الشيخ زينكو بقلم:نصير احمد الريماوي
تاريخ النشر : 2010-10-25
الشيخ زينكو بقلم:نصير احمد الريماوي


قصة قصيرة
الشيخ زينكو

بقلم
الكاتب والصحفي
نصير أحمد الريماوي
1/9/2009م
يحكى أن رجلاً فقيرَ الحال كان يعيش مع أسرته المكونة من خمسة أنفار داخل بيت قديم تنبت على جوانبه الأعشاب وتلاصقه سقيفة في قرية تقع قرب غابة.
نظراً لضيق حاله، فكر هذا الرجل بوسيلة تساعده في حل مشاكله المعيشية!! واستقر به التفكير على ضرورة شراء حمار على أن يدفع ثمنه بالتقسيط لاستخدامه في أعمال النقل والزراعة لجني النقود من أهالي القرية التي تساعده على قضاء حاجاته المعيشية.
ذهب الرجل إلى سوق الحمير واشترى واحداً، لونه سكني مائل إلى السمرة، قوي البنية، ومتوسط القامة، له أذنان طويلتان... ثم عاد إلى القرية، وجاب به شوارعها لإبلاغ الأهالي استعداده القيام بأية أعمال: كالنقل، وحراثة الأرض، والجر، وحمل الأثقال، والركوب مقابل أجرة نقدية أو عينية(غذائية).
صار هذا الرجل كل يوم يستيقظ مبكراً مع صلاة الفجر.. يركب حماره.. ويسير به في الأزقة بين بيوت القرية، أو أحياناً يذهب به إلى وسط القرية حيث توجد شجرة "توت" كبيرة يجلس تحتها ويستظل بظلها في فصل الصيف، ثم تحولت هذه الشجرة إلى عنوان له ولحماره مع مرور الزمن.. وهناك، كان يأتي إليه كل من يريد أن ينجز له عملاً، ويتفق معه على الأجرة. فصار الحمار ينقل في موسم الحصاد غمار القمح والشعير أو الفول إلى البيادر، أو يدور على البيادر لهرس قش القمح والشعير بقوائمه الأربعة و هو يجر لوح خشبي أو حديدي له شفرات مسننه وحادة من أسفله مربوط به من الخلف، أو ينقل الحبوب والتبن من البيادر إلى الأهالي، وفي موسم الفلاحة تراه يحرث الأرض، وفي موسم قطف ثمار الزيتون يذهب به إلى الجبال والوديان والحقول وهو محمل بالأدوات الزراعية التراثية كالعصي(شواريط وعبيّات) وسلالم وِسيَب، وأكياس، وسلال ، ويعود الحمار من الجبال إلى القرية محملاً بأكياس ثقيلة مليئة بثمار الزيتون.. ظهره غارق بالزيت المخلوط مع العرق الذي كان يقطر من جانبيه وظهره، وأحياناً ينقل العنب من الكروم، وثمار التين الطازجة والجافة (القطين) من المساطيح ، أو ثمار الخروب، وكذلك الفقوس، والخيار، والبندورة، والبطيخ، والشمام، والبامية، واللوبيا من المقاثي، وأحياناً تراه كسيارة الإسعاف ينقل المرضى من أهالي القرية إلى الطبيب أو المستشفى، أو للسفر عليه من القرية إلى قرية أخرى أو إلى المدينة، وأحيانا ينقل الحطب من الجبال الوعرة للأهالي لاستخدامه في كل أنواع طبخ الغذاء والصناعات المحلية، وللتدفئة بناره أثناء فصل الشتاء، وكذلك نقل روث البهائم إلى الطوابين التي كانت منتشرة بكثرة ولا يخلو كل منزل منها، ولا زال بعضها يستخدم في بعض القرى لغاية الآن، وكانت تستخدم كأفران شعبية للخبز ولشوي المأكولات الغذائية المختلفة فيه.
نظراً لكثرة أعماله أصبح الحمار متعدد المهام داخل القرية لا يكل ولا يمل مع صاحبه من العمل، وهو صديق وفيّ له أيضا ويتقاسم معه قساوة الحياة وظلمها حتى استطاع الرجل في وقت قصير تسديد ثمن الحمار.
بعد انتهاء العمل في كل يوم، يعود الرجل مع حماره عند المساء إلى المنزل.. يربط حماره في سقيفته.. يضع أمامه ما لذ وطاب من الربيع الأخضر أثناء فصل الربيع ليأكله، والتبن والشعير في فصل الصيف.. وبعدها يتوضأ ويؤدي صلاة المغرب ومن بعدها صلاة العشاء.. ثم يشكر الله ويحمده على ما رزقه في ذلك اليوم من النعم.
وبعد ذلك يجلس مع زوجته وأولاده الثلاثة.. يحدثهم عما جناه في ذلك اليوم، وعن قصص كفاحه مع الحمار في الحياة، وعن وفاء وإخلاص حماره، وعن مدى صبره على تحمل الجوع والعطش وعلى القسوة والظلم وعن طبعه الهادئ، وعن قدرته على العمل في اشد المناطق وعورة وحرارة، واستكشافه للمسالك في القفار الوعرة، واستطاعته تذكر الطرق مهما كانت طويلة، وكيف يقود قوافل الجمال، وكيف كان يركبه الشعراء في الصحراء ليدلهم على الطرق، ويخبرهم كيف استخدمه الإنسان منذ القدم (4000) سنة قبل الميلاد، ويذكرهم بأنه كان من مراكب الأنبياء, حيث كان للرسول محمد صلى الله عليه وسلم حماراً اسمه "اليعفور".. ثم يوصيهم بضرورة الاهتمام بالحمار بعد وفاته نظراً لفوائده الكثيرة للبشر، وخاصة بعدما بدأ يشعر بالضعف شيئا فشيئاً.. و سرعان ما يُخرج هذا الرجل ما في جعبته من نقود، ويُفرِغ ما في خُرج الحمار من مواد غذائية ويسلمها لزوجته، ثم يخلدون إلى نومهم في آمان.
تمر الأيام.. كَبِرَ الرجل، وأصبح كهلاً لا يقوى على المشي داخل القرية أو الذهاب إلى جبالها.. أصابه مرض عضال لم يمهله كثيراً، ثم فارق الحياة، ولم يترك لأولاده ورثة سوى الحمار فقط؟؟؟ فمارس الأولاد نفس مهنة أبيهم لفترة لا بأس بها حتى تستمر حياتهم.. إلا أن الحمار هَرِم بعد حين.. تعب وأصيب بالهزال.
في صباح ذات يوم استيقظ الأولاد الثلاثة من نومهم فوجدوا الحمار ميتاً في سقيفته!!.. حزن الأولاد حزناً شديداً لفقدانهم الوالد والحمار.. وأصبحت حياتهم شاقة فيما بعد.
جلس الأولاد الثلاثة يفكرون بحل ينقذهم من هذا الشقاء!!.. فكروا.. فكروا.. ثم قال أخوهم الأكبر: ما رأيكم بالذي يدلكم على طريقة تجعلنا نستفيد من الحمار حتى وهو ميت كما استفدنا منه وهو حيّ؟؟ فسألاه الأخوان الآخران: وما هي هذه الطريقة؟ وكيف سنستفيد منه وهو ميت؟؟.. قال لهما: اسمعاني جيداً.. نَجُرُ جثة الحمار من السقيفة أثناء الليل حتى لا يرانا احد من أهالي القرية إلى أطراف الغابة.. نحفر له قبراً وندفنه فيه، ثم نقيم عليه نصباً من الحجارة، ونطلق عليه اسم " مقام الشيخ زينكو".. ونضع بجانب القبر صندوقاً للتبرع فيه بالمال من الأهالي من أجل التقرب إلى الله!! وسنعمل على جعله مزاراً للمواطنين.. وفي نهاية كل أسبوع نذهب ثلاثتنا إلى الصندوق، ونفرغ ما فيه من نقود، ونتقاسمها فيما بيننا.. وبهذه الطريقة نجد فرصة للعيش ونحمي حياتنا من الفقر والجوع. ما رأيكما؟؟
سكت الأخوان الآخران برهة ثم استحسنا الفكرة، وقالا: إنها فكرة ممتازة.. ثم اتفق الثلاثة على تنفيذ هذه الخطة.
حل المساء وخيم الظلام.. سَهِروا طيلة تلك الليلة حتى أيقنوا أن أهالي القرية خلدوا إلى فراش النوم.. توجهوا إلى جثة الحمار.. ربطوها بحبل وسحبوها من السقيفة إلى خارج القرية باتجاه الغابة.. وصلوا هناك.. حفروا حفرة عميقة.. سقّطوا جثة الحمار فيها، ثم أهالوا التراب حتى واروها.. بنوا حجارة على القبر، واحضروا جِبَةً خضراء اللون وضعوها عليه.. وزرعوا الورود المختلفة من حوله لإظهار هيبة للمقام في نفوس الناظرين!!.. ثم وضعوا بجانب القبر صندوقاً حديدياً له فتحة صغيرة من الأعلى لوضع النقود من خلالها.. وعادوا إلى منزلهم بسرعة.
نام الأولاد فيما تبقى لهم من تلك الليلة.. استيقظوا صباحاً.. حملوا معهم المأكولات والحلوى وذهبوا لزيارة المقام.. وضعوا الحلوى والمأكولات بجانب المقام كهدية له، وشرعوا في ممارسة طقوس خاصة.. يدورون حوله وهم يقولون: بركاتك يا شيخ زينكو.. بركاتك يا "شيخ زينكو".. وأحيانا يحتضنون القبر بأيديهم وهم يذرفون دموع التماسيح.
كرر الأولاد زياراتهم له، وهذا الأسلوب لمدة شهر لدرجة أنهم أثاروا اهتمام كل واحدة من أهالي القرية.. فكان كل واحد يَمُر من أهالي القرية بالقرب من المكان يسأل الأولاد: لمن هذا المقام؟؟ يجيبونه: أنه للشيخ زينكو.. لقد كان هذا الرجل صالحاً تقيّاً، ووليّاً.. ونحن نقدم له الهدايا لنكسب أجراً وثواباً ونتقرب به إلى الله!!!
انتشر هذا السلوك بين أهالي القرية بسرعة كالنار في الهشيم، فصار كل واحد يذهب مع عائلته أو أقاربه لزيارة مقام "الشيخ زينكو".. ويأخذ معه من المال.. يضعه في الصندوق، وزاد الإقبال عليه خاصة من النساء والعوانس اللواتي يعانين من مشاكل: الطلاق، أو العقم، أو الأمراض، أو أولادها غائبين عنها، أو الحب والزواج، أو للتفريق بين اثنين وحب زرع الكراهية للغير، أو لحل المشاكل بين عائلتين متنازعتين.. فكانت كل واحدة تضع في الصندوق نقوداً أو ذهباً، وتطلب من "الشيخ زينكو" إما أن يعيد لها أبنائها، أو زوجها، أو أن يشفيها من المرض، أو أن يرزقها بأطفال، أو أن يعيدها لزوجها الذي طلّقها، أو أن يرزقها بابن الحلال إذا كانت من العوانس..الخ.
ذاع صيت مقام " الشيخ زينكو" وبركاته، وامتد إلى القرى المجاورة، وصار الأهالي يأتونه من كل حدب وصوب، ويتبرعون بالمال الكثير، ويغدقون الهدايا عليه، ويحلفون بحياة " الشيخ زينكو" في أعمالهم!! وهم لا يعرفون ما بداخل هذا القبر!!.
شيئاً فشيئاً أصبح المقام مزاراً يأتيه الناس صباحاً ومساءً.. يجلسون بجواره، وبعضهم ينام بجانبه لوقت قصير تبركاً به..
صار الأولاد الثلاثة في نهاية كل أسبوع يتوجهون ليلاً إلى المقام بعد أن يعود الناس إلى منازلهم.. يفتحون الصندوق.. يخرجون النقود والقطع الذهبية الموجودة فيه.. ويلملمون الهدايا من حوله، ثم يقسموها على أنفسهم، ويعيشون منها.. يوم بعد يوم امتلأت جيوبهم، و صار حالهم أفضل حال في القرية.
لقد أثارت كثرة النقود والهدايا شهية الأخ الصغير.. وفي يوم من الأيام ذهب خلسة إلى المقام لوحده ليلاً قبل الموعد المحدد بيوم، وسرق ما في الصندوق من نقود وغيرها دون علم أخويه، وخبأها، ثم عاد إلى المنزل..
لكن على ما يبدو أن رجلاً من أهالي القرية كان يتمتع بحب الاستطلاع بعدما شاهد بأم عينيه كثرة الهدايا والنقود التي تُقدم "للشيخ زينكو" فقرر الذهاب في هذا اليوم ليلاً إلى المقام لوحده لكي يعرف ماذا يحصل مع النقود والهدايا؟؟.
ولم يكن يعرف أن اصغر الأولاد الثلاثة سبقه إلى هناك قبل ساعة!!.. فعندما وصل هذا الرجل إلى هناك لم يجد في الصندوق نقوداً ولا هدايا حول المقام ؟؟؟.
بدأت الشكوك تساوره.. يسأل نفسه: يا ترى أين تذهب هذه النقود و الهدايا؟؟ ويجيب نفسه: آه لا بد من سر في هذا الأمر.. لكن هذا وليّ.. ويمكن هو الذي يخفيها بطريقته ويتبرع بها في الخفاء.. الله اعلم!!.
عاد الرجل إلى منزله دون أن يبلغ أحدا.. وقرر الذهاب ثانية في اليوم التالي وفي نفس الموعد، وأن يختبئ قرب المقام بين أشجار الغابة ليتأكد بنفسه من عدم وجود لصوص، وهو لا يعرف بأن اليوم التالي نهاية الأسبوع وهو الموعد المحدد لذهاب الأولاد الثلاثة إلى هناك. طبعاً في اليوم التالي ذهب هذا الرجل إلى المقام قبل الموعد المحدد بنصف ساعة تقريباً.. توارى بين الأشجار المجاورة للمقام في الغابة.. جاء الأولاد الثلاثة فوجدوا الصندوق فارغاً من النقود، ولا اثر للهدايا بجوار المقام؟؟؟... جُنّ جنون الأخ الكبير.. وقال بصوت عالٍ: أنا لم آتي إلى هنا.. ويسأل أخويه، وهو يصرخ فيهما: من الذي سرق منكما النقود من الصندوق، أريد أن اعرف الآن؟؟.. نظرا إلى بعضيهما البعض، ثم أجاب الأخ الأوسط: أنا لم اسرق، وملتزم بالاتفاق الذي جرى بيننا.. إذاً أنت أيها الصغير الذي سرق النقود من الصندوق.. فما كان من الصغير إلا أن حلف بحياة الشيخ زينكو، قائلاً: "وحياة الشيخ زينكو إنيّ ما سرقت الصندوق".
ضحك الأخوان الأكبر والأوسط ضحكة كبيرة.. ثم رد عليه الأخ الأكبر: "يا حبيبي، قصة الشيخ زينكو بتمشي على الناس الآخرين.. موش علينا.. إحنا وإياك دافنين الحمار في القبر معا ً"!!!.
طبعاً، دبّ الخلاف بينهم.. وكان الرجل المختبئ يتنصت عليهم وسمع منهم كل شيء.. وعرف أن هذا المقام ليس لرجل صالح، وإنما لسرقة أموال الناس.
عاد هذا الرجل مسرعاً إلى القرية، وابلغ أهاليها بما سمع ودار بين الإخوة الثلاثة في تلك الليلة.. فما كان من الأهالي إلا أن حملوا بعض المجارف والفؤوس وذهبوا إلى المقام.. وحفروه ليتأكدوا من حديث الرجل حتى وصلوا جثة الحمار.. وفي اليوم التالي عندما جاء الزوار إلى المقام وجدوه مبعثراً وعرفوا بالأمر.. وهكذا انفضح أمر الأولاد الثلاثة.. فقاطعهم الناس.. وخسروا كل شيء.. وبسبب ذلك أصبحت حياتهم تَعِسَة، وعادوا ثانية ليعيشون حياة الفقر من جديد.
ـــــــــ
[email protected]