟ خلناك كتلة تسعى تدفقها فوق تحت، فإذا بك حي بن يقظان  تريد أن تزعج موتانا فتزرع فيهم الحياة؟ وتريد أن تقلق المدينة فتوقظها من سباتها العميق وتنغص عليها أحلامها الجميلة؟..."(28)، فأهل المدينة نوم موتى صامتون لا يمكن للبطل الروائي أن يجد لديهم مؤازرة في صراعه السياسي أو من يحمل فكره وطروحاته ليواجه بها حكام المدينة فالجميع في سبات جميل.

ولم يتق إلا التحسر على هذا الوضع والأسى من أجل هذه المدينة وساكنيها "وانكفأت على نفسي وجلست القرفصاء بعيدا أنظر المشهد حزنا... حسرة... إنها لا تعمى الأبصار ولكن..."(29)، إن حربة الرأي في هذه المدينة فقدت ولم يعد بإمكان أي كان أن يتكلم أو يكتب ويعبر عن رأي مخالف ومعارض للسلطة، "قالوا إن أردت أن تعيش بيننا سليما معافى في جسمك وجسدك وبدنك وقدك وقوامك يأتيك رزقك ما يسد رمقك ويستر عورتك... فاسكت "(30)، وإن ما يؤرق أكثر في هذه المدينة هو ذلك الإذعان للغراب سيد المدينة ولا معارض أو منتقد بل "...تشرئب أعناقهم للسيد الغراب في إعجاب شديد... ترتفع صيحاتهم وتصفيقاتهم وتهليلاتهم في كل لحظة وعند كل جملة مؤيدين ماتفوه به الغراب"(31).

كل ما في المدينة المومس مشوه لا يوحي بالخير بل الأكثر من ذلك الطوفان قادم والمدينة ما زالت في غيها وفسادها وما زال البطل يعاني غربته التي كتبت عليه من مولده إلى وفاته، غربة المثقف الواعي والرافض لوضع سيء والراغب في تحسينه ولكنه لا يجد آذانا صاغية بل الكل يسبح في أحضان المدينة المومس ولا يبالون حتى الطوفان.

وإلى جانب أشكال الاغتراب التي قدمها النص الروائي وسبق الحديث عنها نجد اغترابا على المستوى اللغوي الذي يعيشه في المدينة المومس فلم تعد اللغة هي اللغة التي نعرفها ويعرفها البطل بل أصبحت تتمظهر مشوهة مقلوبة متداخلة غير واضحة المعالم "ولقد سماه لعن السارمي...إنه قبحون...قبحون العظيم..."(32)، ومنه "رب اللظام واللكام والشيهب..."، ويقصد الظلام والكلام، ومنه "سوحب سوحب رب الشطاع واللعاع، والحر الرحب في حرب...فهذا الاغتراب اللغوي ينسجم ويتطابق مع أشكال الاغتراب الأخرى فالبطل يفقد التحكم في اللغة واتزانها لما تشتد عليه وطأة الاغتراب، ثم سرعان ما نجده يسترجع وعيه ويعود إلى خط لغوي سليم، وكأنها رجعة مغترب نحو الحلم والحنين.

ويبدو لي أن بطل الرواية لما احتضنته المدينة المومس فقد أشياء كثيرة أبرزها اتزانه الفكري والوجداني ثم انتقلت العدوى إلى لغته فأحدثت فيها خلخلة عبرت بصدق عن واقع البطل المغترب في مدينته، ولعل الأديب الفنان والروائي المثقف غير بعيد عن هذا الواقع في المدينة التي كانت سببا في اغتراب الكثير من المثقفين وجعلتهم يبحثون عن مركب نجاه يبعدهم عن الطوفان وعن كابوس المدينة المومس.

 

الإحالات:

 

1- في النقد الأدبي والتحليل النفسي،خريستو نجم،دار الجيل بيروت، ط1،1991،ص68.

2- سرادق الحلم والفجيعة، عز الدين جلاوجي، دار هومة الجزائر ط1،2000، ص8.

3- الرواية، ص 8.

4- نفسه، ص 10.

5- نفسه، ص 8.

6- نفسه، ص 12.

7- نفسه، ص102.

8- نفسه، ص 12.

9- نفسه، ص 66.

10- نفسه، ص80.

11- الفن والإنسان، عز الدين إسماعيل، دار القلم بيروت، 1974، ص 161.

12-الرواية، ص 18.

13- نفسه، ص 10.

14- نفسه، ص75.

15- نفسه، ص 116.

16- برتلوت بريخت، حياته فنه وعصره، فريديريك أوين، ترجمة إبراهيم العريس، دار ابن خلدون ط2، 1983، ص 67.

17-الرواية، ص 51.

18- نفسه، ص55.

19- نفسه، ص 65.

20- نفسه، ص 67.

21- نفسه، ص 68. 

22- نفسه، ص 78.

23- نفسه، ص 79.

24- نفسه، ص128.

25- نفسه، ص14.

26- نفسه، ص27-28.

27- نفسه، ص30.

28- نفسه، ص39.

29- نفسه، ص50.

30- نفسه، ص68.

31- نفسه، ص80

32- نفسه، ص14.

 

 

استراتيجية التناص وتأويله

في سرادق الحلم والفجيعة لـ عزالدين جلاوجي

 

أ . حكمت النوايسة (الأردن)

عتبات النص:

1- العنوان:تأتي شعرية هذا العنوان من خلال نسبة السرادق إلى متناقضين؛ الحلم والفجيعة، وإذا كان من غايات العنونة التلخيص، فإن هذا العنوان يمثل ذلك التلخيص، والتأشير على ما تنوي الرواية أن تقوله، فهو يشف عن وجود حلم، ووجود فجيعة، ولعلّ السير في الرواية وقراءتها يوضحان وينمّان عن ذلك.

كما يشير العنوان، ويؤشر من خلال مفرداته إلى أن الرواية ستأخذ من مفردات القرآن الكريم معينا تغرف منه ما توظفه في نسيج المدونة اللغوية للنص؛ فكلمة سرادق تذكرنا بقوله تعالى:"إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها"(الكهف 29)

2- -الإهداء: يرد الإهداء في الرواية كالآتي:  إلى الغرباء

ويظهر من خلال الإهداء أننا أمام إهداء لا يعين، مسافرا في الزمان والمكان، ذلك أن تعريف الغرباء بأل التعريف يجعل هذه الصفة تشمل الأموات منهم والأحياء، فضلا عن شمولها كل من تنطبق عليه هذه الصفة في العالم والتاريخ على السواء، ومثل هذا الإهداء يشكّل عتبة نصيّة مهمة تدخلنا في صميم العمل الروائي، إذ إنها تفتح شهية التلقي على أفق إنساني، غير مقيد بخصوصية.

ولعل هذا الإهداء بهذه الروح هو ما يقود إلى ما سمّاه المؤلف بالفاتحة، إذ إن الفاتحة جاءت مأخوذة من أبي حيان التوحيدي، ما يثير الذاكرة إلى الإشارات الإلهية بوصفها مرجعا.

3- -فاتحة: الفاتحة كما قلنا مأخوذة من أبي حيان التوحيدي، وهذه الفاتحة تلخص رؤية الرواية، تقول:" الهوى مركبي، والهدى مطلبي، فلا أنا أنزل عن مركبي، ولا أنا أصل إلى مطلبي... أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة"

وفي مثل هذا الاستهلال نقرأ جملة أسئلة محاولين الإجابة عنها، من هذه الأسئلة:

 لم اختير أبو حيان التوحيدي مرجعا، أو مصدرا للافتتاح به؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال نرى أن في شخصية التوحيدي قدرة على تلخيص، ذلك أنها شخصية راسخة في الوجدان والفكر العربي، تشير أول ما تشير إلى الاغتراب، ومفارقة الزمان والسلطان، فالتوحيدي في مقابساته، وإشاراته الإلهية، يمثل نموذجا لأدب الاغتراب في الزمان السياقي، من خلال البحث خارج الموجود عمّا يغني في الوجود.

وإذا تأملنا العبارة المأخوذة من التوحيدي لتكون فاتحة، فإننا نتساءل:

كيف يكون الهوى مركبا لمن أراد الهدى مطلبا؟ فمن يريد أن يصل إلى الهدى عليه أن ينزل عن مركب الهوى، أما إذا أراد هذا وذاك، فإنه لعمري يلخّص حال كثيرين ممن نراهم، وربما نكون منهم، ممّن يريدون أن يكونوا من المهتدين(كل بحسب فهمه للهداية) ولكنهم لا يركبون طريقها الصعب المحفوف بالمكاره.

أما السؤال الآخر، فإنه متعلق بآخر جملة في عبارة التوحيدي، فإذا كان لكل طرف في الهوى، والهدى طريقه الخاص، وأدواته الخاصّة، فإن الإنسان لا بدّ سالك أحدهما، وإلا كيف يمكن أن يكون؟

ويكون الجواب في العبارة ذاتها: " أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة"

إنه إذا سحر اللغة وعنفها، والسكنى إليها، ذلك أن اللغة التي وجدت للإفصاح عن المعاني التي في النفوس، هي ذاتها القادرة على طمس هذه المعاني وحجبها، فساكن اللغة قادر على أن يكون هذا وذاك، بل، لعلّه هو القادر على أن يكون هذا وذاك، لكنه سيبقى الغريب الباحث عن الغرباء الذين يشابهونه، وبهذا يمكن أن ننسب هذا الافتتاح إلى السارد، كما يمكن نسبته إلى مرجعه التاريخي.

وبهذا تكون هذه الفاتحة مفتاحا آخر لقراءة النص.

أما السؤال الآخر،الذي لا يبتعد كثيرا عن السؤال الأول، فهو: لم اختير أبو حيان ونصه في هذا الزمن؟

4- - الخاتمة: وليس غريبا، وإن كان مثيرا، أن تأتي الخامة بعد الفاتحة مباشرة، أي خارج النص، أو من عتباته؛ ذلك أن مثل هذه الخاتمة المثيرة هي فاتحة من نوع آخر؛ إنها لا توحي بالنهاية، بقدر ما توحي بالبداية، وهي تشير إلى ما هو غير معروف إلا إذا قرئ النص، وبهذا تقدم إغراء بقراءة النص،من خلال غربتها في الحيز النصي، ومن خلال ما تشكله من عصف ذهني باتجاه الحدث.

 وإذا كان ما قدّمته " الفاتحة" يشير إلى الاغتراب بين المطلوب ووسائله، فإنها" الخاتمة" تشير إلى استمرارية البحث عن مرتكز، يمكن الوقوف عليه، وهذا البحث هو بحث الإنسان مطلقا، إذ إنه لو انتهى لانقسم الوجود إلى أسود وأبيض، والرواية بعد قراءتها، لا توحي بذلك.

فالبحث عن الجودي الذي رست عليه سفينة نوح بعد الطوفان، هو بحث عن مستقر للسفينة الغرباء، والغرباء هنا هم غرباء كلّ زمان ومكان، إنهم حاملو راية الفكر، والمدافعون عن الحقيقة الذين يركبون المكاره التي حفَّت بها جنّة الحلم،أو جنة العقد المقدس.

أما الجانب الآخر من المبحوث عنه، فهو حقيقة مآل المدينة المومس، وهي تشير إلى المدينة التي سادها الظلم واستمرأته وقبلت حكم الغراب والفئران، والسؤال عن مآلها سؤال لا تكون إجابته في المراجع التاريخية، بقدر كونها استشراف لما ستؤول إليه هذه المدينة، وإن شئت قلت" المدنيّة" التي نعيش.

5- - الأسئلة: ثم سؤالان ولّادان، موضوعهما حقيقة الطوفان، وحقيقة الناجين وحقيقة النجاة ذاتها. ومثل هذه الأسئلة تدخل في عنصر التشويق النصّي، ذلك أنها أسئلة مثيرة ملبسة لجهتين:

الأولى: إيحاؤها بما تحمله الدلالة الأوّلية في سؤالها حول ما هو راسخ في العقد التاريخي، الطوفان.

أما الثانية، فهي اتكاؤها في يقينها القاطع على رمز صنعه المخيال الجمعي، شهريار، وفي هذا أكثر من دلالة، إذ إنها تشير إلى تفسير الموثّق المتفق على صدقيته، بما هو غير موثق، وغير موقن بصدقيّته، وهنا المفارقة، فالتشكيك بحقيقة الطوفان يوحي بعقل أكثر صرامة في تقبل الخبر، غير أن مجيء الإجابة من قصّة ألف ليلة وليلة تخلق الهوة بين الطريق والمطلب، فالطريق الصعب بالسؤال المتشكّك لا يمكن أن يكون جوابه بالاتكاء على الخرافة، أو الرواية مجهولة الراوي.

النص والنص الغائب

تستلهم الراوي التراث من جهتين: الشكل، والمادة:

 أما الشكل، فهو متمثّل في التقسيم الذي اتبعته الرواية، إذ جعلت الأحداث في شكل قصص بعنوانات فرعية من مثل:" الفأر والحصاة" والقوّال والعناكب" .... وهذا يذكّرنا أول ما يذكّر بتقسيمات كتاب كليلة ودمنة، " البوم والغربان" و" الحمامة المطوقة" ... وإذا كانت تفريعات ابن المقفع تلتقي جميعا في عظة الكتاب، فإن تفريعات جلاوجي هنا تقدم الجوانب المختلفة، والقصص الفرعية التي تشكّل القصّة الكبرى،قصة الغريب المغترب والمدينة.

ويمكن تقسيم الرواية بين السرد الذاتي والسرد الموضوعي؛ فالسرد الذاتي، هو ما حُمّل بالغنائيّة المترتبة على الرؤية الشعرية للعالم، وانعدام المسافة بين السارد/ البطل الغريب الذي يتنقل خلال المدينة المومس؛ فتحت عنوان " أنا والمدينة" نقرأ:

 "الغربة ملح أجاج

وحدي أنا والمدينة

....

لا دفء في القلب الحزين

لا ولا شوق ولا غيث ولا حلم أمين..."

وليس بخاف ما يحمل هذا من رؤية شعرية غنائيّة للعالم، وإذا كانت المدينة كونها رمزا، يحيل إلى بناء رمزي للنص، فإن ذلك الرمز، تحت وطأة الرؤية الشعرية، لا يصمد كثيرا، وسرعان ما يتمزّق عنه الستار، ويصير الخطاب مباشرا؛ ذلك عندما يتحول من خطاب الغياب والثكل للمدينة إلى الخطاب المباشر الموجه للمدينة الحاضرة فيسائلها:

" إلى متى ترضعين الحمقى والأغبياء؟

إلى متى أيتها المدينة تمارسين العهر جهارا دون حياء؟"

وينهي المقطع بعبارة أكثر مباشرة:

 "يا غرباء العالم اتحدو"

***

وإذا كانت الرواية رواية مغترب في مدينة، فإننا نسأل عن مصدر هذا الاغتراب، وفي الرواية إجابة عن هذا السؤال، إذ إن مصدر الاغتراب هو انقلاب المعايير، وتبدلها، بما يخالف قوانين الطبيعة، ويخالف الطبع الإنساني:

 "من بالوعة القاذورات يخرج فأر أغبر يمشي الخيلاء…يبصر قطا متكورا على نفسه…يضحك الفأر ضحكة هستيرية… يجري خلفه…يفزع القط يندفع فارا تتناثر أعضاؤه هنا وهناك…يهتف العجاج عاليا لبطولة الفأر… يرتجف قلبي كبندول الساعة…أفتح فمي إلى آخر نقطة ممكنة…أحس بشهوة الصياح والصراخ والعويل…"

وفي هذا السياق المقلوب، لا بد من إسكات الضمائر والألسنة، وهي أداة التغيير وكشف الحقائق، وهنا لا بدّ من وسيلة لذلك، فالسارد الذي يدهشه المشهد تحاربه المدينة، وقبل أن يقول يُخرس لسانه:

"على عجل تتحرك حصى كانت ترقب المشهد عند سفح الرصيف…تقفز في فمي وتستقر تحت لساني…أحاول طردها بكل قواي ولكن لا مندوحة لقد تشبثت علقةً."

أما استلهام الرواية للمادة التراثية، فإنه يأتي من جهتين: جهة الأداة/اللغة، وجهة المضمون.

أما جهة الأداة، فإن مفردات القرآن الكريم وجمله تتناثر في أروقة الرواية، بمناسبة وبغير مناسبة، والأمثلة كثيرة إلى الحد الذي يقنع بلا جدوى إحصائها والتمثيل عليها، وفي هذا نرى أن هذا الاستثمار للغة القرآن الكريم لم يأت عبثا، أو لعبا بالكلمات، وإنما جاء حاملا دلالة رمزيّة أخرى تضاف إلى رمزية البناء الكلّي للرواية؛ فإذا كانت لغة القرآن هي المعين الذي نهل منه السارد عندما أراد أن يصف أو يقول، فإن ذلك يشير إلى مرمى آخر، وهو أن القرآن عندما يكون مرجعا لغويا، يتحول إلى ظاهرة صوتية تصويتية، يتكئ عليها من أراد أن يقلب الحقائق باحثا عن شرعيته في وسط يكوّن هذا النص عنده عقده المقدس، وفي هذا إدانة لتجزئة النص، وإخراجه من سياقة المتسق المنتظم الشمولي، إلى مجرّد وسيلة تستثمر محرَّفة،محرِّفة فهم الجماهير ووعي الرعية، باتجاه القبول بالآلهة المصنوعة، وإذا كان السامري قد أخذ شيئا من أثر الرسول، فإن صانعي الآلهة الجدد يأخذون من القرآن الكلمات والجمل مبتورة من سياقها ليزيّنوا بها آلهتهم.

أما جهة المضمون، فإن الرواية تستثمر قصّة الطوفان، وقصّة السامري؛ قصّة الطوفان في استشراف المستقبل، ذلك أن الغرباء/ الأنبياء، ما زالوا يصنعون ويعدّون سفينتهم لأنهم يستشعرون الطوفان....

وأما قصّة السامري، فإنها تستثمر في بيان كيفية تشكل القبح الذي تعيشه المدينة المومس، فالآلهة التي يعبدها الناس هي من صنع أيديهم، تماما كما فعل السامري:

"ما هي إلا ساعات حتى كان النصب شامخا... إلها

 جسدا له أنين...نعيق...

قال أحدهم

لن نبرح عليه عاكفين"

وإذا كان أن اتفق عاشقو المدينة المومس على صنع إلههم، فإن الغرباء الذين يملكون الحقيقة، أو أسئلتها لا بدّ لهم من مرجع يطمئنون إليه، وهكذا نرى البطل يقصد الشيخ، الذي يمثل اغترابا أبديا عن عشاق المدينة المومس، ولدى هذا الشيخ يجد الوصفة التي يستطيع بها الغرباء الانتصار على انقلاب المعايير، وتحكم الآلهة المصنوعة بمصائرهم، وهنا نجد النصيحة التي لا بدّ أن يُعمل بها لإنقاذ المدينة، أو لإنقاذ الغرباء من إغراء المدينة المومس:

" تريد أن تبلغ مجمع البحرين.. وقلبك معلّق بالحوت، ولبّك عاشق للعجل..عد اذبح العجل، واحي الحوت... دون ذلك فلن تستطيع معي صبرا"

وفي هذا نجد تكثيفا واستنطاقا لقصّة البحث عن المعرفة، معرفة موسى من هو أعلم منه، ومعرفة الغريب في زماننا للحقيقة، أو باب الخلاص.

وهنا يأخذ الشيخ الذي يقصده البطل مكان الرجل الصالح الذي يقصده موسى ليتعلم منه، وإذا كانت نصيحة الرجل الصالح لموسى أن لا يسأل عن شيء، فإن نصيحة الشيخ للبطل أن يقتل العجل ويحيى الحوت، وفي هذا التوظيف إشارة إلى رؤية الرواية، ذلك أنها رواية بحث عن خلاص، ولا يتم إلا إذا استطاع طالبه أن يحسم أمره في وجهة واحدة، ويجع قلبه معلقا بما يريد وحسب، فإن أراد الخلاص ومعرفة طريقه، فعليه أن يقتل العجل/ رمز الآلهة التي نصنعها فتحكم مصائرنا فيما بعد، وفضلا عن هذه الرمزيّة، فإنه يأخذ قيمة دلالية أخرى، من خلال إشارته إلى توافه الأمور في الحياة، وتعلق الإنسان بها، ويمكن أن نمثل عليها بالمنصب أو الجاه وما يشبه ذلك، وقتل العجل يعني قتل التعلّق بتوافه الحياة التي جعلت طالبيها يصنعون إلها كما يريدون، على أن لا تكلّفهم عبادته شيئا.

.....      

ينقسم العالم في هذه الرواية قسمين: عالم الخير وعالم الشر، وإذا كان عالم الخير هو عالم المغتربين في الزمن الذي يسيطر فيه الغربان والفئران، وإذا كان لهذا العالم قرآنه وكتابه المقدس، فإن لعالم الشر والمدينة المومس قرآنهما، وكتابهما المقدس. والكتاب المقدس الذي تتكئ عليه المدينة المومس هو إعادة إنتاج للكتاب المقدس الأصل، فكما أعيد إنتاج الإله ليكون" عجلا جسدا" سيعاد إنتاج المعرفة التي تتفرع عن هذا الإله، وهنا يعاد إنتاج قصة الخلق كما في الفصل المعنون بـ " الهبوط" وكما في قلب مفهوم المسخ، إذ الأصل أن الذي يمسخ الإنسان، أما أن تمسخ الشياطين أناسا، فإن ذلك يشكّل إنعاما في تشويه المدينة المومس من الزاوية التي يقف فيها البطل.

إن الصراع بين الخير والشر موضوع مستهلك إذا ما نظر إلى الرواية وفق هذا الجانب، لكن الجديد هو استمرارية الحدث أبديا، والجديد أيضا، الأسئلة التي تطرحها الرواية في بعض جوانب هذا الصراع الذي تبلور على شكل طريقين؛ ذلك أن الرواية تلمّح للصوت الثاني، وزاوية النظر الأخرى، وذلك بانتقال البطل من خانة الغرباء إلى خانة المدجّنين دون قصد منه، وسواء أكان الأمر بقصد أم بغير قصد، فإن النقد يتعامل مع كل ما يرد في الرواية على أنه مقصود، وعلى ذلك نرى أن هذه الرواية تقدّم جديدا من حيث توسع دائرة معرفة الراوي العليم، إذ إن البطل في الرواية يتحوّل من خصم مغترب عن مجتمع المدينة المومس، إلى باحث عن معرفة، ويكون ذلك بأن يتبع الغراب ليعرف سر النسور التي تحكم المدينة، وتتحكم بمصائر سكانها، وحين ينكشف له السر، ويعرف أن النسور المزعومة ماهي إلا فئران تتنكر بزي النسور، حين ذلك يصبح الغراب فاقدا لقيمته عند الفئران، وتتحول هذه القيمة إلى البطل، إذ يُلقى في قلبه حب المدينة غير الفاضلة، وتدين له، وتقول له:" هئت لك" ، وهنا نجد الصوت الآخر، ويتغير كلّ شيء:

" لقد تغير كل شيء، فا المذاق كريها، ولا الرائحة كريهة.. أين الخلل في الأمر؟ هل كان اعتقادي الأول خاطئا؟ أم أن حواسي قد تغيرت.؟

كل شيء غدا أمامي جميلا بديعا...

وأحسست كأن طبقة الشعر التي كانت تغطيني قد ازدادت كثافة...

ودار في خلدي أيضا أنني روح خفاش...

تجمّع حولي حشد من الناس وقد تغيرت النظرات بيني وبينهم، ولم أعد أنظر إليهم نظرة إشفاق بل نظرة تعال... ولم يعودوا ينظرون إليّ احتقارا بل تبعيّة "

ثم يقو بعد ذلك مدونة في عشق الحبيبة الجديدة، وتتحول مدونة العشق الموجهة إلى الحبيبة القديمة، نون، اليوتوبيا الغائبة، تتحول إلى ترانيم أمام الحبيبة الجديدة/ المدينة التي كانت مكان طرد، ويتحول حب الغرباء والبحث عنهم، إلى كره.

وفي بحثه المحموم عن الغرباء لينتقم منهم، يسقط، وفي هذه السقطة ترتد ذاكرته، ووعيه القديم، ويعود إلى زاوية النظر الأولى، ولكنه هذه المرة أكثر إيمانا، وعاد يحمل ألواحا وجذوع أشجار ليبدأ بصناعة الفلك الذي سيحمل الغرباء، وهو يحذّر من الطوفان الآتي لا محالة

"إني ذاهب لأصنع الفلك

الطوفان آت "

وكان يكن أن تنتهي الرواية نهاية مفتوحة، لكنّ وعي الكتابة لا يسمح بذلك، فالراوي العليم الذي يحرّك الخيوط بيديه، ويفتح الرؤوس ويرى ما فيها، هذا الراوي لا يغادر الرواية مفتوحة، فتنتهي الرواية بنهايات مقترحة استنادا إلى تقنية تعدّد الرواة؛ رواية تقول إنه بقي يصنع الفلك إلى أن مات، وأخرى تقول إنه نجح وأكمل عمله وجاء الطوفان وأغرق الظالمين.

 

 

 

سرادق الحلم والفجيعة لجلاوجي

إضافة نوعية للأدب الجزائري الحديث

 

أ.عبد الحميد مغيش (روائي ومترجم وإعلامي جزائري)

 

 

بصدور روايته "سرادق الحلم والفجيعة" يكون الأديب عزالدين جلاوجي قد دعم بشكل ملموس رصيد إنتاجاته المتنوعة وهي أزيد من 15 عملا بين رواية وقصة ومسرحية ونصوص للأطفال عكف طيلة السنوات القليلة الماضية على تشذيبها وتقديمها إلى القراء في أبهى حلة وأدق عبارة.

تتميز "نصوص السرادق" كما شاع نعتها مؤخرا في الإعلام الوطني. بخفة روح مبدعها. وميله الفطري إلى الإمتاع والإفادة بالنكتة الظريفة الذكية إسوة بالأستاذ الأديب المرحوم "محمد البشير الإبراهيمي" الذي لا تفصل عزالدين عن بيته فواصل لا في التاريخ ولا في الجغرافيا.

انطلاقا من مدينة عين ولمان، الهادئة بروحها، الصاخبة بتجارتها، الحية بكدح ناسها جمع "جلاوجي" أوراق طفولته، ومشاهدات عينيه الثاقبتين سلمتا من الرمد ليكتب على مدى 130 صفحة من القطع المتوسط 34 نصا طافحا بالانجازات الفنية برقم ولايته سطيف التي يقطن جوانحها وحقولها وأحلامها هذا الأديب المتمرد على نفسه بهدوء عجيب.

انقلاب فني

منذ البدء يفاجئنا القلم المتميز بانقلاب فني حيث صدر عمله "بخاتمة" بدل "تقديم" أو "استهلال" ويقول إن "الأجيال المتعاقبة مازالت تبحث عن قمة الجودي حيث رست السفينة".

ويكشف هكذا عن شخصية فنية ساخرة بأطوار حياة لا تستقر على حال بحيث تحولت المدينة إلى مومس، وضاع الشاهد، والشيخ المجذوب، والهدهد وسنان الرمح.

لكن الطوفان لم يحدث أصلا. وأن كل ما حدث من أساطير الأولين ابتدعتها شهرزاد وعجائز المدينة الماكرات.

يرصد في عناوينه، كل ملامح الواقع وفي مضامينه بواطن النفس البشرية بأطوارها وأهوالها، وكذا عالم المدينة والمجتمع، وأحوال الناس، عل هيئة لوحات فنية رسمت بعبير اللغة الشاعرية، الرمزية المكتنزة للرموز وموروثات الأدب الشعبي الزاخر، والمعبر، في غاية الدلالة والإمتاع عن عمق الشخصية الجزائرية بمكوناتها وتنوعاتها وثرائها الإنساني.

تعكس لوحاته لواعج النفس وهي تعاني مشاعر  حادة مثل الغربة حيث كتب في نص "أنا والمدينة" ص8:

الغربة ملح أجاج..

وحدي أنا والمدينة..

ثكلت الهوى..ثكلت السكينة.

لا ورد ينمو هاهنا، لا قمر ولا حبيبة.

لا دفئ في القلب الحزين.

لا ولا شوق..ولا غيث، ولا حلم أمين..

ولا حب يبلسم من حبة القلب الأنين

وحدي أنا والظلام..

وحدي أنا والمدينة..

يلجأ هذا الكاتب المهووس بالتجديد الفني وبالإضافة النوعية لكل عمل بل لكل نص وداخل اللوحة الواحدة إلى إيراد عناوين فرعية، زيادة في الإدهاش وقطعا للملل والإطناب الذين يعتبرهما منغصتين على القارئ والمبدع معا.

نعثر على "الفأر والحصاة" وعلى "القوال والعناكب" وفي نص المدينة، كما نجد هوامش للشرح والتعليم.

كائنات عجيبة:

ويمضي "صاحب السرادق" في فتح عوالم الطير ومملكة الحيوان. والنبات والجماد بأسلوب يزاوج بين رموز الأسطورة وإحالات الوجدان..ففي نص "قبحون" كتب:

"أذن فيهم مؤذن الغراب فهرعوا ملبين ينسلون من كل فج عميق، عميق من تحت  الأرصفة، من عمق البالوعات، من طمي المبولة البوالة، من تشققات الجدران الخربة...

-جال الغراب بنوافذه فوق الرؤوس، تأمل المبولة تفغر فاها ضاحكة في بلاهة، عاد إلى نفسه، اعتدل في جلسته، تنحنح، صاح، لعن: أقصد نعل بحة.

-عاش الغراب سيدنا في الأرض والتراب".

ونقرأ في الهامش ص15 (وهذا الورد أوحى إلى الغراب ذات ليلة فاندفع في جوارح المدينة يصرخ ملء فيه أحزانه، فلما اجتمعوا إليه ألقى إليهم بالذي أوحى إليه وراحوا يرددونه حتى حفظوه عن ظهر قلب، وهم يستظهرونه في كل مناسبة). إنه لمما يأسر قلب القارئ إعجابا ودهشة ذلك التوظيف الجيد للغة العربية في سياقات خارجية عن المألوف، مجانبة لسفاسف الحداثة المبتذلة، معتمدا على أخيلة واسعة جانحة إلى تحقيق النفع في الفكر وتحصيل المؤانسة للوجدان.

ولصالحه يحسب هذا الفيض القرآني الذي تتبطنه المفردات وتغرف منه الصور غناها وألوانها ومعناها ويستقيم للكاتب أن يغترف من معين الفكر الواسع كل بارقة تجديدا وزيادة في الإدراك، وكل دراقة كشف للمخبوء وإظهار البواطن وكل شارقة إمعان في التخييل والمقارنة والتمييز والتقريب للخاطر وللنظر في صورة إبداع مؤثرة.

ولا غرو أن تملك "عزالدين جلاوجي" هاته الأداة فدانت له التراكيب وفتحت أمامه أبواب القول وتدلت على عبارته قطوف المعرفة والأنوار في حضرته" كتب:

( هو كل شيء يزين العمامة والجبة واللحية والدار أيضا لم ليحظ حضوري..

لا أستغفر الله العظيم، لقد رآني طاهرا وباطنا بعمق دون أن يرفع بصره.

لم أنطق بكلمة واحدة ولا بنصفها ولا بربعها لا أقل بذلك ولا أكثر وإن يك مثقال حبة من خردل في فضاء سماواتي، أو أعلى حبة من ص16.

".. وسكت فجأة..لماذا جئت إلى هذا المكان؟ لماذا كلما تضيق بي السبل أقصده كالعاشق الولهان، وعم أسأله..هل أسأله عن غربتي بين الغراب والنعل والأحزان؟

أم أخبره عن حبيبتي " نون" التي لم ترد على رسائلي.

يا سيدي، يا مولاي

يا من أتيت رحمة وعلما

لما لا تخرج إليها تمنعها عني؟ لقد أصبحت أخشاها، أرهبها.. ليس لي بها طاقة أخشى أن تبتلعني.. إنها تبتلع الجميع.

بهذا المستوى الصوفي ينداح الحب والغزل في مصب الحيرة والظلال حيث يظل المرء يرفض الالتصاق، والشيطان المنبوذ يفيض الوعاء في حضرة الجلاوجية، ويعترف العاشق " تشاكل البقرة" ويقر بعظمة قلقه:

"وإنا إن شاء الله لمهتدون".

وفي الهامش نطلع على ما قال الشاهد: أنت غمامة على شمسك فاعرف حقيقة نفسك فإنه لا يفهم كلامي وإلا من رقى مقامي". وسكت السارد ولم يعقب.

بين المقاومة والأسطورة: هي ذي مقاماته في "الكابوس الجميل" و"الخطبة العصماء" و"حي بن يقظان" حيث نصطدم كلام أكمه مثبور.

سوحب، سوحب.

ربي ورب الغراب والرئيس والغيهب

رب اللظام واللكام والشيهب

رب الجفاف والجفاف والعجاف والرجاف

سوحب

رب الشطاع واللعاع، رب الضجيج والارتياع.

نحروا ألسنتهم دفعة واحدة فغشي المكان سحاب من صمت مركوم يبرق خلاله صوتي العليل.

وأخيرا أنت معنا، بيننا.

يبتدع الكاتب أسماء لشخوصه مثل "بن غفلان" سوحب" عاكسا موهبته المسرحية التي أخذت من اهتماماته الثقافية حيزا كبيرا أثمر عدة كتب في نقد المسرح وفي إنتاج نصوص مسرحية عالية الجودة. فهو في هاته اللوحات الأدبية يستعمل حوارات خاطفة، دالة توقظ الذهن الخامل، تنغز الفكر البليد كما تدغدغ المشاعر المتأسية.

وإنما يفعل ذلك عن قصد توخيا لوظيفة الأدب تجاه الإنسان والمجتمع فيواصل إيراد ملاحظاته الساخرة الناقدة، البانية للمعاني والتصورات..يكتب عن "عيد الغراب" طالما صار لكل شيء في دنيا الناس عيد واحتفال، كما يناجي الصفصافة بحمحمة الروح.

- في رحاب الصخرة " كان المجدوب يجلس ممسكا بعصاه، رافعا رأسه يتأمل السماء، ذكر الأولون أنهم لا يعرفون متى جاء إلى هذا المكان، ولا لماذا ترك المدينة، وصعد إلى هذه القمة يأخذ النص منحى السارد الروائي من حيث أفعال المضارعة وبناء الفقرات وكأنها فصول، ثم تركيز دقة الحوار نحو منعرج للحكي سرعان ما يقطعه دون إطالة حافظا على معمار اللوحة الأدبية.

رواية أخرى: لا تسمح الأمانة العلمية أن أهملها وهي عن قوال مقهانا الشعبية عن الدود اللدود، عن الحلزونات أن عجائز المدينة اجتمعن يوما وحدهن ليست معهن المدينة وقررن أن يسقطن القمر في قصعة ملأنها ماء فكنا بذلك أول من حاول الصعود إلى القمر من بين المخلوقات، أقصد إنزال القمر بدل الصعود إليه لاقتصاد الجهد والوقت والمال الطائل.

في هذه المحاولة كتب صاحبها رواية مسرحية، أو مسرحية روائية..إنه شكل آخر للسرد يفي بغرض إثارة الذهن وشد القارئ لحكاية أبطالها حجر، شجر، قمر، طير،وقلم منشئ للغريب المثير والإشارة والإحالات.

سرعان ما ينتقل إلى تجريب صياغة مغايرة في ص 63 من مجموعة السرادق قوامها سطران أو ثلاثة في كل روايته الأولى والثانية. وأصح الروايات. وإنما تطرق للفار والأحذية والموز وهولاكو. وحكاية السيد فعل بقصد الاعتبار.

وفي الصفحة 103 يعرض عزالدين جلاوجي هندسة الكلمات التي تعد أساس نظرية فلسفية عن نشوء الأطوار لدى الإنسان والمجتمعات وفق منظور قرآني.

ويختم مجموعة نصوصه السردية المفجوعة، والفاجعة بصب جام غضبه على " العورة العوراء" و"اللعنة اللعناء"، والمسخ صائحا بأعلى قريحة ذبيحة معبرا عن أسعار العشق الذي سكنه ورمى به في أحضان وطن جريح تعد عزالدين جلاوجي بأن يعكف على حبه وخدمته ما بقي له من العمر في محاربة المقدس محاربة الكلمة.

وجدير بالذكر أن صاحب [ الكهف والرقيم ] هو عنوان الجزء الثاني من هذا العمل الشيق الذي يرتقب نزوله إلى الساحة الأدبية الوطنية في قادم الأيام بالموازاة عكوف المؤلف الغزير على وضع اللمسات الفنية لأعمال مسرحية جديدة وقصص للأطفال يعتزم أن يدشن بها الموسم الثقافي الجديد.

 

 

رواية سرادق الحلم والفجيعة

الشاهد على اغتيال الوطن؟!

 

أ.عمر سطايحي (البويرة)

 

 

لأن عزالدين جلاوجي يبحث عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة، معتمدا على الترميز والتلميح، ارتأيت أن تكون قراءتي للرواية، تفسيرية تحليلية بالدرجة الأولى، ولكني أخشى أن يحصل لي ما حصل بين أحد المشايخ والشاعر (قيل أبو العلاء المعري) فهذا الأخير كان مارا بجوار مدرسة، إذ به يسمع المعلم وهو يشرح أحد قصائد الشاعر، فأمهله حتى أتى على الشرح والتفسير، ثم قال له: والله، يا شيخ ما كنت أقصد شيئا مما قليته ؟! وهذه ميزة أخرى من مزايا الأدب، ذلك لأن العمل الإبداعي كلما تعددت تفسيراته واختلف المفسرون في تأويلاته، كلما طال أمده وكثر ترديده، أما عندما نصل إلى مراميه دونما عناء، فهنا يتوقف حمار الشيخ في العقبة ويوضع حدا لذلك الأثر.

أما وحالي كحال الشيخ المعلم، فعزائي في أن لي أجر الاجتهاد، هو في كل الأحول، ليس صفرا،،؟!

حقا! إن الأديب الذي يتقاسم مع مجتمعه الآمال والآلام، ولا يقف من القضايا موقف المتفرج، بل يدلي بدلوه وبالأسلوب الذي يراه كفيلا بإيصال أفكاره إلى الآخرين لذلك، لي مع رواية "سرادق الحلم والفجيعة" ثلاث محطات، هن: شاهد على اغتيال المدينة/ أقفال ومفاتيح/ لغة فنية متميزة.

شاهد على اغتيال المدينة: هي في الرواية "الجزائر" التي تعرضت إلى الاغتيال على أيدي أبنائها! أجل، أبناؤها الذين مارسوا عليها أفعالا مخلة بالحياء، إنهم في تسميات الشاهد، ذئاب وثعالب وفئران وجحافل دود ونسور وشياطين وغربان وعجائز والشيخ المجدوب،، إلخ فالذين هجروا المدينة واحتموا بالجبال والأدغال يتهمون ساكنيها بالفساد، وهؤلاء يتهمون أولئك بالتشويش على استقرارها، فالشيخ المجدوب وأتباعه يحلمون بإقامة خلافة إسلامية إلا أن الغراب وأشياعه يعترضون سبيلهم، فأصاب المدينة طوفان وتلك هي الفجيعة، ولا عاصم من الطوفان إلا صنع السفينة،، وكم كان البحر هائجا والرياح عاتية،، فهل تمخر السفينة (الديمقراطية) عباب البحر وتجنب المدينة كارثة الطوفان (الإرهاب بأنواعه)؟ !

ولأن الشاهد (الكاتب) يعشق مدينته إلى درجة الهيام، لذلك في غمرة الأحداث الأليمة التي شهدتها والفجيعة التي ألمت بها،،لم يخرج مع الخارجين ولم يسر في ركب الانتهازيين، المتسلقين الذين اغتالوها ثم تباكوا وساروا في (جنازتها). صحيح أنه وقف عاجزا عن صنع شيء ما، لكونه لا هو مع الثعالب والديدان والفئران والغربان ولا هو مع النسور ولا مع المجدوب، ولو أنه كان يستأنس بالشيخ المجذوب ويرتاح إليه، ولكنه في نهاية المطاف، وقد ضيع حبيبته، "نون" خرج باحثا عن الشيخ ليصرعه، من هنا، عاش الشاهد غربة واغترابا، حائرا تائها، ولطالما أعياه البحث عن حبيبته "نون" (الجزائر)، متسائلا: إلى متى تعرش فوق مفاتنك الطحالب..الفئران..الخنافس..تعلّي قصورا..؟! إلى متى تطاردني الثعالب المتشردة؟ (ص09) وهذه "جحافل الدود المثبورة تغزوا المدينة أمواجا،،تحتل كل شبرا فيها "(ص51) ولما كان الشاهد بصدد رحلة البحث المضنية، قالت له نجمات أخريات:

"لقد رأينا أغرابا ذوي أعين من نار وأسنان من مسمار وأيادي تشع بالدمار، يجرون –يا للعار- حبيبة القلب من ذراعيها البلورتين ويغربون بها باتجاه عين ضمئة حيث تنتظرها أرض جدباء" (ص86).

أقفال ومفاتيح:

ما مدام الأستاذ عزالدين جلاوجي قد أثر أسلوبا غير مباشر، أساسه ترميز وتلميح لذلك فإن القارئ المتعجل أو البسيط قد لا ينعم بالراحة والمتعة مادام باقيا خارج أسوار المدينة، وأنا أزعم تقديم بعض المفاتيح للقراء، ومع ذلك، لا أضمن لهم صلاحيتها، خاصة إذا لم تكن مطابقة للأقفال..

فمن هما الشيخان، المجذوب والرجل الصالح؟ ومن هي النسور؟ وماذا يمثل السيدان غراب ولعن/نعل؟ ومن هي عجائز المدينة،،،إلخ؟!

الشيخ المجذوب: هو رمز الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المحظورة) وما يؤكد ذلك، ترديد الشيخ لشعارات طالما رفعها الإنقاذيون (1990/1991) مثل:عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نقاتل..لا شرقية ولا غربية. "ولأن الشيخ المجذوب لا يؤمن إلا بزيتونة لا شرقية ولا غربية"(ص50/65).

الشيخ/ الرجل الصالح: آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، وقد قرر أن يقضي على جيش الشياطين الملاعين والأبالسة الماكرين (الإسلاميين) وراح يصطاد كل شيطان ثم يجعله في كيس (المعتقل) حتى امتلأ الكيس. ولكن الشياطين أحدثت في الكيس ثقبا، فخرجت وعمت أرجاء المدينة (البلاد) وتعاهدت على تقديم القرابين على مذبحها (الاغتيالات والمجازر) (ص62).

وقيل إن الشياطين علموا ما وقع لإخوانهم (سجن وتعذيب) فتعاونوا على خيرهم واتخذ بعضهم بعضا ظهريا...(ص63).

أما عاقبة الرجل الصالح  (الرئيس بوضياف) فكانت أن أحرقته الشياطين، ليكون عبرة لكل من يعترض سبيل الأبالسة (فرضية الاغتيال وبومعرافي) ص63.

النسور: قوم اتخذوا من الجبال مساكن وقلاعا، وهم في الرواية: الأسمر ذو العينين العسليتين، عسل النحل، نور الشمس، شد الزهر، سنان الرمح، إذ يقول عنهم الشاهد:"...كلهم ذهبوا إلى غير رجعة، كلهم طلقوا المدينة ثلاثا ورموا خلفهم سبع حصيات ليقطعوا كل صلة لهم بها ورحلوا...سكنوا كهوف الجبال..." (ص56).

وقيل أن النسور تملك قوى سحرية خارقة، لا نحيط بها خبرا، وحدهم في مكانهم يوجدون الأسلحة...والألبسة والذهب.والفضة ولكن أين مكانهم الذي دوخ الجميع؟ أهم تحت الأرض أم هم في فتحات القنوات القذرة؟(ص73)

وفي موضع آخر من الرواية يتضح أن النسور هم الإنقاذيون الذين تعرضوا للسجن والتعذيب:" كان السجن يقف شامخ السرادق، وتناهى إلى مسمعي أنين وعويل وانتحاب، وتراءى لي الدم والدموع والعظام المفرومة والكلاب تنهش الجلد على العظم، وتذكرتهم...عسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح الأسمر ذو العينين العسليتين.." وها هو السيد "غراب" يصيح:"...أولئك المارقون هم السبب، ليس في ذلك شك ولا ريب، الأسمر.. وعسل.. ونور.. وشذا.. وسنان... بعد أن شردناهم وطاردناهم في الفيافي والصحاري،،مازال الأوغاد يحلمون بكرسي الزعامة الدافئ، لقد حرم عليكم مادمت حيا، وستحيون كالصعاليك لا وزن لكم ولا قيمة".

السيد غراب: هو زعيم أكبر حزب (الحزب الحاكم) ولا أخاله إلا حزب (ج.ت.و) فقد جاء في الصفحة (27):" وكان الغراب على رأس أكبر حزب في المقهى كلها..."

وورد في الصفحة (61) "...ظهر الغراب والسيد نعل وهما يحملان رشاشين كبيرين ويطلقان الرصاص". وأن المدينة الآن في حاجة لانتخابات ديمقراطية جديدة، لتختار الكفء المناسب ليضاجعها، أقصد ليرأسها خلفا للسيد غراب الذي استمر على رأسها عقودا من الزمن.." (ص81).

وكان السيد غراب يتوعد دائما "ستموتون كالكلاب في الشعاب يا كلاب، ولن تبكيكم إلا الرياح والرعود..."( ص70/71) وكان يخاطب النسور.

السيد لعن/نعل: إنه خادم السيد غراب..يدعي أنه ابن المدينة وعنها يغار، ولكن القوم يدركون أنه أفاك أشر، وأن كلامه في كل مناسبة إن هو إلا زور من القول...وعندما دخل المدينة أول مرة، قبض عليه متلبسا بالسرقة، فحكم عليه بالقتل، ولكن القاضي الأول في البلاد عفا عنه وجعله أمين سره وخادمه طيلة عشرين سنة، وهما يضاجعان المدينة ويبتزان خيراتها." (ص99/100).

عجائز المدينة: أحزاب سياسية، لا أخالها إلا تلك الأحزاب التي اجتمعت ذات سنة ب"سانت ايجيديو" فقد جاء في الصفحتين (53-54) " أن عجائز المدينة اجتمعت وحدهن وليست معهن المدينة (الجزائر) وقررت أن تسقط القمر في قصعة ملأنها ماءا...واستحضرت كل الشياطين والعفاريت والمردة ويأجوج ومأجوج، وحشر كل ساحر عليم".

لغة الرواية:

لم تعد لغة الرواية تكتب بلغة يمليها المنظرون والنقاد، ذلك أن اللغة وسيلة اتصال، وبغض النظر عن نمطيتها فالأهم هو أن نتواصل، وهذا لا يمنع من أن تكون ثوبا قشيبا يزين الأفكار والعواطف، وهي في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" صحيحة فصيحة، بل فنية راقية، ما دام "جلاوجي" مالكا ناصيتها. ولعل الترميز والتلميح والاقتباس، أمدوا الرواية عمرا وخلودا وجمالا ونقاء، وهذا التمويه بالعبارة هو الذي يميز الإبداع من الكتابات العارية التي يعتمد أصحابها على التصريح والتفسير، وهو ما جعل "جلاوجي" يبتعد عن التقريرية القائلة والسطحية الساذجة، وبذلك فقد تحاشى الأسلوب الخطابي المنبري المفضل لدى رجالات السياسة والدين،،ولكنه أسلوب رجال الدب.

إن اللغة في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" ساحرة تأخذ بالألباب،، تستميل القلوب، تطرب النفوس وترتاح لها الآذان، خاصة ذلك الاقتباس من القرآن الكريم وبطريقة أقل ما توصف به أنها بديعة وعجيبة، وقد أنبأت عن سعة الاطلاع وعن حسن استثمار مقروئية الكاتب هذا الاقتباس يجده القارئ في أكثر من مئة موضع من الرواية، ولست في حاجة إلى إحالات حتى لا أحل محل القارئ.

وما زاد لغة الرواية رونقا وجاذبية تلك الشاعرية، بل تلك القصائد كهذين المقطعين لا عدا ولا حصرا

خبئيني في القلب الكبير خبئيني

دثريني بالرموش الظمأى دثريني.

أنا ما عرفت دفء اليقين

ما ذقت شذى الحب...منذ سنين

منذ ولدت...منذ عصر الجنين (ص119)

هذه أنت ذي غريبة مثلي فلم لا يلتقي الغرباء؟؟

تعيسة مثلي، فلماذا يا حبيبتي يعادي التعساء التعساء؟؟

ضيعت في هذه السرادق كل أحلامي... فقدت لساني وكلامي...

ورائي وأمامي...

خوفي وسلامي...

هفهافة روحي...تواقة منك للروح...

شراشيف ضوئها ملأى بالبوح...(ص112).

 

 

 

تجليات المهيمنة في رواية

سرادق الحلم والفجيعة*

 

أ . مسعود وقــاد أستاذ مكلف بالدروس

 

(معهد الآداب واللغات المركز الجامعي – الوادي )

 

لقد مثلت الثورة التي قادها الشكلانيون الروس في مطلع القرن العشرين استهلالا شرعيا لمسيرة النقد المعاصر ، وكانت ثورة على الممارسات النقدية السابقة التي « تركب الأدب من أطراف أخرى مثل الحياة الشخصية ، وعلم النفس ، والسياسة والفلسفة »[1] ، والتي هيمنت فيها النزعة البراغماتية على مسيرة النقد منذ أن تجرد لمواجهة النصوص الأدبية ، من خلال السؤال الأبدي المتعلق بمقصدية الأديب وتقوُّلات نصه . وسعوا إلى بلورة جهاز مفاهيمي لم يعهده النقد من قبل رُصد لمحاصرة القيم الزئبقية الكائنة في مساحة النص والمراوِغة دائما بين الخفاء والتجلي ، وأعلنوا لأول مرة عن ميلاد علم جديد يهتم بأدبية النصوص سموه " الشعرية " وهو «العلم الذي يُعنى بتلك القيم المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي ، تلك المبادئ التي تجعل من كلام ما كلاما أدبيا »[2] ، وشكل هذا التعريف صميم النشاط الشكلاني المليء بالمغامرة والمهوس بالتطلع إلى السيطرة على المساحات الفارغة ، والأراضي البور التي لا مالك شرعيٌّ لها ؛ أعني مساحات الأدب ، ولأجل تحقيق هذه الغاية راحوا يستحدثون المفاهيم ويصوغون المصطلحات .

فبالإضافة إلى مفهوم " الشكل " الذي وسمهم به أعداؤهم في البداية ثم ارتضوه بعد ذلك اسما لهم كان مفهوم " التغريب " الذي يهدف إلى كسر الألفة عن الأشياء من جهة تلقيها : ومفهوم " المادة والأداة " الذي يقابل ثنائية الشكل والمضمون التقليدية ويعني اللغة وصياغتها بطريقة فنية … وكانت مصطلحات كثيرة دارت في فلك التداول النقدي الشكلاني لعل أبرزها على الإطلاق مفهوم " القيمة المهيمنة " الذي استحدثه الناقد الروسي رومان جاكوبسون .

وتعني القيمة المهيمنة عند أصحابها أن في العمل الفني مجموعة من العوامل تحكم بناءه لتعطيه ماهيته وخصائصه النوعية « ومن تفاعل مكونات العمل ترتقي مجموعة من العوامل على حساب مجموعة أخرى ، وفي عملية الارتقاء هذه يغير العامل المرتقي العوامل الأخرى التي تغدو تابعة له ويسمى المرتقي حينئذ المسيطر أو الباني أو القيمة المهيمنة » [3] وهي بذلك الموجه الأول لحركة النص الداخلية والمحدد الأساسي لمعالمه الأدبية ، كما أنها تُسهم بفاعلية في فك بعض شفرات اللغز الجوهري الأول في الأدب وهو : بمَ صار النص نصا أدبيا ؟ ومن ثمة فهي تشكل كما أشار جاكوبسون « عنصرا يقع من العمل الأدبي موقع البؤرة ، بمعنى أنه يحكم العناصر الأخرى ويحددها ويغيرها أيضا »[4] .

إن هذا التحديد العام لمفهوم القيمة المهيمنة مثلما ورد في سياق الممارسة النقدية الشكلانية وهي ترسم خارطة المصطلح وفق القاعدة الفلسفية التي تستند إليها - يُعدّ في عُرف أصحابه آلية مناسبة للوقوف على خصوصيات الشكل والقيم الجمالية في النصوص الأدبية ، لكن هذه الدراسة تسعى إلى رسم مسارها الإجرائي في ظل ذلك التحديد العام للمصطلح وهي - في الوقت نفسه – غير مُلزَمة بالسير في المسلك الذي تحركت فيه آلية الاشتغال الاصطلاحي الشكلاني في كل تفاصيله.

ويأتي هذا التحلل النسبي من سلطة المصطلح ضمن مبررات علمية وتاريخية ثابتة هي أن أغلب المصطلحات النقدية تفجَّر لتأدية وظيفة نقدية محددة سلفا من قبل الناقد ، لكن بمجرد أن تدخل دائرة الاستهلاك النقدي ، وتتداولها الكفاءات النقدية تتعدد وظائفها وتتسع فتغدو جراء عمليات التجريب إشارات حرة تسبح في فضاء النقد كأن لم توكل إليها بالأمس وظيفة علمية موضوعية .

فمصطلح "الشكل " في عرف الشكلانيين الروس أطلِق ليمثل مقابلا مباشرا وصلبا لمصطلح المضمون الذي هللت له المناهج الخارجية السابقة ، في إطار ردة فعل تاريخية قام بها الشكلانيون الروس لها مبرراتها ، لكن فرط الزحام على تداول هذا المصطلح عدل قليلا من شكلانيته ، وصار « من الضروري تحويل مبدأ الإحساس بالشكل إلى شيء ملموس حيث يمكن تحليل هذا الشكل كمضمون »[5] ، وعلى هذا المنوال سارت أغلب المصطلحات النقدية المعاصرة.

ومن هذا المنطلق تبلورت فكرة التعامل مع مصطلح "القيمة المهيمنة" كنسق مهيمن ما دام النص الأدبي محكوما بالضرورة بمجموعة من الأنساق المهيمنة تشكل إحداها بؤرة النص التي تصنع فضاءاته الدلالية وأبعاده الجمالية، وتفرض قانونها الخاص عليها ، فتغدو تابعة لها ، وتمثل خصائصها خصائص النص ذاته بقوانينه وعلاقاته وتعاملاته حتى «تملكها بحضورها القيمي ، وتضفي عليها مسوحها وتؤطرها بما تشاء لها أن تتفوه به وتعلنه ليمسي النص جسدا من التشكلات الدلالية والجمالية»[6]، وبذلك تغدو خصائصها خصائصَ للنص ذاته بقوانينه وعلاقاته .

وإذا كانت المهيمنة في الغالب نسقا دلاليا مصوغا صياغة فنية فإنها قد تحضر على شكل موقف وجداني يمارس سلطته قيميا وفنيا من بعيد، أو مفردة مركزية تحوم حول مركزها أفكار النص ، أو حتى زيّ فني مثلما يتجلى بقوة في بعض الموشحات الأندلسية حيث تغدو الهندسة المعمارية للقصيدة هي القيمة الأكثر تميزا في حضورها الأدبي . وكما أنها (أي المهيمنة) تستغرق نصا تبسط عليه سلطتها وتسمه بسمتها فإن «دراسة المنتج الإبداعي لأديب ما كلِّه ربما تكشف لنا عن وجود مهيمنة واحدة كبرى تتحكم في مجمل إنجازه عبر تواتر حضورها فيه[7]» وهو ما يتجلى بوضوح في كتابات الروائي الجزائري المعاصر عز الدين جلاوجي.

وعز الدين جلاوجي من الروائيين الجزائريين الذين فرضوا حضورهم في المشهد الثقافي الجزائري بغزارة إنتاجه وقدرته الفائقة على التجريب في النموذج السردي ، ولعله في هذا الحكم الأخير يعد روائيا متميزا أصيلا ذلك أن وعيه بالواقع المأساوي الذي يعيشه شعبه، واستبطانه لمشاكل مجتمعه لم تبتلعه كأديب له وعيه الفني ، وإنما عايش الواقع ثم انفلت من قبضته ، وكذلك الأدب الأصيل لا يكون انعكاسا مباشرا للواقع فتبتلعَه سلطة التأريخ ، ولكن يجعل من الواقع المادة الخام لأدبه ثم يتجاوزه باحثا عن الأفضل ، أو كاشفا عن أوجه النقص والتشوه فيه ، وفي الوقت ذاته لم يكن أدبه منتميا لأدب الأبراج العاجية الذي يتسامى عما يرى من مآسٍ يحياها مجتمعه .

وتعد رواية " سرادق الحلم والفجيعة " نموذجا جيدا للاستدلال على هذه الأحكام، فهي رواية تتوغل في أعماق الحياة السياسية والاجتماعية "المتعفنة" ، وتستبطن المعاناة في كافة نواحيها مركزة على مأساة المثقف في بلد تتكالب عليه أطماع الأوغاد الجشعين من أبنائه ، وتتسلط عليه المتناقضات بأبشع أشكالها حتى يغدوَ منكَرًا مرفوضا لا يرتضيه موطنا للعيش أيُّ مثقف أو حر شريف ، ولقد جسده جلاوجي في صورة المومس المتوغلة في وحل الرذيلة إلى حد القرف والتقزز، فهي «تتمدد عجوزا مجعدة الشعر ، مغضنة الوجه ساقاها سلكا حديد صدئ »[8]الشارع…عتمة…حلكة…فجيعة… وهي تلفظ الغراب ذلك القذر فيسقط « تتخبط أوصاله ، ويتقيأ دما أسود ، وتهادت نحوي ترغي كالبعير لقد اشتد ظمأها عطشها … سغبها … »[9] وفيها:  

وحدي أنا والشارع الفاغر فاه…

أحتسي على مضض حنظل الغربة…[10]

 وهذا وجه الفجيعة الذي يطرحه العنوان ، أما الحلم فهو المدينة "ن" ذلك الموطن الذي يحلم به الأديب ويعيش فيه على سبيل التجاوز الفني ، وقد جسده في صورة الحبيبة الرائعة التي يراها «كالهواء أعدو خلفه أضمه إلى صدري بحرقة ثم أفطن على الفجيعة »[11] ، ويحن إليها فيناجيها «هل تذكرين حين كنا نسير أنا وأنت صامتين أمسك يسراك بحرارة الأوردة وأضغط أصابعك التي تشبه أشعة الشمس »[12] .والرواية ذات بناء رمزي شبيه تماما بقصص كليلة ودمنة حيث جاءت شخصياتها على ألسنة الحيوانات والطيور ، وهو ما يحمل الدارس على التساؤل عن الدوافع التي ألجأت الكاتب إلى هذه الطريقة الرمزية؛ أهي دوافع فنية محضة ؟ أم أنها تمتزج بالعامل السياسي الذي هيمن على قصص كليلة ودمنة في تلك الحقبة التاريخية العسيرة ؟ .

تجليات النسق المهيمن في الرواية

المهيمنة العامة : إن وقوفا متأنيا على عتبات هذا النص السردي النازع إلى التجريب ، ثم ولوجا هادئا متبصرا إلى دهاليزه ليفضيان بالضرورة إلى أنه مغَشَّى بهالة من التغريب تلفه مبنى ومعنى ، وهو تغريب نابع من مرارة التجربة التي يعيشها الأديب في وطنه ، كمثقف واعٍ بكل الهموم المتربصة بمجتمعه ، ومبصر لكل المتناقضات تتراقص أشباحَ دمارٍ أمامه ، ولا يملك القدرة على التغيير ، وإنما يذهب هو الآخر ضحية لها حين يتهمه الغراب بأنه حي بن يقظان جاء ليزعج موتاهم ويبعث فيهم الحياة ، ويوقظ المدينة من سباتها العميق وينغص عليها سباتها العميق[13]  . وبالتالي فإن النسق العام لهذا النص يتحدد بمهيمنة "التغريب" الذي هو نزوع إلى رفع الألفة عن الأشياء و«مفهوم يقصد منه كما يقول "شكلوفسكي" : نزاع الألفة مع الأشياء التي أصبحت معتادة ، أي هو مضاد لما هو معتاد »[14] ، وتبسط مهيمنة التغريب هذه سلطانها على كل عناصر الخطاب السردي من شخصيات وزمن وأحداث وفضاء وحتى على البناء العام .

عتبات المهيمنة     .       

أولا : عتبة العنوان :  إن أول عتبة من عتبات النص التي تكشف عن مظان مهيمنة التغريب هي عتبة العنوان الذي جاء مغربا واشيا بحمولة النص الدلالية ،إن لم يكن اختصارا مكثفا لدلالات النص :" سرادق الحــلم والفجيعة " ثلاثة أسماء تجتمع تركيبيا فتشكل جملة اسمية متماسكة ، وتختلف دلاليا فتتنافر وتُشكَل على المتلقي فلا يرى لها جامعا واضحا ، فهي :

مبتدأ محذوف تقديره (هذا) + خبر مضاف + مضاف إليه + حرف عطف+ اسم معطوف . وهذا التأويل في إخراج النحاة يشكل جملة اسمية تامة هي "هذا سرادق الحلم والفجيعة" يحسن السكوت عندها لكنه من الوجهة الدلالية غير ذلك تماما ؛ إذ المفروض في الخبر أنه مسند يأتي لينقل فائدة للمتلقي عن المسند إليه ، ثم إن المضاف إليه - أيضا - تناط به مهمة تحديد المضاف وتقييد صفاته، لكن شيئا من هذا لم يحدث قبالة هذا العنوان ، فما أضفاه الخبر من الغموض على المبتدأ أكثر مما وضحه ؛ إذ اسم الإشارة (هذا) -أصلا- بالنسبة للمتلقي الغائب لفظ سابح لا يتقيد بدلالة ، فجاء يطلب التقييد من طريقين ؛ طريقِ المبتدأ الباحث عن الهوية ، وطريقِ اسم الإشارة الذي تنعدم معه إشارة الحضور في لحظة التواصل .

 فالسُّرادِق لغة تعني ما يحيط بالشيء من جدار وغيره، أو الخِباء الذي يُمد فوق فناء المنزل ، أو الغبار أو الدخان مثلما ورد في قوله تعالى : ﴿ إِنَّا اعْتَدْنَا لَلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾[15] أي الدخان المحيط بالظالمين ، وهذه دلالة مستبعدة ، وإنما السارد يرمي إلى الدلالة الأولى وآية ذلك تداول اللفظة ذاتِها في ثنايا الرواية ؛ فقد وردت في قوله « بالمناسبة هذا السجن أعلى سرادقه الغراب»[16]، وقوله : «هل يقبعون الآن في السجن خلف هذه الجدران المنيعة والسرادق المتعالية؟»[17] ، لكن ما أسهم في تغييب الدلالة القريبة والبعيدة هو إضافتها (لفظة السرادق) إلى الحلم ثم دخول لفظ الفجيعة إلى نص العنوان على سبيل العطف وهو ما زاد من قيمة التغريب فيه ، حيث تشكل الفجيعة مع الحلم ثنائية ضدية تتنافر بحضورها أطراف الدلالة أكثر مما تلتئم ، لكن الكاتب يرمي إلى تجسيد حالة التمزق الوجداني التي يفرضها عليه الواقع السياسي والاجتماعي والمتمثلة في رفضه لهذا الواقع المفجع الذي تمثله "المدينة المومس" ومن يهيمن عليها ، وتعلقه - في الوقت نفسه – بمدينة فاضلة يستشرفها حلما في المستقبل يرمز إليها بالحبيبة "ن" ، وهذه الدلالات لا يقف عليها الدارس إلا بعد استبطانه للنص السردي وفكه لجميع شفراته .

ثانيا : عتبة الإهداء :يعد الإهداء الذي تقدم به جلاوجي إلى نفسه ثم إلى الغرباء عتبة ثانية من عتبات المهيمنة :

إليَّ

إلى الغرباء في المدينة

عتبة ذات دلالة قوية على معنى التغريب ، فإذا كان التغريب هو ما يفرضه الكاتب على كلماته وعباراته بإظهارها في زيٍّ غير مألوف، فإن الاغتراب هو ما يفرضه الواقع على الكاتب فتنعدم حالة الألفة بينه وبين العالم الخارجي، ويغدو كاللفظة " المُغَرَّبَة " في النص تبدو قلقةً منبوذةً داخل محيطها اللغوي. والغرباء الذين يعنيهم السارد ليسوا فئة معينة في زمن ما وإنما هي : «غربة المثقف في كل زمان ومكان ، وربما كان المثقفون المعاصرون أكثر عرضة لتصدع الذات والغربة »[18]، إنه اغتراب أبي حيان التوحيدي وهو يلهج مُعتقََلا بين سرادق اللغة :

الهوى مركبي …   والهدى مطلبي … 

فلا أنا أنزل عن مركبي …   ولا أنا أصل إلى مطلبي … 

أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة …

ثالثا : عتبة البناء العام : إن البنية العامة لهذا النص السردي شديدة الإيحاء بدلالات التغريب ، فهو يصدمنا منذ البداية بخاتمة تتصدر النص ومقدمة تتموضع في نهايته معلنا عن حالة التشظي، وعدم فاعلية الترتيب والبناء داخل هذه الفوضى. ولعل ذلك كان تساوقا مع منحى التجريب الذي ارتآه السارد ، إذ ما من داعٍ يوجب الاستهلال بالخاتمة والانتهاء بالمقدمة ما دامت كل منهما ملتزمة برسالتها المنهجية ، ثم إن وجود مقدمة وخاتمة داخل نص سردي قد تكون له دلالاته .

كما أن تداخل الأشكال الأدبية في بنية هذه الرواية شكّل حضورا واضحا لمهيمنة التغريب ، حيث ينطلق النص انطلاقة شعرية تضعنا بين يدي قصيدة النثر بقواعدها التي حددتها حركة الحداثة [19] :

الغربة ملح أجاج …

وحدي أنا والمدينة …

ثكلت الهوى… ثكلت السكينة …

ولعل الكاتب في ذلك يسعى إلى هدم الحدود بين جنس الشعر وجنس الرواية وصولا إلى مفهوم الكتابة الذي انبثق بعدما « شهدت الأجناس الأدبية خلخلة واضحة ، وصار احتفاظ كل منها بحدوده المرسومة موضع شك كبير»[20] .

متون المهيمنة     .       

أولا : المتن الحكائي : تمثل رواية "سرادق الحلم والفجيعة" أزمة الذات الواعية في تمثلها لمقتضيات دورها الاجتماعي والثقافي تتجاذبها قوتان عاتيتان؛ فهي بين أن تظل صامدة متماسكة متمسكة بالمبادئ السامية والقيم النبيلة التي هي جسر تعبُر عليه إلى تحقيق الحلم المتمثل في لقاء الحبيبة "ن" وهي مدينة الأحلام التي يحاول السارد أن يتمسك بذكراها ولقياها ، وإما أن يقذف بنفسه في قاذورات المدينة المومس وهي« مدينة منفصلة عن عالم الإنسان ، كل شيء فيها موت وخراب ودمار وانحلال ورذيلة ، إنها مدينة مومس تبيع نفسها لكل المارة والعابرين »[21] ، وهي مع ذلك غاوية ليس لها هم غير إشباع رغباتها وغرائزها التي استأثر بجلها "الغراب" ومعاونه "نعل" ومن ورائهما آلهة الخفاء "النسور" ، وهذا ما أغرى بالمدينة المومس جموع الثعالب والفئران والكلاب والدود وكلهم من حثالة القوم .

لكن السارد لم يظلَّ وفيا للحبيبة "ن" ؛ فالموقف أكثر إغراء من أن يدعه على ذاك الوفاء، وفجأة تتعطل لديه حاسة الشم فلا تنبعث من "المبولة" أية روائح كريهة ، وتتبلد حاسة الذوق لديه ، وتصيح به الفئران : « لا تخفْ اذهبْ ، فلقد حلت عليك لعنتنا إلى الأبد … اخرج منها فإنك رجيم وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين »[22]، ويجرفه حب المدينة المومس، فينقلب على أصحابه زملاء الدرب الأوفياء المخلصين؛ ذي العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح، ويقرر القضاء عليهم، لكن الشيخ المجذوب يتمكن منه، ويرده إلى رشده، ثم يأمره بصناعة الفلك المنجي من الطوفان الذي سيغرق المدينة، إلا أن الرواية تنتهي ولا يجيء الطوفان وتظل المدينة في غيها ورذيلتها مترنحة بإعادة انتخاب "الغراب" حاكما لها ، ملقية سلامها واستسلامها لسيدها وممتص دمها الأعظم . ويظل السارد منشغلا لسنين بجمع ألواح السفينة، وينفتح المصير على الغيب المجهول، وتتضارب الروايات بشأن الطوفان والفلك .

ثانيا : المتن البنائي للشخصيات : إن الطابع البنائي للشخصيات التي تتداولها الرواية لذو خصوصية وظيفية متميزة في إنتاج التغريب وإدهاش المتلقي ، وهو ما يتجلى في الطابع الكاريكاتوري العجيب الذي اتسمت به الشخصيات ، وفي الطمس العمدي الذي مارسه السارد على هوية هذه الشخصيات، مستثنيا من ذلك شخصية الراوي التي أعلن منذ البداية أنه صاحبها من خلال العنوان الأول : (أنا والمدينة)، وأنه المحرك المركزي لأحداثها، فاستجابته للمدينة المومس، وتخليه عن الحبيبة "ن"، ومن ثمَّ انغماسه في تيار الفساد والانحلال وتخليه عن القيم السامية أرسى سلطة الغراب، وضاعف من إمكانية حدوث الطوفان، والراوي بهذا الدور يساوي الشخصية أي أن معرفته بالأحداث تكون « على قدر معرفة الشخصية الحكائية ، فلا يقدم لنا أي معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها »[23]Vision avec . وهو ما يعبَّر عنه في الرؤية السردية بـ " الرؤية مع "

أما شخصية الغراب الذي هو منبوذ في الثقافة العربية فإنها ترمز إلى الحاكم الفاسد المستبد الذي كان « ينتعل حذاءه معكوسا وينكمش فـتغوص رقبته في صدره حتى تتلاشى…ويظهر رأسه صوانا بكماء وُضعت دون مبالاة على كومة من عظام »[24] والذي يجثم على صدر المدينة يمتص خيراتها ويستعبد أهلها بمساعدة "نعل" .

و"نعل" أو "لعن" وكلاهما أيضا لفظ منبوذ في الثقافة العربية الإسلامية فقد خلصه الغراب من حكم الإعدام مقابل أن تُجدع أرنبة أنفه ثم يسخر لخدمة الغراب عشرين سنة يفعل به ما يشاء، لذلك فهو طوع أمره ورهن إشارته في كل شأن .

وتشكل "النسور" آلهةُ الظلام القوة الخفية التي تهيمن على البلاد والعباد حاكمِهم ومحكومِهم، كلمتها نافذة وأمرها مطاع لأنها «تملك قوى سحرية خارقة لا نحيط بها خُبرا وحدهم في مكامنهم يوجدون الأسلحة…والألبسة… والأطعمة…والذهب…   والفضة… والجواهر المختلفة الأنواع »[25]ولكننا نجهل مكانها، فالنسور في العادة لا تقترب من الناس ولا تدع أحدا يقترب منها، بل ترنو إلى العالم من أعلى القمة الشماء. كما تعد شخصيات أخرى كالثعالب والفئران والدود كلها في خانة أراذل القوم وأشرارهم ممن انغمسوا في مستنقع الرذيلة والفساد ، مهللين مع حكامهم لسلطان الإله الأعظم "قبحون" الذي يمثل بؤرة الفساد والاستعباد .

وفي الجهة المقابلة نُلفي شخصيات أخرى التزمت بخط المبادئ السامية وتمسكت بالقيم الفاضلة وهي الشخصيات التي انقلب عليها الراوي بعد غوايته كذي العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح ، وهي أسماء ذات دلالات مستعذبة خيرة تنبئ عن توجهها الخير الذي اختارته ، يضاف إليها شخصية المجذوب التي ترتبط في الثقافة الشعبية المحلية بالرزانة والحكمة وسداد الرأي، وهي صوت داخلي يمثل سلطة إيديولوجية قوية تمارس دورها الضاغط بقوة على الراوي .

ولقد طمس الروائي شخصيات الرواية ليزيد من نسبة التغريب بأن أعدم هوياتها وجعل الفضاء الروائي مسرحا لجموع الطير والحيوانات تتواصل فيما بينها باللغة، وتمتلك الإرادة والحرية وتتحمل المسؤولية وتعاقِب وتنتخب … وذلك ما يحيل القارئ على أنها ليست سوى أقنعة حجب بها الروائي شخصيات إنسانية واقعية رآها أو تخيلها .

ثالثا : متن اللغة الشعرية : إن الوظيفة المهيمنة على سيرورة السرد الروائي هي وظيفة شعرية تبرز من خلال التكثيف والاقتصاد اللغوي الهائل الذي اعتمده الروائي أسلوبا لإمتاع قارئه عن طريق لغة الإيحاء والرمز التي يتأثث بها جسد الروائة ، وتتعمق بها الدلالات محدثة شرخا من الانزياحات التي تحفر فجوات غائرة في ثنايا النص تخرج باللغة عن الحياد وتحلق بالقارئ بعيدا وتستغلق عليه أحيانا ، وهي دلالات «تنم عن لحظة شرود ذهني شغلتها التداعيات وصورها الحوار الباطني مع الذات »[26] . وجاءت الألفاظ والعبارات إشارات حرة تسبح في فضاء النص دونما كابح محمَّلة برسائل شعرية جمالية منحت الرواية خصوصية أسلوبية قرَّبتها من كثافة التعبير الشعري ، من ذلك قوله : « غبار تثاءب يغتال من جواي السلام »[27] ، وقوله : « المدينة المومس تتهادى أمامي في ثوبها الشفاف»[28]، و« صمت أصلع يسبت القلب»[29] وقوله:«أصبحت المدينة اليوم نائمة تغطّ في شخير مالح يشوي طبلة الأذن»[30].

ولا تكاد فقرة من فقرات النص تخلو من هذا التعبير المكثف الذي يشي بقدرة الكاتب على إخراج اللغة من وظيفتها الإبلاغية إلى وظيفة بلاغية شعرية تنعتق بها الألفاظ من سلطة المدلول الواحد ، وتنتقل إلى فضاء الدلالات المفتوحة التي تنعدم معها علاقتها بعالم الواقع والمألوف .

ولم يقف التغريب عند البعد الإيحائي للألفاظ والعبارات وإنما لجأ السارد في إرسائه لهذه السلطة إلى نحت أسماء وكلمات ذات منحى عجائبي ليس لها خلفية معجمية واضحة كبعض الألفاظ التي تخللت "الورد" الذي أوحي إلى الغراب:

سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب[31]

مثلما ينسحب ذلك على بعض أسماء الأعلام التي تداولها النص الروائي مثل : ( قبحون ، القارح بن التالف ، الفاني بن غفلان …. ) .

و نخلص في نهاية هذه الدراسة إلى أن رواية "سرادق الحلم والفجيعة" ذات المنحى العجائبي محكومة بمهيمنة "التغريب" من العنوان الذي جاء نصا مفتوحا على جميع الاحتمالات الدلالية إلى بقية العتبات الأخرى التي تمثل بوابات شرعية للولوج إلى عالم النص كالإهداء و الفاتحة والخاتمة والمقدمة وبنية النص السردي العامة ، وصولا إلى المتون الأساسية التي تعكس حركة النص الداخلية ، وتجسد احتمالاته الجمالية كالمتن الحكائي والمتن البنائي للشخصيات ومتن اللغة الشعرية .

وبذلك يمكن أن نعد المقاربة النقدية للنصوص على ضوء ما تجلى لنا من فاعلية النسق المهيمن آلية مناسبة للإمساك بأزمَّة النص السردي ؛ فهي لا تتأتَّى للدارس إلا بعد ممارسة عمل قرائي جاد وصبور ، وإتقان بارع للمراوغة مع النص لأنها – أي المهيمنة – زئبقية مخادعة لا تنفك تتجلى وتختفي حتى يستنفد الدارس كل احتمالات التشكل الوجودي لها ، لكن الظفر بها يعني التحكم في حركة النص الدلالية والجمالية ، ومن ثم الابتعاد عن القراءة ذات الطابع الوصفي الصارم التي هيمنت على التوجهات النقدية المعاصرة ، وفي الوقت نفسه عدم الاسترسال مع القراءات الانطباعية الباهتة استرسالا يحرم الدراسة من الإنتاج النقدي الواعي.

 

 الإحالات

 

*  - ألقيت المداخلة في الملتقى الخامس لتحليل الخطاب بتيزي وزو أيام 9/10/11 – 05-2009 .

[1] - عبد الله إبراهيم وآخرون : معرفة الآخر مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة ، المركز الثقافي العربي بيروت- المغرب ، ط2 ، 1996 . ص12 .

[2] - محمود العشيري : الاتجاهات النقدية والأدبية الحديثة ميريت للنشر والتوزيع ، القاهرة ، ط1 ، 2003 . ص19.

[3]  - نفسه ، ص37 .

[4]  - نفسه ، ص 38 .

[5] - عمر محمد الطالب : مناهج الدراسة الأدبية الحديثة،  المركز الثقافي العربي بيروت- المغرب، 1988 ، ص 198.

[6] - علي حداد : النهيمنة وتجلياتها ، مجلة الموقف الأدبي ، اتحادالكتاب العرب ، دمشق - العدد 387 تموز،   2003  . ص31 .

[7] - نفسه ، ص 35 .

[8] - عز الدين جلاوجي : سرادق الحلم والفجيعة ، دار هومة ، الجزائر ، 2000 ، ص30.

[9] - الرواية ، ص30..

[10]  - نفسه ، ص102 .

[11] - نفسه ، ص 25.

[12] - نفسه ، ص25.

[13] - ينظر : الرواية ، ص39

[14]  - عدنان بن ذريل :النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2000 ،ص27. (متاح على موقع اتحاد الكتاب العرب على الإنترنت )

[15] - الكهف: الآية 29 .

[16] - الرواية ،ص 31 .

[17] - نفسه ، ص 49 .

[18] - أحمد موساوي : الاغتراب في سرادق الحلم والفجيعة ، مجلة الأثر ، العدد :3 السنة : ورقلة ، ص

[19] - ينظر : سوزان برنار : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، ت: زهير مجيد مغامس ، دار المأمون ، بغداد ، 1993 . ص28 .

[20]  علي جعفر العلاق : الدلالة المرئية ، دار الشروق ، الأردن ، 2002 ، ص 149 .

[21]  - عبد الحميد هيمة : علامات في الإبداع الجزائري ، رابطة أهل القلم ، سطيف ، ط2 ، 2006 ،ص109 .

[22]  - الرواية : ص116.

 - [23] حميد لحمداني : بنية النص السردي – من منظور النقد الأدبي- المركز الثقافي العربي ، بيروت ، ط1 ، 1991 . ص48 .

[24]  - الرواية ، ص 31 .

[25]  - نفسه ، ص 73 .

[26]  - محمد أسامة العبد : مجازيات اللغة الشعرية عند زكريا تامر ، مجلة الموقف الأدبي ، عدد :428 سنة : 2006 دمشق ، ص112 .

[27]   - الرواية ، ص8.

[28]  - نفسه ، ص 9.

[29]  - نفسه ، ص35 .

[30]  - نفسه ، ص 80 .

[31]  - نفسه ، ص 15 .

 

 

 

 

 

دراسات تناولت رواية

راس المحنة 1+1=0

 

 

 

بلاغة السخرية

في رواية رأس المحنة

د. بوشعيب الساوري (المغرب)

 

 

1- تقديم

لكل عمل روائي بلاغته ونعني بذلك الإواليات البنائية التي يسخِّرها الروائي لتشكيل عالمه الروائي وتبليغه إلى المتلقي وإقناعه والتأثير عليه1، كل ذلك في ارتباط كلي برؤية الكاتب للعالم، دون أن ننسى خصوصيات الجنس الروائي.

وتبعا لذلك، لم تعد السخرية(L'ironie) مجرد ظاهرة أسلوبية أو إجراء كوميدي داخل العمل الأدبي، وإنما لها حضور عميق داخل الأعمال الأدبية وخصوصا النص الروائي، وذلك في تساوق مع بعض النظريات المؤسسة في الرواية التي أكدت على أن السخرية مكون جوهري داخل الأعمال الروائية.

 ونخص بالذكر نظرية لوكاش، الذي أكد أن السخرية هي روح الأعمال الروائية، فهي البنية الناظمة لها؛ وفي تحديده لها يشير إلى أنها كلمة تدل على "الحركة التي تعرف بها الذاتية نفسها وتلغي بها نفسها. وتدل السخرية، من حيث هي مكون للجنس الأدبي الروائي، على أن الذات المعيارية والمبدعة تنشطر ذاتيتين: إحداهما هي تلك التي تجابه، من حيث هي طوية، القوى المركبة الغريبة عنها، وتجهد في سبيل جعل محتوياتها نفسها تخيم على عالم غريب، والأخرى هي التي تكتشف الطابع  التجريدي لعالمي الذات والموضوع، وبالتالي طابعهما المحدود." 2  فتظهر الرواية المفارقة ما بين وعي الذات وواقعها، وهذه المفارقة هي التي تخلق السخرية والقلق والتوتر داخل العمل الروائي. ويقول كذلك:" السخرية هي التصحيح الذاتي للهشاشة." 3

 وكذلك نظرية باختين بخصوص الرواية المتعددة الأصوات(Roman Polyphonique) والتي تجسدت في أعمال دوستويفسكي الروائية التي اعتبر فيها الحوار السقراطي عنصرا مؤسسا والذي يعود إلى أفلاطون، وكان بطله سقراط الذي كان يتظاهر بالجهل، ويسأل أناس مفروض فيهم معرفة بعض القيم (قضاة، معلمون، رجال دين...) عن بعض القيم، ويستخلص حقائق ذات طابع مثالي كلي(مفاهيم مثل الخير، الشر، العدالة، الجمال...). كما يتأسس الحوار السقراطي على البحث عن الحقيقة وتوليدها من الحوار، لا ادعاء امتلاكها4. وذلك عبر استفزاز الخصم وإجباره على إبداء رأيه، عبر أسلوب التهكم.5  كما كانت السخرية عنده نمطا للوجود، ومنهجا فلسفيا سمي بفن التوليد (Maieutique) توليد الحقيقة عبر الحوار التهكمي.

بل إن السخرية قد صاحبت ميلاد الرواية، فرواية دون كيشوت التي تعد الرواية المؤسسة للجنس الروائي هي رواية ساخرة، والتي تتأسس على التناقض بين شخصية دون كيشوت وخادمه سانشو.

لقد وجدنا صعوبات كثيرة في تحديد مفهوم السخرية، سواء في اللغة العربية أو لدى الثقافة الغربية؛ ففي اللغة العربية وجدنا أن مفهوم السخرية يتداخل مع الهجاء والتهكم والهزل والفكاهة والتندر والطرفة(لسان العرب، باب سخر) 6. وكذلك في الثقافة الغربية ظل المفهوم مطاطا يختلف مدلوله من عصر لآخر ومن بلد لآخر، بل بين ناقد وآخر، ويعبر عن ذلك مشال لوغيرن قائلا: "إنها ميدان شاسع حدوده غير موضوعة بدقة، والكلمات داخله خادعة." 7

وتجاوزا لهذه المشكلة، وانطلاقا من تجلياتها في النصوص الأدبية وكذا ملاحظات الدارسين، تبين لنا أن الحديث عن السخرية يتطلب استحضار الخصوصيات التالية:

- السخرية وسيلة إجرائية يعبر بها الكاتب عن رؤيته للعالم. 8

- السخرية أداة لكشف المفارقات داخل الواقع، وإدانة وازدراء التمايزات الملموسة داخله. 9  بل تتأسس هي عينها على التقابلات والتعارضات.

- وتصبح تبعا لذلك أداة لفضح مفارقات الواقع وتناقضاته.

- السخرية أداة إضحاك. 10

- السخرية أداة للنفي سواء بشكل مباشر أو بطريقة مقنعة؛ إذ يُعد النفي بعدا أساسيا من أبعاد السخرية.11

- وكذلك الاستفهام يصير بدوره آلية من آليات السخرية، عندما يتخذ طابعا استنكاريا، يعبر عن عدم توافق الواقع مع تطلعات الذات.

- أداة للمقاومة النفسية، لأنها تهاجم12، ولا تهادن التناقضات والمفارقات.

- عين للنقد، إذ تتطلب من الإنسان قدرة كبيرة على النقد والتفكير. 13

تؤكد كل هذه الخصوصيات على أن السخرية أداة إجرائية لتحقيق بعض الأهداف من الخطاب(الفضح،النقد، الإدانة، إظهار التناقضات، المقاومة، النفي، الاستفهام، الإضحاك.) لكن السخرية لا تتوقف عند كونها أداة بل تتعدى ذلك لأن تصير عنصرا أساسيا داخل العمل الروائي وناظما له، تسهم في بناء المتخيل ورسم الشخصيات وتؤثر في طريقة السرد، وكذا الوصف والحوار.

لا أسعى في هذه القراءة إلى تقديم قراءة جديدة لرواية رأس المحنة14 بقدر ما أسعى، بنوع من التدقيق، إبراز حضور السخرية وتجلياتها فيها وكيف تكون السخرية هي رهان كتابة الرواية، من خلال إسهامها في بناء الشخصية، والوصف، وبالأخص وصف الشخصيات أثناء تصادمها وصفا يرتكز على الرسم الكاريكاتوري، وبناء المكان والزمان.

والرؤية التي تحكم حضور السخرية في رواية رأس المحنة هي اتخاذ عزالدين جلاوجي موقفا من الوضع الراهن بالجزائر وفاعليه وخطابه؛ سواء الخطاب الرسمي أو الخطاب الإسلامي. فيحاول أن يظهر الواقع في تناقضاته والكشف عن تركيبة الواقع المتناقضة، فكان الأسلوب الساخر هو الأقرب إلى تشخيص ونقل ذلك الواقع، فلا يقدمه كما هو، وإنما في صورة باعثة على السخرية، فليس هدفه هو الإضحاك وإنما تشخيص الواقع وإظهار تناقضاته وهنا تؤدي السخرية وظيفة إدانة الواقع. 15  لا يتعلق الأمر بسخرية مباشرة، وإنما بأسلوب ساخر يستمد مشروعيته من أحد أسس الجنس الروائي ألا وهو رصد مفارقات الواقع وإشكالاته. كما أن الأسلوب جزء من رؤية الكاتب للعالم.16 فهو بالضرورة مكون بنائي داخل العمل الروائي له تأثيره على ثوابت النص الروائي، من سرد ووصف وشخصية وزمان ومكان. فتغدو السخرية لديه إوالية إنتاجية على مستوى الدلالة التخييلية. ستضطلع هذه الورقة بإبراز كيف تؤثر السخرية في البناء العام لرواية رأس المحنة.

2- السخرية والمفارقة

يعد التوتر أحد الشروط المتحكمة في الرواية17، لأنه واحد من المكونات الجوهرية التي ينبني عليها جنس الرواية، وهو علامة فارقة في إنتاجه.

 تستجيب رواية رأس المحنة لهذا المطلب استجابة كلية، وذلك بهيمنة وحضور بنية السجال والمفارقات داخلها، في ارتباط بالمكون البنائي الموجه للعمل وهو السخرية. فعلى مستوى المكان هناك سجال القرية والمدينة، سجال حي الحفرة مع الأحياء الراقية. وعلى مستوى الزمان التوتر بين الماضي والحاضر. وعلى مستوى الشخصيات هناك صراع بين صالح ومن معه من المخلصين والفقراء والضعفاء وبين امحمد وأعوانه.

2-1- المفارقات المكانية

 هناك علاقة توتر ومفارقة على مستوى حضور المكان في الرواية وخصوصا على مستوى ثنائيتين؛ القرية والمدينة كمفارقة كبرى ناظمة لحضور المكان، حاضرة من بداية النص إلى نهايته، حي الحفرة والأحياء الغنية، تظهر أثناء توغلنا في السرد، خصوصا بعد طرد صالح من العمل، وانتقاله إلى حي هامشي على أطراف المدينة.

2-1-1- القرية /المدينة: المفارقة بين عالم القرية ببراءته ونقائه وبساطته، وبين عالم المدينة الملوث بالغدر والخيانة الذي كان فضاء لاتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء. وتحضر هذه المفارقة عبر شخصية صالح الذي فشل في الاندماج داخل المدينة، بعد أن دخلها تحت إلحاح أصدقائه ولم يرتح إلا بالخروج منها وبالعودة إلى القرية. وتتمظهر في النص من بدايته إلى نهايته، وذلك في صورة جعل فيها المدينة، سالبة للقيم النبيلة التي كانت بالقرية، فإذا كانت القرية مكانا للصفاء والنقاء والأمن والحياة. يقول:"هنا في القرية لا يخشى أحدنا إلا ربه."(ص.204.) فإن المدينة مكان للخوف وللتلوث والفساد. يقول صالح متوجسا:" أنا خوَّاف.. أخاف المدينة.. المدينة عاهرة فاجرة ستفسدني.. تبدلني.. تغيرني.. تبلعني.. المدينة ياناس قذرة وسخة ستوسخني.."(ص.23.) فأطلق عليها العديد من الأوصاف السلبية التي ليست محايدة والتي تعبر عن موقف الشخصية من المكان. ويحضر التقابل بشكل ضمني بينها وبين القرية. يقول:

-"المدينة كابوس..."(ص.51.)

-"هذه المدينة عاهرة شمطاء." (ص.67.)

-"رهيبة بها كل شيء مفزع." (ص.173.)

-" الأزقة ضيقة.. الجدران سوداء.. الأرض مفعمة بالجرب.. كلاب راقدة قريب منها قطط.. لحظات شاهدت سكران يبول في الطريق.. لحقه آخران معربدين.. رائحة الخمر تملأ الهواء.. كل شيء متعفن.. سجن في سجن.." (ص.39.)

وأحيانا يحضر التقابل في جملة واحدة، عبر استخدام التقاطبات المكانية التي تعمق المفارقات. يقول:" أنا هنا سعيد وآمن... لم أعد أثق بالمدينة." (ص.204.) ويقول كذلك:" هابيل هنا(بالقرية) يزرع الحياة.. قابيل هناك(بالمدينة) يزرع الموت."(ص.203.)

2-1-2- حي الحفرة /الأحياء الفقيرة: لا يحضر هذين المكانين معا إلا وهما في حالة توتر وصراع وتصادم، يفسر المفارقات بينهما. فنلحظ المفارقة انطلاقا من تسمية حي الحفرة يقول: " لماذا هي حفرة وليست ربوة؟ وما الذي يمنعنا من أن نجعلها ربوة."( ص. 185.) الحي الذي تزداد مشاكله يوما عن يوم التي:" صارت لا تعد وليس من السهل التصدي لها مطلقا.. اختفاء الحلوة.. اغتيال عبد الرحيم.. انطواء إبراهيم.. فرار أبي صالح.. انقطاع أخبار ذياب.. وسفر الجازيه.. قتل السيد المفتش وعمي السعيد.. قتل عمي الهاشمي وابنه بعد صعود ابنه صلاح الدين إلى الجبل وانضمامه إلى الجماعة الإسلامية المسلحة.. ومن أين يبدأ حل كل هذه الهموم؟"(ص.187-188.) ويقول كذلك:" ولعلك تلاحظ معي كيف أن كل الأحياء تزداد رقيا وتحضرا وتزداد حارتنا تعفنا وتخلفا.. "(ص.189.) كما يحضر التوتر عبر التصادم بين شخصيات منتمية إلى المكانين:"أبناء حارة الحفرة ليس لهم ما يخسرونه...لقد استأثرت أحياء الأغنياء بكل شيء."(ص.157.) ويقول:" هل تعرف أن هذا الغبار الذي يلتصق بنا يأتينا من أحيائكم الفقيرة؟ يجب أن نطالب الدولة بنصب سور بيننا وبينكم.. "(ص.77.) ويقول كذلك:" الحلوة بالنسبة لسكان حارة الحفرة الشمس التي يتباهون بها أمام أبناء الأحياء الراقية.. حتى إذا افتخروا عليهم بما عندهم من مرافق قالوا بتعال: وهل عندكم مثل الحلوة؟ "(ص.100.)

2-2- المفارقات الزمنية

وتحضر على مستويين:

2-2-1- الخاصة( زمن الثورة وراهن الجزائر) وتحضر هذه المفارقة انطلاقا من شخصية صالح الذي عاش الفترتين معا، بين قيم أصبحت في عداد الماضي وقيم تتجذر يوما عن آخر، المفارقة ما بين زمن الثورة وزمن الاستقلال. يجد صالح، الشخصية الرئيسية في الرواية، أن زمنه قد ولى، ولا جدوى من بقائه. يقول:" كان علي أن أموت حين مات رفاقي في الثورة.. حين مات الرجال الكبار.."(ص.73.) فيغدو زمن الثورة رمزا للنقاء والصفاء والمحبة، في مقابل الحاضر زمن الغدر والخيانة ونكران الجميل. يقول صالح:" توجهت إلى السماء.. يا رب لم تركتني لهذا الزمان الحقير؟ يا رب لم خلفتني لهذا الجيل المنحوس..؟ " (ص.42.)

كما تسائل الرواية الراهن بكشف خدع الاستقلال. يقول:" رجعت إلى البيت ليلا يفترس القلق قلبي.. وفي نفسي كنت أردد.. هل خدعونا حين أوهمونا أننا انتصرنا على الاستعمار؟.. "(ص. 38.) وذلك من خلال القلب الدلالي الذي يشمل اسم البطل صالح الذي كان يلقب في زمن الثورة بصالح الرصاصة، وفي زمن ما بعد الاستقلال بصالح المغبون، وهو بالفعل وجد نفسه مغبونا فكل أحلام الثورة تبخرت، وكلما كان يحلم به انكسر على أرض الواقع. فيعيش الوعي الشقي، بين الإخلاص لزمن الثورة ومسايرة تشوهات ومسوخات الراهن. وأمام تعفن الراهن، يجد نفسه مرغما على الارتماء في أحضان الماضي والاحتماء بها، وإن كان في ذلك قفز على الواقع، وفي ذلك تجسيد ظاهر للمفارقة التي تقود إلى السخرية.

ويحضر كذلك التقابل من خلال شخصية منير بين حاضره الآني المأزوم وبين طفولته فيستنجد بالماضي الطفولي ويحتمي به من حاضره الملوث. يقول:" وبت أحلم بنانَّا وأيام الطفولة والبراءة والنقاء.. "(ص.177.)

المفارقة بين جيلين بين جيل الثورة الذي استطاع أن يخرج المستعمر ويحرر البلاد وبين جيل الراهن الذي تغلبت عليه المشاكل وتقزم أمامها، وعجز عن تغيير واقعه. يقول صالح "جيلنا أدى واجبه.. جيلكم جيل منهزمين لم يواصل المسيرة.."(ص.121.) يقول عبد الرحيم مشخصا هذه المفارقة:" دائما ينظر والدي إلى جيلنا نظرة سوداوية.. دائما يتهمنا بخراب الداخل مقابل تعمير الخارج.. نحن في رأيه جيل أخذ كل زمام المعرفة وحصل على كل ملذات الحياة المدنية لكنه في المقابل فقد كل شيء جميل."(ص.205.)

2-2-2- العامة(التاريخ العربي والراهن العربي): المفارقة ما بين الماضي والحاضر. وتحضر هذه المفارقة عبر شخصية منير الذي يرمز للمثقف العربي، يستحضر منير الماضي المضيء في مقابل الحاضر العربي المأزوم:" وتذكرت البذرة الأولى في الحكم العربي التي بدأت تنبت في الصحراء العربية منذ قرون حين أعلن أبو بكر الصديق الخليفة الأول في رعيته جميعا "إذا رأيتموني على باطل فقوموني.. فيقول له عمر: والله لو رأينا فيك باطلا لقومناك بحد سيوفنا فيفرح الخليفة أن وجد في شعبه من يجرؤ على ذلك.."

وتذكرت هذه البذرة حينما قال عمر لأمير جنده في مصر وهو يأمر المصري الفلاح الفقير بضرب ابنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" ما أجملها نظرية في علاقة الحاكم بشعبه لو استمرت! أما الآن فقد خان الجميع.. "(ص.108.)

2-3- المفارقة بين الشخصيات

المفارقة بين امحمد املمد الذي يزداد نفوذا وتسلطا، نظرا لماله، والمتعاونين معه، وبين شخصيات حي الحفرة المغلوبة على أمرها، وعلى رأسها صالح، ذلك التباين الذي يعمق يوما عن آخر. يقول:" ظلم طبقة تغتني بطرق ملتوية وتكنز الذهب والفضة لطبقة أخرى خانتها ظروفها أو سارت على الطريق السوي فبقيت أقل من الأولى.. "(ص.186.) فيضعنا عزالدين جلاوجي أمام صراع طبقتين اجتماعيتين، صراع مشحون بالتوتر، طبقة مسندة إلى ثروتها ومالها ونفوذها ووساطتها على الرغم من قلة من يمثلونها داخل الرواية. تحاول إخضاع فئة لا تملك سوى حب وطنها والإخلاص له وللمبادئ السامية. يقول:" ماذا بقي لحارة الحفرة وناسها البسطاء غير أن تنتهك حرماتهم؟ في المجتمعات الفقيرة يتآزر أولو الأمر والنهي مع الأغنياء على ابتزاز الفقراء."(ص.42.) . يقول امحمد املمد مستفزا عبد الرحيم:" هذا أنت عبد الرحيم..؟ أدلكني جيدا لا تترك ذرة غبار واحدة.. هل تعرف أن هذا الغبار الذي يلتصق بنا يأتينا من أحيائكم الفقيرة؟ يجب أن نطالب الدولة بنصب سور بيننا وبينكم.. " (ص.77.)

إنه تقابل وتصادم بين شخصيات مخلصة لمبادئها وأخرى تفعل كل ما يمكنها من أهدافها الدنيئة، وذلك في إطار إشكالية مؤطرة يعيشها المجتمع الجزائري هي عدم التمييز بين المجاهدين الحقيقيين والمزيفين الذين استفادوا من امتيازات ما بعد الاستقلال، وهي الإشكالية التي هيمنت على أغلب النصوص الروائية الجزائرية.

 استمرار الصراع حتى ما بعد الاستقلال ما بين فئة المخلصين للوطن والخونة وأعداء الوطن. فبعد أن تمكن الأوائل من الانتصار للوطن، تم تهميشهم في زمن الاستقلال. وفي الوقت الذي يتنعم فيه الخونة بخيرات ما بعد الاستقلال، صانعو الاستقلال يعيشون مذلة ومهانة وتهميشا وإقصاء.

3- السخرية وبناء الشخصية

تطلب تشخيص الراهن من الرواية حضورا مكثفا للشخصيات من أزمنة مختلفة ومن فئات عمرية مختلفة، ومن طبقات اجتماعية مختلفة، وكذلك من فئات اجتماعية متباينة، مما أفرز تنوعا في الشخصيات الروائية أساسه التقابل ؛ فعلى مستوى الأجيال(جيل الاستقلال، جيل ما بعد الاستقلال.) وكذلك على مستوى الوضع الاجتماعي، (فقراء، أغنياء)، والوضع الاعتباري، (مقاومين، خونة). لكننا سنركز على ما تحمله الشخصية من مفارقة وسخرية بمفهوم لوكاش. إذ تساهم السخرية في بناء الشخصية، إذ تصبح الشخصيات موضوعا للسخرية، وذلك برصد المفارقات الوجودية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها داخليا.

 أ- صالح: الشخصية الأساسية في الرواية يسخر منه الراهن بشخصياته وحياته الجديدة، ويتحول من صالح الرصاصة إلى صالح المغبون. فيبدو شخصية مفارقة(صالح الرصاصة/ صالح المغبون) فهناك مفارقة بين اللقبين، التي تقود بالضرورة إلى مفارقة بين وضعين، وبين زمنين، وبين منظورين؛ فصالح الرصاصة مرتبط بسياق وزمن ومخاطبين من نمط معين(زمن الثورة)، وصالح المغبون كذلك مرتبط بسياق ومخاطبين من نوع خاص(زمن الاستقلال). يقول:"كنت صالح الرصاصة يوم كان الرجال رجالا.. فلما تحررت البلاد أسموني صالح المغبون.. وفي آخر عمري صرت صالح المجنون." (ص.47.) مما يجعل شخصيته مفارقة تعيش الوضعين معا، على الرغم من كون الشخص لم يتغير. مما يجعل القارئ يتلمس التعارض بين الشخصية الأولى بسياقها، مع الشخصية الثانية بسياقها، مع هيمنة الشخصية الثانية، ومحاولة الشخصية الأولى استعادة ذاتها والاستمرار في الزمن الثاني، مما يجعل الرواية ذات طابع إشكالي مفارق. يعيش صالح مفارقة ما بين ذكريات الثورة وحاضره المأزوم الذي وجد فيه نفسه على الهامش. يقول: "كنا نقتسم التمرة الثلاثة والأربعة.. ونقتسم الرصاصة والدمعة.. ونقتسم الابتسامة.." (ص.19.) تغير الناس وبقائه على حاله. يخاف على نفسه أن تلوثه المدينة. فبمجرد دخوله المدينة تبدأ مشاكله وصدماته:" وصدمت.. بعد ما كنت أنتظر الشكر والاعتراف واحترام الجميع تلقيت عكس ذلك تماما.. "(ص.30.) فتتعمق لديه المفارقة بين ماضيه الجميل وحاضره المخيب للآمال. فبمجرد دخوله المدينة سيبدأ الوعي بالتناقض:" دخولي المدينة كشف لي زيف الواقع.. "(ص.33.) فوجد نفسه في مواجهة مدير المستشفى، أحد الوجوه الجديدة للاستعمار، عبر اكتشافه للمفارقات داخل المستشفى، محاولته مواجهة الوضع لكن مدير المستشفى نعته بالجنون وطرده من العمل. يقول:" وفصلوني عن العمل.. طرقت كل الأبواب.. اشتكيت للمسؤولين.. كتبت للجهات الرسمية وغير الرسمية.. كلهم اتفقوا على أنني مجنون ولا أصلح للخدمة.. حز ذلك في نفسي.. كنت صالح الرصاصة يوم كان الرجال رجالا.. فلما تحررت البلاد أسموني صالح المغبون.. وفي آخر عمري صرت صالح المجنون."(ص.47.) ثم بعد ذلك ترحيله إلى حي الحفرة (حي هامشي)، فتطرده المدينة فلم يعد صالحا:" مع إشراقة شمس الغد انتقل عمي صالح مع أسرته إلى حارة  الحفرة بعد أن لفظته المدينة على أطرافها الفقيرة.."(ص.60.) فيزداد لديه الوعي بالمفارقة، فرجال الثورة يعيشون في الهامش وأبناء الخونة يتنعمون بالخيرات. يقول:" لم نرثها نحن.. بل ورثتها طبقة لسنا ندري علاقتها بالثورة.. "(ص.62.) يقول مستفهما ومستنكرا:" رجعت إلى البيت ليلا يفترس القلق قلبي.. وفي نفسي كنت أردد.. هل خدعونا حين أوهمونا أننا انتصرنا على الاستعمار؟.. "(ص.38.) فيهرب إلى الماضي ويحتمي به." اسمحوا لي.. اسمحوا لي.. لم تركتموني وراءكم وحدي.. حرام عليكم.. لم هربتم علي؟ ألم نكن جسدا واحدا.. روحا واحدة؟ لقد بقيت وحدي.. من يقف معي في هذا المدينة المتوحشة؟ عجزت.. ما قدرت أن أواصل المسيرة.. الطريق صعبة.. ملآنة بالأشواك والمطبات.."(ص.40.) فيعيش المفارقة بين زمنين زمن النقاء والصفاء والإخلاص للمبادئ والوطن، وزمن الخيانة وعدم الاعتراف بالجميل:" كنتم تسمونني صالح الرصاصة.. هم الآن أسموني صالح المغبون.. صالح المجنون.. صالح.. صالح الغبي ما رأيكم؟ أنا الذي كان الجن يخاف مني.. العفريت ترتعد فرائصه لما أطل.. أنا الآن يا إخوان صالح المغبون.. صدقوا أو لا تصدقوا أنا صالح المغبون.. صالح المغبون.. "(ص.40.) فيتساءل ويستنكر:" يا رب لم تركتني لهذا الزمان الحقير؟ يارب لم خلفتني لهذا الجيل المنحوس..؟"(ص.42.)

وتوالت انكساراته بعد مقتل ابنه عبد الرحيم على يد الإرهاب الأعمى، ومرض زوجته، وإهانته المتكررة من قبل امحمد املمد ابن أحد الخونة إبان الاستعمار، الذي طمع في الزواج من ابنته الجازية رغبة في الانتقام لوالده.

 فيعي أن زمنه قد ولى:" كان علي أن أموت حين مات رفاقي في الثورة.. حين مات الرجال الكبار.."(ص.73.) ويجد نفسه مضطرا للعودة إلى القرية، متأكدا أنه غير قادر على الاستمرار في هذا المكان الملوث(المدينة.)

ب- صلاح الدين: شخصية تحمل مفارقة فالاسم يحيل القارئ على شخصية صلاح الدين الأيوبي الشخصية البطولية التي حاربت الأعداء، بينما الشخصية الروائية هي شخصية تقدم صورة معاكسة، فهي شخصية جبانة قاطعة طريق تقتل الأبرياء وتنخرط في الإرهاب الأعمى، وتنتهي بالموت على يديه. إذ كان مجرد لعبة في يد الإرهاب فيقتله "أصحابه". يقول مجسدا هذه المفارقة:" وتحول ابنه صلاح الدين السلفي أو أبو مصعب كما كان يلقبه أتباعه من خضار.. إلى داعية.. إلى إرهابي.. إلى مقتول."(ص.95.)

ج- امحمد املمد ابن خائن(حركي): لكنه اغتنى بعد الثورة، يحاول الانتقام لمقتل أبيه الخائن إبان الثورة، يتظاهر بفعل الخير، الذهاب إلى الحج، ويغتصب فتاة قاصر، يبتز الناس له علاقات مشبوهة مع الأعمال الإرهابية. من دوافع السخرية الميل إلى تصوير الإنسان في تعقد دوافعه وبواعثه السيكولوجية التي لا قيمة لها وذلك بتحولها إلى ملهاة18 شخصية امحمد املمد التي تتظاهر بفعل الخير والصلاح وهي في الواقع تقوم بتخريب المجتمع ولها يد في الإرهاب. يقول:" منافق يمارس الإرهاب ويتهم الناس به.."(ص.175.) التعارض بين الظاهر والطوية. يقول منير مستنكرا:" الحاج؟ متى حج هذا نجس؟"(ص. 162.) ويقول امحمد املمد عن نفسه:" أعظم حاج في الدنيا أيها المنافق وأنا لم أحج بعد؟ وأنا أسكر معكم حتى أرى الديك حمارا؟"(ص.170.)

د- منير: يمثل صورة ساخرة عن وضع المثقف المتمسك بالماضي العاجز عن التفاعل مع الحاضر. شخصية كثيرة الاستفهام والتساؤلات، تحتمي بالماضي أمام فراغ الحاضر. ظل متمسكا بمجموعة من القيم لكنه لم يستطع ترجمتها على أرض الواقع، ليعكس أزمة المثقف وتراجعه أمام قوة الواقع وخيباته. يقول عبد الرحيم مخاطبا منير:" يا منير متى تفطن لحالك؟ الناس يعيشون الواقع وأنت تحلم بحياة وسط الأوراق.. حدثني عن الواقع."(ص.69.) حاصل على شهادة جامعية ويبيع الكتب. يقول عبد الرحيم مخاطبا والده صالح:" هاهو منير متخرج من الجامعة ماذا فعل بالشهادة التي يحملها؟ لا يكاد يكسب قوت يومه.."(ص.90.)

هكذا يدعو عزالدين جلاوجي القارئ إلى السخرية من شخصياته، عبر التركيز على المفارقات التي يلتقطها، وتعيشها الشخصية داخليا، وتتعمق هذه السخرية أثناء عملية  الوصف، بالأخص عندما تتبادل الشخصيات وصف بعضها البعض.

4- السخرية والوصف

تتأسس السخرية الوصفية على الأسلوب الاستعاري المستند على الرسم الكاريكاتوري للشخصيات.

  إذا كانت السخرية في رواية رأس المحنة تقوم على رصد المفارقة بين زمنين زمن الثورة وزمن ما بعدها، ذلك التوتر الذي يقود إلى صراع بين طبقتين اجتماعيتين، فقد انعكس ذلك على الوصف، فغاب الوصف المحايد وحضر الوصف الموشوم بالإيديولوجيا، وكما يقول محمد نجيب العمامي:"فالوصف يرتب ويصنف ولا يكون أبدا محايدا، وهو يشف دوما عن وجهة نظر ما ويدرج قيما."19 ويحضر الوصف في الرواية ملتبسا بالإيديولوجيا خصوصا الوصف الساخر (أسلوب السخرية الوصفية)، فيطلع الوصف بوظيفة تقويمية، وذلك بإصدار الواصف موقفه من الموصوف. سمح بذلك جو التوتر الذي ساد بين الشخصيات، خصوصا بين صالح ومن يأتي في صفه(منير، الجازية، عبد الرحيم،) وبين امحمد املمد ومن على شاكلته (مدير المستشفى). كما أن الوصف الساخر اطلع بوظيفة المقاومة، إذ اعتمدته الشخصيات كآلية دفاعية أمام الخصم، خوصوصا وأن الوصف يحضر في هذه الرواية أثناء لحظة التوتر بين الشخصيات.

 يتعلق الأمر بصور الشخصيات في نظر بعضها البعض، وذلك من خلال بعض الأوصاف التي تلصقها الشخصيات ببعضها البعض. يقول صالح عن امحمد املمد:" ونزل خلفي يتبعني كالكلب."( ص.83.) ويقول أيضا:" رأيته أشبه بخنزير أليف.. "(ص.83.) ويقول امحمد املمد عن صالح:" خرج صالح من مغارته كالشبح وقد اشتد سواده وتلألأت عيناه كأن إسهالا داهمه عاما كاملا.."(ص.82.) وصف محكوم بطابع ساخر مفعم بالتوتر والعنف اللغوي الذي يركن إلى السخرية.

     تم اعتماد السخرية أداة لوصف الشخصيات بطريقة هزلية انتقادية كاركاتورية. وخاصة"في بعض الصور اللغوية المستمدة من المجال الحيواني ترقى الكوميديا إلى الكاريكاتور لتطور نحو المفارقة المضحكة."20 فيشتغل الوصف عبر استعارة أسماء الحيوانات، المفعم بالعنف والذي يضطلع بوظيفة وهي المقاومة النفسية." وقام المدير كالديك "(ص.37.) ويقول كذلك:" كان الزبون طويلا عريضا متشحما كجثة فيل ينبطح على بطنه.."(ص.75.) وأحيانا يصل الوصف الساخر ليتداخل مع الكاريكاتور. " تبين لي من ملامحه أنه شيطان.. لحية مبعثرة كلحية التيس.. وعينان تزيغان يمينا وشمالا كعيني إبليس. "(ص.141.)

    الوصف الذي يبرز المفارقة بين الماضي والحاضر:" ومديرنا هذا وطني حقا لما عينوه كان كسلك الحديد.. كأنه مستورد من أثيوبيا.. البذلة الرمادية وحدها تمشي.. اليوم صار بضخامة ثور يكاد يسقط للخلف.. سرواله القديم لا يسع إصبعه.. "(ص.32.) فالوصف ليس محايدا وإنما يحمل داخله التوتر والمفارقة تقول الجازية عن امحمد املمد:" عند الباب وجدت رجلا في انتظاري.. لبست مئزري وعدت إليه.. كان في العقد الرابع من العمر أو أكثر بقليل.. ممتلئ الجسم أشقر اللون أخضر العينين يميل إلى الطول.. عليه ثياب أنيقة لكن كلامه ينم عن أميته."(ص.35.)

هكذا يغدو الوصف خادما للسخرية مسهما في بنائها. فلا يضطلع بوظيفة تزيينية، وإنما بوظيفة تقويمية تجسد التوتر الذي يعرفه عالم الرواية، فحضر الوصف مرتبطا بحالة الشخصيات المتوترة، وموسوما بانفعالاتها وتفاعلها مع بعضها البعض.

5- السرد الساخر

تقدم رواية رأس المحنة قراءة جريئة للوضع الجزائري، من منظور روائي يكشف عن المسكوت عنه، ويجعله يظهر في السطح. بتشخيص الراهن، البطالة، الفوارق الطبقية، الإرهاب، الفقر، الرشوة، المحسوبية الوصولية وغيرها من المفارقات التي يحبل بها الراهن الجزائري.

هناك سمة لافتة يتميز بها السرد وهي تعدد الأصوات السردية، إذ جعل الشخصيات الروائية تتولى السرد بنفسها، تقدم شهادتها، لا تتولى الشخصيات السرد إلا من داخل ورطة معينة، لذلك غالبا ما يأتي سردها على الرغم من مونولجيته مفعما بالحوارية والتوتر، يعكس ذلك توتر وعي الشخصية، وتداخله مع أوعاء الآخرين، انسجاما مع الطابع السجالي الذي يحكم بنية الرواية، وكذلك يسجل السخرية الداخلية لكل شخصية. فتطال السخرية كذلك السرد، فيغدو بدوره ساخرا. وذلك من أجل إعطاء صور قريبة لمواقف الشخصيات، وإبراز كيف تتفاعل الشخصيات مع الوقائع والمواقف. وفي بعض الأحيان نجد داخل فصل واحد تناوبا بين ساردين أو ثلاثة وذلك من أجل إبراز درجة تفاعل كل شخصية مع الحدث أو الموقف.

يقدم لنا الكاتب، من خلال حكايات مفارقة ملتقطة من الواقع، عالما تراجيديا عبر مرآة تحول الدرامي إلى كوميدي، وذلك بكشف مفارقات الواقع.

هناك حضور لعدة أشكال سردية داخل الرواية التذكر(الماضي)، محكي الإرهاب، مفارقات اليومي(ما تصادفه الشخصيات من مواقف مفعمة بالتوتر وباعثة على السخرية).

أ- السرد التذكري: المرتبط بالثورة بالنسبة لصالح، والمرتبط بالطفولة بالنسبة لمنير، ناتج عن مفارقة تجدها الشخصية داخلها راهنها فتحتمي بالماضي، عبر تقنية التذكر. يقول صالح:" وتذكرت في هذه اللحظة أبي ووصيته الغالية.. وتذكرت الرفاق الذين كنا نقتسم معهم التمرة والرصاصة والدمعة والفرحة.. ما كنا نعرف هذه الشكليات وهذه المظاهر الخداعة والزائفة.. شيء واحد كنا نعرفه.. الحب.."(ص.31.) ويقول منير متذكرا لحظات من طفولته الجميلة:" تتدافع أجسامنا الصغيرة عند البوابة كخراف تهرع من زريبتها تثغو جميعا في حبور الشوق[...] تتعالى ضحكاتنا لبكاء حسناء ساخطة على المعلمة التي فرضت عليها أداء دور الزوجة في المسرحية.. هل سأخبر نانَّا أن معلمتنا قد زوجتني حسناء وأننا أنجبنا طفلة سميناها أمل؟

تثيرني حسناء ببكائها وقد تناثر شعرها الأسود كأنما يعبر عن تضامنه معها فأحس بعاطفة ما تجاهها.. أقترب منها.. أنهر الصغار فيسكتون.. أتراجل عليهم."(ص.177.)

يعمق أسلوب التذكر من مفارقات الراهن وخيباته وانكسارات أحلام الماضي على أرضه.

ب- محكي الإرهاب: تتوجه السخرية متوسلة بالسرد إلى رصد مفارقات الإرهاب الأعمى، وذلك بتقديم بعض الحكايات الساخرة التي تهدف إلى إدانة الخطاب الإرهابي. ويحضر بطريقتين:

بشكل مباشر من خلال أحداث تعيشها بعض الشخصيات(صالح، منير، عبد الرحيم، الجازية.) أو تسمع بها فترد على شكل خبر ومن ذلك:

- حكاية المسجد التي عاشها صالح. يقول:" أسرعت مبتعدا وأنا أذكر تلك الجمعة المشؤومة حين قام صلاح الدين تدعمه مجموعة من الأتباع يطلقون على أنفسهم جماعة أنصار السنة بتهديم المحراب وإتلاف كل زخارفه وأقاموا مكانه بابا وكسروا المنبر ذا الخشب الأحمر المنقوش ووضعوا مكانه مصطبة مرتفعة قليلا.. وحين حانت صلاة الجمعة منعوا الإمام الشيخ من إمامة الناس.. وتقدم مكانه صلاح الدين الذي امتنع عن تقديم الدرس وتحدث في الخطبة عن بدع المسجد والجمعة مركزا على البدع في المحراب والمنبر والدرس.."(ص.139-140.) ". وهنا تحضر السخرية عبر الاستفهام عبر تعليقات السارد. يقول مثلا: "هل هم الذين نفذوا تلك الجرائم؟ هل يمكن لشخص يؤمن بالإسلام ويدعي التمسك به أن يقتل الأبرياء؟"(ص.140.)

- خبر مقتل مفتش التربية والشيخ سعيد:" تلك الليلة أخبرني أحد الجيران أن السيد معرفة مفتش التربية والتعليم قد اغتيل وهو خارج من إحدى الثانويات.. وأن الشيخ السعيد قد قتل دفاعا عن نفسه في اشتباك مسلح وقع قريبا من بيته.. " (ص.176.)

- بشكل غير مباشر من خلال عناوين الصحف التي تقدم حكايات موجزة. ومن ذلك تقول الجازية:" أول عنوان صادفني هو مجزرة في المديَّه.. اختطاف سيناتور في تبسه.. اغتيال رئيس محكمة بباتنة ودركيين ببلعباس.. قوات الأمن تقضي على عشرين إرهابيا في جبال بابور وبوطالب وحربيل .."(ص.179.)

تبين هذه المحكيات اختلاط الحابل بالنابل في الإرهاب، بين قطاع الطرق والخونة ومموليهم من كبار الأغنياء. كما سلطت الضوء على كيفية يتم تمويل الإرهاب وإنتاجه. كما كان هذا النوع من السرد فرصة للسخرية من الخطاب الإسلاموي، وإظهار مفارقاته.

ج- السرد اليومي المفارق، ونقصد به تلك المفارقات التي تعترض الساردين، فيعملون على التقاطها نظرا لمفارقتها من ذلك:

- حكاية مدير المستشفى" ومديرنا هذا وطني حقا لما عينوه كان كسلك الحديد.. كأنه مستورد من أثيوبيا.. البذلة الرمادية وحدها تمشي.. اليوم صار بضخامة ثور يكاد يسقط للخلف.. سرواله القديم لا يسع إصبعه..

مديرنا إنسان وطني ضرب الرقم القياسي في احترام وقت عمله.. يدخل لمكتبه بعد العاشرة يتصفح الجرائد التي تشترى على حساب المشفى.. يوقع الوثائق.. يطلع على المراسلات.. يرشف قهوة.. يحتضن السكرتيرة القنبلة التي اختارها بنفسه بعدما طرد السكرتيرة التي كانت قبلها.. يتفق معها على موعد السهرة ويخرج.

في الباب يلتف حوله العمال المخلصون كالكلاب المدربة.. يرقصون بلا إيقاع.. يملأون له السيارة بخيرات المشفى.. لحوم.. حبوب.. خضر.. مشروبات.. عند الحادية عشرة يخرج ولا يعود حتى الغد.. أما المرضى المساكين فلا يعطى لهم إلا العدس بالماء.."(ص.32.)

فالسارد ليس محايدا وإنما يبدي موقفه من محكيه وخصوصا من الشخصية موضوع السرد. من ذلك مثلا:" سحب أحد الخدم الكرسي ليجلس سيده ووقف عند رأسه فاغرا فاها ككلب يلهث بالفرح.. "(ص.36.)

- حكاية قدوم الوزير:" اقتربت من المشفى.. توقفت فجأة وقد هزتني الحيرة.. هذا ليس مشفانا على الإطلاق.. تراجعت إلى الخلف.. عدت أتأمل ما الذي جرى؟ لست مجنونا بالتأكيد لقد تغير المدخل كلية.. لافتات.. أعلام.. ألوان.. طلاء.. كل شيء مزين.. الأشجار.. الأرصفة.. الطرقات.. أشجار صغيرة خضراء.. ورد أحمر متفتح..

فركت عيني.. أنا في حلم.. أو جننت.. ما الذي وقع؟ تركت المكان صحراء قاحلة.. في يومين أصبح جنة.. الطريق معبد.. الشجر أخضر.. الورد متفتح.. الأعلام.. المصابيح الملونة.. مشيت بسرعة إلى البوابة يا للدهشة! حتى هي مطلية مزينة.. الأضواء من كل لون سبحان الله! لعلني في حلم دون أن أدري.. رفعت رأسي للسماء وجدت لافتة كبيرة مكتوب عليها: أهلا وسهلا بالسيد وزير الصحة..

بالقرب منها أخرى مكتوب عليها: الصحة في خدمة الشعب.

واختلط في ذهني الضحك والنواح.. رغبت في الضحك.. أضحك حتى الجنون.. حتى الموت.. وأردت أن أبكي.. أبكي حتى الجنون.. حتى الموت.. "(ص.44-45.)

فالسرد متوتر مفعم بالمفارقات.

6- توتر اللغة

تتميز لغة رواية رأس المحنة بالتعدد إذ سمحت بتجاور عدة لغات وعدة خطابات: لغة المثقف، اللغة العامية، اللغة المبتذلة، اللغة العنيفة، لغة الحب، لغة التحليل السياسي، اللغة الشعرية، بحسب مقتضى المقام التداولي... ومن ذلك يمكن أن نقف عند:

- الأمثال الشعبية المفعمة بالتوتر الذي يفرز السخرية والمفارقة، ومنها قوله:" جوع كلبك يتبعك.. "(ص.80.)" لو نظر البعير لحدبته لانقطعت رقبته "(ص.87.)، وقوله:" وما عسى الميت يفعل في يد مُغَسِّله؟"(ص.172.)

- زجل عبد الرحمن المجدوب وما يحمله من سخرية ومفارقات:

لا يعجبك نوار الدفلى في الوادْ دايَرْ ظْلايل

ولا يغرك زِين الطُفلَه حتى اتْشوفْ لَفعايل (ص.95.)

- الشعر الحامل للمفارقات، وخصوصا شعر المتنبي الذي كان له حضور بارز في النص:

يقول:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم    

                                يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟(ص.213.)

وقول ابن رشيق:

ألقاب سلطنة في غير موضعها     

                               كالقط يحكي انتفاخا صولة الأسد(ص.107.)

وقول نزار:

" لبسنا قشور الحضارة والروح جاهليه." (ص.184.)

7- تركيب

كانت السخرية إذن هي سلاح عزالدين جلاوجي لمواجهة كل أشكال التعفن والفساد التي تنخر المجتمع الجزائري. فاتخذها إوالية إنتاجية خضع لها الخطاب السردي برمته، بل العالم الروائي وبنائه من وصف وشخص وسرد ورؤيا ومكان وزمان ولغة. وهذا لا يتأتى إلا لروائي متمكن من صنعته الروائية.

واطلعت السخرية في رواية رأس المحنة بعدة أدوار منها:

- أداة للمقاومة النفسية: أثناء الحوار بين الشخصيات، خصوصا بين امحمد وصالح أو منير أو، بين صالح ومدير المستشفى، عبر الوصف الساخر الذي يلتبس بالكاريكاتور.

- عين للنقد: في النظر إلى الواقع، الوضع الجزائري العام، حي الحفرة، بإبراز سلبياته، ومشاكله، وعيوبه، وإبراز المسكوت عنه وجعله يظهر في السطح ...

- الفضح: تضطلع السخرية بوظيفة أخرى وهي الفضح بما أن الرواية في أساسها رصد للوضع الإشكالي لأبطال دون سند داخل العالم، فهي تتأسس بالضرورة على مفارقة بين طموحات البطل والواقع، ومن ثمة تكون الرواية أرضية خصبة للسخرية، إذ تحاول تغيير العالم وفضحه، والسخرية بدورها رؤيا للعالم لا تقبل الاعوجاج والنقص، بل تعمل على فضحه ويجعله يظهر في السطح.

- رصد المفارقات: المفارقات المكانية والزمانية، والمفارقات التي يحبل بها الراهن الجزائري. عبر مفارقات نصية ولغوية ولدت لنا أثرا ساخرا.

الإحالات:

1- محمد مشبال، أسرار النقد الأدبي، مقالات في النقد والتواصل، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، المغرب، 2002، ص.49.

2- جورج لوكاش، نظرية الرواية، ترجمة الحسين سحبان، منشورات التل، الرباط، 1988، ص.70.

3- نفسه، ص. نفسها.

4- M. Bakhtine, La poétique de Dostoïevski, Ed. Seuil, 1970, p.155.

5- Ibid, pp.155-156.

6- فقد جاء في لسان العرب:سَخِرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومَسْخَراً وسُخْراً بالضم وسُخْرة وسِخْرِيًّا وسُخْرِيًّا وسُخْرِيّةً: هَزِئ به. قال الله تعالى: "لا يسخر قوم من قوم". وسخرت من فلان هي اللغة الفصيحة. وقال تعالى: "فيسخرون منهم سخر الله منهم". وقال: "إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم." وقوله تعالى:"فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري." فهو سُخْرِيًّا وسِخْرِيًّا. قال أبو زيد: سِخْرِيًّا من سَخِر إذا استهزأ، والذي في الزخرف: "ليتخذ بعضكم بعضا سخريا": عبيدا وإماء وأجراء. وقال: خادم سخرة، ورجل سخرة أيضا: يُسْخَرُ منه.

7- M. Le Guern,"Elément pour une histoire de la notion d'ironie" in Linguistique et sémiologie, Ed. PUF, 1976, p.47-59.

8- Marie Ange – Voisin Fougère, L'ironie naturaliste Zola et les paradoxes du sérieux, Ed. Honore CHAMPION, 2001. p.16.

9- V.Jankelevitch, L'ironie, Ed. Flammarion, Coll. Champs, 1991, p.19.

10- C. Kerbat-Orecchioni, "Problèmes de l'ironie", in Linguistique et sémiologie 2, 1976, p.11

11- Christian Vannellerie, "notes sur la figure de l'ironie en marge de La Chute d'Albert Camus", Université d'Ottawa Article publié dans La revue canadienne d'études rhétoriques, vol. 12, sept. 2001, p. 43-62.

12- C. Kerbat-Orecchioni, Op. Cit, p.11.

13- Marie Ange – Voisin Fougère, Op. Cit, p.16.

14- عزالدين جلاوجي، رأس المحنة، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، مطبعة دار هومة، الجزائر، 2003.

15- Christoph Singler, le roman historique contemporain en Amérique Latine, entre mythe et ironie, Ed. L'Harmattan, 1993, p.29.

16- محمد مشبال، م. م، ص.74.

17- محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية : صورة المغرب في الرواية الإسبانية،  تطوان، مكتبة الإدريسي، 1994، ص.24.

18- ياسين أحمد فاعور، السخرية في أدب إميل حبيبي، تقديم فيصل دراج ؛ إشراف توفيق بكار، سوسة، دار المعارف، 1993، ص.67.

19- محمد نجيب العمامي، في الوصف بين النظرية والنص السردي، دار محمد علي للنشر، تونس، 2005،ص.180.

20- أولمان، ستيفن، الصورة في الرواية، ترجمة رضوان العيادي، ومحمد مشبال طنجة، مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، 1995، ص.231.

 

 

 

سيميائية الشخصية النسوية

في روايـة "راس المحنـة" لعزالدين جلاوجي

 

أ.عبد الحميد هيمه (جامعة الإمام الرياض)

 

تمهيد: عرض المدونة:

تعد رواية "راس المحنة" للأديب عزالدين جلاوجي من الأعمال الروائية الرائدة التي استطاعت أن تعالج موضوع المحنة الوطنية بلغة شاعرية وأدوات فنية وجمالية خاصة، مبتعدة عن النقل الفوتغرافي السطحي للأحداث، فالرواية في حقيقتها "تخييل ينطلق من منظور من رؤية، ويحمل منظورًا أو رؤية، فالناس والزمان والمكان في الرواية ليسوا نسخة عما في الواقع الموضوعي، ثمة درجة ما من الانزياح في الرواية بحكم طبيعتها كمتخيل، كفن، كآلية"(1).

وهذا ما نجده في رواية "راس المحنة" التي هزت –بعد صدورها مباشرة- الكثير من القراء هزًا عنيفًا وجعلتهم يكتبون عنها بكثير من الانبهار لأنها أدخلتهم في عالم غريب وغير مألوف، فقد قفزت هذه الرواية عن الكثير من القوانين والضوابط التي كانت متبعة من قبل في كتابة الرواية وأحلت محلها قوانين وضوابط جديدة. يقول الأستاذ حسين فيلالي: "رأس المحنة رؤية ذكية لمحنة الجزائر جيئت بأسلوب فني يمزج بين تكثيف القصة القصيرة، وتحليل الرواية وتصوير وتشخيص المسرح، وبساطة قصة الأطفال، وليس هذا غريبا عند كاتب جرب الأجناس الأدبية الأربعة، رأس المحنة إضافة نوعية إلى الرواية العربية، وتحول جاد لمسار الروائي عزالدين جلاوجي".

ولعل أهم ما تتميز به هذه الرواية هو نزوعها نحو التجريب وتحطيم الشكل التقليدي للرواية ثم تناولها العميق لموضوع المأساة الوطنية.

والحديث عن المأساة الوطنية وتجلياتها في النص الإبداعي الجزائري يعني الحديث عن المشهد الروائي الجزائري في صلته بالراهن، وهنا نطرح سؤالاً مبدئيًا وجوهريًا هو يا ترى كيف صورت الرواية الجزائرية هذا الراهن ممثلاً "بالمحنة الوطنية"، في هذا المجال يمكن أن نميز بين شكلين روائيين فهناك الرواية التأريخية "رواية المتن بلغة توماشيفسكي أو الرواية التأريخية التي يكون نسبها إلى الفن الروائي واهيًا، وتعنى بتسجيل الأحداث والأحوال كما هي"(2)، ثم الرواية التي تعالج الراهن بلغة شاعرية وأدوات فنية وجمالية خاصة وتبتعد عن النقل الفوتغرافي السطحي للأحداث، وهذا لأن الرواية في حقيقتها "تخييل ينطلق من منظور من رؤية، ويحمل منظورًا أو رؤية، فالناس والزمان والعلاقات والمكان في الرواية ليسوا نسخة عما في الواقع الموضوعي، ثمة درجة ما من الانزياح في الرواية بحكم طبيعتها كمتخيل، كفن، كآلية"(3).

ومن هنا يصبح من البديهي القول بأن "ارتباط نص ما بالواقع الاجتماعي الذي نحيا، وبالقضايا المصيرية التي نواجهها لا يرقى به إلى مستوى القيمة الأدبية، ذلك أن الارتباط وحده لا يكفي لخلق الأثر الأدبي الجيد"(4).

وإذا عدنا إلى رواية جلاوجي السالفة الذكر نجدها تكشف لنا عن وعي أدبي وفني عميق يهدف إلى تشخيص معرفة فنية للراهن، إنها بحق نموذج ناضج لأدب المحنة يدهش القارئ باكتمال إبداعه وتماسك وحداته وقدرته على تجديد وعي الإنسان بالواقع بغية الوصول إلى عمق التجربة بطريقة فنية تجمع عناصر الواقع وتكشف عن التناقضات الكامنة فيه. فالأزمة التي عاشتها الجزائر عند جلاوجي متعددة الأبعاد متنوعة الأسباب كذلك والمسؤولية مشتركة تتحملها جميع أطراف المجتمع الجزائري، فهناك الجماعات الإسلامية المسلحة المتطرفة والتي زرعت الرعب والموت بين أبناء الشعب واكتوى بنارها الجميع دون تمييز، ثم هناك الإرهاب الإداري وقد جسده جلاوجي في صورة مدير المستشفى الذي "ضرب الرقم القياسي في احترام وقت عمله .. يدخل لمكتبه بعد العاشرة يتصفح الجرائد التي تشترى على حساب المستشفى ... يوقع الوثائق .. يطلع على المراسلات .. يرتشف قهوة .. يحتضن السكرتيرة القنبلة التي اختارها بنفسه .. يتفق معها على موعد السهرة ويخرج من الباب يلتف حوله العمال المخلصون كالكلاب المدربة.. يرقصون بلا إيقاع .. يملأون له السيارة بخيرات المستشفى .. لحوم ..حبوب.. خضر ..مشروبات. عند الحادية عشرة يخرج ولا يعود حتى الغد .. أما المرضى المساكين فلا يعطى لهم إلا العدس بالماء"(5). ويضاف إلى ذلك بارونات المال التي لا هم لها إلا جمع المال ولو على حساب الفقراء والبؤساء من أبناء الشعب.

ولعل هذا ما يجعلنا نصف عزالدين جلاوجي بصفة التمرد والجرأة في تناوله لهذا الموضوع، وكأن التمرد قانون ثابت في إبداعه الروائي والقصصي، وهذا يتجلى بوضوح في هذه الرواية وفي أعماله السابقة وعلى الخصوص "صهيل الحيرة" و"سرادق الحلم والفجيعة" وغيرها من الأعمال القصصية والدرامية التي يعلن فيها الحرب ضد عناصر الظلم والزيف التي شوهت الحياة، وهي كذلك احتجاج على هذا الواقع المتردي الذي يقتل أخياره ويمعن في إذلالهم رغم ما قدموه من تضحيات في سبيله كما الشأن بالنسبة لصالح الرصاصة بطل الرواية، وهو المجاهد المعروف وابن الشهيد. وقد أطلق عليه المجاهدون لقب صالح الرصاصة لبلائه واستبساله في مقاومة الاحتلال ولكنه بعد الاستقلال يهان ويهمش ويتحول إلى صالح المغبون ثم صالح المجنون ينتهي به الأمر إلى الطرد من بيته وعمله بالمشفى بسبب عدم استسلامه ومواجهته للفساد.

وفي المقابل نجد امحمد لملمد اشكال الدابة ابن الحركي الذي قتلته الثورة، رجلاً واسع النفوذ والثراء يصل إلى منصب رئيس البلدية.

بنية الشخصيات في الرواية:

على صعيد البناء الفني نجد أن الرواية "راس المحنة" قد توفرت على الكثير من السمات المميزة. ولعل من أهمها الابتعاد عن أحادية الصوت حيث يترك المجال لظهور شخصيات متعددة وهو لذلك يمزج الواقع بالخيال محاولاً الإمساك بخيوط كثيرة لشخصيات تراثية منها شخصية ذياب الهلالي والجازية بطلا سيرة بني هلال حيث تتداخل شخصيات الرواية مع شخصيات السيرة الهلالية وتتماهى معها بشكل يصعب معه الفصل والتمييز. وقد يبدو للبعض "أن الكاتب يكرر الماضي بطريقة الاجترار والتكرار، ولكن الحقيقة هي أنه يحمل الماضي دلالات جديدة، إنه يهرب من الحاضر إلى الماضي مستعيرًا منه اللحظة التاريخية السابقة لينتقد بها اللحظة الراهنة"(6). وهذا التركيز على الشخصية التراثية بمحمولاتها الدلالية المعروفة يهدف إلى إبراز عنصر الصراع بين رؤيتين لنوعين من الشخصيات:

*النوع الأول: وهو الشخصيات الوطنية المخلصة التي تنتمي إلى عامة الناس، وهي على الرغم من فقرها الشديد لا تستسلم وتسعى للتغيير والتمرد على الواقع مثل شخصية صالح الرصاصة الذي كان مجاهدا إبان الثورة التحريرية، وهو ابن شهيد، وبعد الاستقلال نجده يعمل حارسًا في إحدى المستشفيات، إلا أنه سرعان ما يطرد من عمله ومسكنه بعد مؤامرة مدبرة من المدير، لأنه لم يسكت عما كان يراه من فساد وتبديد لأموال الشعب من قبل المسؤولين، فسعى لكشف ألاعيبهم فانتهى به المصير إلى حارة الحفرة وخسر كل شيء حتى اسمه. لقد سماه المجاهدون قديما صالح الرصاصة لبطولته وشجعاته، واليوم هو صالح المغبون، صالح المجنون... 

*النوع الثاني: وهي شخصيات تمتلك السلطة والمال ولا تسعى إلا لخدمة مصالحها، ولمزيد من الهيمنة على ما بيد الفقراء والمساكين ممثلين في سكان "حارة الحفرة" التي جعلها جلاوجي رمزًا للمعاناة والبؤس، ومثال ذلك شخصية امحمد املمد وشخصية مدير المشفى، فامحمد املمد في الرواية رمز للتسلط والاستغلال اسمه واضح الدلالة فهو لا يصلح لشيء إلا أنه أصبح يملك كل شيء، وعلى الرغم من ماضيه الأسود حيث أنه ابن (حركي) قتلته الثورة إلا أنه بعد الاستقلال يتحول إلى رجل ثري ويستطيع بألاعيبه أن يصل إلى منصب رئيس بلدية، ونجده يستغل سلطته تلك للسيطرة على الناس وإيذاء أهل حارة الحفرة وربما الانتقام منهم لما حدث لوالده، فيسعى للزواج من الجازية ابنة المجاهد صالح الرصاصة الذي قتل والده سالم العلواني أباه الحركي أثناء الثورة لكي ينتقم منه ويمعن في إذلاله، ثم هو يحتال على (عبلة الحلوة) ابنة حارة الحفرة ويغتصبها، ثم هو يسعى في الأخير إلى طرد سكان حارة الحفرة لهدمها والاستيلاء على أرضها .... أما مدير المشفى فهو رمز للإدارة المتعفنة، لا يصرح الكاتب باسمه لأنه نموذج لبعض المسؤولين الفاسدين الذين لا هم لهم إلا خدمة مصالحهم ولو على حساب المرضى الذين لا حول لهم ولا قوة.

وبالنظر إلى تطلعات هذين النوعين من الشخصيات تتشكل داخل النص ملامح لكل شخصية، وتتحول عناصر فاعلة انطلاقًا من ارتباطها بإحدى هاتين الرؤيتين، ونظرًا لصعوبة الإحاطة بكل الشخصيات والحديث عن إسهامها في صنع الدلالة سنقتصر على الشخصيات النسوية لنتبين سيميائية الشخصية النسوية في هذه الرواية ، وقد يتساءل البعض عن سبب اختياري للشخصية النسوية، فأجيبهم وهل يحتاج ظهور المرأة في القص إلى تبرير أو شرح؟ لقد قال القدماء: الأرض مؤنثة، والشمس مؤنثة، والسماء مؤنثة .. باختصار الحياة مؤنثة .. فهل نستغرب أن يكون العنصر النسائي في القص مهمًا وواضحًا.

الشخصية من وجهة نظر سيميائية:

قبل التطرق لمفهوم الشخصية السيميائية نتعرض لمفهومها التقليدي والذي يرتبط من الناحية التاريخية بنظرية المحاكاة الآرسطية التي تجعل النص الأدبي عملية محاكاة للواقع الانساني، ومن ثم فإن الشخصيات الروائية امتداد للشخصيات الواقعية، وهذا ما يمكن تسميته بـ: "مبدأ التكافؤ الدلالي المطلق بين العالم النصي والواقع الخارجي"(7) وهذا ما ترفضه الدراسات السيميائية الحديثة التي تطرح عدة تصورات جديدة: منها:

-تصور (فلاديمير بروب) من خلال كتابه مورفولوجية الحكاية الشعبية.

-تصور (غريماس) من خلال السيميائيات السردية.

-آراء (فيليب هامون)، وتعد آراؤه من أهم الآراء التنظيرية الحديثة، وقد عرضها في كتابه "من أجل قانون سيميولوجي للشخصية"، وهي عنده بياض دلالي تسهم في بنائه الذات المستقبلة للنص(8)، هذا النص الذي لا ينحصر وجوده في معناه أو دلالته السطحية، وإنما هو يحيا ويتجدد، ومع كل قارئ يتشكل النص خلقا جديدا متميزا بدلالات جديدة، وهذا ما يجعل من الشخصية علامة دالة قابلة للتحليل، وقد ميز (فيليب هامون) بين ثلاثة فئات من الشخصيات:

1-فئة الشخصيات المرجعية: وتشمل الشخصيات التاريخية والشخصيات الأسطورية، والمجازية والاجتماعية.

2-فئة الشخصيات الإشارية: وتكون ناطقة باسم المؤلف مثل الرواة وما شابههم.

3-فئة الشخصيات التكرارية (الاستذكارية): وما يهمنا في هذه الدراسة هو الفئة الأولى كما سنرى لاحقا.   

دلالة الشخصيات النسوية:

نقول في البداية بأن "صورة المرأة أكثر رهافة وحساسية وأشد وضوحًا في تعبيرها عن الواقع من صورة الرجل ... كذلك نجد المرأة قادرة على أن تستقطب بحساسيتها المتأنية واتزانها العاطفي مثل مجتمعها وتقاليده بجميع عناصرها استقطابًا يبلغ حد الثبات والتكرار، فإذا قلنا طالبة الجامعة، أو المرأة العاملة أو الفلاحة ... على سبيل المثال، فمن السهولة بمكان أن نستجمع في الذهن صفاتها –لا كفرد- وإنما كنموذج يتسم بسمات عامة"(9).

ولعل هذا ما جعل المازني يرى أن المرأة "أكثر تمثيلاً للنوعية في حين أن الرجل أكثر تمثيلاً للفردية"(10) بينما يراها العقاد "مظهر القـوة التي بيدها كل شيء في الوجود وكل شيء في الإنسان"(11)، وعند نجيب محفوظ "لا يوجد ثمة حركة بين الرجال إلا وراءها امرأة، المرأة تلعب في حياتنا الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية بين الأجرام والنجوم"(12).

وعلى هذا فقد كان الروائيون واعين بارتباط حركة المرأة بالمجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى بدلالة المرأة كرمز ثري موح للتعبير عن الوطن"(13). هذه إذن أهم الأسباب التي دفعتني إلى تناول سيميائية الشخصيات النسوية في "راس المحنة".

تنوعت الشخصيات النسوية في رواية راس المحنة تنوعا كبيرا كما تميزت بدلالاتها الرمزية وأبعادها التاريخية التراثية، ولعل هذا التنوع والثراء يعود للبنية الزمكانية للرواية، والتي وقعت أحداثها في فضاءات متباينة وأزمنة غير محدودة حيث تمتد من الثورة التحريرية إلى فترة التسعينات أو ما اصطلح على تسميته بالعشرية السوداء، وبالاعتماد على آراء ( فيليب هامون ) في تقسيمه لأنواع الشخصيات فإننا نجد حضورا واضحا للنوع الأول وهو ( الشخصيات المرجعية ) كما هو الشأن بالنسبة لشخصية (الجازية)، و(عبلة)، وهما شخصيتان تاريخيتان استعارهما السارد من السير الشعبية القديمة، ودفعهما نحو فضاء قصته الجديدة لاستثمار أبعادهما الدلالية. 

في هذه الرواية نلتقي مع عدد من الشخصيات النسوية منها: الجازية، عرجونة بنت عمر، عبلة الحلوة، نانة، ووهيبة... وقد اهتم الكاتب بعرض هذه الشخصيات وإبراز ملامحها، ولعل هذا يتطابق مع التوجهات النقدية الحديثة التي أصبحت تعد الشخصية مكونًا هامًا وضروريًا للتلاحم السردي فأصبحت كل عناصر السرد تعمل على إضاءة الشخصية وإعطائها الحد الأقصى من البروز وفرض وجودها في جميع الأوضاع، وبالرجوع إلى آراء (فيليب هامون) نجد أن الشخصية في الحكي هي تركيب جديد يقوم به القارئ أكثر مما هي تركيب يقوم به النص(14)، وتماشيًا مع هذا التصور تصل الشخصية إلى إعطائها صبغة دلالية قابلة للتحليل والوصف أي أنها بمثابة علامة (signe) سيميائية دالة.

وبالنظر إلى الشخصيات السالفة الذكر نجد أنه يغلب عليها الطابع الرمزي، فالكاتب لا يكتفي في روايته بوصف الشخصيات النسوية وصفًا حسيًا فحسب بل يتخذها رمزًا لشيء آخر كأن يرمز بها إلى الوطن أو الثورة أو للمعاناة(15)، فالروائي قد يعمد إلى تجسيد بعض القضايا المعنوية في صور حسية تأخذ شكل امرأة، وعندها يصير هذا الرمز مجسمًا وبمثابة قالب تصب فيه المعاني"(16).

1-شخصية الجازية: وهي ذات حمولات تراثية، فهي تحيلنا إلى شخصية الجازية في السيرة الهلالية جعلها جلاوجي رمزًا للتمرد وعدم الخضوع. فالكاتب هنا يستدعي في نصه الشخصية التراثية بلحمها ودمها "أي أن التراث يعطي للروائي شخوصه مجهزة الملامح والسمات والأبعاد وما عليه إلا أن يحركها بطريقته الخاصة التي تتفق مع متخيله السردي"(17). كما يبدو في شخصية الجازية التي تحمل مخزونًا خاصًا داخل الثقافة العربية، وهي في الرواية تكون خلفية العمل الفني تربط الماضي بالحاضر وتدعو إلى مزيد من المواجهة والتصدي للواقع وهذا يرفع الرواية كما يقول (طه وادي) "من مجال الوجدان وحده إلى مجال الفكر والوجدان معًا، من السطحية إلى العمق"(18).

وحدك يا الجازيـة

أيتها الوشم الرابض على فوهة المدفع

أيتها الدمعة الحيرى على شفير الوطن

يا ربيع الشهداء

يا جراحاتهم العبقة بأوسمة الفداء

وحدك يا الجازية                  

وحدك تذرعين الأزقه المتربة الضيقة

وحدك تصهلين في مسمع الليل البهيم .. تدكين

عروشه .. تمزقين سدوله .. تغتالين همومه(19).

فهي أمل الجميع في إنقاذ الحارة وإنقاذ سكانها من الديناغول الذي يهدد بقاءها، وقد صورها الكاتب امرأة تبحث عن الحب الذي هو تجسيد لأزمتها في البحث عن الحرية الذاتية وتحقيق الوجود الفردي في المجتمع. وقد اعتمد الكاتب في تصوير هذه الشخصية على طريقتين:

1-الوصف المادي: حيث أسقط عليها الكثير من الصفات الجميلة إلى حد جعلها إحدى لوحات الطبيعة الجميلة: "كانت هيفاء ممتلئة خصبًا ونماءً ..

سمراء بلون الأرض المعطاء ..

في عينيها حسن متمرد وكبرياء كئيبة

شفتاها ترتجفان كورقتي شجرة نعنع يانعة، يداعبها نسيم الصبا .. على الجبين تدلت ذؤابة شعر حالكة فرت من سجن الخمار وحصاره .. ماذا أقول؟ لو بقيت العمر كله أفتش في تضاريس الرأس والوجه أسجد للحسن فيهما ما وفيتها حق العبودية والإخلاص"(20)

2-النجوى الذاتية: هناك وسيلة ثانية استعان بها المؤلف في تقديمه لشخصية الجازية وهو النجوى الذاتية أو ما يعرف (بتيار الشعور) وهي وسيلة عمد إليها للغوص في داخل نفسية الجازية للتقاط ذبذباتها ورصد ما يعتلج داخلها من عواطف ومشاعر رافضة للواقع البائس الذي يضغط بصدره على أنفاس البائسين، وبذلك تتحول الجازية إلى رمز للكبرياء والتحدي:

قد تجف البحار

قد ترتخي الجبال

قد تجبن الريح

لكن الجازية يجب أن تبقى أبدًا كبرياء(21).

فشخصية الجازية في الحقيقة هي رمز لهذا الوطن المعنى بالجراح والآلام. رمز للجزائر التي رغم المصائب والخطوب تبقى مكابرة تتحدى العواصف في شموخ. ويغدو خطيبها ذياب رمزًا للمخلص المنقذ كما في السيرة الهلالية حيث أن ذياب هجر قبيلته بني هلال وأقسم إن لحقه أحدهم أن يقتله، لقد كره تنافر قومه من أجل التفاهات، ووقع القوم في هول شديد وكان لا بد من الاتصال بذياب، ومن يجرؤ على حمل الرسالة، وفكرت الجازية في حيلة حين لجأ إليها الجميع صارخين.

يا ويح ذياب

البلاد بعده خراب

واهتدت أخيرًا إلى إرسال رسالة في عنق سلوقي، سلوقي وفي رباه ذياب ودربه على كل الأفعال.

علقت الجازية الرسالة في عنق السلوقي وأطلقته فاندفع يعدو باحثًا عنه، وحين لقيه أدرك ذياب أنها فعلة الجازية، فأسرع لإنقاذ قومه .. وكانت العرافة قد أنبأتهم أن لا منقذ لهم إلا ذياب من شر عدو قاهر.

يقتله فارس يلبس لامه          في وجهـه شامــه

والله لـولا الملامـة           لقلت ذياب فوق نعامة(22)

فشخصيتا الجازية وذياب في الرواية يحضران بالدلالة ذاتها في التراث والحب الفردي الذي ربطهما يقودهما إلى الحب الكبير أي حب الوطن حب الجزائر. وذياب في حبه للجازية إنما يعبر عن حبه للوطن. ولعل القارئ يلحظ ما بين الجازية والجزائر من تقارب حتى على مستوى اللفظ، باشتراك اللفظين في عدة حروف، وهذا يدعم الوظيفة الرمزية لهذه الشخصية إنها كل شيء بالنسبة لأهل حارة الحفرة، إنها الوطن إنها الشرف والكبرياء العربي الأصيل الذي لا يخضع ولا يستسل.

والجازية ليست هي الرمز الوحيد في الرواية بل هناك شخصيات نسوية أخرى لها أبعاد رمزية كذلك، وخير مثال عن ذلك:

2-شخصية عبلة الحلوة: وهي شخصية لا يقرأها أحد إلا ويعشقها، رسم الكاتب ملامحها بدقة متناهية مقدمًا لها لوحة فنية ناطقة بالجمال والسحر:

بضة كانت كأنما هي منحوتة من المرمر

يتهدل شعرها الخروبي في كبرياء وغنج على كتفيها مفتولاً ملتويًا

وجهها استدار وامتلأ كقمر يتربع على عرش الغسق

تختال في مشيتها

تضرب قدميها على الأرض المتربة في زهو شديد.

ولجمالها الخارق هذا أغرم بها كل شباب حارة الحفرة وغدت فارسة أحلامهم، يرتوون من فيض جمالها ويستحمون في بحر حسنها الأخاذ، كلما مرت بالشارع يقف الجميع متسمرين في أماكنهم وكأنهم يمارسون طقوس العبادة لإلهة الجمال والحسن والفتنه. وقد جعلها الكاتب في روايته رمزًا للوطن المعبود الذي يحرك الشعب على التمرد، ولهذا نفهم لماذا بالغ الكاتب في وصفها، إنها تمثل قمة الإحساس الرومانسي المثالي بالوطن المعبود والتغني بجماله وسحر طبيعته، عبلة الحلوة هي بمثابة غناء الجوقة اليونانية الذي يسبق حركة الناس على المسرح"(23).

وقد جعل الكاتب تعرضها للاغتصاب من قبل امحمد املمد حدثًا أجج في "حارة الحفرة" عواطف الثورة والتمرد على قوى الظلم والاستغلال. فشخصية عبلة إذن تهدف إلى إظهار الممارسات الوحشية لامحمد املمد، والظلم الكبير الذي يعاني منه أهل حارة الحفرة، كما أنها تتحول إلى عامل من عوامل الثورة وتغيير الواقع وبهذا فهي رمز متعدد الدلالات. إنها رمز للشرف العربي، رمز للوطن المعتدى عليه، رمز للضياع العام للوطن. وفي الوقت نفسه رمز للتحدي والمواجهة، ورغم غيابها الطويل فإنها تعود لتشارك أهل الحارة في الانتقام من امحمد املمد فتشترك مع الجازية وذياب ومنير في النيل من الطاغية.

"على مرمى حجر تقفين مهرةً جامحة .. تلتصق الشقراء به .. يعدو منير، يسبقه ذياب.. تحدق فيك عيون البنادق شزرًا.. تشحذين القلب .. تشحذين الخنجر.. تدفعينه نحو القلب .. تغريسنه فيه .. يتهاوى نحوك جثة هامدة .. قبل أن يصل إلى الأرض .. ترفعين بصرك .. تلمحين الشقراء تغرس خنجرها في كبده"(24).

ختامًا: نقول في هذه الرواية يبرز الواقع الجزائري بدرجة تعكس رؤية الأديب الخاصة للمأساة، لأن الكاتب لا يكتفي عند حد العرض والتصوير، بل يتجاوز هذا الإطار إلى التغيير الذي يعني إعطاء الرأي وإبراز الموقف بشكل ينم عن إدراك عميق لأبعاد المأساة الوطنية المتعددة الجوانب. ومن هنا تقترب "راس المحنة" من الرواية الشمولية التي تسعى من خلال عرض حياة شخصية معينة أو فئة من الشخصيات إلى الإمساك بفترة تاريخية خاصة.

وعلى هذا فقد عبرت الرواية من خلال الشخصية النسوية عن الواقع تفاؤلاً وتشاؤمًا واستشرافًا لمستقبل مشرق، وتضايقا من الواقع المزري البائس الذي ضاعت فيه حقوق الناس البسطاء الطيبين ووأدت فيه أحلامهم البسيطة، وفي مقدمة هؤلاء المرأة التي وفق الكاتب في إبراز معاناتها بشكل رمزي عميق.

 

هوامش الدراسة
(1) نبيل سليمان، الرواية العربية رسوم وقراءات، ص13.
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه، ص10.
(4) عمار زعموش، مجلة التبيين، ص45.
(5) الرواية، ص32.
(6) عبد الحميد هيمه، علامات في الإبداع الجزائري، ص87.
(7) عبد الرحمن بوعلي، شخصيات النص السردي، مجلة علامات في النقد، ع8 فيفري 1999، ص76.
(8) ينظر شريبط أحمد شريبط، سيميائية الشخصية الروائية، أعمال ملتقى السيميائية والنص الأدبي، جامعة عنابة 1995، ص 196.
(9) طه وادي، صورة المرأة في الرواية المعاصرة، ص53.
(10) حصاد الهشيم، إبراهيم المازني.
(11) العقاد، سارة، سلسلة اقرأ، ع108، ص129.
(12) نجيب محفوظ، السراب، مكتبة مصر، ص310.
(13) طه وادي، صورة المرأة في الرواية المعاصرة، ص54.
(14) ينظر عبد المالك مرتاض، في نظرية الرواية، ص87.
(15) صالح مفقودة، صورة المرأة في الرواية الجزائرية.



 

 

تفاعل المتخيل مع الراهن الجزائري

في رواية "راس المحنة" لعزالدين جلاوجي

 

د. وليد بوعديلة (جامعة سكيكدة)

 

 

في سياق نظرية الأدب تتفق القراءات على أن النص لا يمكن أن يتجاوز مرجعياته كما لا يمكن أن تنفي القراءة الخصوصيات الحضارية المؤثرة في الإبداع الأدبي. لأن الجمالي يتداخل مع السوسيو ومع الاقتصادي والسياسي، وغير ذلك من جوانب الواقع. ومن هنا تأتي هذه الوقفة النقدية عند رواية " راس المحنة".

العنوان الكامل للرواية هو "راس المحنة1+1=0" ويأتي هذا التركيب (مضاف ومضاف إليه) في أسفل صفحة الغلاف بلون أسود يحيط به اللون الأحمر، بالإضافة إلى لوحة فنية يختلط فيها الأسود مع الأحمر والأبيض لمشهد غير واضح هو أقرب إلى التجريد منه إلى التجسيد. وفي ذلك إحالة على الغرابة والغموض، عدم وضوح المعنى/ الجواب. وهنا تحضر الأسئلة المنطلقة من تشكيل العنوان إلى تشكيل اللوحة الفنية إلى تشكيل الفضاء النصي إجمالا..فهل أخطأ عزالدين جلاوجي في لغة الحساب، وجعل عملية واحد زائد واحد تساوي صفر بدل اثنين؟ أم يمكن للكتابة الأدبية أو التجليات السياقية أن تقدما نتيجة صفرية سلبية؟ هل توجد تعالقات جمالية دلالية بين اللوحة الفنية الموجودة في غلاف الصفحة الأولى بين العنوان والحكاية والخطاب؟

قد تكون القراءة محصورة في فضاء إعلامي ضيق، لكن سنحاول أن نكاشف بعض المعلومات التي وجدناها في الرواية. وأهم علامة خرجنا بها أو (نفتح) عليها هي أن (1+1=0) عملية صحيحة في الزمن الجزائري أو في المنظور الجزائري؛ حيث أن هذه العملية ذات النتيجة الصفرية تخفي علامات غياب القيم وتداخلها في الراهن، ويتحول الصالح إلى الفاسد، ويتخذ الشرف الجهادي مكان الانحطاط والسقوط، ويتخذ الدنس الخياني مكان القيادة والسيادة. وهنا تتوالى الدلالات السوسيولوجية في الرواية انطلاقا من أمجاد الماضي الثوري وصولا إلى الراهن المأساوي الإرهابي ويبنهما يقدم عزالدين جلاوجي مسارا سرديا يحاور المدينة والريف وأسئلة التاريخ والوطن وصراع الإيديولوجيات والبحث عن هوية ثقافية مفقودة مغتالة، لكن أبرز منظور سوسيو-ثقافي (نستعين هنا برؤى وإجراءات المنهج السوسيو نقدي) يرتفع صوته من داخل النص الروائي هو منظور البحث الجمالي في زمن الشهادة وزمن الخيانة من خلال حكاية وخطاب عمي صالح أحد شخصيات الرواية. وقد انتقل اسمه من صالح الرصاصة في الجزائر التحرير والوطنية إلى صالح المغبون في جزائر الاستقلال والبناء الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي.لسنا ندري هل هو بناء أم خراب في ظل ضبابية مشروع (المجتمع).

ونحن نقرأ في رواية "راس المحنة" تفاعلا مع راهن جزائري محاصر بملامح الفساد والإرهاب ولم يجد المواطن الجزائري نفسه في عوالم المجد والكرامة بقدر ما وجد نفسه مغبونا مجنونا مقتولا..وهذه علامات تحضر بعنف في الرواية، يقول عمي صالح المجاهد الذي وجد نفسه بعد سنوات البطولة الثورية في حارة شعبية حقيرة "لعنة الله على حرية يذل فيها صانعوها ويعز فيها أعداؤها" (ص99). هي حرية تعطي الشرف والقداسة للخونة الحركي وتدوس على صناع النضال أو الفروسية المعاصرة. لذلك تنفتح القراءة على دلائلية الرفض لكل ما هو تاريخي أو وطني، وهي دلالة تتحرك في وعي الشباب في النص وفي السياق وليس النص الأدبي (هذه الرواية) إلا حوارا فنيا أو محاكاة لراهن الزمن المافياوي والإرهابي. وهو راهن ذابت فيه القيم واغتيلت فيه الضمائر وارتفعت فيه أصوات الرشاش بدل الفكر والإقصاء بدل الحوار. إن "منير" صاحب المكتبة هو المثقف الذي يقدم عبره الكاتب رؤاه ومواقفه من تفاعلات الثقافي مع السياسي أو أسئلة الحاضر والماضي، وفي كثير من البنى السردية نقرأ علامات أدبية تنبض بالدلالات السوسيولوجية "فمنير" يحاول أن يدافع عن أحقية الثقافي في السير بالاجتماعي والسياسي، لكنه يعيش في ظل غربة واغتراب. وفي ظل قيود وممارسات سلطوية استبدادية فاسدة من رجال النظام.

الرواية...علامات الراهن: من الإحالات الراهنية الجزائرية في النص ملاحقات الكتابة (الصحافة) من طرف السلطة والإرهاب، وخطابات الأفكار الشاذة/المغالاة التي تأسست من مفاهيم الأصولية (السلفية). ليس ذلك وحسب، بل إن الرواية تدخل في مسألة الاختلاف والصراع المذهبي في المساجد وفي الأزقة. وهي دلالات سياقية مازالت تتكرر في ظل غياب المرجع الفقهي والإعلام الدعوي (...) وهذه رؤية يمكن أن ينفتح حولها النقاش وليس ذلك في الأفق الأدبي أو الجمالي فقط وإنما يسهم في هذا النقاش القانوني الشرعي النفسي الاجتماعي في محاولة لتوقيف نتائجه (الاختلاف الفقهي) الوخيمة فردا وجماعة.

وحاور عزالدين جلاوجي الراهن الاجتماعي المأساوي لمختلف الطبقات الاجتماعية لذلك تعددت الأصوات السردية واختلف المنظور السردي في "راس المحنة" كل ذلك ضمن بنية سردية تنتقل من شخصية إلى أخرى ومن موقف إلى آخر دون إشعار المتلقي وإبلاغه. وهو ما يصعب عملية القراءة من جهة، ويصنع الأدبية من جهة أخرى.

ومن أبرز الدلالات التي خرجنا بها بعد قراءة الرواية أن التفاهات السياسية والعبث الاجتماعي ليس إلا نتيجة لما هو أكثر تفاهة وعبثا.

ومن خلال تتبع شخصية المثقف في هذه الرواية وفي كثير من رويات المحنة (المأساة، الفتنة، الأزمة...) يمكن أن نذهب إلى أن "الشيفون الفكري" "أنتج" الشيفون السياسي-والاجتماعي "كما أن العنف الفكري- الرمزي أنتج العنف المادي. وكانت النتيجة هذا الخراب والضياع، وهذه الأسئلة المتلاحقة عن الجمالي والاجتماعي وكأنها (أسئلة أخرى عن الرواية الجزائرية) كما عبر عن ذلك الروائي بشير مفتي في الملحق الثقافي للخبر(06 جانفي 2005) وكما قالت الرواية:" متى يستريح هذا الوطن من غيلان الأحقاد؟ متى تلبسين فستان فرحك أيتها البيضاء؟ (ص231) بعد أن كاشفت الأغنيات البشعة والتحولات المتتالية وتجليات الإقصاء. ويتحول الوطن في رواية راس المحنة إلى أرض للجدب والجفاف وذاكرة لخنق الإنسانية وبيع الضمير ووأد الأخلاق (...) وكل علامات الهباء والفراغ قيما ورؤى.. إنه وطن يحضر في مجتمع مسلوب، مقهور، مفجوع.. لا يمكن قراءة جذور الإرهاب فيه إلا عبر مكاشفات أدبية جريئة وصريحة

–وهو ما يكشف النصوص الأخرى- البدائل النقدية لجورج لوكاش وغولدمان في مواقفهما الاجتماعية والتاريخية وتعجز عنه المواقف الشكلانية والبنوية، لكن ستقدم أهم الخصوصيات التي تميز التقنية السردية في "راس المحنة" انطلاقا من أن اختيار شكل ما ينطلق من موقف وتوجه. وهو إحالة على رؤية فالميل إلى أدوات فنية معينة كلاسيكية أو تجريبية "هو في حد ذاته إحالة على آفاق دلالية. ويبقى الفصل بين البنية والرؤية فصلا إجرائيا فقط، لأنه من الصعب الوقوف عند الداخل نصي وإهمال الخارج نصي، كما أنه من الصعب أن يظل المبدع بعيد عن فجائع أمته.

من جماليات الرواية:

إذا كان عنوان هاته القراءة يبحث في المتخيل وتفاعله مع السياق، وإذا كانت السطور السابقة كاشفت الحضور "الاجتماعي في الجمالي"، فالسطور اللاحقة رحلة في تقنيات السرد وأهم ملامح المتخيل "راس المحنة".

إنها رواية تنوع الأصوات السردية وتتفاعل جماليا ودلاليا مع الذاكرة الشعبية بكل تجلياتها، كما توظف الشعر العربي (مفدي زكرياء- نزار القباني) وتستحضر العوالم الصوفية وتتألق في بنى شاعرية كما يتجلى ذلك في فصل "الخروج من التابوت" عندما يتحدث الروائي في سردية شعرية عن جمال وجلال عاطفة الحب وتضاريس المكان، كما نجد الفضاء الشعري الصوفي  في الصفحات الأخيرة للرواية وكأن السارد يدخل بالملتقي في مقامات صوفية بكل جلالاتها وإشراقاتها. أما التعامل السردي مع الزمن فهو لم يكن تجريبيا انقلابيا حيث لا يكثر السارد من المغامرة والتنويع في الأزمة (الزمن بالمفهوم الذاتي الجمالي وليس الزمن التتابعي) وعكس ذلك، فعل مع المكان فهو حمال إيديولوجيا الشخصيات وسيمائياتها- سيميولوجياتها (ألا يرى القارئ صعوبة الفصل بين البنوي والدلالي؟).

إذا رأي الباحث عبد الحميد هيمة في قراءته للرواية أن "أهم ما تتميز به هو نزوعها نحو التجريب وتحطيم الشكل التقليدي للرواية"، فنحن نرى العكس لأن عزالدين لم يرحل بعيدا في التجريب ولم يكتب رواية حداثية بعمق، ولكنه قدم لنا بعض الملامح التجريبية مثل النزوع نحو الشعارية السردية والتناص مع التراث والشعر والقرآن وتنويع البطولة وتوزيع السرد...

إن "راس المحنة" لم تعلن انقلابا مفضوحا نحو عن القيود البنوية والرؤيوية كما لم تنزع نحو الغرائية والعجائبية ولم تستحضر بكثرة اليومي العلمي في اللغة وخضع السرد لبنية التسلسل والتعاقب في بعض الفصول كما لم تكن الرواية منغلقة مستفزة للقارئ (على الأقل  لنا..بسبب ذوقنا ووعينا).

أخيرا هي رواية تؤسس للحوار بين الإبداع والراهن وهو روائي يؤرخ فنيا للحظات الفجيعة الوطنية لكن في كتابة تعلن فرادتها وتدافع عن هويتها بعيدا عن الاستعجال أو السذاجة الفنية.                                                             

 

 

راس المحنة  لعزالدين جلاوجي

اللغة التي تتقاطع مع الواقع

 

أ.عبد الحفيظ بن جلولي (بشار)

 

في رأي هنري جيمس أن الروائي أكبر من الفيلسوف والقديس الروائي أكبر من الفيلسوف لأنه يضيف إلى التجريد شفافية الحس ويضيف إلى عزلة القديس شراكة الآخر، فيقدم منتوجا نصيا منطلقه الواقع بكل تفاصيله الدقيقة وحرجه المنكفئ في منعرجات الذات والمجتمع، رؤية استبطانية تسبر غور المتخفي وتشبع تفاصيل النص فجوات جاذبة تغري من حيث تحتمي الذات في زاوية إبداعيتها

رواية "راس المحنة" النص الذي يحكي عبث الإنسان ومسار الأهواء التي تتلاعب بالمصير، إنسان نفق مسدود لا يوفر أدنى بصيص للفسح، رواية " لاستعادة أشخاص لم يعودوا لنا" نواجه عبرهم متاهات الفجيعة لنستعيد القدرة على الحلم: الحلم بالحب، الحلم بالوطن، الرواية تفشي هم الكاتب الذي تجاوز مجرد سرد وقائع وأحداث في قالب فني أمام فضول قارئ يترغب شهوة القول، إلى التأكيد على قيم أضنى الكاتب نفسه في البحث عنها وحاول أن يشركه فيها الآخر. "غدا تزرع بقلب عداتك حبا ونورا لا يظلم". فالموت مثلا في الرواية لم تكن قيمته في استكناه غموضه فنيا ولا في إهماله عبر السرد المهمش، وإنما قيمته تدرك من خلال الأثر الذي يخلفه، فعندما تتناول الرواية شخصيات ثم يذكرها الكاتب في النهاية بأنها أسماء حقيقية لأناس قضوا على طريق الشهادة، يصبح الموت قيمة متجاوزة لمفهوم الانقضاء إلى استمرارية وجودية، فالشهادة أنتجت الاستقلال، وبالتالي هناك إشارة إلى أن هؤلاء الذين قضوا على طريق الفتنة (السيد معرفة، عبد الرحيم) لم يكن موتهم عدميا بل استمراريا باعتبار النتيجة التي تؤل إليها الأشياء مستضاءة بسلوكاتهم ومنقابهم العابرة للأشخاص والأمكنة وتصبح اللغة في الرواية قيمتها ليست في نحت معانيها وترتيب مدلولاتها وتدشين مبناها لخلق بنية متوائمة ومخيال فني إنما كان هاجس الكاتب هو توليد اللغة القادرة على السير ومخيال متواضع قابض على الصورة بدقائقها لكنه عاجز على نقلها إلى الواقع، فكان هذا النص محاولة لتقديم الواقع فنيا كما الانتشاء لحظة نريد الاستذكار محطة غاصة بالغامض والمبهم فتتصبب نتفا من القطن المندوف.

وفي خلال بحث الكاتب القيم الحقيقية، نجد أن اهتمامه بالزمن لم ينسب على تحديد معرفيا عبر تخليق فني وإنما عمل على إعادة الاعتبار للزمن المقصي، زمن المهمشين الذين يهبون من عمرهم لكي يمتد عمر الوطن وعمر القضية، هؤلاء الذين يجعلون لتصرفاتهم معنى عبر احترام الوقت، وأجد هذا المعنى في توصيف منير لمخفر الشرطة "..والا الساعة الحائطية التي لم تمل من توقيع دقاتها بانتظام رتيب"، انه زمن المهمشين الذين وان اشتد عليهم رتابة وجورا إلا أنهم جعلوه منتظما فبهم يكون الزمن وإلا فلا معنى له.

ما يلفت الانتباه إضافة إلى الحدث الروائي والخطاب المشبع بلغة بسيطة وسهلة، هو التقنية المستعملة في تركيب البنية الروائية ذاتها، بحيث جعل الكاتب من الحب إطارا أفرغ فيه جسد الأزمة وتمت كافة العمليات الاسقاطية وفقا لقدرة امتصاص إطار الحب لهيكل الأزمة بكل ما يظهر عليها من انحدارات وتعرجات واستقامات وانحناءات وكأني بالكاتب أراد أن يثير إشكالية إمكانية الحب في زمن الأزمة وهل هو قادر على إطفاء جمرة الشر؟؟ هناك إشارات قادرة من خلال انفتاح الرواية داخل إطار الحب، أن تهب إجابات لإدراك معنى الاستفهام.

إن البناء الروائي العام لم يتخذ سيرا خطيا بمعنى التسهيم انطلاقا من حدث وتفعيله ثم إنهائه وإنما أخذ شكلا دوريا تميز بتبادلية المشاهد الظاهرة عبر العناوين الرئيسية المجزئة إلى مقاطع فرعية تتناول أحداث متقطعة فرضت على الكاتب ترقيمها باحترام انتقال المشاهدي الدوري.

إن هذه الدلالات الأشد حضورا تتمثل في تفاعل الشخوص والأمكنة، حسب نظر الشخص المحوري هو " صالح الرصاصة" الذي يمثل زمكان الثورة، حيث اختيار الاسم له مدلول الإحالي إلى معنى الصلاح، وحتى عندما يذكر اسم أبيه" سالم العلواني" اسم مركب له دلالات المعافاة والسمو، انجذاب منذ البداية نحو الماضي بكل بهائه ونقائه وانحيازا له لأنه يمثل السكينة والأمن، بمقابل شخص صالح هناك "أمحمد ملمد" الذي يمثل الدناءة بكل تمظهراتها المقيتة الهشة ويمثل زمن الاستقلال.

أما الأمكنة فالقرية، " تنام حالمة بريئة كرضيع "والمدينة مساحة وسخة قذرة عاهرة فاجرة، وحارة الحفرة الفضاء المشرع على الانهيار وكل الاخفاقات.

المدخل المتورم " الجرح النرجسي" الذي قد يعالج خلافا لجرح فرويد النرجسي الذي لا يعالج.

تبدأ الرواية من منطلق مقابلة نصية معرفية على مستوى المتن تجعل من الأمكنة والشخوص هاجس مركزي " يسير سيره الدور ليتناوب المعنى في كشف تشويقي لحذفية رائعة تمس ما هو متداول يومي طاغي بلغة بسيطة سهلة قريبة من الوجداني العام ونبض الشارع، وقد وقف الكاتب في استلهام هذه اللّغة لسببين:

اندماجه في الوسط الاجتماعي إلى درجة انخراطه في الهم الجماعي المروج عبر آلام وأمال الشارع.

أن لغته متفجرة تلد معانيها باستمرار لسهولة التخاطب بها، فهي قريبة من لغة التخاطر الشعري أو اللّغة الثالثة (الوسطى) كما يسميها توفيق الحكيم.

تكشف هذه الرواية عن واقع مزيف عن طريق تصادم المفاهيم للكشف على التناقضات والصراع الذي يولد الجديد، وهذا ما يؤكد اجتماعية الرواية، إنها تحمل مفهوم الانعكاس الذي هو حسب حنا مينا " رؤية للعالم ونقد له، هدم وبناء كما عند غوركي " فشخص صالح عند هجرته إلى المدينة إنما ينتقل بنقاء القرية ليعيد التنازل إلى المدينة مغترفا من زمن الثورة زاد التغيير، بينما" محمد ملمد" عندما ينزل إلى القرية ليدنس نقاءها حاملا معه التفسخ والخيانة والبطر، ويعمد الكاتب إلى تسمية حارة الحفرة كحيز عادل للأمكنة، يمكن وجوده في المدينة كما في القرية لذلك يضم العم صالح بطيبته كما يضم العجوز عكة بقبحها؟! والحفرة إنما هي مكان منخفض، ترتفع بأهاليها كما قد تزيد انحدارا بهم.

وتقدم الرواية التقارب بين القرية والماضي والحنين إليهما، النوستالجيا الضاربة في رقة القلب، نقرأ هذا في الهروب من المدينة "أين أذهب؟! أرجع إلى المدينة؟ مستحيل، مستحيل"لأن الواقع الدائر في المدينة تمثيل حضور غائب واقع كاذب مخمور"مخمرة الاستقلال" رفض العودة إلى المدينة بعد أن وجد نفسه في المقبرة بين الشهداء الذين يمثلون زمن النقاء الماضي والثورة "زمن الإيثار واقتسام الثمرة والرصاصة والدمعة والفرحة"

إن الرواية لا تلبث عبر سيروراتها تكشف اجتماعيتها فهي قراءة لواقع ومسرح واستجداء لماضي باعتبار أن العقل العربي إنما أنه يستجدي الماضي ويمسرح الحاضر كما يقول محمد الحسني هيكل، ومن هذه الزاوية تريد إدراج الوعي معرفيا في حركة التاريخ للتحول من أمة تراثية إلى أمة لها تراث كما يقول الجابري، فتقييم جازية لوجهة نظر الأب صالح في نهاية الرواية تأكد هذا المنحى التصحيحي " أزعجني اجترار الشيخ صالح للماضي.. "

خلال القراءة لاح لي أنه من باب التشريح الاجتماعي يتجلى أهمية الزمن الغير مرتب عند تمفصلات ذات ضرورة ولزوم بل المستعمل وفق نظرة تتيح إدماج لحظاته عبر لعبة محبوكة لتلاحق زمني (زمن الثورة، زمن الاستقلال، زمن المدينة، زمن القرية، زمن الحارة) ينتقل بالفواصل عبر فترات مختلفة لبذر في كل منها لحظة قريبة من الوعي يدرك أهميتها ويخرج من هذا التزاوج بالبزمن النصي الذي يشتهيه، فقيمة الزمن لدى الكاتب هي في مسايرة لحظاته في كل فترة دون التدخل في ترتيب فواصله مبينا أو صافي السيرورة، ثم يطرح الزمن المتناسل من المخيال الفني عن طريق تقييم ما سبق منه " دائما ينظر والدنا إلى جيلنا نظرة سوداوية.. عشرات القرون مرت " إنه يقترب من زمن أشار إليه الطاهر بن جلول، في رواية ليلة القدر "أن الزمن هو ما نحن عليه، حاضر على وجهنا في أشكال صمتنا وفي انتظارنا لنكن مستحقين لزمن الصبر والأيام التي لا يحدث فيها شيء ".

فكريا تأتي هذه الرواية أمام تعالقات نصية على مستوى الذهني تنقل برغبة ملحة إلى سياقات نصية أخرى، فمثلا " نانا " المذكورة بفضائل الأخلاق تومئ بصورتها إلى " نانا " في " ابن الفقير" لمولود فرعون الفاضلة  والنزيهة حتى في مماتها، كذلك يصر هذا التعالق على أن يلتقي بأثر أدبي آخر، أحلام نساء- طفولة الحرم – لفاطمة المرنيسي ونقطة الالتقاء هو لعبتها التي اخترعتها وسمتها "النزهة الجالسة" إذ من وحي ما خزنته من مادة للذاكرة اقتحمت غمار نص يصول ويجول في عوالم خبرت خفاياها. وبالنسبة لها، فاللعبة تستلزم أن تكون محاصرة وتوفر مكان للجلوس وامتلاك القدرة على أكبر قدر من الإهانة لاعتبار زمنها لا قيمة له، واللعبة تقوم على ملاحظة وسط عائلي كما لو أنه غريب بالنسبة للاعب، فعند مطابقة مضمون النزهة الجالسة مع المسار الروائي في رأس المحنة تنكشف كثيرا من التعالقات والتداخلات.

تنتج هذه الرواية بهاءها المثير عبر خليط شخوصاتي ومكاني بالغ في المقارباتية المتعاطاة، بحيث تمهل المثقف النخبوي والمثقف المجتمعي والعامي في تشريح منطقة الانكسار من وجهة نظر مختلفة فتنوع الشخوص وتحولات المكان تسعف المتلقي على تذوق هذه المتعة، فالمدخل، الجازية بكل ما ترمز إليه من عناوين للأنوثة والوطن والقضية والثورة، عبلة رمز هذه الأشياء الجميلة التي تزخر بها ذاكرة الوطن ولكنه يمهلها عبر إراداته لا لشيء إلا لأنها من بنات هذه الأرض وحدهم هؤلاء ذوي الأيدي القصيرة يتذكرون ويتحسرون لأنهم مادة التحول "وحده عزوز ظل يتذكر عبلة"، السيد معرفة الذي يرمز اغتياله إلى كل هؤلاء الذين قضوا على طريق الفتنة، محمد املمد، الخبث والعفونة، عنوان الرواية يجمع كل ذلك، فالثورة رأس لكنها محنة لأنها أخرجت فرنسا وكفى بدليل أن زمن الاستقلال الذي هو رأس أيضا، تراكمت بداخله الأحزان والآلام، أهالي حارة الحفرة رؤوس محن، فحتى الأمل يشنق فيها قبل أن تبوح به الأحشاء حيث أن المسرح الفرنسي القديم الذي كانوا ينوون تحويله إلى دار للثقافة، تم استخدامه كمركز تجارين وهنا يطرح سؤال الحلم " من استولى على أحلامنا" بفقدان الحلم حلت المحنة بداء بالقيم، فإذا لم يكن للتاريخ جدوى في تغيير الحاضر واستشراف المستقبل كانت محصلة الرؤية للأشياء  صفر وهذا ما عبر عنه ب1(الثورة) +1 (الاستقلال)= 0 إذ "أننا توقفنا وسط المعركة الوقوف وسط المعركة محصلة قوتان متساويتان في المقدار ومختلفتان في الاتجاه, فالمفروض أن الماضي يدفع عجلة الحاضر والمستقبل بتغذيتهما بالقيم الإيجابية فيه.

الرواية رغم روعتها واعتبارها استطراد واعي على درجة من الفنية يضع استفهامات هامة في تقاطعات حساسة مع الواقع, ولعل أكبر تعبير على ذلك, توظيف الرمز ومقاطع من الشعر إلا أنها – الرواية- كانت تنحرف بالمتلقي عن مسار التتبع الإبداعي لسيرورتها المتدثرة لغة بسيطة سهلة تلد معانيها, من ذلك بعض المقاطع الممعنة في التطويل وعظيا أو سياسيا, كما يمكن الاستغناء عنها إما بالإيجاز أو بالإشارة الفنية العابرة التي تأخذ بالفحوى دون مس بجوهر اليقين الفني, أما الخطاب السياسي يمكن تطوعيه عبر الغموض الفني والرمز.

الرواية تنتهي بزمن الارتجاع الذي يحمل إشارات الميلاد منها عودة ذياب, قتل أمحمد ملمد, احتضان جازية تحول حفرة إلى ربوة... إنها الرواية التي تقول الحب بكل قوته وتنوعات عاطفيا واجتماعيا, تبهج بتقديم أدق تفاصيله, الحب الذي يجمع القلوب غير آبه بالفروقات الاجتماعية "منذ أحببتك اختصرت العالم فيك..." إنها إشارة إلى أنه في زمن الاختناق هناك دوما حب.

  تجليات المحنة الجزائرية وحلم الخلاص

في رواية راس المحنة لعزالدين جلاوجي

 

أ.احسن تليلاني (جامعة سكيكدة)

 

راس المحنة هو الإصدار رقم: 12 ضمن سلسلة أعمال الكاتب: عزالدين جلاوجي ابن مدينة: عين ولمان بولاية سطيف، وهو الكاتب المعروف برهان التجريب والتنويع في أشكال الكتابة الإبداعية من الدراسة والنقد إلى القصة والرواية والمسرحية والقصيدة الشعرية، ويبدو أنه استفاد من كل هذه الأشكال في كتابة روايته:"راس المحنه" الصادرة حديثا عن منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين وهي تقع في: 226 صفحة من الحجم المتوسط وغلب على غلافها اللون الأسود مع لوحة زيتية معبرة عن الخراب والدمار والدماء تعلوها عملية حسابية خاطئة وهي:1 + 1 = 0.

الرواية مقسمة إلى سبعة أقسام لكل قسم عنوان مميز وهي:1- شرفة أولى، 2- الخروج إلى التابوت، 3- البحث عن العش، 4- قراصنة الأحلام، 5- الحب وعفونة الرصاص، 6- الخروج من التابوت، 7- شرفة أخيرة. ثم قسم كل قسم إلى مشاهد وفق أرقام متفاوتة حسب الراوي، لأن كل الشخصيات تقريبا في الرواية تمارس حقها في الروي فتعدد المنظور الروائي بشكل ديمقراطي وغاب الراوي الواحد. والرواية كما هو واضح من عنوانها المستوحى من التراث الجزائري تحيلنا على طرح أسئلة المحنة الجزائرية فتحاول استقراء الأسباب من خلال التصوير الصادق للتجليات وتتبع مسار الأحداث والإحاطة بالوقائع الجزئية قصد الإجابة عن السؤال الجوهري وهو: لماذا هذه المحنة؟ في هذه الرواية نكتشف التضحيات البطولية لصالح رصاصة ورفاقه زمن الثورة التحريرية، كما نكتشف خيبة الأمل في الدولة الوطنية بعد الاستقلال، حيث ظهرت فئة من الانتهازيين الذين استباحوا الأرض والعرض، وقد مثل هذه الفئة شخصية: "امحمد املمد اشكال الدابة"  وتتبع الرواية يوميات سكان "حارة الحفرة" فتبرز المعاناة الجحيمية للجميلة "عبلة الحلوة" التي تعرضت للاغتصاب كما نجد أحلام "الجازية" خطيبة "ذياب" الصحفي بجريدة الشروق اليومي وسعى "املمد" للزواج منها عنوة وكذلك الصراعات المرهقة للمثقف "منير" ضد قوى الشر فيجد نفسه في السجن بعد مؤامرة حيكت ضده.

وهكذا تمتد الرواية زمانيا منذ الثورة التحريرية إلى اليوم وتمتد مكانيا بين الجزائر العاصمة وحارة الحفرة نواحي سطيف وتطرح أسئلة متعددة عن السلطة ومأزق الإسلام السياسي والإرهاب ومكانة المثقف في المجتمع والحقرة وحرية التعبير وغيرها، إنها رواية مجتمع يبحث عن الخلاص من المحنة التي حاصرته، يقول الكاتب ص11: "أنى للحب أن يشرق وسحائب الدم مازالت تهدر حوله..؟ كيف يمكن للقلوب أن تعشق وتقتل في الآن ذاته..؟ من يقدر على ارتداء فستان الفرح في أزقة الجماجم..؟ ما معنى أن تحمل وردة وسكينا؟ إيه يازمان نانا، إيه يا عبقها الحلو هذا الدرب طويل طويل....

"والملاحظ أن الكاتب "جلاوجي" يحاول التأسيس لخطاب روائي يراهن على عمق الطرح والتجريب في الشكل وهو يكشف نظرته للإبداع الأدبي على لسان إحدى الشخصيات فيقول ص 35: "وحده الأدب الجميل قادر على معالجة اضطراباتنا النفسية... ما أقل رواياتنا الجميلة... ما أكثر روايات المراحيض عندنا التي لا تقيم مجدها إلا على تهديم الجميل لدينا"

ولقد استفاد الكاتب من المنهج الاشتراكي في طرحه الروائي فوجدنا أساس الصراع في هذه الرواية صراعا طبقيا بين: "طبقة أثرت واغتنت واستولت على عرش المال... وطبقة هوت إلى الحضيض الأسفل فاحتمت بدرع الدين... والسلطة عندنا تطبق سياسة ملء الملآن وتفريغ الفارغ" ص: 161

في رواية "راس المحنة" تغيب الشخصية المحورية أو البطلة، إننا نحصي حضور أكثر من 42 شخصية أفلح الكاتب في رسم أبعادها ومنحها الحق في الرواية والتعبير عن همومها وأحلامها بما فيهم شخصية "عزوز الدود" الفتى المجنون الذي يذرع الشوارع صارخا "اختلط الدود مع الدود ولا يفكها إلا الخالق المعبود" ما يجعل القارئ يشعر أنه أمام شريط سينمائي تتمازج صوره ومشاهده وتتنامى أحداثه لترسم لوحة كلية تحيط بالمحنة الجزائرية من كل الجوانب.

ولقد استطاع الكاتب توظيف براعته في امتلاك الأدوات الإبداعية لشتى الأشكال الأدبية فنجد في روايته اللغة الجميلة الموغلة في السردية حينا وفي الشعرية حينا آخر، مع الإشارة إلى أن لغة الكاتب لغة أدبية سامية ترتفع عن البساطة حد الابتذال وتتجنب التقعير والصعوبة، كما تتجنب الدارجة حتى على مستوى الحوار الذي جاء على لسان الشخصيات بالفصحى فالكاتب هنا انتصر لواقعية الفن دون السقوط في واقعية الواقع ولذلك لا نجد الدارجة تماما إلا في مقطع واحد ص: 146 من كلام وزير التخطيط والعمران وهو يعقد ندوة صحفية بثها التلفزيون في نشرة الأخبار فيقول: "أمامنا عمل بزاف ومشاكل قد لجبال Parce que وزارتنا Tres importante... importante لازم نخطط ونشيد عمرانات باش نقضي على مشاكل السكن الخطير ونسهل Les habitant  البسطاء السكن ولو بالأديان... – وارتفع صوت أحد الصحفيين مصححا: بالديون".

كما نجد في الرواية توظيف الكاتب للتراث وخاصة السطايفي منه ولا عجب في ذلك فعزالدين جلاوجي كان قد أصدر من قبل كتابا مطبوعا بعنوان: "الأمثال الشعبية الجزائرية بمنطقة سطيف" لقد وجدنا في روايته الأمثال والحكم والأسماء والأشعار والرموز كقوله ص 49: "وغضب ذياب لما هجرته الجازية غضبا شديدا وأرسل إليها بهذه الأبيات:

منيشي محبوب حب الجده ومنيشي مكروه ولد بليس

منيشي ركاب خيل العيرة و منيشي مزلوط ما فديش

إذا قلـت أنـت: لا لا حتى أنا ما نبغيـــــش

أو كقوله مستحضرا حكاية "لزرق ملول" المشهورة في المنطقة فيقول ص 66: "ثم رحت أحدثك عن لزرق ملول هذا العامري الذي طلبت منه حبيبته أن يحصد كل أراضيه الشاسعة سنابل خضراء قبل نضجها وركب جنونه وفعلها".

كما نجد الكاتب يستحضر عدة نصوص من التراث الأدبي العربي فنجد أشعار المتنبي والأمير عبد القادر ونصوص البشير الإبراهيمي وغيرهم ما يجعل القارئ يشعر أنه أمام فنان يمتلك سحر الإبداع وأمام مثقف يمتلك رصيدا ثقافيا متعددا ومتشبعا يؤسس لنص جزائري خالص متجذر في عمق الموضوع والرؤية، والأهم من كل ذلك أمام أديب جاء من جيل الثمانينات كما شاعت التسمية، لكنه يستبق عمره الحقيقي والأدبي فيخوض تجربة الكتابة بعزيمة فولاذية، ولذلك نوافق تماما شهادة الأديب الشاعر: "عزالدين ميهوبي" المدونة في واجهة الغلاف الخلفي للرواية إذ يقول: "يخطئ من يقول أن عزالدين جلاوجي كاتب قصة أو رواية أو مسرح أو نقد أو أنه يكتب للأطفال فقط... فهو واحد متعدد يصعب اختزال تجربته في كلمات معدودات. وليس سهلا وضعه في خانة كتابة محددة... عزالدين يتنفس الكلمات كما لو أنها هواءه الوحيد، وينغمس في عوالم اللغة والتراث والحداثة بحثا عن جواهره المفقودة بأناة وسعادة... راس المحنه ليس رواية فقط... إنما حالة إبداعية متفردة تنبئ عن اجتهاد صادق في كتابة نص مختلف"

 

 

 

 

أزمة الهوية أم عبثية الراهن

في "راس المحنه" مقاربة حول تعالق راهنية الهوية

 

أ د: بشير بويجرة محمد (جامعة وهران)

 

إن راهنية الخال تدفع إلى التأكد على أن هناك أزمة تنخر ذاتية هذا الراهن، كما يثبت يوميا بتضارب الإقرار بهذه الأزمة وبمستوى تقييمها بين الفاعلين في هذا الراهن، أما القلة القليلة في تعرف بأن النص السردي في هذه الراهنية هو الذي يعلو فوق هذا وذاك، يعلو فوق الإقرار ويعلو فوق مستوى التقييم، ليبقى مثبتا بما لا يدع مجالا للشك بهيمنة العبثية وتهميش المعرفة.

ورغبة في محايثة تلك الإشكالية بصلب النص السردي وفتق قداسته للموصول إلى المسكوت عنه في هذه الراهنية، ارتأيت أن أرفق في هدا المشوار "رأس المحنة " للروائي الشاب "عز الدين جلاوجي" لسببين اثنين هما كون المبدع، كما أعرفه، لا يحمل إيديولوجية مسبقة على هذا الراهن كما عهدنا في الكثير من مبدعينا، ثم كون النص أحسن، تيماتولوجيا، وأجاد في إبراز تلك الأزمة وخيوطها المتشابكة والمدعمة بالتوظيفات الأسطورية والإيقونة.

أتصور بأن "رأس المحنة " يمكن النظر إليها من جانبين أساسيين، جانب المضمون والمحتوى، وجانب البنية الفنية، ثم ارتأيت تأجيل الجانب الأخير إلى فرصة أخرى ولا غنى في هذه المقاربة بالشق الأول حين وجدتني أرى لعنوان النص "رأس المحنة"  دلالة واضحة على إدانة قوية لهذه الراهنية بالجملة الأولى للنص.

".. أنى للحب أن يشرق وسحائب الدم مازالت تهدر حوله.." [66]، وذلك حين يداهمنا شعور بعدم جدوى كل ما يمكن إن يطرح من قضايا من قبل ومن بعد بفضل إصرار أسلوب النفي المتمثل في"أنى" أداة الاستفهام النافية، وفي "مازالت" وفي "رأس" الذي يدل على التحقق وثبوت القوة.

لو حاولنا أن نقرأ تلك المداهمة وذلك الإصرار بمفهوم " انكاردن" للقراءة المقدسة للقصيدة وفعالياتها في استهلاك النص لإقرارنا بأن عتبات " رأس المحنة " تدفع نحو فعل إبداعي يجد هويته وقداسته بين ذاتيته

"الذات" وبين راهنية الحال المأزومة، لتضفي على طبيعة النص والوجود معا كثيرا من القتامة ولا شيء من التفاؤل حسب المحطات التالية

-     شرفة أولى.

-     الخروج من التابوت.

-     البحث عن العش.

-     قراصنة الأحلام.

-     الحب وعفونة الرصاص.

-     الخروج من التابوت.

-     شرفة أخيرة.

التي يهيمن على معجمها اللغوي النفي المطلق لعالم متزن يسوده الأمن والاستقرار، ما عدا الشرفتين الأولى والأخيرة، ذلك المعجم المشكل من ".. البحث، الخروج إلى، الخروج من، قراصنة، عفونة".

إن مجمل ذلك النفي الموغل في تعزيم راهنية الحال إذا ماذا استند إلى " قضاء " منعدم الهوية والقسمات الذي تمثله " حارة الحفرة " يدفع بالقارئ إلى التفكير بالتوهم بأن النص يعتمد كما يرى " إيزر" آلية دقيقة تعتمد على التركيب السلبي لتوفير السبل المؤدية، لدى قارئ ما، إلى فكرة محددة قد تختلف عند قارئ آخر، ووفق ذلك أتصور بأنه يمكن قراءة شفرات " رأس المحنة حسب الارتكازات التالية:

-            منجزات الحفاظ على الهوية.

-            راهنية العبث بالهوية.

-            أيقونات التعالق السردي.

-            المدينة بؤرة العبث بالهوية.

أ – منجزات الحفاظ على الهوية :

إن منجزات " رأس المحنة " تتحقق عبر وحدات حديثة يرتبط بعضها بالماضي ويتعلق بعضها الآخر بالراهن، كما ترتبط تلك الوحدات الحديثة بطاقة "الخيال " باعتباره  آلية توهم برسم ملامح غيابهما معا بنفس القوة التي يكرس فيها شراسة الراهن، لتبقى تلك السمة هي الهم الأول الذي يقر به القارئ على اعتبار أن النص الأدبي كما يذهب إلى ذلك " إيزر" :"المرجع:.. لا يحمل حقائق معينة.. بل توجد فيه مجموعة من الخطط لها وظيفة تحفيز القارئ ليحدد لنفسه الحقائق.."[67]

أما الحقيقة الأولى التي أتصورها في " رأس المحنة " فقد تتمثل في ذلك الفعل المقاوم للمستعمر الذي كان همه الأول والأخير هو إسقاط هوية الذات الوطنية، ذلك الهم الذي سخر له كل السبل والمناهج طيلة مكوثه في هذه الربوع، مع الإلماح إلى أن ذلك العزم على تشويه الهوية رافقه بالضرورة فعل مضاد تنبته الذات يتمثل في إثبات عناصر هذه الهوية ".. لم أعد أحس بالتعب وأنا أمارس طقوس العمل في هذه الأرض، أكره الليل حين يلقي علينا برينه الأسود شفقة علي.. "[68] إن إسناد " طقوسية " إلى العمل في الأرض هو ملمح يفض إلى تلك العلاقة الحميمة والأبدية بين الذات وبين الموطن، فضاء الكينونة، كما أن النفور من الليل في صيغته السردية الآنفة لا تميل بالضرورة إلى المقصدية الطبيعية لليل في صورته الفلكية، بل الأصح والأصوب هو انزياح الدلالة على القاصد إلى سرقة الذات وتربتها، كما تمثل ذلك الفعل المضاد في التعاقب والتوالي ما دام "الآخر " مصرا على قصديته العبثية في الهوية، في تراتبية كرونولوجية ممارسة لفعل الرفض والمشاكسة ممثلة في إقرار صالح الرصاصة :.. مات أبي شهيد.. جرح جراحا كبيرة عميقة وحملناه للمقر.. بقي هناك عشرين يوما ومات.. "[69] بعد أن كان قد أكد: ".. كان عمري إذ ذاك سبعة عشر عاما أول معركة خضتها أسماني الإخوة صاح الرصاصة.. جريت ثلاثة كيلومترات على نفس واحدة أحذر المجاهدين المجتمعين من قوات العدو التي حصرت تحاصرهم.."[70]

إن "العمل" الخالص الصادق ومدى تماثله للعمل التعبدي، و"النفور" من الدليل في إحدى سماته ودلالاته حين يجبر الكون على الجمود والتحنط وحين يقصد السلب الكائنات حريتها وانطلاقها في فضاء الكون، وأخذ روح " الأب" عنوة بفعل شرس وهمجي، ثم تملك السرعة المعجزة للموصول المبتغى، كلها عتبات لغوية تبغي تبليغ أوجه كثيرة من الصدق الخفي غير اللفظي كما يقول " إيزر" لكي يتسنى للقارئ ركوبها وإعادة تشكيل مدى وعيه بالبؤرة الأساس التي تتشكل حول "منجزات الحفاظ على الهوية" في سياق ماض حتى ينبت، حتما، سؤال مفاده، وماذا يحصل الآن ؟

ب – راهنية العبث بالهوية :

مما لا شك فيه  وأن الراهن هو سيد الكون، كما أنه المفروض، جدليا، أن يكون هناك تقاطع بين هذا الراهن وبين الماضي من أجل إنجاز الغد، لكن الذي حدث في راهننا هو انفصام في أركان الجدلية، حين انبنى لمحنة الذات رأس ملوث ومدمر مسبقا بفيروس النسيان وقصديه تجاوز مفاخر الماضي بالتدليس

 والتطاول على قداسة الذات ومعايير الهوية :".. يتشدقون بالشعارات الجوفاء لا غير.. لقد أضحيت  في ثورة الحكاية الكالحة.. الناس يأكلون على الموائد ونحن الفقراء ما زلوا  يطمعوننا شعارات.."[71]

إن يوميات هذا الراهن تشكل، عبر كل اللحظات، لوحة رائعة في القتامة والغبن ابتداءً من "حارة الحفرة" التي ما زال الظلام يقمطها بلفائفه السود ومازالت الحياة لم تدب بعد في أوصالها.. نور شاحب ينبعث عليلا من النافذة إلى الشارع  الذي يفتقد إلى الإنارة " [72] ومرورا عبر تخاذل الذات وهزيمة الوعي :

".. جيلنا أدى دوره.. جيلكم جيل المنهزمين لم يواصل المسيرة.."[73] مما ساعد على خلخلة فسيفساء تواجد الذات داخل فضاء ملئ بللا أمن جعلها تصرخ :".. لا أخفي عليكم، لقد غدونا رغم كل الشجاعة التي نملك، نخاف حتى من خيالنا، إن الموت يتربص بنا في كل منعطف.."[74]، ووصولا إلى نقطتين تمثلان قمة العبثية أولهما، خطبة لأحد الوزراء :".. أمامنا عمل بزاف ومشاكل قد لجبالparce que  وزارتنا… importante… très importante  لازم نخطط ونشيد عمراننا باش نقضي على مشكل السكن الخطير ونسهل لـ les habitant   البسطاء السكن ولو بالأديان.."[75] وثانيهما لقطة قتل " عبد الرحيم " من طرف مجموعة إرهابية وهو يصرخ :.. أنا أخوكم..أقسم أني برئ.. أقسم أنني لم أظلم أحدا.. أنا فقير أعيل خمسة أفواه ضعيفة.. ارحموني يرحمكم الله.."[76]

إن بعضا من تلك اليوميات، لحظة استهلاكها، تشكل جزء أساسيا من ذلك الصدق غير الخفي الذي عاشه الكثير في الفترة الأخيرة، مما قد يدفع بكل قارئ، حسب تجربته ووفق مرجعيات تجاربه، إلى إعادة تركيبها بصفة آليو ومستمرة، حتى بعد الانتهاء من قراءة النص، بغية تنظيم وتحديد بؤرة تلك العبثية في صلب الهوية من طرف عناصر من " الأنا " نفسه، مما قد يساعد على إعادة تقييم الوضع الراهن وفق حالات وأوضاع جمالية منافية للسائد وتلك العبثية.

كما يمكن الاعتقاد، جماليا، بأن مثل تلك العناصر جميعها قد تتمكن، لدى القارئ المعاصر، من أداة ما سماه " فوكو" الوظيفة العبارية، وذلك عندما يمكن الإقرار أن اللغة في تلك السياقات الآنفة الذكر تعمل على ترهين، رغم مرور ما يقارب قرنين من الزمن، مجموعة من الأدلة على مستويات العبثية في الراهن النصي، الذي قد لا يتفق اثنان في تحديد  مستوى العبثية فيه، الذي أوجد فعلا بؤرا متميزة

وفريدة قادرة على إحراج مخيال القارئ ودفعه إلى العناية والاهتمام أكثر بالسمات والعلامات المثخن بها ذلك الراهن )راهن الهوية المشوه + راهن الذات المبدعة كانت أم قارئة(.

أما عندما تنماها مع اللقطة القاتلة ":.. أيقدر الأخ أن يفعل بأخيه كل هذا مهما كانت الأعذار؟ وإلى متى ينتهي هذا النزيف؟ متى يستريح هذا المواطن من غليان الأحقاد؟ متى تلبسين فستان فرحك أيتها البيضاء ؟..."[77]، فإن ذلك قد يؤدي بالذات القارئة إلى أنمدجة ذلك العبث في "صلاح الدين" قائد الجماعة الإرهابية وفي "امحمد الملمد" قائد السماسرة والمفسدين وفي سي سليمان، وهو نتيجة لتآزر العلاقة حول قصدية العبثية بالهوية لديهم، حيث كان يمكن للأول أن يوظف  قدراته الدينية في إصلاح ما يفسده أمثال "امحمد الملمد" حتى ولو اضطره ذلك القضاء عليه، لكن الذي حدث أن القتل وقع على أمثال عبد الرحيم والأستاذ "تربية " وغيرهما من النماذج القادرة على إبطال مفهوم العبثية

ج- الفضاء المديني كبؤرة لتجلي العبثية :

بقدر ما كانت " رأس المحنة " مدونة أفعال وموضوعات مرتبطة بسلوكات مندمجة في شخصيات محددة، بقدر ما كانت فضاء تشتد فيه العلاقة التصادمية بين المدينة والريف، حين يلتقي القارئ بفضائيين قويين في النص هما: " حارة الحفرة " و" المدينة " دون تحديد لمدينة بعينها، دون تمييز " لحارة " من الحارات المنتشرة كالفقاقيع  حول مدننا كلها.

وعند ملاحظة ذلك، يمكن القول بأن محنة النص واستراتيجية تنبع من هذه الإشكالية التي تمثل ذلك الصراع الخفي بين الريف والمدينة، صراع أخذ طابع " القضية " في الجزائر المعاصرة حين بدأت المدينة بعد الاستقلال مباشرة فضاء يحمل عناصر السعادة والتمدن ".. الناس يا صالح تعيش على المستقبل، الناس طلقوا الماضي، هكذا يا أخي صالح ستضيع وتضيع عائلتك وأولادك، لا بد أن ترحل إلى المدينة من حقك يا صالح أن تعيش سعيدا.."[78]. وأتصور بأن عناصر دلك التجلي كقضية تبدو في مظاهر الصراع التي كان يعيشها "صالح الرصاصة " الذي كان يتردد ".. اتركاني أرجوكما، إذا كنتما تحباني فاتركاني لحالي.. أنا خواف، أخاف المدينة، المدينة عاهرة  فاجرة ستفسدني.. تبدلني.. تغيرني.. تبلعني.. المدينة يا ناس قذرة، وسخة ستوسخني.."[79]، كما قد نجد، في راهنية الحال، المدينة باعتبارها فضاء يحمل كثيرا من التناقضات بعضها إيجابي والآخر سلبي عند توفير سبل العيش والحصول على مناصب عمل وكذا بناء علاقات اجتماعية متعددة ومتنوعة، مقابل اشتداد الصراع والتنافس وانتشار بؤر التوتر بين الأفراد مما يوفر ظروف للاأمن واللااستقرار، مما أدى بـ "عرجونة بنت عمر" إلى اختصار الأشكال في قولها :".. المدينة كابوس يجثم على صدورنا.. والأجواء فيها مكهربة، والجرائد لا تطل على الناس إلا بالفجائع.. لقد تغيرت طباع الناس كثيرا، واشتد بينهم التنافر والتناحر.. وانكب أكثرهم يلهث خلف الدنيا ولو مقابل أرواح الأبرياء.. "[80]

إن وقفة متأنية عن شواطئ الفقرة السابقة يرسم بصدق العلاقة  الممكنة بين فضاء النص وفضاء الواقع [81]، تلك العلاقة التي تتجسد في النص وفق معيار التأمل وافق الانتظار المرتبطان بقصدية الكشف عن جذور العبثية فيما يتخيل من أحداث وما يبنى من شخصيات، كما تجتث، تلك العلاقة، من فسيفساء الواقع المنتشر عبر المسافات والمتاهات المنجزة بفعل الذات بتواطؤ صريح تارة وضمني تارة أخرى من " الآخر " المتخفي ضمن منحنيات الراهن ومنعرجاته، وأحسب أن ذلك ما من شأنه أن يثير الرعب والفتنة في الذات القارئة، حين تلامس في فرضية النص مغايرة ومشاكسة لحقائق العصر، مما يشرع لطرح السؤال التالي: ما جدوى الاحتفاظ بالمؤسسات إذا تساهلنا مع الذين يساهمون في نسخ راهنية الحال؟، سؤال قد ينسحب أصلا على صلب الهوية الأم، جوهر القضية الأم، ما الفائدة من ثورة التحرير، ومن تضحيات مليون ونصف من الشهداء بأنفسهم ؟.

عندما نجمل تلك الوقفة، وبعد أن يداهم ذائقتنا القارئة ما يشبه السؤالين الأخيرين وعند معاينة حال "حارة الحفرة" التي تشكل ملف الإدانة وعناصر الاتهام بما يتوفر فيها من أدلة وبراهن على عقد العزم على ترك الحال على حاله، فإن الحتمية المحتملة، تأكيد الموافقة على قول "الجازية" :".. لا شيء تغير، وما عسى الأصباغ أن تفعل في عجوز شمطاء؟" حين قيل لها بأن هناك تغير يحدث في المدينة تحضيرا لزيارة الرئيس، كما نجيب باستهزاء على التقييم المفترض الذي تقدمه الفقرة التالية :".. يا عزيز أنت ابن حارة الحفرة.. وكل أبنائها إخوة لك، ولعلك تلاحظ معي كيف أن كل الأحياء تزداد رقيا وتحضرا وتزداد حارتنا تعفنا وتخلفا.. ولعلك تلاحظ معي أن كل الذين تشردوا في الجبال هم من شباب حارة الحفرة..."[82].

وخلاصة للمسألة يمكن القول بأن متن رأس المحنة قد أفسح مجالا جوهريا للمكان، إن في المدينة أو في حارة الحفرة أو في الريف، قصد المساهمة في تقديم نفقات جمالة تسعى إلى بناء أفق انتظار القارئ بحسب ما يتوفر عليه هذا القارئ من مرجعية مرتبطة بالنص وبالمرتسم الخيالي في وأعيته، مما يغرينا بالإفصاح عن كينونة هذا المتن، التي تتحول تارة إلى ".. ميدان معرفي متميز يشرح ردحا زمنيا عبثت فيه الذات

بذاتيتها "وتارة أخرى" منطقية يباح فيها الصريح بمكبوتات الحال لنحوصل الأمر في أن للمتن "..مشروعيته وكينونيته المستقلة "[83]، عندما نتأكد، بعد الانتهاء من قراءته، بأن مشروعيه السؤال والتساؤل ازدادت حرقا واتساعا، أما ديباجة الأجوبة فلا فائدة من سياقاتها وتكراراتها المملة، مادام :"..كل شيء أمامي كان يوحي بالتقزز والغثيان.. حتى رشفات القهوة الذي مازالت جاثمة كالوباء داخل الفنجان البارد.."[84].

د- إيقونات التعالق السردي :

على اعتبار أن راهنية الحال تسكنها كومة من النتوءات والمنحنيات المتخمة بحالات من الإحباط ومثبطات العزائم فإن قارئ  "رأس المحنة" سرعان ما تعزيه تلك الإحالات المتعددة نحو ركام من الرموز

والانزياحات على تلك الحالات التي تبني حقيقة الفضاء النصي الذي يشكل المرجعية الأولى للهوية في المتن، وبما أن الفضاء باعتباره شرعية للإيديولوجية السردانية، فإننا نلحظه يتأصل وفق قدرة الرموز والإيقونات المحمل بها المتن على أداء حمولات معرفية وجمالية إلى أكبر قدر ممكن من المتلقين، ووفق هذا النسق يمكن القول أن الراهن في متن " رأس المحنة " قد كرس مبدأ التأزم والتعقيد في حقيقة الهوية، حين تآمر ذلك الراهن بتواطؤ مع الفاعلين فيه على توفير الأدوات والسبل لأمثال " امحمد الملمد" للتحكم في مخ الهوية ولبها حتى بات الاغتصاب في وضح النهار، القتل بدون رادع، فساد البيئة وعفونة الوضع يزداد كل يوم، المسؤوليات، والمناصب تباع وتشترى، سلم القيم ضاع مع كل المعايير الموضوعية والعلمية.

ونشعر تحت طائلة كل ذلك، وكأن النص يستنجد، قصد التغلب على عفونة الراهن برموز اسمية وإيقونية إيديولوجية يمكنها أن تتبنى الفضاء المسكوت عنه وأن ترجع شيئا فشيئا من راهنية كانت مأمولة في أحد الأزمنة، ولعل تلك الأسماء، عبلة، الجازية، عرجونة، منير، عبد الرحيم، صلاح الدين، صالح الرصاصة وغيرها من الأسماء التي ترقى إلى مستوى أدلة لغوية، أوجدت وتوجد حتما بعض الإلماحات، تارة إيجابية وأخرى سلبا بين الشبكة اللغوية للنص وبين الوجود المادي/ الفعلي لهذه العلامات والسمات التي قد تشغل حيزا متميزا إن في متخيل القارئ أم في مخيلة التقديس والرفعة.

ورغبة في فك عقدة ذلك التأزم، وإصرارا على بناء أفق انتظار مملوء بالأمل يمكننا ترجيح أربعة أسماء ربما تتوفر لها القدرة في دهن قاري ما على تجسيد مفاخر ومآثر الهوية، تلك الأسماء هي: الجازية، صالح الرصاصة، عرجونة، منير، وذلك على اعتبار أن كل شخصية من هذه الشخصيات يمكن اعتبارها حمالة لأيديولوجية السردانية في النص حسب ما يلي:

صالح الرصاصة: ".. لما خرجت إلى هذه الدنيا أسماني والدي "صالح ".. على اسم جدي حتى يبقى الاسم حيا متداولا.. ولدت في هذه القرية الصغيرة تنام حالمة بريئة كرضيع في حضن جبل جبار كل شيء جميل ورائع، ليس هناك مكان للنفاق والخديعة ولا للزيف والمكر.. كسرة الشعير وطاس اللبن كان طعامنا جميعا.. عشرة.. عشرون.. ثلاثون.. ليس بيننا جوعان، نرقد كلنا في فرش واحد، مخدة واحدة، حائك واحد،.. و.. قلب واحد.. الحب ينشر فوق رؤوسنا أكاليل الورد "[85].

من خلال هذه الفقرة تتأسس شخصية صالح كطرف أساسي في رسم معالم العبثية  التي تكبل راهنية الذات، وذلك حين أخذت حيزا متميزا داخل فضاء المتن، أن في تحريك الأحداث أو في التنديد بدعائم الأزمة التي تكالبت على إضعاف الهوية أو تشويهها وتنطلق معالم هذا التأسيس من كون صالح ورث الثورية عن أبيه، وتقلدها وهو طفل، ثم داوم على التحرير حتى الاستقلال الذي دفعه إلى تغيير نضاله من العمل المسلح إلى محاربة الفساد والمفسدين أمثال "أمحمد لملمد" أو "سي سليمان" ليكون جزاؤه من الثورة العمل في المستشفى، ويتلقى جزاءه في محاربة الفساد بالطرد من العمل ومن السكن على يد  "سي سليمان" الذي أصبح وزيرا للتخطيط فيما بعد.

الجازية: تشكل هذه الشخصية البعد المحتمل لتشكيل الوعي المكبوت، أو بمعنى آخر مازالت هذه الشخصية في " رأس المحنة " كما كانت في " الجازية والدراويش "[86] تمسك بقضية الهوية باعتبارها الأخرى حمالة للبعد الإستراتيجي الشعبي المتأصل في التراث، ولذا كانت في النص تطل من شرفتين، شرفة أولى تعاين منها راهن الذات فتخلص للمشهد التالي :".. جاوزتك الأحداث.. الصنم المعبود غدا أكبر.. تنسل من كل فتحاته شياطين ودراويش... هاهم كالجرذان، ينخرون الأسس، ينخرون الجدران، ويقتلعون الجذور، كل شيء يموت يا الجازية.."[87] ثم شرفة ثانية وهي خاتمة النص تقرر فيها، ثم تمارس ذلك القرار :" يا الجازية بلغ القلب العفن.. انقضى.. حشاشة الروح ترتعش.. سويداء القلب تختنق.. اقتليه.. تشحذين القلب.. تشحذين الخنجر.. تدفعينه نحو القلب.. تغرسينه فيه..يتهاوى نحوك جثة هامدة..."[88].

أتصور بأنه يتوافر لهذه الشخصية نوع من تنافس  البنى القيمة المختلفة، كما يرى "ايز" فيما بينهما من أجل المركز الذي هو "هوية الراهن"، فيدفع بعضها بعضا إلى حتمية مفترضة تؤكد على وعي الراهن وتدعو إلى البث في نوعية الحل المطلوب، وبما أن اسم "الجازية " ذو ارتباط قوي بالهوية فإن الشرفة الأولى تحوصل الأيديولوجية المنجزة لراهن مترهل يجشم على صدره فساد وبؤس وحرمان وتهميش وإقصاء لعناصر الهوية الحقه، ذلك الفساد الممثل في أمثال "امحمد الملمد" و" سي سليمان " وغيرهم كثر، ثم تقترح الحل النهائي المتمثل في قتل " امحمد الملمد" بخنجر طعنته به ليلة احتفاله للحصول على رئاسة البلدية التي اشتراها بالمال، وبما أن الراهن يتسم بالشراسة والعفن وتهميش فرضية الحوار والوعي، فإننا نلاحظ، اعتماد النص والجازية الفعل الشرس الدموي المنتزع من جنس الراهن، إذ لا فرق بين ما فعلته الجازية وبين ما فعل الإرهابيون مع عبد الرحيم، ليتسنى القول فعلا، هناك الكثير من النصوص الأدبية، ومثلها من القراء الذين تستهويهم عملية إنتاج واستهلاك النص بآلية غير معروفة أو غائبة، في بداية الأمر، لكنهم غالبا ما ينبأون، بعد ذلك عن تضافر تلك الآيات مع  ميكانزمات المنجزات الواقعية حتى تجد الذات نفسها، مبدعة كانت أم قارئة، مضطرة لإضفاء مسحة الحضور على المستهلكات النصية.

منير: إن شخصية ' منير' يمكنها أن تمثل بحق حقائق الراهن وتأزماته  في حالة الحضور , كما يمكنها أن تمثل الواعية لممكنات الهوية وأديولوجيتها المتمثلة في الشباب وفي الوعي العارف بواقع الحال, وكذا بامتهانه بيع الكتب التي جعلته يعرف خبايا التراث ومتاهات الفكر والوعي الغائبين عن الآنية , حين نجده يرتمي في أحضان ذلك الماضي السحيق وفي ضفة واحدة منه وهو يردد :"...رحمك الله يا أبا الطيب كأننا نعيش عصرك أو كأنك مت ولم يذهب معك عصرك... عصرك الذي داس كبرياءك وأنفتك واغتال أحلامك... أما نحن فليس لنا الآن إلا شهريارات تحكمنا على طول الخط...لا يصدق فيها إلى قول الأديب الجزائري المسيلي ابن رشيق...

  ألقاب سلطنة في غير موضعها      كالقط يحكى انتفاخا صولة الأسد"[89]

وميز متن ''رأس المحنة" هذه الشخصية عن غيرها من الشخصيات بأن جعلها , بسبب تواجدها المستمر في المكتبة ,ترصد كل تحركات سكان "حارة الحفرة" وتتابع بدقة كل أخبارهم والأخبار الواردة إلى "حارة الحفرة" من الفضاء الخارجي، كما نلاحظ على هذه الشخصية كثيرا من السلبيات في مقدمتها الاكتفاء برصد السلوكيات والظواهر وعدم المباشرة والمساهمة في اقتراح حلول لها، وهي ميزة بصمت بها كل الشخصيات المثقفة في متوننا السردية ـ تلك السلبية التي بدت على لا وعيه وسلوكاته، والتي استطاعت الفقرة التالية أن ترسمها :".. وفي صباح الغد.. انتشر بسرعة نبأ هذا الاختفاء[90]، وغدا حديث الجميع يلوكونه.. يتمططونه.. وكانت العجوز "عكة " أكثر الجميع حركة رغم التهاب مفاصلها الحاد، وهذه عادتها حين ينتشر خبر مثل هذا.. التصقت بالأرض وسط الحارة وقد تجمع حولها نفر من السكان.. قلت في نفسي: وقعنا ورب الكعبة:

-            إلى أين بهذه العجلة؟

-            الدنيا فانية يا ولدي ما زلت صغيرا وستلهث طويلا.

وضحك الجميع، فأحسست بالتضايق الشديد، ولكني واصلت سيري فواصلت حديثها "[91]

صلاح الدين: أتصور بأن هذه الشخصية تمثل فئة الشباب الذين قست عليهم راهنية الحال فجعلتهم فريسة سهلة للتيارات المفسدة للهوية، حتى ولو كانوا حقلا لزرع نبتة التطرف نحو المغالاة في الدين حين اعتبروا كل إطارات الدولة الجزائرية الحديثة طاغوتا يجب قتلهم أو نحو المجون والاستهتار بأسس الهوية الجزائرية مثل الدين واللغة وثورة التحرير وغيرها من عناصر الهوية ودلالات شموخها، كما  قد تمثل هذه الشخصية الفئة الشابة المنحدرة من الريف إن بعد تطبيق قانون الثورة الزراعية أو إغراء بما توفره المدن من إمكانيات وسبل للرقي الاجتماعي أو سبب اشتداد أزمة الإرهاب، التي كانت السبب المباشر في التحاق الشيخ الهاشمي أب "صلاح الدين" بـ "حارة الحفرة " ".. مفضلا سكننا ضيقا هو أقرب إلى الكوخ.. ومدفوعا تحت إلحاح الحاجة لتوفير قوت عائلته مستغلا خفة روحه وحيويته اللتان.. تركاه يندمج بسرعة في عش حارة الحفرة  ينضج الحمص والبلوط ويقصد صباحا المدرسة مناديا بصوته الرخيم " ابنين..ابنين.. إيحل العينين.. ويزيد الوذنين.. " [92]

أما عند إصرار مقصديتنا القارئة على تجاوز منجزات الهوية عبر إحداثيات الماضي، وعند الوقوف على فواجع الراهن، وغض الطرف عن تبوؤر العبث في الفضاء المديني، وحرقة الشوق إلى ضفاف الهوية المفتقدة، فإننا نتأكد من أن هناك تعالقا جادا بين منطوق "رأس المحنه" وبين منحنيات المعيش في جميع فضاءاته، ويبدو لي أن ذلك التعالق تتجلى في فقرة قالها "منير" ".. تلك الليلة أخبرني أحد الجيران أن السيد" معرفة" مفتش التربية والتعليم قد اغتيل وهو خارج إحدى الثانويات.. وان الشيخ السعيد قد قتل دفاعا عن نفسه في اشتباك مسلح وقع قريبا من بيته.. وعلمت أيضا أن منزل الهاشمي قد اقتحم ليلا من طرف مسلحين مجهولين اقتادوه مع ابنه وابنته.. عادت البنت منصف الليل بعد أن اغتصبوها بينما وجد هو وابنه جثتين مشوهتين دون عيون ولا آذان ولا مذاكر.

"حارة الحفرة" ثكلى مازالت تعيش على وقع هذه الفجائع، علمت أيضا أن "امحمد الملمد" قد ذهب إلى البقاع المقدسة.. وان الصرح الذي قام مكان المركز الثقافي الذي كنا نحلم به هو مركز تجاري لـ "امحمد الملمد "[93].

 

 

 

 

دراسات نقدية تناولت رواية الفرشات والغيلان

  خطاب الفعل/فعل  المحو في الفراشات والغيلان  

د. حسين فيلالي (جامعة بشار)

 

يعرف بنفينستe.Benveniste  الخطاب على أنه" كل مقول يفترض متكلما، ومستمعا، تكون لدى الأول نية التأثير في الثاني بصورة ما".[94] فالخطاب حسب هذا المفهوم يستدعي مقصدية/نية، الباث، ويحدد هدفه المتوخى من الفعل أ ومن المرسلة الخطابية. إن هذا التعريف يبقى عاما وفضفاضا، ويقوم على تعددية معاني المصطلح، ولذا فإن وصف الخطاب أو تعريفه، هو الذي يحدد خصائص كل نوع، ويميزه عن غيره من الخطابات الأخرى، فنقول خطاب ديني-خطاب أيديولوجي-خطاب إشهاري -خطاب سياسي-خطاب رأسمالي-خطاب ماركسي- خطاب فلسفي -خطاب أدبي.  

والخطاب الأدبي الذي هو موضوع بحثنا ينقسم إلى شعري، ونثري فالخطاب الشعري لا يقول بالضرورة شيئا تم أو يمكنه أن يتم، ولكنه من خلال القول ينتج الكتابة التي تومئ إلى ذاتها. أما الخطاب الروائي فمن خلال إعادته إنتاج القصة، ومن خلال الفعلين ينتج كل خطاب منهما ضمن حدود النوع[95] فالشعري قوامه الوزن أو الإيقاع الموسيقي، والإيحاء، والنثري يتميز بالسرد، ويعتمد على الحكي، ذلك أن أهم خاصيات الخطاب الروائي هي أنه سردي وهيمنة السرد في هذا الخطاب تستمد أهم مقوماتها من اشتغال الخطاب الروائي على القصة بأشخاصها وأحداثها وفضائها...أما الخطاب الشعري غير الحكائي فإنه لا يروي قصة، ولكنه يقول شيئا وبين قول الشيء، وحكي القصة مسافة بين الشعري والروائي[96].وعلى هذا فإن تحديد مقصدية خطاب الناص، أو القبض على نيته في الكتابة الأدبية تبقى من الافتراضات التي يصعب الاتفاق عليها، لأن الأصل في الكتابة الأدبية الإبداعية هو تعمية المقاصد، وإضمار النية، وتضليل المتلقي من خلال اصطناع لغة مراوغة تنحرف عن المقاصد المباشرة، وتسمو بها عن اللغة المباشرة المتعارف عليها في الخطابات العادية.

سيميائية العنوان:

أول لقاء لقارئ النص الروائي يتم عن طريق العنوان (الفراشات والغيلان)، وقد جاء العنوان معرفا بألـ والتعريف كما يقول أهل اللغة تخصيص، وتقييد، لكن ما يثير فضول القاريء وهو يهم بولوج النص هي تلك الواو التي تتوسط الاسمين، والتي هي في عرف النحويين عاطفة أي أنها تربط بين شيئين يكون بينهما علاقة تعالق، أو يشتركان في حكم ما، أي أن وظيفة هذه الواو هي الوصل بين طرفين وهو ما يخدع القارئ إذا استقر على هذا الحكم، لأن البنية العميقة لهذه الجملة قد حققت انفصالا بالتضاد، الفراشات/الغيلان، وبذلك يصبح الواو يعطف ذا تين متضادتين، وهو أسلوب من أساليب القرآن الكريم (الذي خلق الموت والحياة) سورة الملك، الآية الثانية، والواو هنا يصبح يفيد الاستئناف مادام قد انعدم عنصر الاشتراك أو المشاركة كما يقول النحويون، لأن عطف النسق( وهو العطف بحروفه المعروفة، ولعلهم سموه نسقا لأنه ينسق الكلم بعضه على بعض، بحيث يأخذ المعطوف نسق المعطوف عليه في أحكام معينة..)[97]. والواو كما يضيف عبده الراجحي (تفيد مطلق المشاركة أي أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في الحكم دون النظر إلى ترتيب زمني أو غيره.. وعليك أن تتأكد أولا من وجود فكرة الاشتراك في الحكم حين تدل على العطف وإلا فهي حروف استئناف).[98]    

والسؤال الذي نطرحه هو ألا تكون هذه الواو قد حققت الترتيب، في غياب عنصري المشاركة والاستئناف؟ ولكن عن أي ترتيب نتحدث؟ إن فعل الترتيب لا يتوضح إلا بولوج النص الذي له صلة وثيقة بالعنوان. فإذا كان الأسلوب يأتي من تعامد محور الاختيار مع محور الترتيب كما يقول الأسلوبيون، بمعنى إن الأديب له مجموعة من الإمكانات التعبيرية، والتركيبية, ولكنه يختار واحدا من هذه الاختيارات يقدمه عن البقية الأخرى لعلة بلاغية يتوخاها، فان التقديم يصبح له ميزة بلاغية أيضا، وهي اعتلاء الريادة في الحكم..إننا بهذا التحليل نجد علة تقديم الناص الفراشات على الغيلان في العنوان، ونقف على ما يبرره في المتن، لقد قلنا من قبل إن  الواو قد أفادت الترتيب، وقصدنا بذلك الترتيب المكاني، وهو ما يسميه صاحب الطراز حين يتعرض لفائدة التقديم والتأخير بالتقدم بالمكان، وقد تحقق للفراشات التقدم بالمكان من خلال تقديمها على الغيلان (الفراشات والغيلان)، والصراع في الرواية يتبأر حول تيمة الأرض/الوطن. إن وظيفة ألـ التعريف رغم أنها قد حققت وظيفتها النحوية، والدلالية بحيث نجدها قد عرفت وخصت (الفراشات والغيلان) بصفات ووظائف ورسمت لكل واحد حقله الدلالي ومجاله الذي يتحرك فيه فإن التنكير يظل يطبع الجزء الثاني من الثنائية: الفراشات/الغيلان. ويصبح التعريف تنكيرا، فالغيلان لا تعرف إلا بصفاتها، ويتحول الاسم إلى صفة، إذ لا يمكن القبض على صورة الغول كذات ملموسة مما يجعل التضاد هنا يتحول إلى تعريف في حد ذاته لأن العرب تقول: الأشياء بأضدادها تعرف، فالغيلان رمز الشر في المخيال العربي، والفراشات رمز البراءة.

هكذا يضعنا الكاتب من البداية أمام إشكالية ويحاول التشويش على ما ورثناه من مفاهيم، فتتحول الواو حسب رأينا من عاطفة إلى فارقة، وهي التي عهدناها واصلة تتحول هنا إلى فاصلة بالتضاد، تفصل بين اسمين يتحركان في مجالين مختلفين ومتوازيين لتحقيق برنامجين متضادين (برنامج الفراشات/ برنامج الغيلان).

الثنائية البؤرة:

إننا نحاول في هذه الدراسة الاستفادة من المربع السيميائي الذي جاء به غريماس (carre semiotique) لدراسة الثنائية/ البؤرة الفراشات/الغيلان بغية استكشاف بعض الدلالات العميقة للنص.

 

 

 

 

 

 

 

إن الثنائية المجسدة في العنوان: الفراشات/الغيلان، نجدها تمثل بؤرة النص منها تتفجر كل الدلالات، وتتفرع عنها ثنائيات أخرى: ظلام/نور، البراءة/الشر، الانفتاح/الانغلاق، ذات معتدية/ذات معتدى عليها، ومن الثنائية الأصل يتم تأطير سير الأحداث، إذ نجد الأحداث تتحرك على منحيين متضادين يحاول كل واحد منهما الوقوف في وجه الآخر وتغييبه، ومباغتته، وتقويضه.ويصبح عنصر الزمن عنصرا من عناصر المباغتة فلكل واحد من هذه الثنائية زمنه المفضل.

 فالغيلان تفضل الليل لتحقيق برنامجها في حين تفضل الفراشات ضوء النهار، ويتحدد زمن ظهورها بالربيع بينما زمن الغيلان يبقى غير محدد مما يجعل عنصر الترقب والخوف من المباغتة دائم الحضور.. والفراشات تظهر في زمن متفتح على الطبيعة (الربيع) وتتحول فيه إلى عنصر من عناصر الطبيعة الداعية إلى الراحة والاطمئنان، وهي ذات معتدى عليها في حين تظهر الغيلان في الظلام وهو زمن منغلق مرعب، وتزيد الغيلان من انغلاقه على الفراشات المترقبة للمجهول المؤذي الذي قد يحضر في صورة ما، وفي وقت ما، ويطل من جهة ما.

وإذ تفشل الفراشات في رسم الشكل الحقيقي لهذا المخيف وتعجز عن تحديد جهة، وزمن قدومه، تلجأ إلى ما تختزنه الذاكرة من مرويات شعبية لرسم صورة متخيلة لهذه الغيلان فتأتي الصورة مشوشة مركبة من حيوانات متوحشة تتسم بالرعب والتدمير (وتراءت لي الغيلان ذات أشكال غريبة.. آذان طويلة.. وعيون كثيرة.. مناخير.. وخراطيم.. مخالب.. ذيول.. وأشعار)[99]. هكذا تحاول الفراشات تعريف المنكر (الغيلان) وتشكيل أحد تمظهراتها الخرافية وتركبها من حيوانات عديدة متوحشة. قلت أحد تمظهراتها لأنها في الحقيقة تبقى خارج التعريف، وخارج المدركات (..تدخل إلى أي مكان تريد وتتحدى كل مخلوق...وتتشكل في كل الصور والإشكال)[100]. والمعروف في المدويات الشعبية أن الغيلان مخادعة، فهي قد تتشكل في صورة قريب نعرفه، أو صديق نعزه، وتتظاهر بالوداعة ثم سرعان ما تتحول إلى صورتها الحقيقية، لذلك لا يمكن أن تتعايش الغيلان مع أحد، ولا يقف في طريقها حاجز ولا يمنعها مانع من الوصول إلى تحقيق ما تريد، وهي لا تحقق وجودها إلا بمحو وجود الآخر (.. وراح يسند الباب بكل ما وجده أمامه.. الخزانة.. السرير الصغير.. الكراسي وحتى  الثياب.. والتهموا الجزء الباقي وامتدت مخالبهم تدفع  ما كوم خلفه.. وامتدت أرجلهم تلجه بسرعة..)[101]

خطاب الفعل/ فعل المحـو

إن الرواية تعمل على المرموز، بدء بالشخصيات، إلى الخطاب، إذ يلاحظ القاري أن أبطال الرواية في البداية لا تتم تسميتهم بأسماء إنسية، وإنما يستعير الروائي من الطبيعة الحية شخصيته الرئيسية (الفراشات)، ويستعير من الذاكرة الشعبية شخصيته الثانية (الغيلان).

هذه الشخصية/الغيلان تقوم بفعل جماعي وهي تعرف برمزيتها الدالة على الخوف، والتحول من صفة إلى أخرى مرعبة، في حين تعرف الفراشات في جميع الثقافات الإنسانية برمزيتها الدالة على البراءة. إن ما يميز الرواية أنها لا تنتج خطابا صريحا، وإنما تلعب على المضمر من القول المنتج لأفعال تستبطن رسالة تتضمن خطابا ملموسا يجسد بما هو محقق من الأفعال. هذا الخطاب يضمر فعل المحو، محو الوجود (وبدرت مني التفا ته إلى الأرض... ما هذا المزروع على تضاريس وجهها يا اله إني أخطو فوق جثث الأموات.. عشرات هنا وهناك.. مقطوعو الرؤوس.. مقصوصو الأيدي.. مثقوبو الصدور والبطون.. أطفال فوق نساء.. ونساء فوق عجائز جثث تهالك بعضها فوق بعض)[102] قلت إن قارئ الرواية يجدها تستغل في بنائها للمعنى على الرمز والاستعارة، فالأرض قد زرعت، ونما المحصول، وقطف، ووضع على وجه الأرض أي إن الزرع خرج من الأرض، ولم يبق مكفورا، وفي ذلك إشارة إلى إن الفعل افتضح، وبرز، وبان، والزرع رمز الحياة، ولكن أليس في هذا الوصف تناقض؟ لأن المزروع/الجثث غير قابلة للنمو، فالجثة رمز السكون، وانعدام الحركة، ولا يمكن أن تخرج منها الحياة، ولكن الدلالات العميقة تظهر الاستعارات التي تشغل عليها الرواية، ذلك أن الجثث المقتولة وان بدت ميتة، فإنها في جوهرها تبقى مزروعة، حية في وجدان أهلها، وان الزرع فعلا  قد ترعرع ونما، وغل، ولكن غلة من نوع خاص، لقد تم زرع الحزن، وجني الأحقاد، وثمار الثأر.

شاعريـة المتـن:

إن شاعرية كل نص تتحقق بما تتوفر عليه من طاقات إبداعية، وبما تحدثه من انفعالات، وبما تسهم فيه من شحذ للطاقات التخيلية للمتلقي، ولهذا تختلف هذه الطاقة الكامنة في الذات (ذات القارئ/ذات النص) من قارئ إلى آخر ومن نص إلى آخر، و(القصة تنتج معانيها بطرق لا تحصى، ولكنها تنتجها على الدوام بلغة حركة ما من الشخصيات والحوادث الخاصة في القصة نحو الأفكار العامة أو الأوضاع البشرية التي تقترحها)[103]. إن قارئ رواية الفراشات والغيلان يجدها تنتج معانيها فعلا بطرق متعددة، كتوظيف الرمز، إلى اصطناع أسلوب الاستعارة، والتمثيل، والتصوير بالكلمات.

أسلوب الاستعارة:

يغتال الهواء من حولي.. أحس بالاختناق.. تزداد دقات قلبي.. يكاد يطير مني.. يكاد ينفجر..)[104].

هذه الاستعارة الجميلة تفضح برنامج الغيلان، وتحدد مضمونه، فامتصاص الهواء يؤدي إلى ضيق التنفس، الذي يفضي إلى الاختناق، فيأتي صوت المستنجد متقطعا، مضطربا مشرفا على الهلاك (ما..مـ.. ا.. مـ..م)[105]. وامتصاص الهواء في النهاية معناه الموت للشخصية المعارضة لبرنامج الغيلان (برنامج المحو) والحكم عليها بالإعدام، ومعناه أيضا استحالة العيش بالمكان/ الوطن، وضرورة الرحيل عنه، وهي أيضا رسالة موجهة للفراشات لتمارس وظيفتها المجبول، وهي التنقل، ولكن هذه المرة لا يتم ذلك بين الزهور، وإنما بين الجثث، والدم، والقتلى.. ولم أعد أرى شيئا لقد غطاني الدم..غطى وجهي... رأسي... جسدي... وتسرب حتى بين شفتي... وداخل ثيابي كان الدم ينزف من فم والدتي ومن انفها ومن جراحاتها بقوة كأنه نهر يتدفق ماء معدنيا)[106].

ويصبح فضاء الرواية يفوح برائحة الموت الذي يطلق أفراسه تحرث الهلع وتثمر الحزن (ومازال الهلع يعدو فرسا جموحا فوق وجوه الجميع)[107].

إن الهلع تجسم، واتخذ صورة حيوان جامح، والجامح هو الذي لا يمكن القبض عليه، وترويضه، أي تحويله من حالة الفزع إلى حالة الهدوء، ومن الحزن إلى الفرح، والحزن يظل حسب هذه الصورة فرسا مفزوعا يجري، يرسم خرائطه القاتمة على الوجوه، إذ يصبح من العسير على الإنسان إيقافه والسيطرة عليه وتحويل مساره. وهكذا يظل الحزن يعدو دون توقف، والفراشات تجري خلفه تحاول الإمساك به، وترويضه. 

 

الوظيفة/التعيين

إن قارئ الرواية يجدها تنتج صراعا يتعطل فيه فعل الكلام، والحوار، ويفسح المجال للفعل المادي، فالغيلان عبر كامل الرواية لا تنتج خطابا صريحا، وإنما تقوم بأفعال تستبطن خطابا يمكن قراءته من خلال الأفعال، كخطاب للمحو (قتلوهم جميعا. هكذا نطقها عثمان مبتورة.. مختصرة.. مضغوطة..) [108].

وهكذا يتعطل فعل القول ليفسح  المجال  لفعل الفعل، المنتج للقتل، ومحو الوجود، وللأصوات  مبهمة  لا يمكن  قراءتها وفهمها، إذ تأتي مشفرة (...بها... بها...)، هذه الأصوات لا يمكن تأويلها إلا بما قبلها، وبالسياق التي وردت فيه (..لكن الذي ذبح في ما تبقى من شجاعتي، وتماسكي، حكايته عن أخته الصغيرة ذات العام الواحد حين عمد أحدهم فحملها من سريرها وضرب رأسها بخنجره، فأطاره ثم حملها من رجلها كما يحمل الصياد الأرنب بالضبط. بها..بها.. ماذا.. سـ.. يفعلون؟)[109].

هي إذن ليست أصواتا فارغة (بها..بها..)، وإنما هي خطاب مشفر يمكن فهمه من خلال الفعل الذي قبله على أنه إعلان عن إنجاز الغيلان (كذات جماعية) اللعبة بنجاح (وفهمت ماذا يفعلون بها.. وماذا سيفعلون بها؟سيأكلونها طبعا.. هؤلاء الوحوش يأكلون لحم البشر إذن؟ هؤلاء الغيلان الذين كانت جدتي تحدثني عنهم دائما)[110]. هذا الفعل/اللعبة تتلقاه الفراشات، وتحلله، وتفهم المضمر منه من خلال تعيين الوظيفة (يقتاتون على لحم البشر) والتي يتم من خلالها تعيين الذوات/الغيلان (..إذن هؤلاء الغيلان الذين كانت جدتي تحدثني عنهم)[111]. فالقتل يتحول إلى لعبة (ومد أحدهم يده إلى رجل جدتي العجوز وكانت قد فطنت فراحت تئن أنات متقطعة فحملها كما يحمل النسر فريسته دار بها عدة مرات ثم أطلق سراحها ليرتطم رأسها بالجدار ويتهشم وتتطاير منه بعض الأجزاء ويتراذذ منها مخها ودمها هنا وهناك.. ارتفع تصفيقهم مهللين لفعلة صديقهـم..)[112].

أسلوب التمثيل

وإذا كان الناص يصطنع الأسلوب الاستعاري في أماكن عديدة من الرواية، فإنه هنا يتخذ أسلوبا آخر هو أسلوب التمثيل، ويحاول مسرحة الواقع، فيشرك القارئ في بناء، وتخيل المشهد الدرامي، فالمشهد يبدأ بالقبض على الفريسة التي تتخذ كلعبة يراد التسلي بها (دار بها مرات عديدة) ثم  ينتهي المشهد بتشظي اللعبة، وتحطيمها، (يرتطم رأسها بالجدار ويتهشم وتتطاير منه بعض الأجزاء، ويتراذذ منها مخها، ودمها هنا وهناك.)[113] وهكذا تتحقق المتعة في برنامج الغيلان، إذ يتحول فعل القتل إلى رقص، ولعب يستدعي الضحك، ويشرع في إسدال الستار على المشهد (ارتفع تصفيقهم..) والتصفيق إشارة دالة على الإعجاب، والمشاركة، وعلى نهاية المشهد، وتصنيف الفعل كفعل إيجابي، قد حقق الفرجة، وبذلك يستحق التنويه (..مهللين لفعل صديقهم..) فالقتل في برنامج الغيلان يصبح فعلا إيجابيا يترتب عليه تحقيق الوجود، وخلق توازن في الذات ويغدو من هذا المنظور فعلا مرادفا للعب.

 

 المصادر والمراجع

1.          عزالدين جلاوجي- رواية الفراشات والغيلان-دار هومة- ط1. 2000.

2.          يحي بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني-الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز-ج2  -دار الكتب العلمية –بيروت.

3.          سمير المرزوقي وجميل شاكر – مدخل إلى نظرية القصة – ديوان المطبوعات الجامعية _ الجزائر والدار التونسية للكتاب

4.          روبرت شولز –عناصر القصة ترجمة محمود منقذ الهاشمي – دار طلاس، ط1. 1988.

5.          عبده الراجحي – التطبيق النحوي _ مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض ط.1. 1999.

6.          إبراهيم صحراوي- تحليل الخطاب الأدبي -دار الآفاق-الجزائر-ط.1- 1999.ص10

7.          سعيد يقطين- القراءة والتجربة- دار الثقافة -الدار البيضاء-ط.1.1985.ص.90.

 

 

الواقِعِيَّةُ المُتَجَدِّدَةُ

في رواية الفراشات وَالغِيلان لعِزُّ الدِّينِ جَلاوجِي...

 

عَطِيَّةُ الوِيشي (مصر)

 

إنَّ الواقِعِيَّةَ بِاعتِبارِها لَونًا مِنْ ألوانِ النَّشاطِ الفَنِّي الدِّرّامِي، الَّذِي يَرْمِي إلَى الْتِماسِ الحَقائقِ الفَنِّيَّةِ مِنْ مَظانِّهِا الطَّبِيعِيَّةِ بِلا تَكَلُّفِ وَلا تَحَيُّفٍ : هِي أحَدُ الرَّوافِدِ الرَّئيسَةِ للإحْساسِ الحَقِيقِيِّ بِمَعْنَى الحَياةِ وَبِقِيمَةِ الوُجُودِ... إنَّها مُحاوَلَةٌ فِطْرِيَّةٍ وَعَفْوِيَّةٍ لِتَلَمُّسِ سُبُلَ الاقْتِرابَ وَالتَّعَرُّفِ إلَى الحَقائقِ الكُبْرَى فِي هَذا الوُجُودِ... بِحَيْثُ يُخَوِّلُ هَذا الاقْتِرابُ لِلْمُبْدِعِ صَلاحِيّاتٍ التَّخاطُرِ مَعَ مُفْرَداتِ هَذا الوُجُودِ فَتَبُـوحُ لَهُ بأسرارِها.. وَتُفْضِي لَهُ بِأغْلَى وَأجْوَدِ ما لَدَيها!... فَهَذِهِ الخَلِيقَةُ عَلَى القَدْرِ الَّذِي تَبْدُو بِهِ لِمَنْ يَخْطُبُ وُدَّها غَيْرَ مُتَكَلِّفَةٍ!... بَيْدَ أنَّه لا يَمْلُكُ مِفاتِيحَ أسْرارِها إلاّ أنْفاسٌ طاهِرَةٌ.. وَأرواحٌ سَخِيَّةٌ زَكِيَّةٌ ماهِرَةٌ... وَنُفُوسٌ شَفّافةٌ شاعرَةٌ... قد أُلْهِمَتْ فِطْرَةَ التَّواصُلِ الحَضارِيِّ المَعْرِفِيّ بِما بينها وَبين مُفْرَداتِ هَذا الوُجُودِ مِنْ وَشائجَ وَرَوابِطَ فَذابَتْ فِيهِ وَذابَ هُوَ فيها... وَمِنْ ثَمَّ فَلا غَرْوَ أنْ يَكُونَ الأدِيبُ مِرآةً صادِقَةً لِواقِعِهِ المَعِيشِ بِكُلِّ ما فيه مِنْ َمُعاناةٍ وَمُكابَدَةِ وَكَدٍّ وَمُجاهَدَةٍ.. وَما يَخْتَلِجهُ مِنْ آلامٍ وَآمالٍ وَمِثالٍ وَخَيالٍ وَجَمالٍ!...

فالواقِعِيَّةُ، هِيَ بِمَثابَةِ نِضالٍ أدَبِيٍّ فِي سَبِيلِ قِراءَةٍ نَزِيهَةٍ لِلْكَوْنِ وَالحَياةِ والإنسانِ... بُلُوغًا إلَى الحَقائقِ كما هِيَ مَهْما كانَتْ مُرَّةً حِينًا وُمُزْعِجَةٌ حِينًا وَمُثِيرَةً أحْيانًا... وَهَذِهِ هِيَ الواقِعِيَّةُ فِي أبْلَغِ مَعانِيها وَارْسَخِ مَبانِيها!؛ إنَّ هَذِهِ الرُّؤيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبارِ النَّشاطَ الإنسانِيَّ عُمُومًا- والنَّشاطَ الفَنِّيَّ بِخاصَّةٍ، هُوَ فِي الحَقِيقَةِ : مُجَرَّدَ ظَواهِرَ وَوَقائعَ يَجِبُ الوُقُوفُ لَدَيها وَتَسْجِيلُ خَصائصِها وتَعْلِيلُها وَتَفَهُّمُها مُجَرَّدَةً بِلا تَزَيُّدٍ أو مُغالاةٍ.. وَدُونَ الاهتِمامِ بِأحكامٍ مُسْبَقَةٍ!...

إنَّ الواقِعِيَّةَ بِما أنَّها رَفْعٌ لِواقِـعٍ يَفِيضُ بالتَّطَوُّرِ والتَّغَيُّرِ والنَّماءِ وَالحَيَوِيَّةِ... فَهِيَ تُمَثِّلُ طَوْقَ نَجاةٍ لِلانْعِتاقِ مِنْ أسْرِ تَقْلِيدِيَّةِ الجُمُودِ والتَّحَجُّرِ عِنْدَ أدَبِ القَوالَبِ الجَاهِزَةِ وَالانْطِباعاتِ المُسْبَقَةِ!... وَلَعَلَّ هَذا التَّوْصِيفَ لا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الواقِعِيَّةِ نَزْعَةً عالَمِيَّةً!... لَكِنَّ الَّذِي انْشُدُهُ : هُوَ واقِعِيَّةً مُتَعَقِّلَةً مُتَّزِنَةً مُسْتَنِدَةً إلَى مَنْطِقِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النّاسَ جَمِيعًا عَلَيْها.

وَلِذَلِكَ، فَقَدْ أصْبَحَتْ الظَّواهِرُ المائلَةُ فِي مَدارِ حَرَكَةِ العُمْرانِ البَشَرِيِّ : رُكْنًا رَكِينًا فِي رُؤيَةِ الرّوائيِّ لِعَالَمِهِ الفَنِّيِّ الَّذِي يَمْتَدُّ طُولاً بِعَرْضِ السَّماواتِ وَالأرْضِ!... وَهَذا يَعْنِي أنَّ الرّوائيَّ حِينَ يَبْحَثُ عَنْ ذاتِهِ كَإنْسانٍ وَعَنْ مَوْقِعِهِ كَخَلِيفَةٍ فِي فُسْحاتِ تِلْكَ المَنْظُومَةِ الكَوْنِيَّةِ... فَلا يَعْتَدُّ بِحواجِزَ وَلا مَوانِعَ تَقِفُ حائلاً دُونَ اتِّصالِهِ بِحَقائقَ النَّفْسِ وَالكَوْنِ والحَياةِ... وَهَكَذا تُصْبِحُ الواقِعِيَّةُ بِلا ضِفافٍ- عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِ « جارُودِي».

إنَّ الواقِعِيَّةَ لَيْسَتْ بِطَبِيعَةِ الحالِ تَجْرِبَةً خاصَّةً مُنْعَزِلَةً عَنْ إنْسِيَّةِ الإنْسانِ المُسْتَخْلَفِ، وَلا هِيَ تَوصِيفًا لِمَوْقِفٍ إثْنِيٍّ أو طائفِيٍّ أو انْعِكاسًا لِرُؤيَةٍ طائفِيَّةٍ دِينِيَّةٍ أو لأيْديُولُوجِيَّةٍ أو مَوقِفٍ اجْتِماعِيِّ أو سِياسِيِّ... كَلاَّ، بِلْ إنَّها رُؤيَةٌ حَضارِيَّةٌ لِكَافَّةِ الظَّواهِرِ المُتَعَلِّقَةِ بالإنسانِ والكَوْنِ والحَياةِ مِنْ خِلالِ وَسائطَ وَسَطِيَّةٍ تَتَمَوْقَعُ بِالأنا وَالآخَرِ فِي حُدُودِ ذَلِكَ البُعْدِ الَّذِي تَتَجَلَّى مِنْ خِلالِهِ الحَقائقُ عَلَى طَبِعَتِها دُونَما تَحْدِيبٍ أو تَقْعيرٍ.

وَهُنا تَأتِي أهَمِّيَّةُ وُجُودِ الأدِيبِ الَّذِي تَتَّسِقُ نَفْسُهُ وَمَشاعِرُهُ وَأحاسِيسُهُ وَهَواهُ وَمَواهِبُهُ مَعَ حَرَكَةِ هَذا الكَونِ المُتَرامِي؛ بَلْ مِنْ هُنا تَأتِي أهَمِيَّةُ دَوْرِ الشَّاعِرِ فِي مَدَى قُدْرَتِهِ على تَشْخِيضِ أدواءِ الإنسانِيَّةِ، وَتَوصِيفِ دَوائها المُناسِبِ الَّذِي يَعُودُ بِها إلَى مَدارِ إبْداعِها الحَضارِيِّ!...

وَلَعَلَّ مِنْ أهَمِّ فُرُوضِ الرَّؤيَةِ الواقِعِيَّةِ فِي الأدَبِ المَحْكِيِّ بِعامَّةٍ والرِّوايَةِ بِخاصَّةٍ، أنَّ الرِّوائيَّ بِما يَمْلِكَهُ مِنْ ضَمِيرٍ وَما يَسْتَغْرِقَهُ مِنْ أحاسِيس وَمَشاعِرَ وَوِجداناتٍ إنسانِيَّةٍ... لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ أيديُولوجِيًّا؛ فَالأيديولوجيا إذا اقْتَحَمَتْ عالَمَ الرِّوايَةَ أفْسَدَتْهُ!؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ المَذَمَّةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً إلاَّ بِقدْرِ ما يَبْدُو الحَسَنُ قَبِيحًا، والقَبِيحُ حَسَنًا!...

وَهُنا تَأتِي أهَمِّيَّةُ وُجُودِ الأدِيبِ الَّذِي تَتَّسِقُ نَفْسُهُ وَمَشاعِرُهُ وَأحاسِيسُهُ وَهَواهُ وَمَواهِبُهُ مَعَ حَرَكَةِ هَذا الكَونِ المُتَرامِي؛ بَلْ مِنْ هُنا تَأتِي أهَمِيَّةُ دَوْرِ الشَّاعِرِ فِي مَدَى قُدْرَتِهِ على تَشْخِيصِ أدواءِ الإنسانِيَّةِ، وَتَوصِيفِ دَوائها المُناسِبِ الَّذِي يَعُودُ بِها إلَى مَدارِ إبْداعِها الحَضارِيِّ!... وَهُنا أيْضًا تَبْدُو أهَمِّيَّةُ العَمَلِ الفَنِّيِّ الَّذِي بَيْنَ أيدِينا!... الَّذِي بَلَغَ مِنْ عُمْقِهِ وَرَصانَتِهِ ما كانَ جَدِيرًا بِنا جَدِيرٌ أنْ نَنْحِتَ لأجْلِهِ مِنْ عالَمِ النَّقْدِ مُصْطَلَحًا يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهُ « الواقِعِيَّةَ المُتَجَدِّدَةَ»؛

وَإنَّنِي أُرِيدُ بِهَذا المُصْطَلَحِ « الواقِعِيَّةَ المُتَجَدِّدَةَ» : أنْ أُؤسِّسَ لِتَوَجُّهٍ أدَبِيٍّ يُعْنَى بِرَفْعِ الواقِعِ مُمْتَزِجًا بِحالَةٍ مِنَ التَّوَظُّفِ الكامِلِ ِللمَشاعِرِ وَالأحاسِيسِ وَالوجداناتِ وَالخَيالاتِ.. وَاسْتِثمارِ كَافَّةِ المَلَكاتِ الرُّوحِيَّةِ فِي خِضَمِّ التَّفاعُلِ مَعَ الواقِعِ لِتَتَبَلْورَ فِي صِياغَةٍ أدَبِيَّةٍ مُبْدِعَةٍ.. وَفِي صُوَرٍَ أدَبِيَّةٍ رائقَةٍ... تَصِفُ الأشياءَ بِلُغَةِ الفِطْرَةِ الَّتِي يَفْهَمُها كُلُّ إنسانٍ بِسَلِيقَتِهِ!...

نَدْلُفُ إلَى الرّوايَةِ الَّتِي أنْشأها يَرَاعُ الكاتِبِ وَالأدِيبِ الرّوائيِّ الجَزائرِيِّ عِزِّ الدِّينِ جَلاوجِي؛ حَيْثُ تَدُورُ أحداثُها عَلَى واحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ البِقاعِ الَّتِي عاشت مأساةً إنسانِيَّةِ بِكُلِّ ما تُلْقِيهِ المَأساةُ مِنْ ظِلالِ كَثِيفَةٍ مِنَ الكآبَةِ وَالأسَفِ لِما يَبْدُو مِنَ الإنسانِ حِينَ يَتَجَرَّدُ مِنْ إنسانِيَّتِهِ فَيَضْحَى غُولاً أهوجَ أحْمَقَ يَنْشُرُ الخَوْفَ والعُنْفَ وَالإرعابَ والإرهابَ عَلَى الآمِنِينَ!...

فَرَغْمَ كَثافَةِ الخَوفِ والرُّعْبِ والتَّوَجُّسِ الَّذِي أبْدَعَ الكاتِبُ تَصْوِيرَهِ وَهُوَ يَعْبَثُ بِعُـشِّ الآمِلِِيـنَ فِي حَياةٍ آمِنَةٍ مِنْ شَغَبِ الغِيـلانِ المُتَغاشِمَةِ... وَرُغْمَ نَزْفِ الحُرُوفِ الَّتِي بَدَتْ وَكَأنَّها تُقاسِمُ أبْطالَ الرِّوايَةِ هُمُومَهُم، وَتُشاطِرَهُم أحْزانَهُم، وَتُواسِي جِـراحَهُم... وَرَغْمَ ما بَلَغَتْهُ تِلْكَ الجِــراحُ مِنْ عُمْقٍ قَـدْ أدْخَلَ المُتَلَقِّـي فِي دَوَّامَةِ الألَـمِ النَّفْسِيِّ والتَّوَتُّـرِ الشُّعُورِيِّ والاهْتِـزازِ الوُجدانِيِّ العَنِيفِ الَّذِي وَضَعَهُ عَلَى شَفا اليأسِ والإحباطِ!... لَكِنَّ عِزَّ الدِّينِ جَلاوجِي اسْتَطاعَ أنْ يَرْسُمَ فِي خَلْفِيَّةِ الصُّورَةِ مَلامِحَ بِعَيدَةً لِلأمَلِ وَالأمانِ.. تِلْكَ المَلامِحُ الَّتِي تَكَوَّنَتْ فِي تَضارِيسِ الصُّمُودِ وَالتَّحَدِّي الَّتِي ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِ الأبِ وَهُوَ يُدافِعُ عَنْ أُمِّهِ الَّتِي تُمَثِّلُ جُذُورَهُ وَأصالَتَهُ... ثُمَّ اسْتِماتَةَ الأمِّ عَلَى قِيمِ العَطاءِ... وَلَيْسَ عَلَى الأمِّ بِعَزِيــزٍ أنْ تَمْنَـحَ صِغارَها الحَياةَ حَتَّى فِي أحْرَجِ اللحْظاتِ.. وَكَأنَّما اللهُ يُخْرِجُ الحَـيَّ مِنَ المَيِّتِ!.

لَقَدْ اسْتَطــاعَ الكاتِبُ أنْ يَسْتَخْلِصَ مِنَ أتُونِ المِحْنَةِ أنْبَلَ مَشاعِرِ التَّشَبُّثِ بالوَطَنِ الَّتِي بَدَتْ كالبَرْقِ الَّذِي يُصِيبُ الظَّـلامَ بِالتَّصَدُّعِ فَيَكادُ يَقْضِي عَلَيْهِ مُؤذِنًا بِفَجْرِ جَدِيدٍ!.. إنَّها إرادَةُ الحَياةِ الَّتِي تَتَجَسَّدُ فِي ابْتِسامَةِ صِغِيرَةٍ رَغْمَ جِراحِها المُثْخَنَةِ... قَدْ قُدِّرَ لَها أنْ تَنْجُوَ مِنَ المَوتِ فَتَبُثُّ فِي الأشلاءِ المُتَرامِيَةِ هُنا وَهُنـاكَ الأمَلَ فِي الحَيـاةِ مادامَ التّارِيخُ تارِكًا ذِكْرَياتِهِ الحَيَّةِ عَلَى جَبِينَ البَراعِمِ النّاشئةِ، فالأمَلُ باقٍ مَهما سالَتْ الدِّماءُ وَمَهْما انْتَكأتِ الجِراحُ!... تأمَّل الشَّيْخَ وَهُوَ يَقُولُ : « هَؤلاء الأبْرِياء الذين دفنوا في رحم الأرض... سينبتون زهورا للخير والحب والتسامح نواجه بـها غيلان الشر والأنانية»

يا لِبلاغَـةِ السَّـرْدِ بِإيحاءاتِهِ المُوجَزَةِ وَإيجازاتِهِ المُوحِيَةِ بِسَيْلِ التَّعابِيــرِ الدَّقِيقَةِ، الَّتِي ارْتَسَمَتْ بِمِدادِ عِزِّالدِّينِ جَلاوجي وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أنَّهُ فِي أزْمِنَةِ الجِــراحِ « ... ليس هناك شيء ألذ ولا أحلى وقد عصرت الفاجعة مرارتها في فم الجميع… » إنَّها المَرارَةُ الَّتِي تُغَذِّي الأجيالَ النّاهِضَةَ بِأُكْسِيــرِ الحَياةِ الكَرِيمَةِ

يا لِجَمالِ وَرَوْعَةِ وَجَـلالِ إبداعٍ قَدْ تَفَـوَّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي غَيْرِ لَقْطَةٍ وَمَشْهَدٍ وَمَوقِفٍ!... فَعَلى الرَّغْمِ مِنْ الإيقاعِ الدِّرامِي الحَزِينِ لِلرّوايَةِ... بَيْدَ أنَّ تِقَنِيَّةِ العَمَلِ الرِّوائيِّ لَمْ تَرْتَكِزُ عَلَى الحُزْنِ كَبُعْدٍ فَنِّيٍّ وَحِيدِ، كَلاَّ،  فإنَّ سِيمفُونِيَّةَ السَّرْدِ كانَتْ مَلْحَمِيَّةً... تُسْلِمُنا مَشاهِدُها وَمَواقِفُها وأحداثُها إلَى بَعْضِها دُونَ إرادَةٍ مِنّا، وَدُونَ أنْ يَظْفَرَ مِنّا المَلَلُ بِالْتِفاتَةٍ واحِدَةٍ!... إنْ هِيَ إلاَّ تَنْهِيـدَةٌ بِإثْرِ تَنْهِيـدَةٍ... فَما يَكادُ المَرءُ يَنْتَهِزُ فُرْصَةً لالْتِقاطِ أنفاسِهِ حَتَّى يأخُذُ نَفَسًا طَوِيلاً عَساهُ يَمْتَدُّ بِه إلى مَدًى أبْعَدَ مِنَ ذَلِكَ السِّياقِ الَّذِي أدْمَنَ القارِئُ الاسْتِغراقَ فِيهِ بِتَحَبُّبٍ وَتَوَدُّدٍ أمَلاً ألاَّ تَنْفَدَ كَلِماتُهُ!... حَتَّى لَقَدْ صارَتْ تِلْكَ الكَلِماتُ بِمَثابَةِ المُفْرَدَاتِ الفَنِّيَّةِ الَّتِي تَتَألَّفُ مِنْها سِيمفُونِيَّةُ الحَياةِ وَأُنْشُودَةِ لِلأجيالِ... تُرَدِّدُها فِي أمَـلٍ وَثِقَةٍ وَثَباتٍ :

« أيـها الليل طل ما شئت...

أيتـها السماء أمطري ما بدا لك...

أيتها الدروب الوعرة تمددي إلى سدرة المنتهى...

في قلوبنا...

في صدورنا براكين التحدي...

في جوانحنا حرارة الاستمرار... »

إنَّها التَّعابِيـرُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي تَمْتَزِجُ فِيها الصُّوَرُ الشِّعْرِيَّةُ بِالنَّسَقِ السَّرْدِيِّ لِلرِّوايَةِ فَتُؤَلِّف فِي الأخِيرِ عَمًلاً فَنِّيًّا مُتَكامِلاً مُتَماسِكًا!...

رَغْمَ قِلَّةِ الحِيَلَةِ وَتَواضُعِ الإمكاناتِ وَتَواطُؤ الواقِـعِ بُكُلِّ سَخافاتِهِ وَغَشَمِهِ وَغَباواتِهِ... رَغْمَ كُلِّ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ... تَرْتَفِعُ عَقِيرَةُ الحَقِّ الواثِقُ « وماذا نملك نحن غير هؤلاء البسطاء الذين يفيضون حماسا وتعلقا بالأرض؟ ... يجب أن نستمر لنبقى غصة في حلوق الظالمين...  يجب أن نستمر لنبقى حصنا أمام عواصف الشر... » وَفِي ظِلِّ هَذا الإصرارِ العازِمِ الحازِمِ الجازِمِ عَلَى صِناعَةِ الحَياةِ، لَمْ يَكُنْ لأمَلِ تِلْكَ الحَيـاةِ بُدٌّ مِنَ النُّمُـوِّ وَالتَّـرَعْرُعِ حَتِّى يَصِيـرَ وارِفَ الظِّـلالِ بِهَيَّ الجَــلالِ سَهْلَ المَنــالِ!...

وَفِي خِضَمِّ الأسْئلَةِ المُتَدافِعَةِ : « ما الذي وقع؟؟ إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أهي العودة للوطن؟؟ أم هو رحيل آخر في دروب التشرد والضياع؟؟ يَنْسـابُ الجَوابُ جَذْلاً تارَةً عَلَى لِسـانِ المُجاهِدِينَ :  وَتارَةً أُخْرَى يِأتِي الجَوابُ بَلِيغًا حَيْثُ « توقفت الأميرة عندي فغمرني شعور من الفرحة العارمة، خاصة وهي تنحني فتطبع على جبهتي قُبلة، رحلت معها إلى الشرق حيث الجذور متينة قوية...» إنَّها الأواصِرُ الغائبَةُ الحَاضِرَةُ!...

وَفِي جَوٍّ مِنْ تَعانُـقِ المَشاعِرِ الإنسانِيَّةِ الطّاهِرَةِ مِنْ نَجَسِ التَّعَصُّبِ وَالمَتَطَهِّرَةِ مِنْ رِجْسِ الهَـوَسِ الدِّينِيِّ بِتَصـادُمِ الحَضاراتِ... وَبَعِيدًا عَنْ الرُّؤوسِ الَّتِي تَدُورُ نَشْوَةً وَاغْتِـرارًا بِنَهايَةِ التّارِيــخِ... كانَتْ صَبِيحَةُ الدُّنِيا الجَدِيدَةِ كَفَراشَةٍ صَغِيـرَةٍ تَفْـرَحُ وَتَمْـرَحُ فِي كَنَفِ بَراءَةِ الرِّبِيــعِ... وَقَدْ أطْلَقَتْ لِساقَيْها عَنانَ السَّمـاءِ المُشْرِقَةِ بِشَمْسِ الحُريَة الوَدُود..

 

 

صورة الطفل

في الفراشات والغيلان مقاربة موضوعاتية 1

 

د. حسين فيلالي (جامعة بشار)

   

تمهيد

شهد العالم حروبا كثيرة لا تزال آثارها المدمرة عالقة في أذهان الناس، ولعل الحربين العالميتين من ابرز الماسي التي عرفها التاريخ الحديث.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن أعلى نسبة ضحايا الحروب تسجل - في اغلب الأحيان -من بين الأطفال والنساء والشيوخ. هذه الفئات التي ذكرناها تبقى المتضرر الأكبر في الحروب، إما بالموت، أو بفقدان العائل.إن هذا الفعل/الحرب رغم أنه كان،و سيظل مستهجنا، ومرفوضا من جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إلا أن الإنسان كثيرا ما ينساق وراء نزواته، ومصالحه الشخصية، ويسعى إلى تحقيقها بشتى الوسائل حتى وإن أدى ذلك إلى الحرب، وتدمير الإنسانية.

إن المستقريء للتاريخ يسجل أن المثقفين، والفنانين، والأدباء على اختلاف مشاربهم كانوا من الأوائل الذين وقفوا ضد هذا الفعل المنكر/الحرب، وسجلوا الآثار السلبية المترتبة عنه حتى وان كان الفاعل من بني جلدتهم. إن الرواية العربية لم تكن بدعا عندما سجلت الصراع الإسرائيلي العربي، وسجلت كفاح الدول من اجل الحرية.والروائي الجزائري الذي ذاق مرارة الحرب أكثر من غيره لم يبق خارج ما يجري في العالم بل ظل يتفاعل مع الأحداث المأساوية المحلية، والإقليمية، والدولية في العالم، ورواية الفراشات والغيلان التي نحن بصدد تقديمها في هذه الورقة تؤكد ما نذهب إليه.

ملخص الرواية:

نعلم أنه لايمكن أن يلخص الدارس عملا أدبيا دون الإخلال بمعناه، ومبناه ولكن ضرورة المنهج تشفع لنا هذا التعسف.                           

تدور أحداث الرواية في إقليم كوسوفا، وتتخذ موضوعا لها مأساة أطفال شردهم الحرب، والظلم، وجعلهم يكبرون قبل الأوان، تحترق لديهم مراحل الطفولة، ويتشابه الزمن لديهم ويختزل في زمن واحد هو زمن الموت المتربص بهم ليل نهار، ويغتصب الوطن أمام أعينهم، كما تغتصب أمهاتهم،*. وعماتهم (وتسمرت عينا يا على المشهد المريع... ياللفضاعة؟يا لهول الفاجعة، يا للجريمة النكراء، ماذا فعلت عمتي المسكينة حتى يفعلوا بها هذا؟ كانت عارية تماما..مددت على ظهرها والدم القاني ينزف بطيئا..)". رواية الفراشات والغيلان-ص:19

ولعل المتتبع لمسار الرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة باللغة العربية يلاحظ أنها قد خرجت لأول مرة عن إطار الإقليمية والمحلية لتعانق هموم إنسانية عالمية، وترسم مأساة شعب مزقته الحرب، شعب عرف أكبر مجزرة في التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، مجزرة سبر ينتشا التي راح ضحيتها سبعة آلاف ضحية، حصل ذلك في تموز 1995.

الطفل الطريدة:

تنفتح الرواية على مشهد مطاردة، وكأننا أمام فيلم سينمائي يصور لنا مشهدا من مشاهد الرعب، والخوف ويهيئنا لمتابعة المشهد الروائي حيث يضعنا الناص منذ البداية أمام مجهولين يطاردون طفلا يحمل لعبة.

 (اجري..أتعثر..أعدو..تنهش الحجارة زبدة ركبتي..نباح جنود يلسع قلبي الصغير خوفا..أغمض عيني أو أكاد...تغرق مقلتي في نهر من الدموع.)ص7 إننا إذن أمام مطارد/الجنود بفتح الطاء وكسر الراء، ومطارد/الطفل،  بفتح الطاء والراء، ولكن الناص يحجب عنا سبب هذه المطاردة ليشوقنا أكثر إلى متابعة أحداث الرواية، أو هو يريد أن يبقى خارج الإطار كما يقول فنانو الصورة، فيتوارى، أو يحاول أن يوهمنا بذلك من خلال التخفي وراء صوت الراوي.

الطفل/الراوي:

 (أجري..أتعثر اسيج لعبتي بذراعي النحيلتين... أضمها إلى صدري يحاصرني نباح الجنود...يغتال الهواء من حولي..أحس بالاختناق..). هكذا يتكشف لنا مكان بداية الأحداث وسبب المطاردة وهو اغتيال رغبة اللعب في نفسية الطفل وحرمانه من إشباع أهم رغبة من رغباته التي تسهم في توازنه النفسي، وتكوين شخصيته، غير أن الطفل الذي يجهل ما اقترفه من ذنب حتى يمنع من اللعب يظل مصرا على الاحتفاظ بلعبته وكأنه يؤجل فعل اللعب إلى حين (أسيخ لعبتي بذراعي..). إن الطفل يظل مصرا على المقاومة والتحدي (اشد لعبتي إلى صدري لن يخطفها الكلاب مني..) هكذا يفسر الطفل/الراوي سبب المطاردة وهو السطو على لعبته وتكسيرها، أو أخذها لأطفالهم، لذا نراه يتشبث بها (لن يدوسوا عليها بإقدامهم الغليظة...لن يأخذوها لأطفالهم.)ص.8

هذا التفسير الساذج لأسباب المطاردة والصراع وحصرهما في السطو على اللعبة، يظهر لنا براعة الناص الذي نجح في جعل تفسير الطفل لما يجري حوله من أحداث يتلاءم مع سنه وقدراته العقلية، إذ يتساءل ببراءة (ماذا فعلت حتى يعدو خلفي هؤلاء..)ص10.

 إن الإجابة عن هذا السؤال تبقى معلقة إلى حين، ذلك أن الأحداث الروائية المتلاحقة هي الكفيلة بتوضيح هذا السؤال فيما بعد والإجابة عنه.

 وطبيعي في حالة الخوف هذه أن تنتهي المطاردة إلى بيت الأسرة، وأن يلجأ الطفل إلى منزله الذي يمثل له بر الآمان والملاذ الذي يهرب إليه كلما داهمه خطر (تفتح أمي الباب على مصرعيه...يتوهج النور...يتسلل إلى شغاف القلب...يغتال عنه الخوف.. تخطفني من العتبة... تضمني إلى صدرها كالبرق..)ص9. غير أن هذه الطمأنينة ما تلبث أن تتبخر، إذ المنزل لم يعد يوفر السكينة لأهله، ولا الآمان، كما توهم الطفل، ولم يعد أي أحد منهم في منأى عن مخالب الغيلان، حيث يعم الرعب الجميع ويشرع الخوف أبوابه، وينشر الهلع أرديته السوداء، وينتقل الإحساس بالموت من الفرد/الطفل ليشمل الجماعة/الأسرة( يقترب نباح الجنود وقهقهاتهم..وقع أقدامهم يزلزل تحتنا الأرض..يكاد يدك البيت فوق رؤوسنا... رعب يستولي على الجميع..رعب لم أره في عيون أسرتي من قبل...)ص9

ومن منزل الأسرة يبدأ فصل جديد من المأساة يكون الطفل شاهد عيان عليها (يصلون.. يشرعون في التهام الباب...يغتال الخوف الجميع فيركنون إلى زوايا الحجرة...) ص9

هكذا يشرع الجنود في التهام الباب، وفي امتصاص مساحة البيت ويجعلونه يضيق على أهله، فيتحول من بيت إلى حجرة، إلى مجرد زوايا حجرة، إلى أن تمحي معالمه، عندها يتسع حضن الأم ليصبح الملجأ الوحيد للطفل(..يشرنق الهلع أمي...تبتلعنا في حضنها أنا وأختي الصغيرة عائشة ذات العام والنصف العام.)

 ورغم هذه الأحداث المرعبة التي مرت بالطفل فهو لا يزال إلى الآن غير قادر على إدراك مرامي المطاردة، ولا تحديد هوية المطارد إذ نجده يتساءل ببراءة( لم أكن ادري ما الذي وقع؟ماذا فعلت أسرتي ؟لماذا يهاجمون منزلنا؟لماذا تخاف أسرتي وتستسلم بهذا الشكل وبهذه الطريقة؟ ص10

ولما يعجز الطفل عن تفسير ما يجري حوله من أحداث، ينقل السؤال إلى جهة تعود أن يجد عندها أجوبة لما يشكل عليه فيستفسر أمه:'( سألت بصوت خافت أمي.)

وردت بصوت خافت أيضا :" اسكت إنها الغيلان..الغيلان ستلتهمنا جميعا...فقط يجب أن تسكت لكي لا تتفطن إلينا..) ص10

 وتأتي إجابة الأم على القدر الذي يفهمه الطفل( إنها الغيلان..ستلتهمنا جميعا..). ويبدأ الطفل من هنا في تشكيل صورة جنود الصرب/ الغيلان الدين يطاردونه، ويهددون أسرته اعتمادا على ما تختزنه الذاكرة من مرويات شعبية فهم مزيج من البشر والحيوانات(..هل هذه التي كانت تخوفنا بها جدتي ليلا كلما أمعنا في إثارة غضبها؟ لقد صدقت أمي..لقد رأيتهم..إنهم مزيج من بشر وكلاب وخنازير..طوال عراض يحملون قطعا تلمع..يلبسون أحذية ثقيلة...مخالب أيديهم طويلة حادة...منا خيرهم مدببة..آذانهم ممتدة إلى الأعلى أصواتهم نباح..)ص11

الطفل الشاهد:

ومع تطور الأحداث يتحول الطفل من طريدة يتلهى بها الغيلان، ومن راوية للأحداث إلى شاهد على المأساة، (وفجأة اندفعت جدتي النحيفة وقد كاد المرض يهدها تردهم عن أبي وقد اجتمعوا عليه كالطيور الجارحة وعالجوا جدتي بضربة قوية على خدها الأيمن فأسقطوها أرضا دون حراك. وهم والدي أن يوقفها من سقطتها فأ فرغ فيه احدهم وابلا من رصاص تقيأته حديد ته اللماعة الطويلة وملأ الحجرة وميضا شديدا..تهاوى أبي جثة هامدة فوق جدتي..)ص13

(وتدافعت من تحت والدتي حتى خرجت وقد احمرت كل ثيابي...لا شيء في البيت.. جثث مبعثرة هنا وهناك...اشتد ذعري..يا لهول الفاجعة جدتي وقد تهشم رأسها.. والدتي وقد غطى الدم صدره..قريبا منه عمتي تتكيء جثتها على الحائط وقد فغرت فاها.. وتسايل الدم من ثقبة في جبهتها....أمي وقد تكومت في بركة كبيرة حمراء.)ص16

هكذا تبدأ أوراق شجرة الأسرة في التساقط الواحدة تلو الأخرى، الجدة، الأب، العمة، الأم، وتدخل الرواية في إيقاع موسيقي جنائزي جديد يعزف لحن الموت على مرأى، ومسمع الطفل(ولم استطع أن انهض من مكاني كان جسد أمي متهالكا ثقيلا على صدري رغم ارتخاء يدها عن فمي وكان دمها الحار المتدفق ما يزال يغسل جسدي كله ويتسلل إلى البلاط من تحتي...)ص. 15.

  وبفقدان الأم، والأب تبدأ احتراق مراحل الطفولة، ويكبر الطفل قبل الأوان، وتحوله المأساة- مؤقة- إلى رجل، وتسرق منه طفولته، وبراءته، وتبدأ رحلة التشرد، والضياع، (دعانا زوج خالتي إلى الاستعداد..لابد أن نكون رجال أشداء..إن الرحلة ستكون طويلة شاقة بدون شك..وستكون محفوفة بالمخاطر الجسام..مخاطر الأمراض والصرب وتقلب الطقس..إن الفصل شتاء والبرد شديد والزاد قليل.وبسرعة ارتدينا ملابسنا وظهرنا في كامل الاستعداد..من هذه اللحظة يجب أن نذبح الطفولة والبراءة..يجب أن نكون رجـالا..)ص50.

انتصار البراءة:

وإذا كانت الرواية تبدأ بمحاولة الغيلان/الصرب قتل اللعب، ومطاردة الطفل، فإن نهايتها تفاجأ القاري بانتصار الفراشات/البراءة على الغيلان/ قوة الشر، وتشرق شمس الحرية على كوسوفا، ويعود الأطفال إلى ممارسة ألعابهم المفضلة(..ثم تدافع الجميع مبتعدين عنا وتفرق الأطفال كل يمارس لعبته المفضلة..وفي الوقت الذي اندفع فيه صديقي عثمان للعب كرة القدم امتطيت أنا صهوة الأرجوحة ورحت أتأرجح ببطء إلى الأمام والى الخلف اغني أغنية الوطن الجميلة وأتخيل الأطفال ألاعبين أمامي فراشات جميلة تدغدغ خد الأرض في براءة وتحلم بشروق الشمس.)ص.115

 

 

 

المراجع

1.      ينظر حسين فيلا لي- السمة والنص السردي- مقاربة في شفرة اللغة- دار هومة- الجزائر - 2003

2.  عزا لدين جلاوجي- رواية الفراشات والغيلان- دار هومة الجزائر-2003

الفهرس

 

1.      الـرد بالكتابـة قراءة في رواية "الرماد الذي غسل الماء " للروائي الجزائري عز الدين جلاوجي          

                                                                                             د.أحمد فرشوخ (المغرب)

 

2.      التوازي ولعبة المرآة في "الرماد الذي غسل الماء"  للأديب عزالدين جلاوجي                            

                                                                                            د. حسين فيلالي (جامعة بشار)

 

3.      بلاغة التقابل في رواية الرماد الذي غسل الماء  

                            د. بوشعيب الساوري (المغرب)

 

4.      سؤال العنوان- عتبة اللامنظور قراءة في رواية :الرّماد الذي غسل الماء

                                أ: اليامين بن تومي (جامعة سطيف)

 

 

5.      متاهة الراهن  في رواية "الرماد الذي غسل الماء" للروائي  عزالدين جلاوجي

                               أ.عبد الحميد ختالة (جامعة خنشلة)  

6.      بنية الزمن في رواية "الرماد الذي غسل الماء" لعزالدين جلاوجي

                             أ.عبد الحفيظ بن جلولي (بشار)

 

7.      الإبداع السردي والانهيار الاجتماعي في رواية الرماد الذي غسل الماء لعزالدين جلاوجي

                                                                                أ – وليد بوعديلة- جامعة سكيكدة

 

8.      دلالة العتبات وشعرية الحواشي في "الرماد الذي غسل الماء" لعز الدين جلاوجي

                                                                               د : سليمة لوكام (جامعة تبسة)

 

9.      شعرية الرواية وهاجس التجريب في "سرادق الحلم والفجيعة" للروائي عز الدين جلاوجي

                                                                          د. خامسة علاوي (جامعة قسنطينة)

 

10.  جمالية المقاومة: طرائق اشتغال الأدب الشعبي في سرادق الحلم والفجيعة

                                                                                         د. أحمد فرشوخ (المغرب)

11.  دلالة المكان في رواية "سرادق الحلم والفجيعة" لعزالدين جلاوجي

                                                                      د.عبد الحميد هيمة (جامعة ورقلة

 

12.  التخييل الأسطوري للراهن في رواية سرادق الحلم والفجيعة

                                                                          د.بوشعيب الساوري (المغرب)

 

13.  الاغتراب في رواية سرادق الحلم والفجيعة

                                                                      د. أحمد موساوي (جامعة ورقلة)

 

14.  استراتيجية التناص وتأويله في سرادق الحلم والفجيعة لـ عزالدين جلاوجي

 

                                                                           أ . حكمت النوايسة (الأردن)

 

15.  سرادق الحلم والفجيعة لجلاوجي  إضافة نوعية للأدب الجزائري الحديث

                                           أ.عبد الحميد مغيش (روائي ومترجم وإعلامي جزائري)

 

16.  رواية سرادق الحلم والفجيعة الشاهد على اغتيال الوطن؟!

                                                                         أ.عمر سطايحي (البويرة)

 

17.  تجليات المهيمنة في رواية سرادق الحلم والفجيعة

                                    أ . مسعود وقــاد أستاذ مكلف بالدروس (جامعة – الوادي )

 

18.  سيميائية الشخصية النسوية  في روايـة "راس المحنـة" لعزالدين جلاوجي

                                                       أ.عبد الحميد هيمه (جامعة الإمام الرياض)

 

19.  تفاعل المتخيل مع الراهن الجزائري  في رواية "راس المحنة" لعزالدين جلاوجي

                                                                 د. وليد بوعديلة (جامعة سكيكدة)

 

20.  راس المحنة  لعزالدين جلاوجي اللغة التي تتقاطع مع الواقع

                                                                    أ.عبد الحفيظ بن جلولي (بشار)

 

21.  تجليات المحنة الجزائرية وحلم الخلاص في رواية راس المحنة لعزالدين جلاوجي

                                                                      أ.احسن تليلاني (جامعة سكيكدة)

 

22.  أزمة الهوية أم عبثية الراهن في "راس المحنه" مقاربة حول تعالق راهنية الهوية

                                                            أ د: بشير بويجرة محمد (جامعة وهران

 

23.  بلاغة السخرية في رواية رأس المحنة

                                                                     د. بوشعيب الساوري (المغرب)

24.  خطاب الفعل/فعل  المحو في الفراشات والغيلان

                                                        د. حسين فيلالي (جامعة بشار)

 

25.  الواقِعِيَّةُ المُتَجَدِّدَةُ في رواية الفراشات وَالغِيلان لعِزُّ الدِّينِ جَلاوجِي...

                                                                                    عَطِيَّةُ الوِيشي (مصر) 26.  صورة الطفل  في الفراشات والغيلان مقاربة موضوعاتية

                                                                       د. حسين فيلالي (جامعة بشار)  

 

 

 

 

 

 

 


[1]  - عزالدين جلاوجي كاتب وأديب أصدر حتى الآن 20 كتابا في صنوف القول خاصة الرواية والقصة والمسرحية كتبت عنه دراسات نقدية كثيرة نشرت في منابر عربية، مؤسس ورئيس رابطة أهل القلم، من رواياته سرادق الحلم والفجيعة، الرماد الذي غسل الماء، راس المحنة 1+1=0

[2]  - ينظر على سبيل المثال عبد الله الركيبي تطور النثر الجزائري الحديث- المؤسسة الوطنية للكتاب-1963 ص:199

[3]  - تقول شلوميت ريمون في كتابها: التخيييل القصصي- الشعرية المعاصرة- ت- لحسن حمامة :أعني بالتخيييل القصصي السرد المترابط للأحداث التخيلية... يوحي مصطلح السرد إلى عملية تواصل تتضمن قصا كرسالة مرسلة من مرسل إلى متلق و إلى الطبيعة اللفظية للأداة المستعمل لنقل الرسالة ص:10/11

[4] -  ينظر كتابنا السمة والنص السردي- منشورات أهل القلم- الجزائر 2003

1  -ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة : محمد برادة، دار الأمان . الرباط 1987. ص : 31.

2 – جاك دريدا، الصوت والظاهرة، ترجمة فتحي إنقزّو . المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء . الطبعة الأولى 2005.ص : 67.

3 – ابن منظور لسان العرب . مادة عنا  ج 15. دط. ص .ص : 101.  107 .

4 – بسام قطوس، سيمياء العنوان .وزارة الثقافة، عمان عاصمة الثقافة العربية .ط1. 2001.

5 – سعيد الغانمي، اللغة والخطاب الأدبي، المركز الثقافي العربي ط1 . 1993. ص : 53.

6 – محمد فكري الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي .الهيئة المصرية العامة للكتاب .1998.ص 70.

7 – جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر . ص : 79.

8 – المرجع نفسه .ص : 100.                

9 ـ Gérard genette. Seuils.edition du seuil .1987.

10- كريستين مونتالبيني، جيرار جنين، نحو شعرية منفتحة، دار الرحاب للنشر والتوزيع . ط1 2001.ص :107.

11 – المرجع نفسه .ص : 108.

12 – Martinez laurence . le role de paretexte .p  5.

13 –كمال أبو ديب .في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية . الطبعة الأولى 1987. ص : 90.

14 –عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء . ص : 36. 37.

15 – جميل شاكر وسمير المرزوقي . مدخل إلى نظرية القصة : تحليلا وتطبيقا .الدار التونسية للنشر،  ديوان المطبوعات الجامعية  الجزائر .. ص : 24.

 

 

 

[10]  - عزالدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماد. ط1 دار هومة الجزائر.

[11]  - جيرار جنيت، كدخل مدخل لجامع النص، ت: ع/ الرحمان الأيوب. ط2 دار وبقال. المغرب.

[12]  - الرواية، ص 14.

[13]  - الرواية، ص21.

[14]  - الرواية، ص198.

[15]  - الرواية، ص9.

[16]  - الرواية، ص155.

[17]   - الرواية، ص9.

[18]  - الرواية، ص20.

[19]  - الرواية، ص258.

[20]  - الرواية، ص14.

[21]  - الرواية، ص258.

[22]  - الرواية، ص259.

[23] -عز الدين جلاوجي من الأصوات الروائية الشابة التي استطاعت في السنوات الأخيرة أن تحفر بذكاء موقعها في خريطة السردية الجزائرية،لما تحمله أعماله من تعرية للواقع بالنقد والتحليل دون أن يتوانى في التوظيف الخيال ليرسم صورة بانورامية لمجتمع يفور ويتصارع فيها تتراجع قيمة الجمالية والقيمة بصورة مفجعة. إبراهيم سعدي،تسعينيات الجزائر كنص سردي الأحرار  الثقافي العدد9 جانفي 2006

[24]  ـ عز الدين جلاوجي: سُرادق الحلم والفجيعة، دار هومة ، الجزائر، ط1، 2000 .

*-" عز الدين جلا وجي من الأصوات الروائية الشابة التي استطاعت في السنوات الأخيرة أن تحفر بذكاء موقعا في خريطة السردية الجزائرية، لما تحمله أعماله من تعرية للواقع بالنقد والتحليل، دون أن يتوانى في توظيف الخيال ليرسم صورة بانورامية لمجتمع يفور ويتصارع فيما تتراجع قيمه الجمالية والقيمية بصورة مفجعة " . إبراهيم سعدي : تسعينيات الجزائر كنص سردي، الأحرار الثقافي، العدد9 / جانفي 2006

[25] -  مرتاض، عبد الملك : سؤال الكتابة ...ومستحيل العدم، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 417 / كانون الثاني 2006، متاح على [ موقع اتحاد كتاب العرب ].

[26]- نفسه.

[27]- شاهين، محمد: آفاق الرواية (البنية والمؤثرات )، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص3.

*- للروائي روايات  أخرى: الفراشات والغيلان، راس المحنة 1+1=0، الرماد الذي غسل الماء، وفي المقابل له ثماني مسرحيات وثلاث مجموعات قصصية.

[28] - كرومي، لحسن: حول بعض المفاهيم في الرواية الجديدة، تجليات الحداثة، وهران، العدد الثالث، جوان 1994، ص127 .( نقلا عن آلان روب غرييه) .

[29]  - نفسه، ص127 .

[30]  - شاهين، محمد : المرجع السابق، ص1 .

[31]  - مرتاض، عبد الملك : المرجع السابق .

* - نريد بالفضاء الحلولي ما أطلق عيه شاكر النابلسي المكان الحلولي ويعني به " المكان الذي يحل فيه جسد أو تحل فيه روح، ويمكن أن نطلق عليه المكان المسكون ."راجع : شاكر النابلسي : جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1994، ص16.

 

[32]  - شاكر، النابلسي : المرجع السابق، ص 30 .

[33]  - حليفي، شعيب : شعرية الرواية الفانتاستيكية، المجلس الأعلى للثقافة، المغرب، ص23 .

[34]  - سليمان، نبيل : فتنة السرد والنقد، دار الحوار للنشر والتوزيع ، سوريا، ط2، 2000، ص105 .

[35]  - رواينية، الطاهر : تضافر الشعري والأساطيري (قراءة في رواية العشاء السفلي لمحمد الشرقي )، تجليات الحداثة، العدد الثالث، جوان 1994، ص79 . 

[36]  - نفسه، ص84 .

[37]  - بو طيب، جمال : السردي والشعري في " مخلوقات الأشواق الطائرة " لادوار الخراط، عمان، الأردن، العدد 79، كانون الثاني 2002، ص75 .

[38]  - الرواية ، ص57 .

*  - ما يلحظ على هذا المقطع أن الروائي  تغنى به مرتين في الرواية، مرة تحت عنوان "الصفصافة"، ومرة أخرى تحت عنوان "الارتواء يولد الظمأ".  

[39]  - الرواية، ص89 .

[40]   - سليمان، نبيل : المرجع السابق، ص106 .  

[41] -  نظيرة الكنز: التناصية وألف ليلة وليلة ،الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العددان417، 2006، متاح على موقع اتحاد الكتاب العرب .

[42] - مدحت الجيار : النص الأدبي من منظور اجتماعي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، مصر، 2001، ص337 .

[43]  - نفسه، ص340 .

[44]  - الرواية، ص ص 52- 53 .

[45]  - الجيار، مدحت : المرجع السابق، ص 304 .

[46]  - الرواية، ص 48 .

[47]  - الرواية، ص 54 .

[48] - راجع : مقدمة الرواية التي جاءت في آخر صفحة منها (ص130) .

 [49]  - راجع : خطبة الهدهد على الملأ، الرواية ص90 .

[50] - كان الهدهد يصيح بعد أن أطلق عليه الغراب الرصاص :" للكعبة ربّ يحميها "، وهي عبارة تتناص مع مقولة عبد المطلب لأبرهة "للبيت رب يحميه ". انظر : الرواية، ص91 .

[51] - الرواية : ص 22،  50، 51، 59 .....   .

[52] - اختار الروائي  في فاتحة الرواية قولا  لأبي حيّان التوحيدي يقول فيه: "الهوى مركبي... والهدى مطلبي...، فلا أنا أنزل عن مركبي... ولا أنا أصل إلى مطلبي...، أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة...". انظر : الرواية، ص06 . 

[53]  - الرواية، ص 53  .

[54]  -  نفسه، ص 128- 129 .

[55]  - نفسه، ص 63 .

[56]  - نفسه،  ص 56 .

[57]  - نفسه، ص 29، 33، 81 .

[58]  - نفسه، ص 124 .

[59]  - فتنة السرد والنقد، ص 106 .

[60]  - نفسه .

[61]  - الرواية، ص 43 .

[62]  - نفسه، ص44  .

[63]  - راجع المقاطع التالية: أنا والمدينة (ص08)، الصفصافة (45)، الارتواء يولد الظمأ (ص89 )، حسنائي وهي من القصائد التي كتبها الغريب في حبيبته نون (ص120)، دثريني (ص119)، أغنيتي الجريحة (ص121) ....  

[64]  - فتنة السرد والنقد، ص 109 .

[65]  - هذا القول لإبراهيم عبد الله أخذته نقلا عن: محمد عبد الحليم غنيم : شعرية السرد الروائي – قراءة في روايات صلاح والي، متاح على الشبكة  www.fikrwanakd.com

*  - تكررت هذه اللازمة عددا من المرات في النص الروائي كوصف ألحقه الناص بالمدينة ، وقد نهض  تكرارها بوظيفتين أساسيتين هما: خصوصية  ما تنص عليه  بالمدينة دون غيرها من الدارجين فيها، إضافة إلى بيان حنق الراوي على كل ما تقوم به المرأة  المومس من ممارسات لا مشروعة جهارا نهارا ودون حياء.

 

 

[66]  - رأس المحنة، عزالدين جلاوجي، اتحاد الكتاب الجزائريين، الطبعة الأولى، 2003 دار هومة، ص 11

[67]  -  المعنى الأدبي، وليام راي.

[68] - رأس المحنة، م س ص 15.

[69] - م س ص 17.

[70] - م س ص 51.

[71]  -  رأس المحنة، م س ص 63.

[72] -  م س ص 123.

[73] - م س ص 121.

[74] - م س ص 112.

[75] - رأس المحنة، م س ص 146

[76] - م س ص 131.

[77] - رأس المحنة، م، س، ص 198.

[78] - م،س، ص 22

[79] - رأس المدينة م،س، ص 23

[80] - م،س، ص 51

[81] - يمكن مراجعة التنظير لهذه القضية في " شعرية الفضاء" حسن نجمي.

[82] - رأس المحنة، ص 189

[83] - على حرب، نقد النص.

[84] - رأس المحنة م، س، ص 107.

[85] - رأس المحنة، م، س، ص 16.

[86] - رواية لعبد الحميد بن هدوقة.

[87] - رأس المحنة، م س، ص 12.

[88] - م، س، ص 225.

[89] - رأس المحنة، م، س، ص 107.

[90] - اختفاء "عبلة" عن حارة الحفرة.

[91] - رأس المحنة، م، س، ص 97.

[92] - رأس المحنة، م، س، ص 189.

[93] - م، س، ص 176

 

 

[94]- إبراهيم صحراوي- تحليل الخطاب الأدبي -دار الآفاق-الجزائر-ط.1- 1999.ص10

[95] - سعيد يقطين- القراءة والتجربة- دار الثقافة -الدار البيضاء-ط.1. 1985.ص.90.

[96]  -سعيد يقطين المرجع السابق-ص:89/90

[97] -  عبده الراجحي – كتاب التطبيق النحوي- مكتبة المعارف للنشر والتوزيع_الرياض- ط1. 1999.

 3 – نفس المرجع.

[99]  - عزالدين جلاوجي: الفراشات والغيلان، ص 26

[100]   - المصدر نفسه: ص24/25

[101]  -  المصدر نفسه: ص12/13

[102]  - المصدر نفسه.ص:20

[103] - روبرت شولز- عناصر القصة- ترجمة محمود منقذ الهاشمي-دار طلاس للدراسات والترجمة والنشرط1 1988.ص42

[104]   -  عزالدين جلاوجي المصدر السابق: ص7

[105]   -  المصدر نفسه: ص 8

[106]  -  المصدر نفسه: ص 15

[107]  - المصدر نفسه: ص 11

[108]  - المصدر نفسه: ص 28

[109]  -  المصدر نفسه: ص 24

[110]  - المصدر نفسه: ص:24

[111]  - المصدر نفسه: ص.24

[112]  - المصدر نفسه: ص 14

[113]  - المصدر نفسه: ص 14