السياسة الكبرى من أجل ميلاد أمة من رحِمِ الأمة بقلم: محمد الحمّار
تاريخ النشر : 2010-08-26
السياسة الكبرى من أجل ميلاد أمة من رحِمِ الأمة بقلم: محمد الحمّار


إنّ فشل التجربة الديمقراطية اليوم بالموازاة مع صعوبة التأقلم مع الليبرالية، ومن قبلهما تعثر كل من القومية و الاشتراكية والشعبوية وغيرها من الإيديولوجيات التي تبناها المجتمع العربي الإسلامي ككل، قد يكون دليلا على أنّ أمّتنا بانتظار أسلوب يصالحها مع نفسها لا أسلوب جاهز تتبناه كما حصل التبني فنجح في بلدان أخرى عريقة، لكنها ليست مسلمة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل والصين بالخصوص. وسأسمّي الأسلوب السائد والمتسم بالإتباع والانخراط في واقع صنعه آخرون "السياسة الصغرى" وأسمي الأسلوب المفقود "السياسة الكبرى" قبل أن أحاول التعمق في ملابسات القضية لاستعراض إمكانية تحرر المسلم بفضل هذه الأخيرة.

في واقع التجربة السياسية، إذا استثنينا ماليزيا وتركيا، اللتان توصلتا على ما يبدو إلى ترويض متميز(لكنه يبقى نسبيا) لثنائي الديمقراطية والليبرالية الرأسمالية، يكون أهمّ استنتاج نخرج به من وضع الانتظار السائد لدى الأمة هو أنّ النخبة المثقفة عموما لم تستوعب بعدُ معنى وأبعاد مقولة "الإسلام هو الحل " ولم تحسم في مسألة جواز أو عدم جواز تقاطع هذه المقولة مع التجربة الديمقراطية، ما جعل بعضَهم مرتابون وبعضَهم الآخر جدُّ متحمسين لفكرة التقاطع. ومهما يكن من أمر لا أظنّ أنّ للديمقراطية باعٌ إذا بقيت مرتبطة عضويا بالليبرالية الرأسمالية في الاقتصاد. وفي هذا المضمار أضم صوتي إلى صوت كل مفكر يرى تباينا منهجيا وفلسفيا بين روح الديمقراطية وغاياتها من جهة، وروح التحرر الاقتصادي وغاياته من الجهة المقابلة.

بالفعل يعتقد نعوم تشومسكي مثلا أنّ هنالك مغالطة علمية أُريد بواسطتها سحب الرأسمالية على المفكر التنويري السكوتلندي الشهير آدم سميث (1723-1790) رغم أنّ هذا الأخير يعتبر رمزا لاقتصاد السوق الحرة و صاحب مقولة "دعه يعمل دعه يمر"، بينما كان، حسب تشومسكي ضد "تقسيم العمل" نظرا لأنّها ممارسة "تدمّر بني الإنسان وتحولهم إلى مخلوقات غبية وجاهلة إلى أقصى ما يمكن أن يحصل ذلك لإنسان." (1) ويتمادى تشومسكي في تصحيح الصورة المزورة التي وصلتنا عن الرأسمالية قائلا: "ما نسميه الرأسمالية كان (آدم سميث) يكرهها"(2). كما يقرّ تشومسكي أنّ القول بأن الديمقراطية والرأسمالية تسيران اليد في اليد مجرد مزاعم لم يُنَظر لها أخصائيو التربية والتنظير للديمقراطية، مُحللا فكر الأمريكي جون ديُووِي (1859-1952) : "الديمقراطية تتطلب إلغاء النفوذ الفردي؛ قال (ديووي) إنّه طالما هنالك رقابة خاصة على النظام الاقتصادي فالحديث عن الديمقراطية من باب المزاح." (3)

فالأجدى في نظري، وفي ضوء تلك التحفظات، وكذلك في ضوء النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي المهيمن على مجتمعنا الكبير من بين مجتمعات العالم بأسرها، أن يتموضع المثقف العربي المسلم بعيدا عن "السياسة الصغرى". وعندئذ سيتأكد لديه شيئا فشيئا أنّ ما صغُر من التسييس وما تبعه من قرارات في مجتمعنا الكبير هو الذي أفرز أصنافا من الغموض بخصوص العديد من المقولات من بينها المعادلة التي تضع وجها لوجه الإسلام والديمقراطية (بمعية وصيفتها في الإيديولوجيا المعاصرة، الليبرالية الرأسمالية). بالتأكيد لقد استغل المعادلة القاصي والداني لأغراض سياسوية بينما مقولة محورية مثل "الإسلام هي الحل" في أصلها علمية ومعرفية، مثلما سنرى. ولن تبرز هذه الصفة الحقيقية إلاّ لمّا يُعادُ طرح المقولة بمفردها أي بغير أفكار مسبقة عن الديمقراطية أو عن الليبرالية أو غيرها من النظم سوى تلك التي تنبثق من الإيمان ومن البنية الأصيلة للمسلم وكذلك من تجربة المسلم المعاصر.

وسأجاري طبيعة المقولة وذلك بتفضيل إعادة طرحها مثلما هي فارضة نفسها أي من زاوية العقل والدين المعرفية. وفي هذا السياق من الأجدر أن يكون الحديث لا عن "الإسلام هو الحل" بل عن أنّ "عقلنا في ديننا". وإذا ثبت ذلك، كما سأحاول بيانه، أفترض أنّ الانتظار وما تبعه من إهدار الأمة لوقتها الثمين، وهو انتظار ثبت لدى المسلمين بناءًا على رغبتهم في أن تتبلور سبلُ مقاومة التخلف وسبل النهوض، ناجم عن عدم استطاعة الأمة إدراك هذه الصفة الخاصة بها، صفة أنّ عقلها في دينها، وبالتالي عدم قدرتها على تجسيد هذه الصفة بالفعل وفي الفعل.

وبالرغم من أني شخصيا لستُ نتاجا لأية حركة سياسية منظمة أو غير منظمة ولا لأية إيديولوجيا تاريخية أم دينية كانت، ولا للإسلام السياسي ولا لليسار العلماني ولا لليسار الإسلامي، لكي أنقادَ لتطويع المقولة والفرضية الناجمة عنها لأحد القوالب الجاهزة لمذهب سياسي جاهز، إلا أنّي فضلتُ الانقياد للاختصاص المهني ومنه للبحث العلمي بعيون معلم اللغة الذي لم يرَ بُدّا من تجريب تناول "درس الحضارة" مثلما يكون تناول درس اللغة، لكي أحاول إثبات صحة ما أفترضه من أنّ عقل الأمة في دينها.

إذن فالاعتزاز، كل الاعتزاز، بأن أكون منتميا إلى أمة عقلها في دينها، وأرجو أن يكون شرفا لنا جميعا. وسيكون الاعتزاز أقوى لمّا يكون مدعّما بالعلم والعلماء، سواء كان هؤلاء من ملة المسلمين أو من بين الجهابذة العالميين الأجلاء لهذا العصر. وسيكون النفع أعمّ لمّا نحسن تأويل اكتشافات هؤلاء وأولئك وننتفع بعلومهم وباستنتاجاتهم بعيدا عن المقارنات الهلامية والأحكام الدوغمائية والتفكير الشمولي. في هذا السياق، لا يسعني إلا أن أشرع في الطرح منوّها بما أضافه سيقمند فرويد، أب علم النفس ومخترع التحليل النفسي، إلى لفكر العالمي. فهذا العالم "المكروه" في الأوساط الإسلامية هو الذي فسر الحلم ووصف الطبيعة البشرية على أنها وثيقة الارتباط بالشبق الجنسي وبالميل الجنسي وبالتكوين الجنسي. وخلاصة نظريات هذا العالم القارئ للنفس البشرية كقراءته لكتابٍ مفتوح، القائلة بهيمنة "التفكير" الجنسي على التفكير، يسّرت لي المأمورية المعرفية وجعلتني ألاحظ: إنّ الأمم (الغربية بالخصوص) التي اختارت أن تتطور بمنأى عن الدين (دينها هي دون سواه من الأديان، لاسيما الإسلام) قد أفلحت إلى حد بعيد ومذهل، بحق، في أن تكون عقلها في عقلها، لكن ما راعنا إلا أنّ أجيالنا الحاضرة في المجتمع العربي الإسلامي لم تقدر على الاقتداء بها إلاّ من منظور فرويدي؛ كأمم عقولها في فروجها؛ فضلا عن أن تكون في جيوبها وفي بطونها.

وهنا يكمن الخطأ الذي اقترفه الغرب إزاء نفسه أولا وبالذات قبل أن ينجذب إليه ضعفاء البنية المجتمعية مثلنا: لم يقدروا على تبليغ رسالة العقل بواسطة العقل المجرد؛ ربما لهذا السبب تراهم يستأنسون بل يستنجدون بالتبشير للمسيحية في محاولة لتزكية تجرّدهم (غير العقلاني) من الدين بواسطة الدين (وهذا موقف أقل ما يقال عنه إنه غريب)، ثم لإرضاء الضمير الديني غير المسيحي (المسلم بالأساس) وبالتالي قلب صاحبه عن دينه ليعتنق دينهم بتعلة أنّ كل من يعتنق دينهم يصير مثلهم قادرا على بلوغ ذروة العطاء بواسطة العقل المطلق.

إذن ما لم يعرفه المسلمون والنخب في مجتمعنا الكبير هو أنّ المجتمع الغربي المسيحي بمعية نخبه السياسية، مثلما بينّا، مجتمع متديّن ولا يقل ولا يزيد تدينا على مجتمعنا. ولكنّ تركيبته الوجودية هي التي أرادت أن تتسم مواقفه بالتباين إزاء إشكالية العقل والدين. وحتى "حرصهم" على ترجيح كفة "العقلانية" على حساب الإرهاب قد تمّ تجسيده بلغة دينية صرفة وبوازع إيماني عميق؛ فلمّا نعود إلى تصريحات بعض المقربين من بوش الأول والثاني ورموز السياسة الأمريكية المهيمنة قبل وأثناء الضربة على أفغانستان ثم على العراق في مناسبتين سنتأكد من أنها كانت حروب دينية خاضوا غمارها بمثابة الحروب الصليبية بدوافع إيمانية دينية، وذلك بالرغم من أنها أُعلِنت باسم الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والديمقراطية. فلماذا إذن عالجت نخبنا النفاق بالنفاق لمّا عملت ما في وسعها لتجريد سياسة مجتمعنا الكبير من صفة التدين رغم علمها أنّ الإسلام داعم للعقل وأنّ المسلمين، حتى لمّا يكونوا في أسوأ مستوى من التعليم والتربية والعلم، لن يعاملوا عدوّا لدودا مثلما عاملت الجيوش الغربية بلدَين اثنين قد لا تتوفر لديهما مُجتمِعَين قوة عسكرية تعادل الترسانة الحربية لولاية واحدة من الولايات الأمريكية الخمسين؟ وهل موقف نخبنا ناجم فقط عن الريبة لتنامي التطرف الديني أم عن قصور العقل العربي الإسلامي عن تفسير الأسباب العميقة له؟ أُفضّل أن يكون الطرح الثاني هو الأصح وأرَجّحُه دون سواه.

بالتأكيد لقد انطلَت على النخب والمجتمع الكبير الفكرةُ الشبيهة بالحيلة (مع أنها ليست كذلك) والتي مفادُها أنّ العقلانية لا يكون مأتاها إلاّ فكر من دون دين، حتى ولو كان هذا الدين اسمه الإسلام، حتى ولو كان الإسلام معروف بأنه جاء ليُكمّل البُعد الروحي الذي نمّته المسيحية من قبل وذلك بإضافة البُعد العقلي والعلمي إلى الروحانية، ما جعله دين العقلانية والتوازن بين الروحي والمادي بامتياز. ولمّا لم يقدر المسلمون، بقيادة مثقفيهم، على تكذيب الفكرة الغربية ودحضها، برهنوا أنهم صاروا يفكرون بالتحديد بآليات العقلانية المتناقضة وغير العاقلة التي نقلوها نقلا عن الغرب. ولهذا السبب لم يكن لا المجتمع ولا النخب قادرين حتى على أن يسحبوا المشكلة على أصحابها الأصليين، دعاة العقلانية الغربية المضطربة؛ فسحبوا المشكلة على المجتمع الإسلامي نفسه. وهذا المنعرج هو الأخطر في مسار التيه الذي سلكه قطار المجتمع العربي الإسلامي خارج السكة.

بينما لو كان المجتمع والنخب متمسكين بفكرة التوحيد في الإسلام من خلال العلم فضلا عن تمسكهم بالإيمان بها كعقيدة، لتبينوا كم هو مُعوَجّ العقل الذي استوردناه من الغرب المسيحي وكَم هي مُزورة العقلانية المؤلفة منه والتي استلمناها منهم باسم مشعل التقدم وباسم "اللحاق بركب الحضارة"(4) وكم هو حقيقي إعفاء المسيحية، من طرف معتنقيها، من التدخل في صياغة الفكر المجرّد انطلاقا من العقل المجرّد، ولكن كم هو صحيح أيضا، وهنا تأتي المفارقة الفاجعة، أنّه تمّ الإبقاء في المقابل على وظيفة التدخل في صياغة دوافع الفعل التاريخي من جهة، وصياغة الأهداف والغايات التي ينبغي تحقيقها استراتيجيا وعسكريا ودبلوماسيا وسياسيا بواسطة إعمال ذلك العقل المجرد؛ وهذه الوظيفة الأخيرة بقيت حكرا على الإيمان والدين في الثقافة المسيحية (واليهودية) المهيمنة، ولم يتمّ تركها في واد آخر كما يزعم المنظرون الغربيون للعلمانية، وكما يعتقد المنظرون العلمانيون العرب والمسلمون إتباعا لهم.

على أية حال، و مع حرصي على أن لا نكون متشائمين أو جاحدي فضل الثقافة الغربية المهيمنة بعلمانيتها المتناقضة (المجردة من الدين ظاهريا فحسب)، أو ناكرين لجميل نخبنا التي ناضلت من أجل الاستقلال ثم من أجل عقلانيةٍ تسند التطور، أقول إننا قد توصلنا بعض الشيء إلى استلام المشعل من الغرب، قطعا، لكننا استلمناه من ذيله، أين أخذت ثلاثية النهم و الفجور و المادية مقرا دائما لها. فلم يكن استيراد العاهة الثلاثية والمقولات التابعة لها، والتي ليست منّا، خطأ فرويد مثلا حتى يحدو بكثير من المتدينين من المسلمين أن يناهضوه وعلمه كما ناهضوا علماء كونيين غيره. كان الخطأ خطأنا نحن بالدرجة الأولى لأننا لم نكن محصّنين بما يكفي للذود عن الجسم الاجتماعي سليما من ذلك الفيروس. ومن هذا المنظور ليس الخطأ خطأ الغرب أيضا، رغم خطئه إزاء نفسه وذلك بعدم فلاحه في تبليغ رسالته بالعقل المجرد، ولا هو مؤامرة أخرى تبرر عدم انقطاع الأصوات تلو الأصوات عن جلد الذات وعن التذمر من استهداف الآخر لنا. فالمؤامرة عادة ما تتشكل ملابساتها بعد تأكد ضحالة الجسم الذي تستهدفه وليس حين يكون هذا الجسم مصونا ومحميا.

وللإحاطة بالمزيد من الملابسات التي أبقت علينا مخدّرين عوضا عن أن ننهض فنمضي قُدُما بالمشعل المتسلَّم عن مضض وعن سوء تقدير، جدير بالتشديد على أنّ "اللحاق برَكب الحضارة" حدثَ، هكذا، من قاطرته الأخيرة المُعطبة والمختزلة لأسوأ ما يتوفر من مساوئ. و حدث في وقتٍ بلغ فيه العقل (الغربي) أوج عطائه إلى أن صار يُصدّر الرداءة وما شابه الرداءة ليحتفظ ، نظرا لعدم توفر الكفاءة اللازمة لدى المنافس (نحن)، بالسمين من الأسرار العلمية والكنوز المعرفية لنفسه. أمّا المفارقة التي في ظاهرها عجيبة لكن في باطنها قابلة للتعليل تتمثل في كون هذه الطريقة في اللحاق بركب الحضارة ألحقتنا بالركب ولم تُلحقنا بالحضارة، وأنّ الركب كان وما يزال حجر عثرة أمام بلوغ الحضارة و التقدم المنشود. فلم يكن اللحاق بركب الحضارة مقدمة لرقينا وتحضرنا كما رسخ خطأ في إيمان نخبنا. كان عكس لذلك ونجمت عنه نتائج عكسية من الواجب على كل مثقف حصرها ومجابهتها بالبحث والتمحيص.

بكلام آخر أخذنا عنهم عقلا في أسوأ أوضاعه فأعْمَانا هذا الاستيراد عن رؤية أفضل الحالات التي يمكن أن يكون فيها العقل الإنساني ناشطا ومعطاء. والذي حصل وما زال يحصل، من بين محاصيل أخرى تُقاس بالجملة وبالتفصيل، هو أننا أصبحنا أكثر"جنسية" وشذوذا وأكثر مادية وأكثر جشعا منهم. و الحوَل العقلي الذي أصابنا جرّاء خروج القاطرة عن السكة، بتلك الطريقة، شكّل بطاقة ميلاد ما أسميته في أكثر من دراسة "التخلف المنهجي" والمُجسّد في "الاحتباس التواصلي"؛ الأول هو استعصاء تصليح ما يجب إصلاحه وتصحيح ما يجب تصحيحه من أجل رؤية معالم الطريق المؤدية إلى مجرد التّماس مع الحضارة؛ والثاني هو استعصاء التفاعل الصحي في داخل المجتمع من جرّاء عدم الاستطاعة السياسية الكبرى إزاء مشكلة التخلف الشامل.

وفي معرض هذا الحديث عن الإشكالية السياسية في مجتمعنا الكبير لا يسعني إلاّ أن أشير إلى أنّ هذا الصنف من التخلف، المنهجي التواصلي، له على الأقل رأسان آخران يمثلان الواجهة الوصفية لجهاز التخلف الشامل: التخلف اللغوي والتخلف الديني. مع العلم أنّي أقصد بهذا الأخير سوء الظن لدى المسلمين بدين الإسلام كعامل أساسي في نهوض هذه الأمة. وهو سوء ظن يظهر للعيان في السلوك وفي الممارسة، ولم يقدر المسلمون على إدراكه بعدُ، ما بالك الاعتراف به بالقول، أو حتى بمجرد الإيماء بحالة من الاستعداد لتقبّل الحقيقة المُرة.

أما التساؤل الأزلي حول لماذا تقدم الغرب و لم نتقدّم نحن فينبغي، في ضوء ما سبق شرحه، إعادة صياغته ليصير: ما العمل لمّا تأكد لدينا أولا أنّ العقل بلغ الذروة في إنتاج العقلانية والصلاح وأنه لم يبلغ ذلك بمنأى عن الوازع الديني (المسيحي)، وثانيا أنّ العقل صار في نفس الوقت منتجا للفساد، ما سخّر الطالح منه لتلويث الصالح إن لم نقل لتطويعه؟

وللإجابة أقول إنّ كل ما فسد يتوجب إصلاحه. والإصلاح لن يكون ممكنا إلاّ إذا تمّت مقاومة التخلف المنهجي المكرِّس للاحتباس التواصلي ثم هزمه بالضربة القاضية. والإصلاح حسب هذا الهدف الجديد يعني البدء بإصلاح العقل؛ أعني رسكلته أو إعادة تدويره. لكن ما هي الآلية التي ستوكل لها مهمة القيام بهذا العمل، علما وأنّ الصبي الطائش يتطلب معلما ومنهاجا لإرشاده والمريض طبيبا وعلاجا والعمارة الرثة مُصمما وأدوات والآلة مهندسا ومهارات؟

لن تأتي الإجابة مجرّدة من السياق الذي تسمح به المُسلّمة التالية: سواء تراجع الخبير الاستراتيجي الأمريكي فرنسيس فوكوياما أو لم يتراجع في مقولته بنهاية التاريخ وسيطرة العقل الكلي للثقافة الغربية على الحضارة كافة (5)، ما زلتُ أعتبر قولته إعلانا لا رجعة فيه لنهاية العقل (الهيجلي بالأساس) والإنتاج العاقل(الذي لا يفرز معه الفضلات) لدى أمة العقل المطلق.

ومنه فلا خير للعقل من مُعلم ومن طبيب ومن مصمم ومن مهندس إلاّ الإسلام، دين العقل والعلم. فالعقل عند من يؤمنون به وحده لا رحِم له إلاّ هو. والعقل عند من يدّعون أنهم غير متدينين لا لشيء إلاّ لتلافي المضايقات التي يفرضها دينهم على العقل (وهذا تضارب مُمنهَج) لا يُعترَفُ له برحِم. وطالما أنّ العقل مريض فلا يمكن أن يتماثل للشفاء من تلقاء نفسه. ولا يتسنى له إذن أن يكون الحَكَم والخصم في الآن ذاته. بينما العقل، عند المؤمنين بالله ربّا وبمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، له قوة تعتلي عرشه وتقدر على الاستعلاء إزاءه فتحتويه وتوجهه وتصححه لأنّ هذه القوة هي رحِمه. فعقل المسلمين له رحِم، ورحِمُه هو الدين.

ومن ثمّة ولكي تكون عودتنا إلى الإشكالية السياسية من باب أوسع وأرْحب، أطرح السؤال: ما هي منزلة السياسي في الطاقم "العفريت" ذي الرؤوس الثلاثة، المنهجي التواصلي عموما واللغوي والديني خصوصا؟ وللإجابة ألاحظ أنّ في حوزة المرء المسلم دون سواه، اليوم، صنفان من السياسة، ومن التعبير السياسي، إذا لم يتوفرا جنبا إلى جنب بموجب التقاطع والجدلية والتبادل والمشاركة فسيكون ذلك أقوى دليل على أنه لم يحصل ولن يحصل التقدم لا في اللغة ولا في الدين ولا في المنهج ولا في التواصل ولا في أي مجال متصل (وهل هنالك مجال غير متصل باللغة أو بالسياسة من جهة، وبالدين وبالعقل من الجهة الثانية؟). والصنفان هما السياسة الصغرى والسياسة الكبرى. وكما قدمنا أعلاه، من المفترض أن تكون الأولى مكرِّسة للاندراج في الواقع السائد، والثانية مكرسة لبناء واقع جديد ينسجم مع بيئتنا وثقافتنا وذواتنا. إذ إنه يتأكد شيئا فشيئا أننا أمة مجبولة على صُنع الواقع لا على الاندراج في واقع لم تصنعه هي.

من هذا المنظور، يبدو أنّ طرح إشكالية التخلف السياسي، فضلا عن بقية أصناف التخلف، بإزاء طاقم التخلف كاملا (المنهجي التواصلي؛ اللغوي والديني وغيرها) يفرض علينا أن لا نقتصر على اعتبار السياسة فقط مظلة للروافد التقنية والأداتية المكونة لها مثل التربية و الاقتصاد والصحة والمالية والدفاع وغيرها، ولكن أيضا وبالخصوص أن تناول السياسة كمرآة تعكس صورة مجتمع المستقبل، المغيّر ما بنفسه و المتحرر فلسفيا وعقديا ومعنويا وسيكولوجيا، المطمئنّ على المنهج الصحيح والمُصحَّح، المُستعيد للتواصل، والمُريد لتغيير الواقع.

إنّ السياسة الصغرى متوفرة لدى المسلمين وتزيد، إلى درجة أننا سئمناها وأن أضحت لغة العام والخاص من دون أن تكون لها أي معنى نبيل يستجيب لطموحات الأمة وتكوينها. وقد سئمناها لأنها تكرس التذيّل والتبعية إلى العقل الغربي في وقت أفول شمسه. وهي سياسة لا يمكن أن تؤول بالأمة إلى غير الاندراج في المنظومة الآفلة نجمها. فهُم الخارجون من نسق التقدم ونحن الداخلون إليه.

أمّا السياسة الكبرى فهي فريضة غائبة تصلح بكلّ من يؤمن بقدراته على تحقيق الولوج إلى نسق الحرية والتقدم. وغيابها يبقى مُكرّسا للتخلف المنهجي بصفته في وضع تماس مع كافة الرؤوس، رؤوس الطاقم العفريت، طاقم التخلف الشامل. والسياسة الكبرى عبارة على أسلوب أو تداخل مجموعة من الأساليب والبرامج لا بد أن يرمي إلى إنشاء واقع ينسجم مع العقل المجتمعي لأمة المسلمين. وهي غائبة بالرغم من أننا مجبولين على صفات من شأنها أن تخرِج المسلمين من حالة الغيبوبة التي تسبب فيها غيابها. فلا يجوز إذن أن يطول الانتظار أكثر ممّا طال لمّا نكون مدركين بأننا مؤهلون لتجسيد السياسة الكبرى دون سوانا من البشر، ومن أجل كل البشر، بحُكم انتمائنا إلى دين الفطرة ودين العقل.

أن تمارِس السياسة الصغرى دون تفاعل عرْضي مع سياسة كبرى يعني أنك تواكب نشرات الأخبار وتشاهد قتل الأطفال والشيب والشباب من الأمة ولا يتحرك لك ساكن، عدا أنك تتحمس باطنيا ولن يلقى حماسك أي تعاطف يُذكر أو أي صدى يُذكر أو أية متابعة تُذكر إبان مغادرته لذاتك، وتستعمل أدوات التحليل المعروفة وتتكلم لغة السياسة المعهودة وتعبر عن استنكارك لتواصل الاستعمار والقمع في فلسطين المحتلة تارة، وعن تنديدك بالاستعمار وبتفتيت المجتمع في العراق طورا، وعن اشمئزازك من انتهاك أبسط حقوق الإنسان في أفغانستان تارة أخرى، وعن وامتعاضك للصراعات الدموية بين الإخوة المسلمين طورا آخر. ومع ذلك، وغير ذلك، وما يشابه ذلك كثيرا، فإنك منخرط في وضع سائد لا حول لك ولا قوة لك على تحويله إلى وضع مُريح ولا على قياسه بمعايير السعادة المستمدة من سُلم قيمنا ومن ثقافتنا. وهل تأتي القوة بغير الانقياد إلى الحُلم ودون الاحتكام إلى التفكير؟

في الأثناء علينا أن نأخذ الدرس من أطفال الحجارة الحالمون والمفكرون؛ إنّ لشبابنا فيهم أسوة حسنة وذلك ليتعلموا منهم ثلاثة خصال ما أحوج العقل المجتمعي إليها لتأليف السياسة الكبرى: المُباشراتية في الفعل الضامن للاستفاقة؛ سرعة البديهة في أخذ قرار المقاومة؛ تزامن نداء الضمير مع القرار. فلا أرى مباشرتية وسرعة البديهة وتزامن الإحساس والفعل لدى الفئات العريضة من شباب العرب والمسلمين اليوم إلا في معاكسة الفتيان للفتيات أو في التسكع في الطريق العام أو في التحرش الجنسي أو في النصب والاحتيال أو في الشطحات والعروض بواسطة الهاتف الجوال والـ"آيبود" والـ"آيفون" أو في التفحيط الميكانيكي أو في تسجيل النصر تلو النصر في ألعاب الفيديو. هذا كله وغيره نابع من الثقافة الصغرى التي أفرزها جمود السياسة الصغرى طوال عقود من الزمن(6).

ليس الذكاء أن تُمارس الملكات العقلية والمهارات الفكرية والبدنية في توظيب وتنميق وتلميع المظاهر الاجتماعية للحياة العصرية بل في توظيف الظواهر في مسار الرقي بالفرد وبالمجتمع؛ ومرحبا بالتوظيب والتنميق والتلميع إن جاءت كنتائج للرقي لا كمقدمات للعدم. لكن لن يحدث الرقي لدى المجتمع الكبير المحروم منه إلاّ إذا تم حُسن توظيف الحرمان. فيبدو أن حقوق الطفل، نواة الشخصية الحرة والمستقلة، إلى هذا اليوم حكرٌ على أطفال دون أطفال. إنها للأسف حكر على أطفال العولمة والوفرة والكارتون وكرة القدم وألعاب الفيديو، ما أفرز الـ"كرتنة" الذاتية لسلوك الطفولة، وبالتالي يُنذر بالـ"كرتنة" الذاتية للسلوك الجماعي. والذين نجَوا من هذا المشروع الذاتي للتدمير الذاتي هم أطفال الحجارة. وقد نجَوا لا لشيء إلاّ لأنهم يَجمعون بين امتلاك مفاتيح التحضر (ثالوث الخصال المذكورة أنفا) وبين الثقافة المنتجة لهذه المفاتيح؛ ثقافة الحرمان التي لا نتمنى لها النموّ، لا لديهم ولا لأطفال العالم المتألمين من الحرمان، وإنما الانحسار إلى مستوياتها الدنيا، الحيوية.

فبغير حدٍّ أدنى من الحرمان لدى الطفل، كل طفل، لن يبقى هذا الأخير مشدودا لا إلى الرغبة في الحُلم ولا إلى الرغبة في التفكير في وضعيته الوجودية. ومنه سيصير المجتمع مستقبلا عبارة على هيكل عظمي للجسم الذي كان بودّه لو بَناهُ لنفسه و بمثابة هيكل عظمي لِما ينبغي أن يكون عليه كل جسم مجتمعي لأمة متحضرة. سيكون هيكلا مستهلكا لحُلمٍ في اليقظة، مُستنفذا لللّذائذ ولوسائل المتعة ومتباهيا بها عوضا عن أن يكون جسما حيا مُذعنا للحلم الحقيقي، حُلم اليقظة، وهو ذاك الذي يدفع التفكير إلى أقصاه، قائما بدوره الطبيعي في تموين الخيال والفكر بالطوبى القابلة للتحقيق، لا بالطوباوية المقيتة والمُميتة.

إذن لمّا تحلمُ و تفكر كمسلم راغب في رسكلة العقل في رحم الدين، فلا مناص من أن تبادر بالإسهام في أن تكون ثقافتنا كبرى بقدر كِبر السياسة التي من شأنها أن تقودك إلى الخلاص. ثم لا ضير في أن تستقلّ شيئا فشيئا عن الآليات البالية في الإدراك والوصف والتحليل والحكم والقرار، التي تكرس صِغر الثقافة والسياسة معًا وبالتالي لن تؤدي بك، معاذ الله، إلاّ إلى اتخاذ قرار الاندراج في واقع غير مُريح. ومن أجل ذلك، ينبغي عليك أن تتجاوز الواقع وتتعالى عليه لكي تكون قادرا على تصوّر المشاهد المُريحة ثمّ على استنباط الآليات المناسبة التي بفضلها يكون لك قرار صائب و قابل للتجسيد في آخر التحليل.(7)

ولا يمكنك أن تستقل بمداركك وبرأيك وبحكمك وبقرارك إلاّ في صورة انتهاجك لسبيل أثبتت جدواها، وقد وصفتُها وشرحتها في عديد الدراسات، تارة بصفة وطورا بأخرى: وصلُ علمك بإيمانك و بدينك.

ويقودني الحديث عن ضرورة وصل العلم بالإيمان وبالدين إلى وجه الشبه القائم بين ثنائي السياسة الصغرى والسياسة الكبرى وثنائي اللغة العربية الفصحى واللغة العامية. والتشابه قائم في طبيعة المرض كما هو قائم في العلاج مثلما سنرى.

أعني أنّ وجود العربي المسلم يحتوي على سِجلين اثنين من السياسة كما يحتوي على سِجلين اثنين من اللغة؛ العربية الفصحى والعامية. كما يتسم كلا الثنائيين الاثنين بصعوبة التواصل (بين السياسة الصغرى والسياسة الكبرى من جهة؛ بين الفصحى والعامية من جهة أخرى). والسياسة الكبرى، المفترضة، تعاني من نواقص (أو غياب) مشابهة للنواقص التي تعاني منها اللغة العربية الفصحى (غياب الاستعمال اليومي وفي العلوم). ولكي نقترب أكثر من الحقيقة، أستنتج أنّ العربي المسلم يتألم للغته العربية ومن لغته العربية (ليست لي فكرة عن لغات المسلمين الأخرى) على قدر تألمه لسياسته ومن سياسته. والعربي المسلم ينظر إلى ما صغُر من السياسة (الصغرى) ومن اللغة (العامية) كأداتين وقتيتين، ليس إلاّ، تساعدانه على قضاء ما يتيسر من المآرب والشؤون والحاجات، بالقدر الذي سيُبقي عليه حيا ثقافيا ومنيعا ضد الانقراض الثقافي. إنّه لبطل بحق، هذا الإنسان العربي المسلم. يعيش عيشة مؤقتة ولكنه لم يستسلم.

بالموازاة، يمكن القول إنّ ما يصلح من علاج للسياسة هو ما يصلح من علاج للغة: وصل العلم بالإيمان وبالدين. ولا يهم بأي العِلمين الاثنين نبدأ؛ فهذا يسند ذاك، والمُهم أن نبدأ. فالسياسة علم واللغة علم العلوم. وإذا أنت بنيتَ الجسر الضروري بين كلاهما والدين (وبين كل علم والدين)، فإنك ضمنتَ مستويات عدة من التطور: تطور السياسة وبالتالي تطور اللغة السياسة؛ تطور اللغة العامية بفضل تشريكها في التفكير السياسي (و العلمي عموما)؛ تطور اللغة العربية بفضل تغذيها و انتعاشها بصفة مستدامة من اللغة العامية التي هي في طور التشريك؛ أخيرا وليس آخرا تطور الفكر الديني الإنساني بفضل احتكاك أصحابه بالواقع المستحدث بما يحتوي عليه أبعاد علمية وعقلانية ولغوية لامتناهية الأطراف.

في سياق متصل، أعتقد أنه لا يمكن لعاقل متديّن أن يبتهج لكونه متدينا من دون أن يترجم إيمانه وتدينه والتزامه في أعمال وإنجازات. وهل تتم الترجمة بغير علم؟ لا أبدا. فالعلم (اللغة؛ السياسة؛ القانون؛ الهندسة؛ الحساب؛ وما إلى ذلك) هو الآلية التي تحافظ على العقل عقلا وعلى الدين دينا. والدين دون علم لا يرفع صاحبه إلى أعلى مراتب الحضارة، مثلما هو الشأن بعقل دون علم. أمّا ربط الدين بالعلم فيُقوي الرسكلة المطلوبة للعقل فضلا عن تقويته للفكر الديني الإنساني من جهة وللعلوم الموصولة بهذا الأخير؛ وكل العلوم موصولة به نظريا، كما أشرنا. والتقوية حاصلة لا محالة لأنّ العقل هو الواسطة بين العلم والدين؛ هو المنفذ للوصل؛ هو الأداة.

أمّا كيفية تغيير الواقع إبّان مراجعة العقل بواسطة رمي الجسور بين الدين من جهة ومختلف العلوم من جهة أخرى فهي التوليد والتحويل، لا هدم الواقع، مهما كان هذا الواقع قبيحا، أو شطبه نهائيا أو وإقصاءُ مَن لهُم رأي مخالف حوله وحول إشكالية التغيير، مثلما هو حاصل من طرف فئات كثيرة من دعاة التغيير. والتوليد والتحويل من صميم علم اللغويات. وليس من محض الصدفة أو من باب المقارنة المبسِّطة أن تحظى اللغة بأهمية مركزية في مسار المراجعة المُقترَح، كما سبق أن شرحتُ.

إن تحويل واقع إلى واقع وتوليد واقع من واقع يعني من جملة ما يعنيه أنّ على المسلم أن يحافظ على حدّ أدنى من الاندراج في الواقع الراهن، بواسطة عقله المهيّأ لذلك بفضل قدرة هذا الأخير على فهمٍ صارم للواقع منذ أن هُدمت عراقيل كانت مبطلة للتواصل وفُتحت قنوات التبادل والمشاركة علم/دين، متمسكا بالجيّد من الواقع الراهن ومحاولا دوما وصل العنصر الجيّد بالعنصر الجيّد، سواء كانت هذه العناصر الجيدة منتمية للفرد الواحد، ثقافة واعتقادا ومعرفة، أو متفرقة لدى فردين اثنين أو أكثر. ومن جهة أخرى سيكون ما أسميتُه في سابق الدراسات "التكامل الإيماني" كفيل بأن يدعم عملية الوصْل لمّا يتطلب الأمر استبدال عنصر بعنصر بين المتعايشين في المجموعة، علما أن لا أحد يملك مقومات النجاح بأكملها. وجدير بالذكر أيضا أنّ من الفوائد المأمولة من عملية الوصْل الهادف إلى التوليد والتحويل تخلّي المسلم عن الرديء بحُكم توليد العنصر الجيّد المستحدث، وذلك على الشاكلة البديعة التي تقترحها عليه القاعدة الدينية "الحسنات تذهب السيئات". فالعناية بمحاسن القول والعمل والسلوك عمل حسن، ورعاية النشاطات الجيدة عمل حسن. كما أنّ توليد الجودة من الجودة عمل حسن. أمّا الإبقاء على الظواهر الاجتماعية الرتيبة وعلى النشاطات المريبة عمل سيء، وتوليد الرداءة من الرداءة من أسوأ ما يعاني منه المجتمع الكبير اليوم، ما يجعل العقلاء من الأمة أمام تحدّ ليس كمثله تحدّ ابتغاء مناهضة الرداءة ومَحوها.

كما أنّ وصل العلوم بالدين يكون الأرضية الملائمة لإنجاز التحويل والتوليد، عبر وصْل العناصر بعضها ببعض وعبر "التكامل الإيماني"، لأنّ الإنجاز لا يحصل بمنأى عن التواصل البشري بل بالعكس لا يتم فكّ الاحتباس التواصلي إلاّ بتوطيد عُرى التواصل وتمتين آلياته، كما بينّا. وعلى صعيد آخر، يتطلب التحويل والتوليد أن يكون المسلم متناولا نشيطا للمعرفة التي في حوزة العقل المجتمعي، قابلا للخطأ الذاتي ولأخطاء الآخرين ومتأهبا للتعلم من اقتراف الخطأ. أخيرا وليس آخرا، من أنبل ما يمكن أن يتحلى به المسلم المُحوّل والمُوَلد للواقع المُريح انطلاقا من الواقع القبيح، وللسعادة من التعاسة، وللغنى من الفقر، وللإيمان من الريبة والشك والتشكيك، هو استقراء القواعد والسنن التي يسير بمقتضاها الواقع، طبيعة ومجتمعا وإنسانا، لا تسليط قواعدَ هو مخترعُها وسننٍ هو مُبتدعها أو نظرية هو مؤمن بها. حتى الدين، كما يقول العلامة وحيد الدين خان، لا يستدعي نظاما لتطبيقه. والقصد من كلامه أنّ الدين يكون فعالا ومُترجَما في الواقع فقط في حال استبطانه في عقل سلوك الفرد والمجتمع.

لمّا يعلم المسلم جدوى وفاعلية الطريقة التحويلية والتوليدية قد يفهم لماذا فشل من قبل مجتمعنا العربي الإسلامي في تنصيب سنن ومفاهيم وقواعد الشيوعية ولماذا هو يُجابه اليوم الليبرالية العالمية، والتي ناصيتُها العولمة ، بكثير من التردد والريبة والتوجس. بل أرجو أنه سيدرك لماذا خاب أمله في تطبيق الإسلام بالرغم من حرصه المشروع على ذلك. ففي الأصل، يتوجب أن تكون "شيوعية" أو "ليبرالية" أو"شعبوية" أو "قومية" المسلم فكرا ذاتيا منسجما وسلوكا ذاتيا مجسّدا في أفعال وإنجازات لكي يتفاخر المسلم بأنه "شيوعي" أو "ليبرالي" أو غيره. وهذا لم يحصل ولن يحصل. لماذا، لأنه إذا استحال على أنصار الشيوعية أن يكونوا شيوعيين وعلى أنصار الليبرالية أن يكونوا ليبراليين فليس مردّ ذلك "فساد" المذهب المتبع، كما نسمع ونقرأ من عند معارضي أمثال تلك المذاهب السياسية بدعوى أنها ليست إسلامية. وليس مردّه "جهل الأمة بما يصلح بها" كما يقال عادة من طرف "التقدميين" ، دعاة الانضمام إلى تلك للمذاهب. وليس مردّه تناقض أو تعارض المذهب مع الإسلام.

إنما الفشل راجع إلى كون النخبة المناصرة للمذهب كذا أو للمذهب كذا هي بطبعها مجبولة، مثلما أشرنا إليه أعلاه، على أن لا تأكل إلاّ مما تخبز يداها. ولئن يحرص، رغم انكشاف هذه الحقيقة، المناصر للشيوعية من أمتنا أنه شيوعي لا محالة أو أنه ليبرالي لا محالة أو أنه "من الخضر" لا محالة أو أنه من الإسلام السياسي لا محالة، فذلك لأنه صار طرفا في أزمة استعصاء النهوض لبلوغ الحضارة، لا طرفا مساعدا على حلها. وبذلك يكون تمذهبه، والتحنط المنجرّ عن تمذهبه، واحدة من القرائن العديدة الدالة على التخلف المنهجي، وواحدا من أعراض مرض الاحتباس التواصلي.

من هنا ندرك أن تغيير واقع المسلمين، بعنوان أنهم يدينون بالإسلام، و بأي عنوان آخر منفتح على المنظومة التوحيدية للإسلام، لا بد أن يكون مرتكزا على أرضية من الفكر الذاتي المنسجم ومن السلوك الذاتي المجسد في أفعال وإنجازات. وإلاّ، ما الفائدة من وصل العلوم بالدين؟ وما السرّ في لزوم رسكلة العقل؟ وأين يكمن التغيير؟

في الحقيقة تحتوي رسكلة العقل، المرغوب فيها من أجل السماح لسياسة كبرى أن تتجسّد، على فائدة عاجلة فضلا عن الفوائد الآجلة. فحين يتم تدوير الأداة المنفذة لعملية الوصل بين العلم والدين، وهي العقل، في معرض احتكاكها المستدام بآليات العلم وبآليات الدين في نفس الوقت، وفي حدود ما يسمح به التجانس والتكامل بين هاذين المفصلين الموصولين من خلال العلاقات الاجتماعية المختلفة، تكون النتيجة فكرا ذاتيا منسجما وسلوكا ذاتيا، فرديا وجماعيا، مجسَّدا في مشاريع وتصاميم وبرامج وإنجازات؛ ثقافة كبرى بحالها، في خدمة السياسة الكبرى.

وبمجرّد أنّ توطيد العرى التواصلية عموما، والإيمانية والعلمية خصوصا، يتمّ بهذه الطريقة، التي سأصفها بالعَرْضية، لن يعود هنالك خوف على العقل من التعصب، إن علمانيا كان أم دينيا. فالتعصب مأتاه التناول الطولي لا العرْضي (الذي أقترحه) لثالوث العلم والدين العقل. والتناول الطولي أو الاستبدالي (استبدال واقع بواقع بجرة قلم) هو ما يحدث في الوقت الراهن حين ترى الإسلام الأصولي يتوخى منهج شطب الواقع (العلماني) تماما وتركيب واقع جديد عوضا عنه؛ بينما المُركّب لا يركب كما يُقال عندنا. ومثيله يحدث أيضا حين ترى الأصولية العلمانية تتوخى منهجا مشابها يقضي بشطب واقع الحضور الديني كمَعطى هام وأساسي في حياة المسلمين ومنه التبجح بالقدرة على بناء واقع بغير دين. يا لها من طوباوية. و أعتبر الحالتين من الطوباوية بمكان، في أفضل الحالات لأنها لا تفتح المجال للوسائل العلمية على غرار مبدأ التحويل والتوليد لأن يقع تبنيها في عملية التغيير نحو الأفضل، علما وأنّ كل طوباوية تتعارض مع هذا المبدأ العلمي ومع أي علم. فلا يحق لا نقلُ علمانيةٍ خالية من العلم وبغير علم، ولا تكرار نموذج إسلامي تاريخي مسلوبٍ من بُعده المشدّد على توخي العلم، وبغير علم.

إذن لمّا تطمَئن، كمسلم واعٍ، على انحسار ملابسات التعصب، فقد سمحتَ لبحرٍ من الثقافة الكبرى بأن يدوّر نفسه، ومنه لضوابط السياسة الكبرى بأن تتشكل ويصبح المجال مفتوحا لتجسيد الواقع الذي ترغب في توليده حسب حريتك؛ وحريتك تتمثل في فلاحك في تعريف حاجياتك وتطلعاتك وفي الإذعان لحقك في الحُلم مع محاولتك الاستجابة لأحلامك حسب إمكانياتك؛ وحُريتك تصوغها قدرتك على التوفيق في وصل العلم بالدين عن طريق العقل، عرضا لا طولا.

والحرية الأساسية لديك كمسلم والتي يتم تشكيلها على ذلك النحو ستؤول إلى مشهد أختصره في ما يلي: تصبح في غِنًى عن الممارسات التي يفرضها النظام العالمي الحالي مثل الاقتراض والرهان وما يخلفانه من ارتهان الفرد لدى المؤسسة المغرمة، وسائر أصناف المديونية لدى المصارف والمؤسسات التجارية وغيرها من الآليات المعتاشة من طفولة العقل المجتمعي في وضعه السائد. وهكذا تصبح قادرا على حل العُقد التي كانت تُبقى عليك دوما في حِل من إنجاز ما تصبو إليه من أعمال. فالحرية هي تلك التي تملي عليك البحث عن فرص الإنتاج التي ستخول لك المحافظة على استقلالك كإنسان، وعلى اضطلاعك بخلافة الله في الأرض، وبالتالي ستخول لك الحصول على مورد الرزق الذي ينسجم مع حاجياتك وطموحاتك وإمكانياتك البدنية والمعنوية وكذلك مع إرادتك للحفاظ على سلامة الطبيعة والأرض. والمادة هي نتيجة طبيعية لذلك الجهد الذي تبذله في غضون بحثك عن حريتك مع محافظتك على استقلاليتك وعلى سلامة الكون الذي سخره الله لك، لا غايةً تحرّكُك وتخَدّم عقلك. وكما جاء في الحديث القدسي " يا دنيا خدّمي من يخدمك واخدمي من يخدمني."

وعلى واجهة موازية يمكن القول إنّ المسلم الحر بعيد عن الإتباع القاضي بمطالبة الحكام بإعلان الحضر على العمل بالفائدة البنكية بناءًا على أنها صنف من الربا. لن يكون له ما يكفي من النفاق ليطالب بذلك وليسمح في الوقت ذاته لنفسه بتراكم الممتلكات لديه، أو ليحلل لنفسه المتاجرة بما لا تجارة فيه في ميادين مثل التعليم والصحة والأمن والدفاع ذودا عن الوطن، واحتكار السلع، والرفع المشط في أسعار البضائع، ثم اقتناء العربة وراء العربة في ظرف وجيز ووقت قياسي، وبناء الدار تلو الدار للاعتياش من عائدات الكراء، أو ليجيز لنفسه تهيئة مستودع لعربته بينما الناس نيام في الطريق العام وفي المقابر، أو غيرها من المواقف المؤسفة والمتناقضة مع مقاصد الإسلام ومع روح الإسلام ومع عقيدة التوحيد.

إنّ النظام العالمي، والعولمة ناصيتُه ، يربي الناس على اللهث وراء الوفرة وتكديس البضائع والممتلكات لغاية استهلاكها، بينما حتى النظام الاقتصادي الرأسمالي يحرص في الأصل على حرية الإنسان بل ويطوّع الإنتاج لبلوغ هذه الغاية النبيلة ، مثلما يؤكده تشومكي ساردًا فيلسوف التربية جون ديووي: "إنّ الهدف من الإنتاج هو إنتاج أناس أحرار – رجال أحرار"(8)، قبل أن يدلي بتعليقه الشخصي قائلا " ذلك هو الهدف من الإنتاج، ليس إنتاج البضائع"(9). واللهث وراء الوفرة مُنافٍ للحرية لأنّه يفرض على المستهلك السعي إلى جلب المال بكل الطرق لتلبية حاجيات في بعض الأحيان حقيقية وجُلّها كمالية. ومن مبطلات التحرر أنك تذعن لأبغض هذه الطرق، رغم تقنينها، وهي الاقتراض. أمّا النتيجة القاتلة للذات تتمثل في أنه لا يتسنى للفرد المَدين ولا للمجتمع المَدين أن يكون مُرشحا لا للحُلم ولا للتفكير بل لمطاردة شبح الإفلاس المادي والاستنزاف العقلي و المعنوي؛ نتيجة مضادة تماما لغرض الحرية الذاتية للفرد والمجتمع المراهن على الحُلم والتفكير.

فالمسلم الحر هو من يتحمل تبعات معتقده واعتقاده وما يخلفه هذا وذاك في السلوك. ولو كان المسلم الذي يناهض الفائدة البنكية و الربا وأكل السحت وسوء التصرف في مال اليتيم واستغلال المستضعفين أو الإذعان، كواحد من المستضعفين، لنفوذ رأس المال؛ لو كان هذا المسلم حُرا بحق فالحجة على حريته هي تجسيده للسلوك الذي من شأنه أن يجلب له تقدير السلطة الحاكمة، التي ستكون حرّة بقدر ما يكون هو حرّا، ذات الشخصية المستمدة من شخصية الفرد والمجتمع، وذلك باستجابتها لِما يفيدها به من آراء ومشاعر ومواقف منسجمة مع شخصيته الحرة.

والمسلم الأساسي، ممارسُ السياسة الكبرى، هو ذاك الذي ينفعه الوصل الذي أنجزه بين علمه ودينه، وهو وصلٌ تكون من منافعه حث كلّ مسلم على إيجاد علاقةٍ ما، علاقة طبيعية ومنطقية بين كونه سخيا في عطائه المعنوي والمادي وبين أن يسجل إسهامه في تحرير الأراضي السليبة في فلسطين وفي العراق وفي الجولان وفي غيرها من ديار المسلمين. ففلسطين لن تحرر فقط بالخطاب السياسي الأصغر المتمثل في معاودة الاجتماعات وتكرار اللقاءات الثنائية والثلاثية والدولية، ولن تُحرر فقط بواسطة المقاومة المسلحة، رغم بسالتها، وبالجهود الدبلوماسية المكثفة بقدر ما ستحرر بفضل كدح كل عربي ومسلم من أجل بناء الشخصية الحرة أي المُعانية والمنضبطة والصارمة وناكرة الذات والسخية والمجرّبة والمثابِرة والمتفائلة والحالمة والمفكرة.

وهذه الشخصية هي التي ستتألف بمقتضاها دعائم الحس الوطني والقومي والإنساني، وركائز الفكر المُترجم للإرادة الحرة للشعوب العربية والإسلامية، ودوافع القرارات الكبرى. فلا بدّ أن تكون شخصية قادرة على تحويل وجهة الأهداف والغايات المتعلقة بتصور وتصميم وإنجاز المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية، وكذلك الأهداف والغايات المتعلقة بالاجتماعات وبالجهود الدبلوماسية وبالجلوس على طاولة المفاوضات وبغيرها من وسائل استرداد الحقوق المهضومة والأراضي السليبة، من الوجهة السيئة والمغلوطة إلى الوجهة الجيدة والصحيحة. لا بدّ أن تكون شخصيةً واعية بضرورة التحول من اتجاه مُكرّس للانخراط في الوضع السائد ومُكرّس لإعادة الانخراط، إلى اتجاه يُمَكنها من فرض الاحترام بفضل استعلائها إزاء الوضع السائد وتجاوزها له وتبليغها لرسالة تنم عن جهد متأكد لاستبدال واقع بليد ومُهترىء ورتيب، بواقع يكون مُريحا لأنه مفهوم، ينتفع منه كل الأطراف ويخرج منه المظلوم مُحقا في طلب حقه ومنصَفا من دون تنازلات حضارية.

كما أنّ الشخصية التي سيظفر بكنوزها المسلمُ الذي يصل العلم بالدين، المسلم العاقل، المسلم الوسيط الذي سيُسهم في العبور من ضفة السياسة الصغرى إلى ضفة السياسة الكبرى، ستؤول إلى ما يشبه المشهد التالي في العراق: لن يغادر آخر "مبعوث" أمريكي العراق بالتفكير السياسي الأصغر فحسب. ستتحرر العراق فور إعلان العرب والمسلمين عن توبتهم من حبّ الذات ومن تكديس الثروات ومن التباهي بالمظاهر والشكليات ومن الميل إلى غرائز مثل التوسع على حساب الغير أو إقصاء الآخر، سواء كان الآخر أهليا أو كونيا.

سواء تعلق الأمر بفلسطين أو بالعراق أو بلبنان أو بالسودان أو بأي بلد شقيق آخر له قضية فإن قضيته جزء لا يتجزأ من قضية العرب والمسلمين الكبرى؛ مقاومة التخلف والنهوض الشامل. وفي هذا المضمار من المفترض أن تلعب شخصية المسلم المتحرر دور المعلم الخبير و الحارس الأمين والجندي الباسل ولكن أيضا الحاكم القوي والعادل. ولن تكون قادرة على تبوّأ تلك المكانة المرموقة إلاّ إذا أثبتت أنها خير دعامة لبناء شخصية الحكام، مثلما قدمته أعلاه، وهو تجسيد للحديث الشريف "مثلما تكونوا يُوَلّى عليكم"، لا كما هو الحال الآن وعلى امتداد العقود المنصرمة، لمّا كانت الشخصية الراهنة أسوء وكيل لسلطة مجتمعية فاسدة لا همّ لها سوى انتقاد الحكام انطلاقا من الفراغ الروحي والمعنوي والمعرفي والسياسي. فلا يمكن أن يكون المسلم، أو غير المسلم، ضد ممارسة حق النقد إزاء حكامه، لكن هنالك نقدٌ ونقدٌ؛ هنالك نقدٌ وليد السياسة الصغرى، وهو الذي يحدث الآن ولم يعد يحرّك لأحدٍ ساكنا،ما جعله يُحرّك فقط مقص الحجبٍ في الوسائط المكتوبة والمسموعة والمرئية، وهنالك ونقدٌ وليد السياسة الكبرى، سياسة الإنجازات العملاقة والإقلاع الحضاري، التي ننشده كلنا. وهذا الصنف الأخير من النقد هو الذي سيعضد الحراك الفكري والاجتماعي المنشود، الرامي إلى ميلاد أمة من رحم الأمة.

في ضوء كل ذلك رجاؤنا أن تتحرر أراضينا بالموازاة مع إرادتنا بحول الله. ولن يحدث ذلك إلاّ بقدر تحرر الفرد المسلم والمجتمع المسلم من الأفكار السائدة والآليات الباهتة والسياسات المتشابهة والمتكررة، لا بمنأى عنها وإنما بالاشتراك معها وبالتقاطع معها وبالانطلاق من الواقع الذي أفرزته وأقامته. سيحدث ذلك لمّا نحسن التصرّف في حصتنا من الميراث الذي سيتركه عقلٌ غربي مازال في عنفوانه وفي أوج عطائه في أكثر من مجال لا محالة، إلاّ أنه لم يُبهرنا إلاّ بالشذوذ الذي تصرِفُه محركاته وآلياته المتناقضة، وذلك بغطاء الحرية والعلم لكن بوقود الدين، ما جعل شذوذه يعرض نفسه علينا بكل إغراء، اعتبارا لكَونه ذو قابلية قصوى للتصدير(عبر العولمة) على أنه الحرية وعلى أنه العقلانية وعلى أنه التقدم.

ومهما يكن من أمر، فالحرية الذاتية، فردية كانت أو جماعية، هي خير واقٍ من الحرية المُزيفة، لمّا نعلم أنّ الثقافة العربية الإسلامية صارت ثقافات وبالتالي لن يوحِّدها من جديد سوى الكفاح من أجل البحث عن الزيف الذي تسلل إلى داخل أنسجتها بعناوين مختلفة، مثلما رأينا. وسيقابل التنوّع في وسائل الزيف تنوّع في وسائل المقاومة التي عرضتُها، وهي وسائل من شأنها أن تدرب المسلم على أن يقاوم الاستقالة الفكرية والاغتراب الثقافي والانحلال الأخلاقي أثناء تكفله، فردا ومجموعة، بإعادة تركيب العوامل والعناصر السليمة من معتقداتٍ وظواهرَ ونشاطاتٍ ثبتت جدارتُها بالتعايش مع بعضها البعض في صلب الثقافة الكبرى، لكي تحظى هذه الأخيرة بصفة التوحّد المنشودة.

ولا ضير إذن في أن نكون أمة تحب المال والأعمال والجنس والبنين، شريطة أن يكون ذلك في حدود ما توفره حرية فردية وجماعية موضوعة دوما تحت مجهر الاختبار الذاتي المستدام في ظلّ ثقافة حيّة دارية بهشاشتها لكن أيضا واعية بأنّه قد حان وقت توحّدها، و شريطة أن يكون قرار الحب مثل قرار الكره، وقرار العمل مثل قرار الإجازة، وقرار البذل مثل قرار الاكتفاء، وقرار الكدح مثل قرار الراحة، وقرار الزواج مثل قرار العزوبة، والقرارات كافة منبثقة عن تلك الحرية، ومُحوّلة للواقع نحو الأفضل وعلى الدوام، وذلك من خلال قدرات ومهارات السياسة الكبرى، الترجمان الوفي لثقافة حكمت لنفسها بالبقاء.

أخيرا وليس آخرا ليس البرّ أن يكون للمواطن في مجتمعنا الكبير سابقُ علمٍ بالنمط السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي الملائم لثقافته و لشخصيته. إنّما البرّ أن ينكبّ هذا المواطن على سبر مقومات ثقافة الأمة، بكامل تناقضاتها واختلافاتها المثرية للشخصية، ابتغاء تحقيق التوحّد والتمكين السياسي، ثم أن يشرع في تناول هذه الثقافة من منظور التحرر الذاتي الضامن لشخصية أصيلة قادرة، في فترة لاحقة، على توليد ما ينسجم معها من نماذج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، غير مسمّاة بعدُ، تكون هي الأصلح والأفضل لتسيير الحياة الجماعية ولإدارة الشأن العام.

*** باعث فكرة "الاجتهاد الثالث" و"أتكلم إسلام"، تونس.

الهوامش:

(1) مقال "التربية جهل" (بالانكليزية؛ الدعوم أعلاه ترجمتي)، مقتطف من "حرب الطبقات" (بالانكليزية)، 1995، ص 19-23، 27-31.

http://www.chomsky.info/books/warfare02.htm

(2) المرجع رقم 1.

(3) المرجع رقم 1.

(4) هذه المقولة كانت تشكل، في السبعينات والثمانينات، حجر الزاوية لإيديولوجيا السلطة السياسية في بعض البلدان العربية.

(5) في بداية التسعينات من القرن الماضي.

(6) ربما منذ الطفرة النفطية في أواسط السبعينات من القرن الماضي.

(7) هذا هو المعنى الأساسي لمفهوم "الاجتهاد الثالث"؛ وهو الجهد المتمثل في بناء ما أسميته في أدبيات سابقة "الثقافة الوسيطة"، وقبل عشرين عاما "الثقافة الوسطى"، وهي بحسب الشكل الذي ما فتئَتْ أن تبلورت لدي فيه أكثر من أي وقت مضى، بمثابة الفكر الانتقالي المترجم للجهد المبذول من أجل المرور إلى "الثقافة الكبرى"،عماد "السياسة الكبرى". والله أعلم.

(8) و(9) المرجع رقم 1.