من غير المنطقي والمقبول أن يبقَ المشهد الوطني الفلسطيني ما بعد ثورات الغضب العربي، هو ذات المشهد المأساوي الذي يحياه الشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة، ولهذه الرؤية المشفوعة بالرغبة والضرورة في آن، أسبابها الجلية ودوافعها المشروعة، من وحي العلاقة العضوية الوشيجة بين فلسطين ومحيطها العربي، وإذا كانت الشعوب العربية تلقفت الرسائل الحارة من تونس ومصر، وأخذت تحذو حذوها بخطوات متسارعة وأشكال احتجاجية متعددة، كما يحدث الآن في اليمن والجزائر والبحرين وليبيا
يغدو حرياً بالقول: أن الجمهور الفلسطيني والشباب منه بوجه خاص ينشد بدوره تغييراً حقيقياً في واقعه الوطني والسياسي، وما يضاعف نزوعه إلى ذلك، إدراكه العميق لفوائد ومكاسب الإطاحة بحكام وأنظمة تحالفت تاريخياً مع أعدائه على حساب قضيته، عدا عن استبداد وإفقار وإذلال شعوبها، لكن وضع مقاربة فلسطينية ناجزة لمفهوم التغيير وكيفيات تحقيقه في الواقع الداخلي الفلسطيني، من التحديات التي تثير العديد من التعقيدات والصعوبات العملية، وإذا كان مطلب إسقاط النظام أو على الأقل إصلاحه هو مفتاح التغيير الشامل في خطاب الشعوب العربية، من أجل استكمال تحررها الحقيقي، فإن أطروحة التغيير الشامل في الوعي الجمعي الفلسطيني، لا بد أن تبنى على متطلبات الوفاء لجدليات التحرر وضروراته من وحي الخصوصية الفلسطينية، وبمعنى أدق، التغيير كرؤية ومشروع وبرنامج عمل يربط الأهداف التحررية للشعب الفلسطيني بأجندة وطنية وسياسية واجتماعية وتنموية متكاملة، إذ يستحيل دحر الاحتلال عن الأرض الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين، مع وجود سلطة فلسطينية ينخرها الفساد السياسي والمالي، وتتوسل إنهاء الاحتلال بلغة التفريط والتنازل والاستجداء، والأمثلة على مواقفها المخزية لم تعد طي الكتمان بعد نشر وثائق " المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية " التي جعلت سمعة السلطة الفلسطينية في الطين.
كما يصعب تصور نجاح فصائل المقاومة في هزيمة الاحتلال، طالما لازالت في مربع ردة الفعل، وفي دائرة انتظار مفاجآت قدرية لا تساهم جدياً في تخليقها، طالما أنها تنأى بنفسها عن الإمساك بزمام المبادرة، وبما يجسد خطابها السياسي المقاوم في حيز الممارسة، وبدون أدنى شك لن يكتب أي تغيير جذري في الحياة الوطنية الفلسطينية في ظل الافتقاد المأساوي لمرجعية وطنية فلسطينية قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني والتعبير عن وجوده المادي والمعنوي في مختلف أماكن تواجده، ولكافة مكوناته السياسية والثقافية والأهلية، وترجمة هذا المطلب بالدعوة إلى انتخاب مجلس وطني فلسطيني جديد، يشكل مصدر الشرعية الفلسطينية، وقاعدة بناء مؤسساتها الحقيقية، أما أن يتشدق البعض بأن منظمة التحرير الفلسطينية في واقعها الراهن المشلول هي المرجعية الوطنية، فهذا هراء ومحض تسويف لمن يخشى من التغيير الحقيقي بكل ما يحمل من أحقية ومشروعية، ثم هل يُعقل أن يستوي التغيير الشامل في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية في غياب الحياة الديمقراطية عن الأطر الفصائلية، وفي سياق عجز أدائها التنظيمي، وخفوت حضورها الجماهيري، وما نجم عن ذلك من ابتعاد قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني عن الانخراط بالقوى السياسية القائمة، ولذلك يغدو فتح النقاش الوطني العام حول متطلبات تغيير الواقع السائد، وإحداث انعطافة نوعية في سياقاته السياسية والاجتماعية، استحقاق لابد لكل فئات الشعب الفلسطيني أن تشارك فيه، ولا يجوز اختزاله ببرامج وأجندات فصائلية، لطالما احتكرت الشأن السياسي العام، في الوقت الذي تفيض التحديات المصيرية التي تواجه القضية الفلسطينية عن قدرات تلك الفصائل، وأدوارها في حل المشكلات الوطنية المزمنة، وهو ما يلقي على عاتق تلك القوى والفصائل أن تتعجل في إصلاح بنيتها الداخلية ومراجعة أدائها بروح نقدية بناءة، حتى يتشكل مناخ فلسطيني قادر على تثمير منجزات الثورات العربية الكبرى في تعزيز كفاح الشعب الفلسطيني وتطلعاته الوطنية، وهنا لا بد للشباب الفلسطيني على غرار أترابه من أبناء الثورات العربية وحاملي شعلتها، من إعادة صوغ دوره التاريخي في دفع عجلة المشروع الوطني الفلسطيني ، وإخراجه من محنته الطويلة ، وذلك من خلال مشاركته الحقيقية في صناعة القرار الوطني وتحمل مسؤولياته الكبرى ، وتلك مهمة تاريخية لا بد لقطاعات الشباب المستقل والمؤطر أن ينهضا بها في أحيزة النضال الوطني والمطلبي والمؤسساتي، وهو ما يقتضي تجاوز السرديات التقليدية، والعصبيات التنظيمية، والخلاص من أسر العقليات الكابحة للحراك الشبابي بمختلف تعبيراته، وإعادة بلورة أولويات التغيير وفلسفته الكفاحية من وحي مصالح الشعب الفلسطيني وأهدافه الكبرى، وما يسهل ويمهد الطريق أمام الأجيال الفلسطينية الناشئة لتثبيت حضورها السياسي والاجتماعي والثقافي في الحياة الوطنية، اتساع شبكة النيوميديا وأدواتها المحفزة للتواصل الاجتماعي ( فايسبوك ، يوتيوب ، تويتر ) باعتبارها وسائل حية لتبادل الآراء والأفكار وطرح المبادرات، وهي تقنيات تتضاعف أهميتها بالنسبة للشباب الفلسطيني بفعل التشتت الجغرافي، وواقع اللجوء، الذي ألقى بالفلسطينيين في أصقاع الدنيا، ولكن مع لفت الانتباه إلى أن هذه الوسائل لا تكفي بحد ذاتها لإنضاج ملامح التغيير، وهي ليست بديلاً عن الأحزاب والقوى والمؤسسات الوطنية، وإنما هي مساحات افتراضية ينبغي استثمارها ايجابيا في حقول الواقع المعاش، كما تبدّى دورها الهام في يوميات الثورات العربية وتجلياتها الشبابية.
لقد أثبت الشباب الفلسطيني يا قادة الرأي والقرار أنه لا يقل وطنية وانتماءاً عن جيل الآباء والأجداد، ولا تنطلي عليه كل أباطيل التسوية والاستسلام، ولا تغريه الخطب والشعارات، لأنه الأقدر بذكائه الفطري وإحساسه النبيل على صون المبادئ والحقوق والدفاع عنها، هذا الشباب الذي فجر الثورات والانتفاضات الفلسطينية يروم لثورة تحفظ دماء الشهداء، ولا تساوم على ذرة تراب، ولا تهادن مع المحتل، ولا مكان فيها للمساومين والانتهازيين والمتسلقين .
هذه الحقائق والقيم والآمال هي فحوى التغيير المنشود في الواقع الفلسطيني، والقدرة على تجسيدها هي التحدي الأكبر الذي يقرن مواجهة الاحتلال بتوفير عدة المواجهة ولوازمها، وهي مفتاح الخلاص من أزمة المشروع الوطني الفلسطيني الذي استعصى على الحلول السابقة، وهي عامل الفرز الحاسم بين الوطنيين والمقاومين الشرفاء، وبين السياسيين الفاسدين والمثقفين المتواطئين، وهي حصيلة دروس التعثر والإخفاق في التجربة الوطنية الفلسطينية، والمدخل إلى تجديد التراث الكفاحي للشعب الفلسطيني برؤية جماعية خلّاقة وآليات تشبيك حية وفاعلة، وأخيراً هي عنوان الأمل لإعادة بناء الثقة الوطنية على أسس من التلازم والتكامل بين جدليات تحرر الإنسان العربي والفلسطيني، وجدليات تحرير أرضه المغتصبة.
المحامي ايمن أبوهاشم
جدليات التغيير في المشهد الوطني الفلسطيني بقلم:المحامي ايمن أبوهاشم
تاريخ النشر : 2011-02-28