حــــروف مجنـــحة : ليس دفاعاً عن الشيعة
فتوى الإمام الخامنئي ارتكزت على تراث شيعي طويل يحترم الصحابة وأمهات المؤمنين
الخلاف المذهبي ليس معركة الأمة واثارته جزء من المؤامرة على المقاومة
ليس من العدل أن يؤخذ أتباع مذهب بجريرة سفيه محسوب عليه
بلال حسن التل
غير مرة دعونا إلى ما هو أكثر من التحفظ, على ردود فعلنا, كعرب وكمسلمين على بعض التصرفات المسيئة للإسلام ولرموزه. لأن ردود فعلنا في الغالب الأعم كانت تخدم المسيء وتعمم الإساءة. وكنا ندعو دائماً إلى ممارسة قاعدة " أقتله بصمت " في مواجهة الإساءة والمسيئين من جهة, واعتماد ردود فعل إيجابية تُحرم المسيئين من متعة الشهرة والأضواء, وتحول دون تعميم الإساءة من جهة أخرى. خاصة وأن ردود الفعل الصاخبة كانت دائما تحول دون وصول الردود الايجابية إلى مبتغاها, حيث يختلط الحابل بالنابل ويطغى الضجيج على صوت العقل والمنطق.
آخر دليل على ما نقول ما حصل في قضية الإساءة لأم المؤمنين السيدة عائشة عليها رضوان الله على يد من كان نكرة مجهولاً فصار علماً معلوماً. بفضل ردود فعلنا الصاخبة التي غطت على النتائج الايجابية لما اقترفه المسيء لام المؤمنين السيدة عائشة, وأبرز هذه الإيجابيات أنها أوضحت الموقف الحقيقي لمراجع الشيعة وعلى رأسهم آية الله العظمى محمد علي الخامنئي, المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران والمرجع المذهبي لغالبية الشيعة في العالم.
لقد أصدر سماحته فتوى تحرم الإساءة لأي من صحابة رسول الله وخاصة لزوجاته, ومن بينهن السيدة عائشة عليها السلام. وهذه الفتوى التي أكدت فتوى سابقة للإمام الخميني حول تحريم الإساءة للصحابة تأتي متساوقة مع عدد من فتاوى واضحة لمراجع الشيعة العظام, حول هذه القضية. لعل من أبرزها وأهمها فتوى العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله عليه رحمة الله بتحريم الإساءة إلى صاحبة رسول الله ولزوجاته عليهن جميعا سلام الله. وهي الفتوى التي أكدها مؤخراً رداً على واقعة الإساءة للسيدة عائشة عليها سلام الله ولده ووريثه العلامة علي فضل الله حيث قال سماحته:
(نأسف لمثل هذه الأصوات التي عادت لتصدر في مرحلة نلمس فيها سعياً حثيثاً لإثارة الانقسامات والفتن, وهناك من يعمل ليكون مساهماً في تهيئة المناخ لذلك, ونشعر بأنّ هؤلاء بشكل مباشر أو غير مباشر, يعملون على مساعدة من يبشّرون بالفتن في لبنان والعراق وغيرهما, لإفقاد المسلمين وحدتهم وقوّتهم. ونحن نستحضر في هذه الأجواء الفتوى التي أصدرها سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله, بحرمة سبّ الصحابة أو أمهات المؤمنين, فعندما نسيء إلى زوجة الرسول فنحن نسيء إلى الرسول والى القراَن الكريم أيضاً الذي تحدَّث عن زوجات الرسول الكريم بوصفهنّ أمّهات المسلمين, فالتعرض لإحداهنّ بمثل هذا الكلام المسيء, يعني مخالفةً صريحةً لما جاء في القراَن الكريم عن زوجات النبي, فإذا كان هناك بعض الملاحظات على أحداث تاريخية, فيجب أن تطرح بشكل علمي سليم, ويجب أن تخضع للتقويم التاريخي, وما أصدره سماحة المرجع السيّد فضل الله من حرمة سبّ الصحابة وأمّهات المؤمنين, هو حكم شرعي نتبنّاه ونعمل به).
ولم يتوقف السيد علي فضل الله عند حدود استنكار الإساءة التي وُجهت للسيدة عائشة, بل ذهب إلى ما هو أبعد عندما دعا إلى العمل الجدي لقطع الطريق على الفتنة المذهبية قائلاً: (نحن ندعو ونطلب من المرجعيات الإسلامية والشيعية, ومن كل الذين يريدون تأكيد الوحدة الإسلامية, ومن كل الحريصين على وحدة المسلمين, أن يتحرّكوا في إطار حمل المسؤولية, لقطع الطريق على أي حديث أو محاولةٍ لإثارة الفتن, وألا يكتفوا بالحديث العام, فلا بدّ من الدخول في التفاصيل والتصدي لكل الأدوات التي تستخدم في إثارة الفتنة, وحماية الوحدة الإسلامية, وعدم السماح لمن يريد سوءاً بالمسلمين ووحدتهم أن يحققوا أهدافهم, ولذا فهذه المسؤولية تقع على عاتق المرجعيات الإسلامية الشيعية, وكل الذين يريدون خيراً لهذا العالم العربي والإسلامي, الذي يمتلك الكثير من مواقع القوّة التي يريد بعضهم ضربها من خلال إثارة الفتن الداخلية).
والسيد فضل الله عندما يتخذ هذا الموقف, من قضية الإساءة للسيدة عائشة, أو لغيرها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما يرتكز على حقائق المذهب الجعفري فهو في إطار تصديه للإساءة التي صدرت بحق أم المؤمنين السيدة عائشة يقول:
(فالشيعة عندما ينطلقون من قدوة لهم, عليهم أن يلتزموا مواقفها عندما يقتدون بها, ولا يمكن لهم أن يكونوا إلا كما كان الإمام علي (ع) في علاقته مع أصحاب رسول الله والخلفاء الذين تقدموه في الخلافة, وفي علاقته مع السيدة عائشة. ولهذا من يطرح هذه الأمور بهذا الشكل, لا يمثّل جمهور الشيعة, ولا يمثّل صورة الإمام علي, ولا يمثّل الصورة التي انطلق منها عندما قال: "لاسالمن ما سلمت أمور المسلمين". والروح الإسلامية التي عاشها أهل البيت في كل المراحل ومع كل الأئمة, هي روح التواصل والوحدة, فالإمام الصادق (ع) كان يقول: "صلوا في مساجدهم (ويقصد أهل السنة), وعودوا مرضاهم, واشهدوا جنائزهم (أي لا تكونوا مجتمعاً منعزلاً).. " كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"). إذاً علينا ألا نأتي بأي تصرف يسيء إلى سلامة الواقع الإسلامي, والإمام زيد العابدين (ع) له دعاء لأهل الثغور في وقتٍ كان الجيش جيشاً تابعاً, على مستوى الحكم, لسلطة يزيد الذي قتل الحسين وأصحاب الحسين, ورغم ذلك, وقف ليدعو لهذا الجيش, لأنه رأى أن المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك, فالجيش آنذاك كان يمثل الصورة الإسلامية العامة. وهكذا كان الإمام علي (ع) من قبله, ناصحاً للخلفاء الذين تقدموه, فمثلاً عندما استشاره الخليفة عمر بن الخطاب في مسألة أن يذهب ليقود هو الجيش في الحرب على الفرس, أشار عليه بعدم الذهاب وقال: " كن قطباً واستدر الرّحى بالعرب", فهو كان حريصاً على موقع الخلافة وعلى الخليفة نفسه الذي رأى انه يمثل صورة الإسلام. هذه هي حقيقة القدوة التي قدّمها أهل البيت, وهي القدوة التي يقتدي بها الشيعة عامّةً.
ولذلك يجب ألا نُدخل ما قاله هذا الشخص أو غيره في إطار صراع سنّي – شيعي, فهذا الشخص لم يسئ إلى السنّة, بل أساء إلى الشيعة أيضاً, والى المسلمين جميعاً, وهو بطبيعة الحال لا يمثلهم ولا يمثل إلا نفسه بما قال ونطق).
إن ما استشهد به السيد علي فضل الله من التراث الشيعي وموقفه من صاحبة رسول الله, هو غيض من فيض. وفي كتب التاريخ الكثير الكثير من المواقف والفتاوى الصادرة عن مراجع الشيعة التي تحرم الإساءة للصحابة عليهم رضوان الله من ذلك, أن اعرابيا قال للإمام موسى بن جعفر الكاظم: ( لقد سمعت رواية عن مالك بن أنس يقول: من سبَّ أبا بكر وعمر يجلد, ومن سب عائشة يقتل, قيل له: لم يقتل في عائشة؟ قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين), قال مالك فمن رماها فقد خالف القراَن, ومن خالف القراَن قتل. فقال له الإمام: أسببت الشيخين قال: لا قال: سلم بدنك من السياط ثم قال: أسببت عائشة فقال: لا والله. فقال: لديك رزق في الحياة) وهو ما فسره العلماء بأن الإمام موسى كان سيأخذ بحكم الامام مالك فيجلد الأعرابي إن كان شتم الشيخين ويقتله إن كان شتم السيدة عائشة.
وعن أبي السائب القاضي قال: كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الدعي بطبرستان, وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة, فقال: يا غلام إضرب عنقه, فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا, فقال: معاذ الله إن هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات, والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات, أولئك مبرءون مما يقولون, لهم مغفرة ورزق كريم), فإن كانت عائشة خبيثة حاشا لله فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث وحاشا للنبي أن يكون كذلك, إذا فهو كافر فاضربوا عنقه, فضربوا عنقه وأنا حاضر). وأبو السائب القاضي كما هو معروف من أعلام وعلماء الشيعة.
وفي المروي من الوقائع: أن رجلاً من العراق قدم إلى محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فذكر السيدة عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب دماغه فقتله فلما قيل له هذا من شيعتنا أجاب (هذا تحدث عن أمي سوءاً فقتلته) وليس هذا بالأمر المستغرب على حفيد الإمام علي, فإن جدَّه الإمام علي بن أبي طالب عليه وعلى آله السلام كان يوصي بالسيدة عائشة قائلاً: (هل أوصلتم معونة أمنا؟). وعلى اسم السيدة عائشة سمى الإمام موسى الكاظم ابنته البكر السيدة عائشة بنت موسى الكاظم.
إنني لا احشد هذه الأقوال والمواقف للدفاع عن الشيعة ولكن لأقول بأن فتوى الإمام الخامنئي ومن قبلها فتوى الإمام الخميني ارتكزت على هذا التراث الشيعي الحقيقي. وامتداداً لهذا التراث الشيعي جاء موقف علماء الشيعة في السعودية وعلى رأسهم العلامة حسن الصفار, وكذلك موقف علماء ومراجع الشيعة في كثير من أصقاع الدنيا من قضية الإساءة للسيدة عائشة, ولسائر الصحابة. فقد تصدوا جميعاً لمحاولة إثارة الفتنة بين المسلمين من خلال الإساءة للسيدة عائشة أم المؤمنين عليها السلام.
إن اللافت للنظر, أن حجم التغطية الإعلامية التي نالتها الإساءة للسيدة عائشة رغم تفاهة مصدرها, فاقت كثيراً التغطية الإعلامية للمواقف الرافضة لهذه الإساءة. رغم أهمية المواقع المذهبية والفقهية والسياسية لأصحاب هذه المواقف وعلى رأسهم الإمام الخامنئي الذي تنشغل وسائل الإعلام الغربية والدائرون في فلكها في تحليل كل كلمة يقولها. إلا إذا تعلقت هذه الكلمة بما يجمع وحدة الأمة. كما هو حال فتواه في تحريم الإساءة للسيدة عائشة وللصحابة عليهم رضوان الله مما يدل على أن وراء الأكمه ما وراءها. وان القضية ليست قضية دفاع عن السيدة عائشة لكنه نفخ في كير الفتنة, لإحداث المزيد من التمزق في صفوف المسلمين. وصولاً إلى تحقيق الهدف الأساسي للعدو في هذه المرحلة من التاريخ. وهو الهدف الذي يتمثل بإنهاء المقاومة ممثلة بحزب الله وحماس عبر تشويه صورتهما باعتبارهما يدوران في فلك إيران الشيعية. وكأن إيران لم تكن شيعية زمن الشاه الذي كان حليفاً وصديقاً وشريكاً للذين يخاصمون إيران اليوم باعتبارها دولة شيعية. ثم من قال أن الفرز المذهبي هو أولوية من أولويات الأمة التي تحدد على أساسها المواقف والعلاقات السياسية؟ إلا إذا كان الهدف من هذه المواقف المزيد من تمزيق صف الأمة, وإضعافها لحساب عدوها الصهيوني والأمريكي, الذي يحتل أرضها في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأفغانستان. وهو العدو الذي يسعى جاهداً إلى جعل الصراع المذهبي معركة المسلمين. وهو ليس كذلك لأن المذهبية علامة من علامات الثراء الفكري والتشريعي لأمة المسلمين, الذين آن الأوان لكي يحتكموا إلى عقولهم وأصول عقيدتهم. والى أدب التخاطب فيما بينهم. فلم يعد مقبولاً أخذ أتباع مذهب بكاملهم بجريرة سفيه محسوب على هذا المذهب أو ذلك المذهب, سنّيا كان أم شيعيا.
ولنتذكر جميعا أننا ندين بدين واحد. ونتبع رسولا واحداً. ونتلو قرآناً واحداً. ونتجه لقبلة واحدة. وان لدينا تاريخا طويلاً يقول: إن العلاقة بين أئمة مذاهبنا كانت مبنية على الاحترام المتبادل. وكان كل منهم يأخذ من الآخر ويصلي خلفه. فلماذا نُسلم قيادنا اليوم لأنصاف "المستشيخين" و"لمرتزقة الفضائيات" يبثون بيننا سمومهم, ويبحثون عن النقاط السوداء في تاريخنا ليلطخوا بها حاضرنا. مع أن هذه الفضائيات وهؤلاء "الأنصاف" بل و"الأرباع" ولا نريد أن نقول (الأعشار) يلبسون هم وسادتهم وممولوهم لبوس الحكمة, والدعوة للجدال بالتي هي أحسن, إذا جاءت الإساءة للإسلام ولرموزه من الغربيين والأمريكيين منهم على وجه الخصوص. بما يؤكد أيضاً أن الأمر ليس أمر غضبة للإسلام والمسلمين, لكنها رغبة في شق صفوفهم. فالحذر الحذر ولنرصَّ صفوفنا ولنرفع درجة الوعي لدى أبناء هذه الأمة التي لا يجوز أن ترقص كلما ضرب سفيه دفَّه؟!
ليس دفاعا عن الشيعة بقلم:بلال حسن التل
تاريخ النشر : 2010-10-11