محاكم التفتيش المعاصرة
مواقع سريان جورها، قوانينها، قضاتها
الناس تعيش هذه الايام تكرارا مشوها لمحاكم التفتيش التي نشأت في عهد الإمبراطورية الرومانية و استحسن نموذجها الإسبان على إثر سقوط الممالك الأندلسية و ملاحقة فلول آخر نص متلبس باحتوائه على حرف الضاد.
قمت و زوجتي بعد طول تمحيص و تبصر و قد احتل الشوق فينا الرفوف العليا من زاوية الحنان ووصل الرحم في تلافيف ذاكرتنا الحديدية المشتتة كحالتنا، بحسم الأمر بالسفر من شمال الكرة الارضية الى شمالها، مشكورة طبعا جهود المشجعين على هذه الرحلة الذين ما ان لامسوا ليونة الموقف في تعابيرنا حتى بادروا الى اجتياز حدود الحاسوب (الكمبيوتر )، التي تهاوت بابا بعد اخر وصولا الى باب السفر و الترحال و القي القبض على مقعدين فارغين من كوبنهاغن في الدنمارك الى تورنتو في كندا فحجزا و دفع ثمنهما عبر الانترنت، حتى لا تساورنا انفسنا بالندم,, فالتردد.. فالالغاء اذا ما هيمن علينا التفكير بمشقة السفر.
في الموعد المحدد، اقلنا صديق عزيز بسيارته الى محطة سكة الحديد في جنوبي مالمو ليحملنا القطار برحلة سريعة لم تتعد اكثر من عشرة دقائق لم تكف بدورها طبعا ليسرح فيها خيالنا برحلتنا، فسرعان ما عبرنا جسر " اوريسوند " بطابقه العلوي المخصص للقطارات، ثم ما لبث ان ولج بنا النفق تحت مياه الدنمارك الاقليمية في بحر البلطيق بعد ذلك حملنا المصعد الى قاعة المغادرين في المطار لنفاجا بوجود صف طويل من المسافرين ينتظرون دورهم لايداع امتعتهم و الحصول عل بطاقة الصعود الى الطائرة، في تلك اللحظات بدات رحلة الشقاء النفسي.
يعترض طريق المسافرين، ذا الممر المتعرج، المسور باشرطة حمراء قماشية، شخصان عريضا المنكبين – كانك امام " سوبرمان الهوليودي " - يضع كل منهما حاسبا الكترونيا على منضدة مستديرة مرتفعة القوائم . فما ان ياتي دورك حتى تنهمر عليك الاسئلة مترافقة بنظرات مريبة، تقيسك طولا و عرضا، و ما عليك الا ان تجيب عن الاستفسارات التي تتالى متلاحقة عن اسمك؟ و جنسيتك؟ والى اين انت ذاهب؟ و لماذا؟ في الوقت الذي يقوم هو بالتملى في جواز سفرك؟!!
ثم يحملك جميلا بالسماح لك بمتابعة طريقك الى منصات الوزن، " فكان اول الرقص حنجلة ".
و امام قاعة تجميع الركاب للصعود الى الطائرة فوجئنا ايضا بحواجز تقف امامها امراة بحجم البقرة الهولندية!! و بعد ان تفحصت جوازات السفر و بطاقات الصعود اعادت لنا الجوازات و احتفظت ببطاقات الصعود وباشارة من طرف اصبعها خالية من اية مشاعر انسانية و احترام الاخر بان انتظروا خارجا حيث لا مقاعد للاستراحة عليها و كانك متهم تقف امام محقق اهملك و هو يتظاهر بانشغاله بقضايا اخرى، فمضى الوقت ثقيلا و كنا بضعة اشخاص، لم ينبس اي منا ببنت شفة، بل تبادلنا نظرات استهجان و استنكار!!.. عشرة دقائق،... عشرون... فاكثر، و الغضب يغلي في العروق الى ان بلغ السيل الزبا فتقدمت بخطوة واثقة و سحنة تحمل غضب كل معذبي و مهاني الارض. فسالت مستنكرا لم كل هذا؟ ففنجلت عينيها متراجعة الى الخلف خطوة و كان واقع حالها يقول: الا زال هناك من يحتج علينا بعد..؟!! وبعد تبادل جلف لاطراف الحديث ذهبت بصمت لتعود بعدها بثوان وبيدها بطاقات الصعود‘ ثم اصدرت اوامرها: بان عليكم عندما تهبط الطائرة في نيويورك بان تاخذوا متاعكم لتمروا على رجال الجمارك و الامن الامريكيين، و لكننا سنتابع رحلتنا الى كندا و قد حصلنا على موافقة السلطات الامريكية تبعا لتعليمات شراء البطاقة، قلت انا.. فاجت باقتضاب: وان يكن!!! فعليكم فعل ما اقوله.
وفي مطار نيويورك فعلنا ما طلب منا وانتصبنا امام رجل الامن الذي طلب مني ان ارفع راسي فظننت خطا ..انه يطلب مني الا اطاطئ!! ثم سرعان ما ادركت ان هناك الة تصوير و ان الصورة يجب ان تكون واضحة، ثم طلب ان ابصم كهربائيا، و هو يتصفح اوراق الجواز، وفجاة هب واقفا و كانما ركبه الف عفريت وسال؟ هل كنت في العراق، و طار بي الخيال الى تلك الصحبة الجميلة مع ابو حسام و ابو حمزة في رحلة مهرجان ربيع الشهادة الثقافي ولا يمكن لاحد ان يتصور حينها كم اشتقت الى تلك البسمة الساخرة و التي كانت ابلغ من معلقة شعرية، حيث ارتسمت هناك في كربلاء على مبسم من تشرفت بمعرفته" الاديب، رجل الاعلام المتفاني، الاستاذ علي الخباز" عندما كان يتعرض الى موقف سخيف لا يستحق الرد، و باسرع من البرق قفزت الى مقدمة شريط الذاكرة الوسامة البادية على الوجه السمح للفنان الشاب امجد و هو يكون بخطوطه ملامح وجوهنا فابدع... و لعله يجد في هذا الوجه الشيطاني ضالته كخير مادة للتعبير عن قبح وجه الاحتلال المغرور المتعالي. وعدت ادراجي من رحلتي الخيالية فرحا منهكا!! على نبرة ذلك الرجل الحادة الامرة: ابصم مرة اخرى ففعلت, و باليد الاخرى! ففعلت ايضا و بالابهام مرة ثانية، فغدوت كمن كان في مرجل على موقد، فاحمرت عيناي عندما سالني: ماذا كنت تفعل في العراق؟ فضغطت ام ايمن على يدي في اشارة منها الى ان اتحلى بالصبر و اكتم غيظي، فاجبته: و هل ذاك ممنوع؟ لم يجبني على سؤالي بل كررعلي السؤال و تراقصت امام اعيني صور" اطفال جالونات البنزين " المنتشرين على الطرقات في سعي منهم للمساعدة في تامين لقمة العيش لاسرهم ، بفعل اليتم الذي حل ببعضهم او اصابة معيليهم في واحدة من سلسة حروب الغير التي اندلعت على ارض بلاد ما بين النهرين والتي كان اخرها ولا تزال حرب الديمقراطية المحمولة على رؤوس الصواريخ التي القت بها طائرات الشبح او قذفتها المدافع العملاقة من البوارج الامريكية، لتحصد ارواح البشر دون تمييز بين طفل و شيخ، او بين مسلح و اعزل ...او بائع الخضرة ذاك الذي يدفع عربته قاصدا السوق الذي قد يتعرض للموت بانفجار سيارة ملغمة بعبوة امريكية او اسرائيلية يقودها احد من باعوا انفسهم سواء اكان عراقيا او من احد اشقائه العربى، اولئك المغرر بهم او ممن عبئوا بحقد طائفي، زرعه و نماه الاحتلال.... فافقت من غفلتي و بدون مقدمات ...نعم ...نعم انني كنت مدعوا الى مهرجان ثقافي ، ثم سال هل انت عراقي الاصل؟ فلم اجبه بلا، بل... بانني فلسطيني، فالتفت الي بطرف عينه و كانه يقول : " العن و ادق رقبة " ثم القى لنا بجوازات سفرنا. اه.... اين انت يا حذاء منتظر...!!!!
ما كنت اريد التشويش على زيارتي للعراق بعد مضي اربعين عاما على زيارتي الاولى، لكن لم اتمكن من عزل ما جرى في رحلتي عما جرى و يجري في العراق و افغاستان ولا استطيع فصل حالة
" اطفال انفاق غزة " عن واقع و مسببات ظاهرة " اطفال جالونات البنزين " عن " اطفال الحجارة" عن " اطفال البي سفن " عن سيرة الحسين كرمز انساني للتضحية و الفداء و يستحق بجدارة ان يكون زهرة ربيع الشهداء، وان نتجاوز البكائيات الى تمثل سمات تلك الشخصية ذات البعد الانساني الذي تجاوز بسلوكه المحلي و الاقليمي و الطائفي و تمثيل الدين الواحد او الاديان السماوية مجتمعة لتملا الساحة الدولية، و انني اميل الى وجهة النظر التي جرى تداولها على هامش المهرجان والتي استعارت من الصباح ساعاته الاولى والتي كنا نرهق بها عمال الفندق – فاطلب منهم السماح – على ان يتخذ مهرجان ربيع الشهادة بعده الانساني الدولي واغنائه بالابحاث الدسمة المعصرنة التي تساعد شعوبنا على تلمس طرق الخلاص بالاضاءة على الجوانب النيرة في سيرة سيد شهداء عصره و زمانة ليكون قدوتنا في العمل في عصرنا الراهن. و بهذه المناسبة اوجه تحية تقدير و احترام للسيد رياض الحكيم و السيد احمد الصافي كرموز لاتنسيني احدا ممن التقيناهم فلهم كل المودة.
وفي ظل الدمار الذي شاهدناه منذ ان حطت بنا الطائرة التركية على مدرج مطار بغداد ، والخوف من المجهول الذي تقراه على جبين اي اخ او اخت عراقية تشاهدها، او على جدران الحواجز الامنية التي تملا الطرقات ، او اخبار الموت التي تسمعها اينما حللت ، مظاهر الفقر البادي في بلد نهرين من اعظم انهار العالم، بلد يحتوي في جوفه احتياطات نفطية فلكية الكمية، لكنها منهوبة ثمنا للحروب السابقة و تكاليف باهظة للاحتلال القائم. الا ان كوى لنور امل تتسع على يد المؤمنين بحب الوطن ، الطافحين استعدادا للعطاء، وفي هذا الحقل كل الامتنان لاسرة النور التي ينتشركتابها على امتداد ساحة البلد، و الذي يعتز الانسان بالتعرف اليهم و هم يزرعون الامل هم و امثالهم بامكانية ان ينفض العراق غبار ما حل به و لو بعد حين.
و لا يمكنني ان اتجاوز و لو على عجالة شهيد الكلمة السيد عامر و اسرته الكريمة التي كانت زيارتهم و مواساتهم باكورة انشطة وفد مؤسسة النور للثقافة و على راسهم الاخ العزيز د. احمد الصايغ و الاستاذ الاديب عبد الواحد محمد و د. عدلي ابو حجر و انا، كما لا استطيع نسيان خاتمة زيارتنا الى صالون الكتبي الثقافي في الهندية على ضفاف الفرات . لاختم بان ما ورد ذكره عن زيارة العراق و المشاركة في مهرجان ربيع الشهادة الثقافي، ان هي الا عناوين لكتابات لاحقة لكنها اقحمت بسبب من سلوك محاكم التفتيش الامريكية عبر المحيطات و في اي بقعة على امتداد البسيطة بسبب انتشار ملوك طوائف العصر و لا سيما في بلداننا ، و سيادة منطق الجميع مدانون الى ان يثبتوا براءتهم!!! وهذا امر لا يدرك... لكنه سيقود بان تلتحق الامبراطورية الامريكية بسيرة روما ، وان دامت لهتلر ستدوم لهم!!! طالما هناك احذية زيدية و اطفال حجارة.
محمد قدورة
مالمو 25/9/2010
محاكم التفتيش العصرية بقلم:محمد قدورة
تاريخ النشر : 2010-09-27