الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني و الوحدة الترابية المغربية بقلم:الخمالي بدر الدين
تاريخ النشر : 2011-03-19
مثل الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني من خلال مواقفه ولا شك رمزاً تاريخيا لمحور الإصلاح السياسي والممانعة الوطنية ضد مخططات الاحتلال الفرنسي، الذي شكلته النخبة المغربية العالمة في نهاية القرن التاسع عشر و بداية العشرين.
فمنذ الوهلة الأولى لظهوره في المشهد الديني و السياسي المغربي ، كشيخ مجدد وكداعية مصلح ، أحدث حراكا حقيقيا في المجتمع المغربي ، إبتداءاً بالمجال الصوفي الذي شكل القاعدة الفكرية لدعوته الإصلاحية الشاملة ، والتي همت مختلف المجالات بما فيها المجال السياسي ، الذي كان يعيش مرحلة أزمة حقيقية بعد وفاة المولى الحسن الأول ، والتي تمثلت في الصراع بين رجالات المخزن ، وبدأ عملية تصفية الحسابات بين بعض الأجنحة الوازنة داخل هيكلة السلطة ، كان من أهم نتائجها تنحية المولى أمحمد ولي العهد عن الحكم وسجنه وتولية أخيه الأصغر المولى عبد العزيز صوريا ، فيما أمسك الوزير أحمد بن موسى عمليا بمقاليد السلطة ، بعد قضاءه على آل الجامعي ، وتحالفه مع كبار القواد كالكلاوي والكنتافي و المتوكي ، كما قدم آخرون الرشى لابن موسى ليبقوا في أماكنهم أو يعينوا قواداً على قبائلهم .
في الوقت الذي كان فيه الاستعمارين الفرنسي و الإسباني يزحفان شرقا وجنوبا ، ويقوضان أركان الوحدة الترابية للإيالة الشريفة
كما تركزت أزمة النظام على مستوى العقيدة الإستراتيجية ، في تبنيه موقف المهادنة العسكرية مع قوى الاحتلال الأجنبي ، منظرا لها من خلال الفتوى التي أصدرها بعض علماء المخزن يبطلون فيها الدعوة إلى الجهاد ، ويجرمون من يقوم به تحت بند الخروج على السلطان .
لذلك نفهم جيداً معنى اتهام علماء فاس للشيخ الكتاني ، بالخروج عن السلطان أو طلب الملك كما يحلو للبعض أن يصفه ، والذي تزامن تاريخيا مع خروج الشيخ إلى صحراء تافيلالت سنة 1894 ولقاءه بقادة الجهاد الذي مثلته الزاوية الدرقاوية في المغرب الشرقي .
الذي كان في الحقيقة تعبيراً عمليا صريحا من الشيخ عن اصطفافه إلى جانب المقاومة المسلحة ودعمه لها ، ومعارضته لموقف المخزن من الزاوية الدرقاوية التي لم يكن مضى إلا أشهر على حملة المولى الحسن الأول سنة 1893 - على مراكزها بمدغرة وتنكيله بشيخها مولاي بلعربي المدغري الدرقاوي حسب ما يصف الطبيب لينار يس في مذكراته
كما نفهم وبوضوح لماذا أصبح مطلب الإصلاح السياسي أكثر إلحاحا ، لأي عالم أو داعية مشتغل في المجال العام سواء كان صوفيا أم سلفيا ، لأن ألية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر التي من خلالها تمارس النخبة العالمة دور الرقابة الأخلاقية و الشرعية ، على أداء السلطة الحاكمة في حماية منظومة القيم و الدفاع عن مصالح الوطن ، لم يعد بالإمكان تفعيلها على المستوى العملي، إلا بالاصطدام المباشر مع القوى المتسببة في وضع الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي والسياسي ، التي مثلتها بعض مراكز النفوذ داخل جهاز المخزن ، والتي تسببت في و ضع الانهيار الذي بدأت أثاره تظهر في مواقف الدولة وبناها التنظيمية و العسكرية و ضعف تعاطيها مع التهديدات الأمنية داخليا من خلال حركات التمرد القبلي ، وتزايد الحمايات الأجنبية ، وخارجيا ببلوغ الزحف الاستعماري للمواقع الحدودية الإستراتيجية كالصحراء الجنوبية إلى شنقيط ، و الصحراء الشرقية إلى توات وتندوف
لذلك فموقف الشيخ الكتاني من الوحدة الترابية للمغرب كان عنصرا مركزيا في دعوته الإصلاحية ، لأنه بتحصين السيادة الوطنية أمام الهجمات الأجنبية سيكون المغرب قادرا على إعادة ترتيب البيت الداخلي ، و البدأ في عملية الإصلاح السياسي التي تتلخص أهم محاورها في استقلال الإرادة السياسية للدولة و ضمان المشاركة الشعبية في تدبير الشأن العام و دسترة النظام السياسي و فتح الباب أمام ذوي الكفاءة لتولي المناصب العامة و القضاء على الفساد الإداري و إبعاد ومحاكمة المفسدين و المرتشين و الموالين للأجانب من ذوي الحمايات ، وهذا ما عبرت عنه البيعة الحفيظية و الوثيقة الدستورية المنشورة بجريدة لسان المغرب .
وقد بلور الشيخ الكتاني هذه المبادئ عبر ممارسته السياسية المدافعة عن الوحدة الترابية للمغرب في أربعة نقاط يمكن إجمالها كما يلي :
أولا ـ رفض الاتفاقيات الدولية التي تنتقص من السيادة الوطنية و عدم الاعتراف بها ، وأهمها معاهدة إيسلي و اتفاقية تطوان ومقررات مؤتمر مدريد
ثانيا ـ عدم شرعية الاحتلال الفرنسي للجزائر و دعم حركة المقاومة الجزائرية
ثالثا ـ دعم قوى المقاومة المغربية وتضامنه معها ( الزاوية الدرقاوية و الزاوية المعينية بالجنوب ) والمقاطعة الاقتصادية للعدو .
رابعا ـ التحديد الخرائطي لحدود المغرب التاريخية ، وهو ما تضمنته وثيقة الرد على مطالب سفارة طايندي سنة 1905 ، والخريطة التي رسمها بيده لحدود المغرب الشرقية والجنوبية
لقد كان الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني ، يصوغ تلك المطالب في أحايين كثيرة في إطار شرعي ديني ، أسهل وأقرب إلى فهم العامة من المغاربة ، مما أكسبه و طريقته الكتانية شعبية واسعة بين صفوف القبائل و النخب ، وذلك باستعمال القاموس الشرعي الإسلامي و منظومات السياسة الشرعية القائمة على مبدأ الولاء و البراء ، ودار الإسلام و دار الكفر ، و الحلال و الحرام ، فألف مثلا عدة رسائل في هذا الشأن بعث بها إلى القبائل وإلى مريدي الطريقة الكتانية يحضهم فيها على ضرورة التبري من الأجانب وعدم موالاة محمييهم و عدم موالاتهم و التعامل معهم بل وجوب مقاتلتهم ، وشبه القائمين بهذا الأمر بالصحابة و بالمدافعين عن الإسلام ، واعتبر أن التعبير عن الوطنية شعور رباني وتقرب إلى الله لأن فيه حفظ الدين من رجس النصارى
كما حرم بضائعهم ومنها الدخان و جميع المواد التجارية المستوردة مما به صورة كزنبيل الوقيد و الشاي ، بالإضافة إلى السكر ، الذي جاءت فتوى الكتاني بتحريم شراءه متزامنة مع احتكار فرنسا لحقوق تصديره وتسويقه في المغرب بمقتضى معاهدة بروكسيل التجارية للسكر لسنة 1903 وهو ماشكل ضربة للمصالح التجارية لفرنسا بالمغرب ، خصوصا وأن الشيخ اطلع عيانا على بعض نماذج الصناعة السكرية الفرنسية عند زيارته لمرسيليا سنة 1904
وبعد أن تناهى إلى علمه نبأ عقد إنجلترا و فرنسا لاتفاقية سنة 1904 التي تقاسما بموجبها الكعكة الاستعمارية بينهما و أصبح المغرب نتيجة لها واقعا بين فكي فرنسا.
ومن أهم الإشارات التي يمكن التقاطها ونحن نتحدث عن موقف الشيخ من الوحدة الترابية المغربية ، هي تلك العلاقة الوطيدة التي ربطت بينه وبين المجاهد الكبير الشيخ ماء العينين ولد مامين رحمه الله ، الذي كان مرابطا في الجهة الجنوبية من المغرب مدافعا عن السيادة الوطنية .
حيث يرجع المؤرخون بدايتها إلى سنة 1894 ، إبان المحنة المراكشية التي مر منها الشيخ الكتاني بعد استدعاءه لمناظرة بعض علماء الحضرة السلطانية من طرف الوزير أحمد بن موسى ، بناء اً على شكوى رفعها علماء فاس بالشيخ ، حيث تصادف وجود الشيخ ماء العينين بمراكش ، فانتصر للشيخ الكتاني ذي الواحد والعشرين سنة وشهد له بالتبحر والاطلاع الواسع في أمور اللغة والتصوف و الذوق .
وهذا صحيح من الناحية التاريخية ، ولكن للمحلل الحصيف أن يطرح الأسئلة ، عن مغزى تواجد الشيخ ماء العينين في هذا التوقيت بالضبط بمراكش ، وسبب دعمه للكتاني في مواجهة علماء البلاط ، وهو رجل في الثمانين من عمره ، خبر السياسة و دهاليزها ، و الحروب ومكائدها ، وهو قادري الطريقة ، تبحر في العلوم الصوفية فاستغرق فيها ، وهو من عرف خطط الاستعمار وعجز المخزن و ضعف وهوان الطبقة السياسية الدائرة في فلكه ، ممن جمدوا العمل بفريضة الجهاد وتقاعسوا عنه .
لم يكن يخفى بأي حال وضع المغرب السياسي و العسكري على الشيخ ماء العينين ، كما لم يكن خافيا عليه موقف الشيخ الكتاني الداعم للمقاومة في المغرب الشرقي ، والمؤيد لتشكيل جبهة وطنية للجهاد ضد الاستعمار وهو ما سيفصح عنه الكتاني علانية فيما بعد ، بل سيجعله شرطاً أساسيا لتولي عرش المغرب .
كما لم تخفى على الشيخ ماء العينين الأهداف الحقيقية للمناظرة ـ المحاكمة ، التي عقدتها النخبة التقليدية المخزنية للكتاني ، من أجل إسكات صوت الممانعة و التجديد الشبابي ، ومطالب الإصلاح الشامل للدولة و المجتمع التي رمز لها الكتاني وطريقته كامتداد لحركة التجديد التي تشكلت بذورها تاريخيا خلال العهد السليماني ، وكامتداد لحركة التجديد على المستوى الإسلامي ، والذي مثله مشروع الجامعة الإسلامية .
لذلك سارع في نصرته و تأكيد سلامة طريقته من الانحراف والبدعية في أسلوب شرعي بسيط وسلس ولا يخلو من ذكاء ، رضخ معه أحمد بن موسى ، لكي لا يخسر ولاء حليف إستراتيجي ، وعنصر ضمان للسيادة على الجنوب المغربي ، الذي كان عمليا خارج سيطرة المخزن بعد زحف الاستعمارين الفرنسي و الاسباني عليه ، لكن وجود مقاومة مغربية مرتبطة بالعرش من خلال رباط البيعة تحت قيادة الشيخ ماء العينين رغم ضعف تسليحها هو على الأقل تأكيد لسيادة وسلطة معنوية ، كان المخزن في أمس الحاجة إليها ، في مناخ التمرد و السيبة الذي كان يجتاح القبائل
وبالتالي لم يعطي الشيخ ماء العينين للشيخ الكتاني السند الشرعي صوفيا فقط ، وإنما أعطى السند الشرعي لحركة وطنية تجديدية شاملة ، من أقصى جنوب المغرب إلى أقصى شماله إلى تخوم شرقه ، قاسمها المشترك الدفاع عن السيادة المغربية و الوحدة الترابية ، فتدعم بذلك خط الجهاد على مستويين ، أولا على المستوى السياسي بوجود فاعلين حقيقيين يرفعون شعار تفعيل فريضة الجهاد بعد أن جمدها المخزن ، ثانيا باضطرار المخزن العزيزي لدعم قيادة حركة المقاومة عسكريا ولو سراً حتى لا يفقد ولاء قبائل التخوم التي أصبحت في مواجهة مباشرة مع المستعمر بل وإغداق المنح على شيوخها وبناء الزوايا على نفقة المخزن ، كما فعل المخزن العزيزي مع الشيخ ماء العينين و الشيخ الكتاني الذي اتخذه مستشاراً له ، بل وبعثه كموفد رسمي للحج في إطار سياسة استمالة لم تنجح في كبح جماح التغيير بعد تكثيف الضغوط الأجنبية على المغرب ، وهو ما توجه مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 ، الذي وضع الأسس لفرض حماية دولية على المغرب وتقسيم وتفتيت وحدته الترابية

أنظر المراجع
1ـ ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد ـ محمد الباقر الكتاني ـ تحقيق نور الهدى الكتاني ـ دار ابن حزم الطبعة الأولى ـ 2005
2ـ التدخل الأجنبي و المقاومة بالمغرب ـ دار إفريقيا الشرق ـ الطبعة الثانية ـ 1994
3ـ الحركة الحفيظية ـ الدكتور علال الخديمي ، دار أبي رقراق ـ الطبعة الأولى ـ2009
ـ4 الدواهي المدهية للفرق المحمية ـ جعفر بن إدريس الكتاني ـ تحقيق حمزة بن علي الكتاني ـ الطبعة الثانية ـ 2005
5ـ اللؤلؤة الفاشية في الرحلة الحجازية ـ عبد السلام بن محمد المعطي العمراني ـ تحقيق نور الهدى الكتاني ـ دار ابن حزم ـ الطبعة الأولى ـ 2010