عبد الله - رواية قصيرة بقلم:نزار ب. الزين
تاريخ النشر : 2010-10-20
عبد الله - رواية قصيرة بقلم:نزار ب. الزين


عبد الله

رواية قصيرة
نزار ب. الزين*
*****
-1-
دخلت بيت المحامي الأستاذ عبد الباقي الحموي امرأة حافية القدمين ، كانت تحاول ستر ثيابها الممزقة بملاءة سوداء انتشرت على سطحها البقع من كل لون و قد ألقت فوق وجهها منديلا مهترئا فُتحت فيه على الأقل كوتان . كانت تجر بإحدى يديها طفلة لما تبلغ العامين من عمرها ، نحيلة جدا و عارية الا من قميص مهلهل بينما تتخفى الصورة الحقيقية لوجهها الجميل تحت قناع من الأوساخ و الافرازات تتغذى منها و تحوم حولها بضع ذبابات أصرت على الدخول معها و التي يبدو أن الطفلة اعتادت عليها .
كانت الامرأة و هي صبية لما تبلغ الثلاثين بعد ، هلعة باكية ، ما أن احتواها منزل الاستاذ حتى أمسكت بتلابيب أم محمد – الشغالة – مستجيرة بها بصوت مبحوح أنهكه الارهاق فخفض موجاته ، بينما أكدت عروق رقبتها المنتفخة أنها تُطْلِقه بكل قوتها ؛ كانت الكلمات تخرج من فمها كحشرجة عجوز في النزع الأخير ، عندما أخذت تشرح حالها لأم محمد ثم لبقية أفراد الأسرة كبيرهم و صغيرهم ، ثم أعادت سرد قصتها لسيدة الدار قمر( خانم ) عندما خرجت من الحمام ..
زوجها ملقم فرن في مخبز الحارة ، أجره الأسبوعي ثلاث ليرات سورية إضافة الى أربعة أرغفة من ( خبز الفقير* ) لا تدخل أجواف الأسرة غيرها غالبا ؛ أما أجره الأسبوعي فلا تعرف عنه شيئا ، هي تعلم أنه يدخن بشراهة و أنه يتردد على مقهي الحي المجاور لسماع قصص عنترة بن شداد و أبو زيد الهلالي و الشاطر حسن من فم الحكواتي ، حتى اذا طالبته بما يسد رمق أطفالها ، أقسم الأيمان أنه لا يملك قرشا واحدا في جيبه ، و ان هي واجهته بمصروفاته الشخصية ، فان رده يكون في العادة بيده و ليس بلسانه ؛ أما ما حدث اليوم ففاق كل ما حدث من قبل ، فقد مزق جسدها بعدة جروح تجمد الدم حولها و رسم على وجهها عدة كدمات و نفّر من رأسها ثلاثة انبثاقات على الأقل ، و حتى الأطفال لم يسلموا من أذاه بل كاد يذبح بكره . و أخذت ترجو قمر خانم أن تتوسط لدى الأستاذ لينقل شكواها الى الحكومة ، فانها لم تعد تحتمل ، فقد بلغ بها السيل الذبى !!! و أضافت أنها امرأة ( مقطوعة من شجرة ) لا أهل لها و لا تجد من تلجأ اليه سوى الأستاذ ، و قد شجعها ما سمعته من جارتها بأن الأستاذ يرفض أن يتقاضى أجرا من أهل الحارة .
تعاطفت قمر خانم مع الامرأة ، و أخذت تهدئها ، ثم أمرت أم محمد أن تقدم لها بعض الطعام مؤكدة لها أن الأستاذ سيعود الى المنزل وشيكا ، و أنه لن يتردد في معاونتها

*****
-2-
كان بكرها عبد الله ، قد أرسله والده لاستدعاء أمه في الحال ، عندما دخل الأستاذ عبد الباقي ، و ما أن سمع القصة حتى طلب من عبد الله أن يستدعي أباه . ثم أخذت الصورة تتضح فالزوج هو ابن ( خضري الحارة ) أبو عمر ، عمل عند والده مذ كان في العاشرة من عمره و تزوج في كنفه و أنجب في داره ، و لكن بعد وفاة والدته بأشهر قليلة تزوج والده ؛ و بدون سابق انذار طرد ابنه و ساعده الأيمن ، بحجة أذاعها بين الزبائن و هي أن مورد الدكان لم يعد بغطي أسرتين .
و لما كان عمر فد حرم من أي قسط من التعليم أو حتى تعلم أية مهنة غير المناداة لترويج ثمار والده فقد ظل عاطلا عن العمل ، الى أن أوقعته الظروف بين براثن ( خباز الحارة ) الذي عمل على استنزاف عضلاته أربعة عشر ساعة يوميا ، تبتدئ عند فجر كل يوم فاذا عاد الى منزله ليستريح يجابهه صخب أطفاله الذين أنجب منهم أربعا في أربع سنين ، ثم تدعم زوجته ذاك الهرج بطلباتها التي لا تنتهي ، فأخذ ينفر منهم جميعا الى المقهى .
- والدخان ؟
سأله الأستاذ فرد عمر مبررا . .
= ( فشة خلق* ) سيدي !
- و تترك أطفالك جياع ؟
صمت أبو عبد الله بينما اغرورقت عيناه بالدموع ، ثم أردف :
= كان من المفروض أن أكون شريكا لأبي و لكن (بنت الحرام إمرأته) ظلت توسوس له حتى طردني .
- و لكنه لم يطردك من المنزل أليس كذلك ؟ .
تساءل الأستاذ فأجابه عمر :
= لو فعلها فلا ملاذ لنا سوى بستان الباشا حيث نعيش كلنا في العراء، و لكن (بنت الحرام) أجبرته على بناء حاجز يقسم البيت الى شطرين و استحوذت على الشطر الحاوي للمرحاض و المطبخ و تركت لنا غرفة واحدة للأكل و الشرب و الطهو و النوم بل حتى استحمام الأطفال !
بعد فترة صمت قال الأستاذ موجها كلامه الى الرجل :
- اسمع يا أخ عمر ، لو اشتكت عليك زوجتك لوضعوك في السجن على الأقل ستة أشهر ، لأنك أوقعت الأذى و الضرر بشكل بيّن ، و لكنها لم تفعل و أنا أعلم أنها لن تفعل لأنك أبو أولادها ، ستعود معك خديجة و لكن قبل ذلك أريد منك تعهدا بأ نك لن تستخدم يدك عند الغضب ، خديجة زوجتك و ليست خادمتك أو جاريتك ، حتى العبيد حرروهم يا رجل !
ثم أحضر المصحف و ألزمه أن يضع يمناه فوقه ثم يقسم بأنه لن يمد يده بسوء منذ اللحظة ، كما جعله يقسم بأن يقلع عن التدخين و أن لا يذهب الى المقهى سوى مساء يوم الخميس .
ثم غادرت الأسرة محملة ( ببقجة*) مليئة بالثياب القديمة و ( صّرة ) مليئة ببقايا متنوعة من الطعام .
و ما أن وطئت أقدامهم الشارع حتى تهافت حولهم بقية أطفالهم مطالبين بالحاح بنصيبهم مما احتوته ( الصرة )

*****
-3-
في صباح اليوم التالي قرع الباب ، فأطلت أم محمد من طاقة فتحت فوقه من أرضية مدخل المطبخ في الطابق الثاني من المنزل .
سألته :- من أنت ؟
أجابها : - أنا عبد الله .
كان صبيا في العاشرة أو نحوها يرتدي سروالا حشر فيه جسمه فبدا ضيقا جدا و قصيرا جدا بينما التصق فوق القسم الأعلى من جسمه قميص أزرق ضمت أزراره الى العروات غير المناسبة فبانت قبته ملتوية ، كان منظره مضحكا حقا .
نظر الى أعلى ثم أشار الى ثيابه الجديدة ثم قال مؤكدا :
- أنا عبد الله ابن أم عبدالله
- و النعم و السبعة انعام
أجابته أم محمد متهكمة ! فخجل و أطرق برأسه ، الا أنه لم يتزحزح من مكانه !
سألته ثانية بشيء من الغضب :
- من أنت و ماذا تريد ؟
- أنا عبد الله ابن أبو عبد الله
هنا تنبهت أم محمد للملابس فتذكرت على الفور قصة الأمس ثم أدركت.أنه الابن الأكبر للزوجين المتخاصمين اللذين كانا هنا بالأمس .
- هل أمك التي كانت عندنا البارحة ؟ سألته أم محمد .
- نعم ؛ أبي و أختي أمينة كذلك ، أجابها فرحا .
- هل هناك مشكلة جديدة بينهما ؟
سألته ، فصمت و أطرق برأسه ، فعادت تسأله :
- ماذا تريد يا عبد الله
هنا رفع رأسه و أشار باصبعه الى فمه المفتوح ، فأدركت أنه يطلب طعاما .
سألتها قمر خانم :
- من في الباب يا أم محمد ؟
- عبد الله (ياخدو الله) يشحذ طعاما ، هل أعطيه ؟
- إلقي له قطعة خبز و شريحة جبن .
ثم درجت العادة أن يأتي كل صباح طالبا بعض الطعام ، كما درجت بين أفراد الأسرة تسميته عبدالله ( ياخدو الله ) و لكن عبد الله لم يأخذه الله بل أخذ والده !

*****
-4-
عبد الله يقرع الباب بقبضتيه ، كان أفراد العائلة يتناولون افطارهم , هرعت أم محمد الى الطاقة :- عبد الله ؟ ماذا أتى بك مبكرا و لم تحاول كسر الباب ؟
سألها الأستاذ :
- من الطارق ؟ فأجابته :
- عبد الله ( ياخدو الله )
و لكن عبد الله عاد ليطرق الباب بعنف ، فهب الأستاذ ليطرده :
- ألا تستحي يا ولد فتزعجنا على هذا النحو ؟ نهره الأستاذ ، فأجابه بصوت متحشرج :
- أبي( شنق حاله !!!!! )
*****
-5-
تسلل سمير وراء أبيه و تبعه عن بعد ، فقد استبد به الفضول .
كان الجمع غفيرا ، في بستان الجزيرة ، أحاطوا بشجرة جوز عملاقة تدلت من أدنى أغصانها جثة عمر ، العينان جاحظتان تكادان تخرجان من محجريهما ، فمه مفتوح حتى آخر الشدقين و لسانه مدلى و سرواله يرشح ، و يداه ممسكتان بالحبل الذي التف حول عنقه ، و كأنه ندم في اللحظة الأخيرة فحاول التراجع ، و لكن بعد فوات الأوان !
جلست خديجة على الأرض و راحت تلطم خديها تارة أو تهيل التراب على رأسها تارة أخرى ، مرددة عبارات لم يفهم منها سمير سوى تساؤلاتها عمّن سيعيل الأطفال من بعد عمر ؟
ثمت شرطي حضر لتوه و أخذ يبعد الناس عن شجرة الجوز مستخدما عصا غليظة يحملها الشرطة عادة ، ثم اشتد نشاطه بعد حضور المحققين و المصور و الطبيب الشرعي .
هنا انسحب الأستاذ عائدا الى بيته ، كان يهز رأسه حزنا و يدمدم (( لا حول و لا قوة الا بالله )) ، عندما شاهد ابنه سمير ضاغطا على احدى ساقيه بكلتا يديه محاولا تخفيف ألمها فقد أصابته ضربة من عصا الشرطي.
و في منزله قال الأستاذ موجها كلامه الى زوجته و بحضور جميع أفراد الأسرة :
لقد عرفنا كيف و لِمَ ؛ فقد هدم أبو عمر السور الذي بناه بينه و بين ابنه ، و بدون تقديم أي تبرير طالبه بالرحيل من بيته ، لم يقبل أبو عمر المناقشة و لم يستجب لتوسلات خديجة ، كان ذلك في المساء و في الصباح ظنوا أن عمر توجه الى عمله و لكن بعد سويعات قليلة جاءهم ( أبو رياح ) صاحب الطاحون ليخبرهم بالنبأ المفجع .

*****

-6-
كانت جنازة أبو عبد الله التي لم يخرج وراء نعشه فيها ، سوى عبد الله و جده أبو عمر ؛ فقد رفض الناس تشييعه أو الصلاة على جثمانه لأن الانتحار حرام ، كما أحجم الناس عن التعامل مع (أبو عمر) أو حتى القاء السلام عليه !
ثم أصيب أبو عمر بجلطة دماغية فأصبح طريح الفراش ، رفضت زوجته خدمته ، ثم ما لبثت أن جمعت أغراضها و رحلت ، بينما شمرت خديجة ساعديها و تطوعت لخدمته دون ابداء أي اشارة تذمر !
أما عبد الله فقد استلم دكان جده ، و عاد - من ثم - أهل الحي للتعامل مع المحل بكل رضا ،
و بعد أيام ابتدأ عبد الله ذو الحادية عشر يقف على الرصيف المحاذي لسور البستان ، يعترض طريق الفلاحين القادمين من الغوطة فيشترى منهم ثمارهم قبل أن يصلوا الى سوق الهال و هو سوق الخضار الرئيسي ؛ و سرعانما تكشف عبد الله الذي كان حتى الأمس القريب يلهو بالتعلق خلف حافلات الترام أو العربات التي تجرها الخيول ، عن تاجر بارع ، و ما لبثت جهوده أن انعكست خيرا على والدته و اخوته .
*****
-7-
قرع الباب ، أطلت أم محمد فاذا به عبد الله .
- من القارع يا أم محمد ؟ سألتها قمر خانم .
- عبد الله ( ياخدو الله ) ، أجابتها أم محمد .؟
- الظاهر أنه حن لمهنة الشحاذة ؟ علقت قمر خانم ضاحكة !.
- ماذا تريد يا عبد الله ؟ سألته أم محمد بشيء من السخرية ؟
- أحضرت لكم سلة مشمش حموي .
- هل أرسلها الأستاذ ؟
- لا .. انها هدية مني للأستاذ !
علقت قمر خانم :
- والله فيك الخير يا عبد الله ، قالتها و هي تهز برأسها تعجبا و اعجابا .
عندما نزلت أم محمد لتناول السلة ، رجاها عبد الله ألا تلقي بكتب أولاد الاستاذ بالقمامة عند نهاية العام الدراسي الوشيكة ، لأنه يعتزم تعلم القراءة و الكتابة كما و انه يعتزم ارسال اخوته الى المدرسة في العام القادم !
-----------------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
الموقع : www.FreeArabi.com