الوجه الآخر لوعد بلفور المشؤوم
كتب: أسعد العزوني
بعد توريط الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى بدأت التحركات بشن حملة لتمكين الصهاينة من دخول فلسطين بعد أن رفض السلطان عبد الحميد الثاني طلب مؤسس الصهيونية العلماني آنذاك د. ثيودور هيرتزل السماح لليهود بدخول فلسطين وبناء مستعمرات فيها ، وكتب ديفيد فرومكين ": بعد دخول تركيا الحرب كتب اتش جي ويلز متسائلا :" ما الذي يمنع اليهود الآن من الحصول على فلسطين واحياء يهودا مجددا ؟"
وفي اوائل عام 1915 رفع الوزير اليهودي في حكومة آسكويت البريطانية صاموئيل هيربرت مذكرة طالب فيها بتحويل فلسطين الى محمية بريطانية لتسهيل هجرة اليهود اليها وادعى أن ذلك خدمة لمصالح الامبراطورية البريطانية لكن رئيس الحكومة آنذاك رأى في تلك المذكرة تكرارا لما طرحه اليهودي بنيامين ديزرائيلي في روايته بعنوان Tancred" " التى تروج لفكرة عودة اليهود الى فلسطين ، وكان ديزرائيلي رئيسا لوزراء بريطانيا عند شرائها أسهم مصر في قناة السويس لكن وزير الحرب كيتشنر عارضها بشدة وقال ان فلسطين لا تمثل أي اهمية استراتيجية لبريطانيا ، ولم يدعم ذلك الاقتراح سوى لويد جورج.
وان دل ذلك على شىء فانما يدل على وجود معارضة شديدة للمشروع الصهيوني ووعد بلفور وفي مقدمة المعارضين رئيس الوزراء البريطاني آسكويت ووزير حربه كيتشنر ما دعا الى تغييبهما عن الساحة ، وتم استبدال أسكويت ب لويد جورج ، كما دبروا طريقة لقتل وزير الحرب كيتشنر .
جرى ترتيب رحلة بحرية للوزير كيتشنر والعديد من مساعديه أبرزهم فيتز جيرالد يوم الخامس من حزيران عام 1916 الى منطقة تسيطر عليها البحرية الألمانية ، وتم تفجير السفينة الحربية التى كانت تقلهم وتدعى هامبشاير من خلال قيام الغواصة الألمانية يو 65 المخصصة لزرع الألغام بتلغيم مسار سفينة كيتشنر بعلم المخابرات البريطانية التى تكتمت على الأمر ولم يتم الكشف عن الجريمة سوى عام 1985 أي بعد مرور نحو 70 عاما عليها .
بعد تغييب الثنائي آسكويت – كيتشنر جىء بثنائي آخر هو لويد جورج – آرثر بلفور ، وبالتالي أصبحت الطريق سالكة أمام مشروع هيربرت صاموئيل ، وقام وزير الخارجية بلفور بتمريره داخل الحكومة ومن ثم أصدر وعده المشؤوم الذي يحمل اسمه وعين صاموئيل أول مفوض سام بريطاني في فلسطين تحت الانتداب .
وبالعودة الى ملفات لويد جورج نجد انه يفخر بصهيونيته وأنه كان ممثلا ل ثيودور هيرتزل والحركة الصهيونية وعندما يئس هيرتزل من السلطان عبد الحميد تحول الى بريطانيا التى فتحت له خطوطا مع الحجاز ، وبحسب مذكرات هيرتزل فانه حصل على كتاب رسمي يسمح لليهود بالاقامة في فلسطين بعد ان كان يتمنى السماح لهم باقامة كيان سياسي عبر حدود فلسطين ( العريش او قبرص ) لكن تشامبر لن الذي كان الأب الروحي للاستعمار البريطاني استبعد قبرص وأبدى ارتياحه حول سيناء الا ان وزارة المستعمرات رفضت الأمر فاقترح تشامبرلن أوغندا ، فوافق هيرتزل على الفور وكلف شريكه في دار المحاماة لويد جورج بمتابعة الأمر .
و بدوره أعد لويد جورج نص " ميثاق توطين اليهود " الذي حظي بموافقة الحكومة البريطانية ، وأطلق على هذا المشروع وعد بلفور الأول ، وقد عرضه هيرتزل على المؤتمر الصهيوني العالمي ، لكن وفاة هيرتزل عام 1904 أحدثت تغييرات في خطط الصهاينة وطلبت القيادة المنقسمة من لويد جورج اعادة طرح العريش .
تفيد المراجعات أن لويد جورج بدأ عمله مع الحركة الصهيونية منذ اوائل العام 1903 حتى تسلمه رئاسة الوزارة البريطانية وتقول المؤرخة البريطانية اليزابيث موترو في كتابها بعنوان " لحظة الحقيقة في الشرق الأوسط" : أن تأييد جورج للاستيلاء على فلسطين ، انما هو نابع من نشأته الدينية وقد طلب من مارك سايكس قبيل توجهه الى المنطقة بأن يبذل قصارى جهده لتحويل فلسطين الى مستعمرة بريطانية وعدم قطع أي تعهدات للعرب أو الاقدام على أي تصرف ربما يثير حفيظة الصهاينة ، ومعروف أن سايكس – بيكو المعروفة هي التى قسمت المنطقة الى دويلات .
وبالعودة الى ملفات الحرب العالمية الأولى فان فلسطين لم تكن تمثل أي أهمية لبريطانيا كما أكد وزير الحرب المغدور كيتشنر ، وهذا ما دعا اللجنة البريطانية المكلفة بالبحث في مصير المناطق العثمانية لعدم التوصية باحتلالها ولذلك أجلت الحكومة احتلال فلسطين ، وهذا عائد لشعبيه كيتشنر حتى ان رئيس الوزراء آنذاك آسكويت لم يجرؤ على مخالفته الرأي.
شهد أوائل العام 1917 لقاء بين سايكس وحاييم وايزمان وأبلغ الأول ان البحث السائد هو تحويل فلسطين الى دولة يهودية تحت حكم بريطاني فرنسي مشترك لكن وايزمن اعترض على اشراك الفرنسيين في المشروع واتفق من خلال رئيس الوزراء المسيحي – الصهيوني لويد جورج على أن تؤول فلسطين بين بريطانيا واليهود فقط ، وفي ذات الوقت اشتغلت ما كينة الدعاية اليهودية في فرنسا لاحداث تغييرات سياسية هيكلية وفي التاسع من أبريل 1917 أبلغ سايكس وزير الخارجية بلفور أن فرنسا تعترف بالتطلعات الصهيونية في فلسطين ، وعليه طالبت الحركة الصهيونية الحكومة البريطانية باصدار بيان رسمي علني تعترف فيه بحق اليهود في فلسطين .
بعد ذلك قررت الحكومة البريطانية غزو فلسطين بعد ابلاغ الحكومة الفرنسية بذلك كما جرى غزو العراق واحتلال بغداد في الحادي عشر من شهر آذار 1917 ، وشارك في حملة احتلال فلسطين البريطانية بقيادة الجنرال اللينبي 350 ألف جندي منهم 100 ألف مصري وعشرات الآلاف من الهنود وآلاف من الاستراليين والنيوزيلانديين كما انضمت اليه قوات فيصل بن الحسين لتشارك الى جانب فيلق جابوتنسكي اليهودي الذي لم يقم بأي مهمات قتالية عكس قوات فيصل التى حاربت الجيش التركي ووقعت القدس تحت الاحتلال في الحادي عشر من شهر كانون أول 1917.
وبطبيعة الحال ،دخلت حكومة ظل يهودية مع الجيش البريطاني تحت مسمى " المفوضية اليهودية " برئاسة حاييم وايزمان والتى تشكلت قبل قرار بريطانيا بالبقاء فلسطين وقبل الانتداب وقد طلب من الصهاينة الأمريكيين التبرع لتمويل عمل هذه المفوضية التى انفقت أربعة ملايين دولار على برنامج متكامل لتهويد فلسطين ، وتمكين فقراء اليهود فيها وخلق فرص عمل لهم وتمويل مشروعات لاجتذاب اليهود المتدينين الذين كانوا يعارضون المشروع الصهيوني واعتماد اللغة العبرية بدلا من لغة " الايديش " وكذلك شراء قطعة أرض في القدس لاقامة الجامعة العبرية التى افتتحها وايزمان في الرابع والعشرين من شهر تموز عام 1918 رغم اعتراض الجنرال اللينبي ، ووضع وايزمان 12 حجرا تمثل أسباط اسرائيل وحجرا آخر يمثل الحركة الصهيونية في أساس المبنى .
الغريب في الأمر أن رئيس المفوضية وايزمان في معسكر اللينبي في الرملة ورفض دعوة اللينبي بدخول القدس لأن الوقت لم يكن مناسبا.
كانت هناك معارضة عسكرية بريطانية لما تقوم به حكومة بريطانيا في فلسطين وتمثل ذلك بموقف الجنرال وولتر كونغرييف الذي خدم في مصر وفلسطين وكان ينظر الى اليهود كعدوانيين مشاكسين يفتقرون للانضباط ، وحذر من تحول وعد بلفور الى سابقة في العلاقات الدولية وقال أنه يخشى من الاعتراف ذات يوم بأن بريطانيا هي ولاية ايطالية لأن الرومان احتلوها ذات يوم ، وكان يشعر أن اليهود يعملون على اغراق فلسطين بالمهاجرين لتحقيق الغلبة على سكانها العرب ومن ثم طردهم منها .
كان الجنرال مونغرييف يقرأ المستقبل عندما أضاف ان اليهود يريدون التخلص من الانجليز في نهاية المطاف ورأى في وجود المفوضية اليهودية في فلسطين اهانة للادارة البريطانية .
في الثاني والعشرين من شهر تموز 1921 حدث لقاء في بيت بلفور لبحث الأوضاع في فلسطين ضم كلا من وايزمان ورئيس الوزراء البريطاني المتصهين لويد جورج ووزير المستعمرات آنذاك ونستون تشيرشل وفي ذات اللقاء انتقد وايزمان خطاب هيربرت صموئيل المفوض السامي البريسطاني وهو يهودي بطبيعة الحال حول وقف الهجرة اليهودية الى فلسطين وقال أنه بدون تهجير اليهود الى فلسطين فانهم لن يتمكونوا من تشكيل اغلبية لكن لويد جورج وآرثر بلفور أبلغاه أن وعد بلفور يقضي في نهاية المطاف بانشاء دولة يهودية ، كما اشتكى وايزمان من ان 90% من المسؤولين البريطانيين يعارضون وعد بلفور .
وذهب وايزمان بعيدا في ذلك اللقاء وطلب من رئيس الوزراء البريطاني لويد جروج ووزير خارجيته آرثر بلفور باعفاء الجنرال كونغرييف من منصبه على رأس القيادة العسكرية في فلسطين بحجة انه معاد للصهيونية ومنحاز للعرب ، وكان له ذلك .
شهدت الحركة الصهيونية آنذاك انقسامات متطرفة جدا تماما كما هي مدرسة اليهود التى أسسها المهاجر الروسي المتعصب جابوتنسكي وكان هذا التطرف موجها ضد المسلمين والمسيحيين على حد سواء خاصة وأن هانز هيرتزل نجل ثيودور هيرتزل كان قد تحول الى المسيحية ، ورغم تصهين العديد من المسؤولين البريطانيين الا أن المفوض السامي في فلسطين واتشوب كان اكثرهم باعتراف بن غوريون حيث كان ينافس بلفور في التزامه بالصهيونية وأن اليهود لم يشعروا بالأمان في فلسطين الا في عهده علما ان اول مفوض سام بريطاني الى فلسطين وهو صاموئيل هيربرت كان يهوديا .
كان وزير الدولة لشؤون الهند في الحكومة البريطانية اليهودي " ايد وين مونتاغو " الذي ينتمي لعائلة مالية كبيرة من أشد المعارضين للمشروع الصهيوني لأنه كان يرى أن اليهودية دينا وليست قومية وان وجود اليهود في فلسطين سيخلق مشاكل لليهود لتحولهم الى اداة لتعظيم معاداة السامية وكان معه كثيرون .
يقول وولترلاكوبر في كتابه :" تاريخ الصهيونية " أنه وبدءا من العام 1903 لم يكن هناك سوى 1% من يهود العالم يظهرون الولاء للصهيونية .
الوجه الآخر لوعد بلفور المشؤوم بقلم:أسعد العزوني
تاريخ النشر : 2010-12-26
