ملف المدن المنسية
قلعة دزة ???..عاصمة ?شدر الجميلة
قيس قره داغي
24 / نيسان /1974 ( كنت هناك )
حينما قلب البعث نظام الحكم في 17 / تموز /1968 نظام الحكم في العراق خطط للبقاء طويلا ، ورأى في الثورة الكردية في كوردستان حجر عثرة امامه ولذلك مد يد الخديعة لها ودخل اياها في مفاوضات انتهت بالتوقيع على بيان آذار عام 1970 ، ولكن عندما رسخ قدمه في مفاصل الحكم بدأ يتنكر لوعوده واراد ان يسحب البساط من تحت اقدام مفاوضيه فاندلعت الثورة ثانية وتوجهت مئات الالوف من الكرد الى المناطق المحررة ليشاركوا في الثورة كل من موقع عمله واستقبلت مدن وقرى كوردستان المحررة هؤلاء خير استقبال وكانت قلعة دزة الجميلة احدى هذه المدن التي احتضنت جامعة السليمانية اساتذة وطلبة و مستخدمين فاصبحت المدينة مكتضة بالملتحقين بالثورة وسكانها الطيبين فهاج حكام بغداد لهذا المنظر وشرعوا لضرب معنويات الثورة من خلال هذه المدينة وكان سلاحهم سلاح الجبان الذي يغدر بنده طاعنا اياه من الخلف ، كنت حينذاك هناك ذهبت مع اثنين من زملائي لمهمة من رانية القريبة التي يفصلها عن قلعة دزة جبل كيوه ره ش ، كنا مجموعة من طلاب المتوسطة والثانوية نقيم في رانية ، فشهدت بنفسي تلك الجريمة النكراء ، حينما اغارت اربع طائرات من نوع ( سوخوي ) مع طائرتان من نوع ( توبوليف ) او كما كانوا يطلقون اسم ( باجر ) على مثل هذه الطائرات والكلمة روسية تعني القصاب باللغة العربية ظهرت على سماء المدينة الآمنة في الساعة العاشرة من صباح يوم 24 /نيسان / 1974 وامطرت المدينة بمختلف انواع الذخيرة الحربية من صواريخ وقنابل فوسفورية ورشقات من مدافعها الرشاشة واختتمها ببضعة قنابل النابالم الحارقة المحظور استخدامها كونها تدخل ضمن الاسلحة الفتاكة التي تؤدي الى قتل اكبر عدد من الناس لتترك المدينة بعد اقل من ساعة من القصف المكثف اشبه بمجزرة بشرية مروعة ، فغدت شوارع المدينة وازقتها ، دوائرها الرسمية والمباني المخصصة للجامعة واحيائها السكنية بركة من دماء اكثر من ( 350 ) ضحية بريئة و ( 750 ) جريحا باصابات مختلفة الى جانب الاضرار المادية الجسيمة التي لحقت بالمباني والطرقات والاسواق ، ولعل المشهد التراجيدي الذي لا انساه طالما حييت منظر الرجل الذي بترت شظية صاروخ رقبته فاصبح يركض في عرض الشارع الرئيسي لبرهة وهو مقطوع الرأس ولاحقا عرفت من سكان المدينة والبعض منهم شاهده مثلي انه الشهيد ( جمال حمه علي ) وقد حدثني آخر بانه شاهد منظر مشابه لمطرب كردي مشهور وهو من طلاب الجامعة وله اغنية كانت الالسن ترددها آنذاك ( ده مه ?رى مه ?رى دايه ?يان ?اوانت ديشي هه ر?ه ند تو ده ?ري دله كه م ديشي ) لا تبكي اماه لا تبكي رفقا بعيناك كلما بكيت انت يولمني قلبي ، واسم المطرب آزاد لاقى نفس مصير الاول ، ومن المشاهد المروعة ايضا يحضرني ولا يمكن ان انساه ، رجل يرتدي بدلة انيقة متكئ على جدار مدرسة ابتدائية بعد القصف بساعة تقريبا وعيناه زائغتان ترمق المارة وفي تلك الاثناء كنا نحن مجموعة تطوعنا لاسعاف الجرحى واخلاء الناس من تحت الانقاض وجمع الضحايا في جامع الكهرباء وقد كنا بامس الحاجة الى مساعدة الاخرين فاغاضنا منظر الرجل الذي كنا نتصوره ينأى عن المشاركة فناديناه مرارا ولم يرد الى ان ذهب اليه احدنا وهشه بيده ليسقط الرجل ارضا ، فقد كان هوالاخر ضحية من ضحايا المجزرة وقد مات متأثرا بقوة صعق الصواريخ دون ان تمسه اية شظية منها ، واصعب ما واجهتنا قضية اخلاء الجرحى من تحت الانقاض حيث ان الكثير من الدور تهدمت على ساكنيها ، فعائلة احمد علي صابر البالغ عددها عشرة افراد ماتوا جميعا ولم ينج الا رب الاسرة الذي كان خارج المنزل ساعة القصف ، الجثث كانت تجمع وتنقل الى الجامع الذي يسمونه جامع الكهرباء ، وكان المنظر هناك مروعا جدا حيث لم تكن الاهالي تآلفوا مع مثل هذه المجازر البشرية الكبيرة لأن المدينة شهدت اولى المجازر من هذا النوع والحجم لتلحقها مجازر رهيبة في طول البلد وعرضه على مدى حكم البعث للعراق .
كل عام في ذكرى المجزرة
في كل عام ومع اطلالة يوم 24 / نيسان يتوجه اهالي قلعة دزة الى مقبرة المدينة ويتوزعون افرادا وجماعات على اضرحة الضحايا ودون خوف من المعسكر الذي كان يشرف على المقبرة في زمن الحكم البعثي المقبور ، فكانت ناقلات الجند تحيط بالمقبرة طوق السوار بالمعصم وذوي الشهداء غير آبهين يرددون الاناشيد والخطب النارية من كل صوب وناحية ، ينتهي المأتم فتلتحق كوكبة من الشباب بصفوف الثورة متأثرين بالمشهد الى ان اصبحت المسألة تقليدا سنويا لاهالي قلعة دزه .
من مأتم الى وثبة
في صبيحة يوم 24 / نيسان 1982 ، اي في الذكرى السنوية الثامنة للمجزرة كان الاهالي كعادتهم يتوجهون الى المقبرة لاحياء الذكرى والقوات العراقية بالتالي قامت بتطويقهم ولكن هذه المرة ارادت هذه القوات ان ( تؤدب ! ) الناس تأديبا على الطريقة البعثية لردعهم نهائيا من اقامة هذه الشعائر والاحتفالات فاثناء ما كان الشعراء والخطباء يدلون بدلو ما يجيش في مخيلاتهم كانت القوات تستفزهم باطلاق العيارات النارية على رؤوسهم فلم ترق للمحتفلين هذه الاستفزازت فبادرت برشق الجنود بالحجارة وثم ضربهم بالعصي والايدي المجردة وعندها صوبت القوات فوهات الاسلحة بوجه المنتفضين بلا رحمة فسقطت اثنتين من المنتفضات شهيدتين في الميدان حالا وهما كل من الشهيدة سنوبر والشهيدة آمنة وجرح آخرين والقي القبض على العشرات من الحاضرين في المكان فعادت الجماهير الى المدينة وبدأت تطوف الشوارع وهي تهتف بسقوط الدكتاتورية الغاشمة وتطور الامر الى ان اصبح وثبة انتتقلت الى مدن كوردستان الاخرى ومنها مدينة كركوك ، بلغت التظاهرة في مدينة قلعة دزة اوجها بوصول جثامين الشهداء الى جامع الكهرباء فتوجس النظام من الامر وخاف من عواقب انتشاره في ربوع كوردستان ولجآ الى معالجة الامر بالتفاوض مع الاهالي فبعث مندوبه اليهم فقدم الاهالي مطاليبهم الى المندوب الحكومي وكان من ضمن هذه المطاليب اطلاق سراح الموقوفين حالا دون قيد وشرط واطلاق اسم جامع الشهداء على جامع الكهرباء وامور اخرى ، فرضخ النظام لهذه المطاليب على مضض خوفا من تطورات اخرى ، ولكن الانتقام لقعة دزة كان ضمن اجندة النظام البعيدة ففي عام 1989 وعلى اعقاب عمليات الانفال الرهيبة عادت ودمرت المدينة تدميرا كاملا ونسفت المدينة عن بكرة ابيها اسوة بعشرات المدن الاخرى وآلاف القرى في كوردستان وهجر اهل قلعة دزة الى المجعات القسرية في خبات و دارتو و الجديدة و ?ورسك و بازيان .
لهيب الانتفاضة في العروق
حينما اسكن النظام اهالي قلعة دزة في تلك المجمعات القسرية خلفوا كل حاجياتهم تحت انقاض مدينتهم ولم يحملوا معهم سوى لهيب الانتفاضة في حشاشاتهم ، بباتوا يتحينون الفرص للانتقام من الذين طلقوا الرحمة الالهية بالثلاث ، فقبل اندلاع الانتفاضة في بوابة الانتفاضة مدينة رانية الصامدة بيوم واحد اي في يوم 4 / اذار / 1991 هاجمت مجموعة من اهالي قلعة دزة الساكنين في مجمع بازيان دوائر الامن والشرطة وجوبهوا بوقاحة وسقط كاكه بختيار شهيدا وبعد يومين فقط انتفضوا جميعا انتفاضة رجل واحد وفي ملحمة قل نظيرها قضوا على كل اثر بعثي في شعاب منطقة بازيان و حرروا المنطقة نهائيا من الجيش والامن البعثي .
قلعة للزابين ام للصوص
عن اصل التسمية هناك روايتان يتداولهما الاهالي واولهما ان المدينة اخذت اسمها من النهرين الذين يحاطا المدينة ليتحدا بعدئذ ليكونا نهر الزاب الاسفل ( من روافد دجلة الرئيسية ) اذا ان كلمة ( دزي _ دو زي ) تعني النهرين ( ?ومي وه ستا سليمان ) و ( ?ومه خركه ) واضيفت القلعة اليها تيمنا بالقلعة التاريخية الموجودة فيها فتطورت المفردتين تلك بعدئذ لتكونا ( قلعة دزة ) ، اما الرواية الثانية تدعي الى انها استقت اسمها من القلعة ولفظة ( دزه ) وتعني اللص اي قلعة اللصوص ويستندون على هذه الاخيرة زاعمين ان لفظة ( زي _ النهر ) غير شائعة الاستعمال في لهجة ال?شدريين ( ?شدر _ اسم المنطقة التي تتوسطها قلعة دزة عاصمة لها ) وان البشدريين يستخدمون لفظة ( ?وم ) للدلالة على النهر فاذا كانت التسمية حسب الرواية الاولى صحيحة لكانت المدينة تتخذ اسم ( قلعة دو ?ومي ) بدلا من الاولى ، غير اني ارى ان كلا الروايتان لم تصب الحقيقة بشئ لان مفردة ( دزي _ دز او دژ ) مفردة قديمة جدا وكان قدامى السكان في كوردستان يطلقونها غلى القلعة واغلب الظن ان القلعة التي تسبق مفردة دزي اضافة لاحقة اي ان المدينة كانت في العهود القديمة تحمل اسم ( دز _ دزي ) فقط وعموما هذه مسألة شائكة نحاول الاجابة علها في مجال آخر .
قلعة الثورات الكردية المتعاقبة
قلعة دزة هي المدينة التي انجبت ( فقي احمدي دارشمانة ) مؤوسس العائلة البابانية التي انتقلت من هذه المنطقة لتسكن في ( قلا ?ولان ) وثم تبني لها احدث مدينة في منطقة الشرق الاوسط وهي مدينة السليمانية عاصمة الامارة البابانية المعروفة ، و عشيرتي نورالديني وميراودلي من العشائر المعروفة في المنطقة تمكنا من اخضاع منطقة بشدر والمناطق المحاذية الى سلطانهما كمناطق من?ور وجافتي وشارباژير وسوسيني وربت و ?ه وركان ، ام عشائر من?ور فوقفت موقف العداء بوجه سلطة ?شدر وكثيرا ما نظموا حملاتهم على سلطة ?شدر بقيادة رئيسهم بايز اغا المنكوري دون ان يحققوا انتصارا يذكر .
في السنوات ما بين ( 1875 _ 1880 ) شن المدعو حسني بيك قائد احدى التشكيلات العسكرية العثمانية هجوما على المنطقة لتأديب المنطقة واخضاعها الى السلطان العثماني فتصدت العشائر لهذه القوات في موقع لازال يحمل اسم حسني ( تل حسني ) ودارت معارك طاحنة نفذت ذخيرة العشائر فيها واظطرت الى التقهقر والتراجع الى كوردستان ايرن ولاحقا برز فيهم فارس مغوار يدعى ( حسن كوير ) وآخر يدعى ( حسنه خره ) وعزما على أخذ الثأر من حسني بيك فقصدا المنطقة خلسة وذات ليلة ليلاء تسللا الى القلعة وقتلاه خنقا وكانت تلك اشارة للعشائر ان تكر على المنطقة وتحررها من الجيش العثماني ثانية ولكن الامر لم يدم هكذا للعشائر طويلا فنظم الاتراك حملة اخرى على المنطقة وتحالفوا مع عشائر متخاصمة مع البشدريين ومع الدفاع المستميت بقيادة مامند اغا و رسول اغا و حسنه خره وحسنة كوير اصبحت الغلبة للمهاجمين الذين استباحوا اموال المدافعين وممتلكاتهم وتم تدمير قراهم كاملة .
وفي الحرب العالمية الاولى ( 1814 _ 1918 ) دخلت قوات روسيا القيصرية ايران وخططت كي تجتاح كوردستان بعد ذلك من عدة منافذ وكانت قلعة دزة الواقعة على خط المواصلات المؤدية الى مدينة سردشت الواقعة في كوردستان ايران احدى تلك المنافذ فاعلنت العشائر النفير العام وتجمع فرسانها في موقع ( خوي ) و ( سلماس ) وخلوا مع القوات القيصرية في معارك طاحنة وقدموا فيها شهداءا ك ( حاجي سيد ?ول و توفيق بيك و حاجي حسنه خره ) وهذا الاخير هو الشخص الذي قتل القائد العثماني حسني بيك المار ذكره واستمرت المعارك بين الطرفين لم تتمكن القوات الروسية من التقدم صوب المدينة الى ان اعلنت في روسيا سقوط القيصر وانتصار ثورة اكتوبر المشهورة فانسحبت روسيا رسميا من الحرب وسحبت بالتالي جيوشها من جبهات القتال .
وفي عهد الاحتلال البريطاني للمنطقة تم تعين بابكر اغا البشدري حاكما مطلقا على منطقة بشدر وتم تخصيص ( 700 ) فارسا من اتباعه لحماية المنطقة براتب يومي قدره 24 ليره و800 روبية لكل فرد من افراده ، وكانت لرؤساء بشدر علاقات وطيدة مع الثائر المعروف سمكو اغا الشكاك وكان ( ?يروته لار ) ممثلا للعشائر البشدرية لدى سمكو .
قلعة البارزاني
مدينة قلعة دزة ساهمت في كافة الوثبات والثورات التحررية التي اندلعت بكوردستان بدئا بثورة كريم خان الزند ومرورا بثورة الشيخ محمود الحفيد واسماعيل اغا الشكاك وثورة ايلول ( 1961 _ 1975 ) بقيادة المرحوم مصطفى البارزاني والثورة التي اعقبت انهيار ثورة ايلول مباشرة ( 1976 _ 1991 ) .
ثورة ايلول اندلعت شرارتها في جبال قنديل التي تشرف على منطقة ?شدر وقبل انتقال مقرات القيادة الى قضاء ?ومان كان مقر المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني واللجنة التنفيذية للثورة في قرية ( هه لشو ) من اعمال ?شدر ومقر القائد البارزاني كان في ناحية ( سن?سر ) ، وكذلك معظم المقرات القيادية للاتحاد الوطني الكوردستاني وبعض الاحزاب الاخرى اثناء الثورة اللاحقة كان في وادي نيوزه ن? التي كان يحلو للبعض ان يسميه وادي الاحزاب .
ماذا بعد
بعد كل الكوارث التي ابتلى بها سكان قلعة دزة ترى هل يداوي العراق الجديد جراح ?شدر؟ وهل يعيدون لمشرديها منازلهم ؟ وهل تعوض كعكة البترول خسائرها ؟
قلعة دزة ???..عاصمة ?شدر الجميلة بقلم:قيس قره داغي
تاريخ النشر : 2005-04-24