رينيه حبشي والحركة الشخصانية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر بقلم:أ .د.ابراهيم خليل العلاف
تاريخ النشر : 2010-08-21
رينيه حبشي والحركة الشخصانية في الفكر  الفلسفي العربي المعاصر
بقلم:أ .د.ابراهيم خليل العلاف


رينيه حبشي والحركة الشخصانية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر



ا.د.إبراهيم خليل العلاف

أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل



الشخصانية واحدة من الحركات الفكرية التي ظهرت في الغرب، ووجدت لها صدى في عالمنا العربي والإسلامي وخاصة في الستينات من القرن العشرين . ولعل رينيه حبشي (لبناني ) ومحمد عزيز الاحبابي (مغربي ) ،هما خير من يمثلانها في الفكر الفلسفي العربي المعاصر . والشخصانية حركة فكرية، ومنهج بحثي أكثر منها فلسفة ذات نظام تام. وثمة شخصانية مؤمنة واخرى غير مؤمنة، فالشخصانية المؤمنة تتصل بالوجودية إلى حد ما. ومن قادة الحركة عمانوئيل مونيه وأبرز مؤلفاته: " ماهي الشخصانية ؟ ". وقد نشر الكتاب سنة 1903 ضمن سلسلة ماذا أعرف بالفرنسية بباريس que-sais-je?. وله كتاب آخر عنوانه :"منشور الثورة الشخصانية" ، ويشير ج. ايبارولا في مقاله الموسوم : "حقيقة الحركة الشخصانية " ،الذي ترجم ،ونشر في مجلة الهلال (المصرية ) بعددها الصادر في الأول من أيلول- سبتمبر 1966 إلى أن الشخصانية ولدت كرد فعل على المشكلات التي نجمت عن الأزمة الاقتصادية التي بدأت سنة 1929 وهزت بنيان النظام الرأسمالي العالمي ،وولدت النزعات النازية والفاشية التي مهدت للحرب العالمية الثانية .

وإزاء هذا الوضع الاقتصادي، والاجتماعي المضطرب الحافل بالتناقضات وأبرزها الحرمان، والمجاعة، والرغبة في انتهاج سياسة اقتصادية تركز على الإنتاج، وإعدام كميات هائلة من السلع والمنتجات الفائضة بقصد الحيلولة دون هبوط الأسعار ،وبغض النظر عن حاجة الناس، أخذ المفكرون في الغرب -ومنهم مونييه نفسه -يتساءلون عن أسباب ذلك كله، وقد انتهى الأمر بهم إلى حقيقة مفادها أن العالم -بتلك الصورة -غير جدير بالبقاء والاحترام،ولابد من تغييره واستبداله بعالم جديد آخر أكثر حظا من الإنسانية .وقد أكد مونييه أن الإنسان، كلما ازداد التزامه ازداد نصيبه من الحرية .

يرى الشخصانيون أن(العظماء في التاريخ )هم( حماة الحرية)، فهم يصنعون الحرية. ومما يلحظ أن الشخصانية تميل إلى عزل الشخصيات عن عصرها،وعن الطبقة الاجتماعية التي تمثلها .ومعنى هذا أنها ، من وجهة نظر ماركسية ،تساوي بين الجلاد والضحية وبين المستغلين (بفتح الغين ) والمستغلين (بكسر الغين ) .كما أن الشخصانية ترفض التعامل مع التاريخ الملموس للبشر، ومع الواقع الاجتماعي وتنحاز بأسم الكرامة الفردية الشخصية إلى الجوانب التي تدافع عن النظام الرأسمالي وتدين النظام الاشتراكي في حين أنها تدعي السعي باتجاه تطوير ورفاهية الإنسان وتحرير شخصيته . ويرى مونييه أن "الشخصية الإنسانية لايمكن تحديدها ،فهي تنبثق وتتجلى للأنظار ،وتواجه العالم وتجابهه.فهي ليست وجودا جامدا يكمن خلف الظواهر ،بل هي وجود خلاق ...إنها نوع إنساني من الوجود، قائم بذاته " . وعلى هذا الأساس لايمكن اعتبار الشخص عالما مغلقا مقفلا ،بل عالم في حالة تطور مستمر لايكف عن إنكار ذاته الراهنة وتجاوزها .فالشخص شخص من حيث هو منطو على ما يخالف حاضره الظاهر ،وما هو بسبيله إلى الوجود مستقبلا .انه صيرورة مستمرة .وتندد الشخصانية بحالات استغلال الإنسان للإنسان ، وتجد أن القيمة لاتولد في المجتمع ولا عن طريقه ،بل إن قيمة الشخص تتحدد في نفسه، وفي المجتمع تبرز قيمة الإنسان، وعن طريق الآخرين يجد الإنسان أي الشخص نفسه ويعرف حقيقته . وفي هذا تختلف الشخصانية عن الماركسية، فالماركسية تعترف بأهمية الشخص والمجتمع كليهما، وتجعل منهما وحدة جدلية لاانفصام لها، وهي تفسر ظهور الشخصية تفسيرا تاريخيا ،وتعريف الفرد فيها يتوقف على مجموع العلاقات الاجتماعية ،والإنسان جزء من مجموعات اجتماعية محددة هي الطبقات ،وقيمة الشخص تقدر بكثافة علاقاته مع الأشخاص الآخرين .أما الشخصانية فتنحاز إلى الفرد ،والى النخبة الذين تزداد قيمتهم ودورهم من خلال أعمالهم التي تتصف بالنقاء والنظافة والكرامة والكبرياء .

بذل رينيه حبشي (1915-2003 ) ، جهودا كبيرة في مجال الترويج للشخصانية في العالم العربي ،وحبشي مفكر عربي لبناني متأثر بمونييه ومن كتبه : "الفلسفة المسيحية والإسلامية والوجودية " وفي كتابه هذا دعوة روحانية دينية شاملة تستهدف تبني الشخصانية . ورينيه حبشي لايحب الحقائق التامة التكوين ومرد ذلك رغبته في ترك باب الصيرورة والتحرر مفتوحاً، لأن الحقائق التامة التكوين كما يقول حبشي تغلق باب الصيرورة وتوقف السير في طريق التحرر. فكما لا يستطيع العقل أن يتصور للمكان والزمان (نهاية) كذلك لا يستطيع أن يتصور (للكمال) (حدوداً) بل الكمال الحق هو (التكامل) والحرية الحقة هي (التحرر). ولنقف عن رينيه حبشي لنبين جانبا من سيرته ومؤلفاته ونشاطه الفكري .

توزعت حياة رينيه حبشي في عدة بلدان، وعبر مراحل مختلفة،ففي الفترة من 1915 وحتى 1940 ،عاش في مصر ونال شهادة البكالوريا من القاهرة .ثم حصل على إجازة تعليم في الفلسفة من كلِّية الآداب في غرونوبل فرنسا وماجستير في الفلسفة حول مين دُهْ بيرا ،و دبلوم عازف منفرد على البيانو من المعهد الموسيقي الألماني "برغرون" Bergrun . وبين 1940-1952عين أستاذا للفلسفة في المدارس الثانوية. وهو مؤسِّس "المركز الفلسفي بالزمالك" وقد حصل على مِنحة من أكاديمية الحقوق الدولية في لاهاي (هولندا).وخلال الفترة 1952 وحتى 1969 عاش في لبنان وعمل أستاذا للفلسفة في معهدي الآداب العليا، والآداب الشرقية لليسوعيين .وفي 1969 قبل دعوة المجلس البريطاني British Council لزيارة جامعتي أكسفورد وكمبريدج. أسَّس رينيه حبشي ونظَّم معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية سنة 1960 . وبين 1961-1964 عُيِّن مديرًا في مركز اليونسكو للتخطيط التربوي في الدول العربية . كما قبل دعوة الخارجية الأمريكية لزيارة عدد من جامعات الولايات المتحدة الأمريكية. وبين 1969 و1977 عاش في فرنسا وهناك عُيِّنَ رئيسا لقسم الفلسفة في اليونسكو (باريس). وفي سنة 1972: دافع عن أطروحته للدكتوراه في الفلسفة، وكان موضوعها : "متطلبات فلسفة متوسطية"

نظَّم مؤتمرات دولية لليونسكو، وأدار وأصْدر وطبع مجموعة مصنَّفات حول:

أ‌. العلوم وتعدد الثقافات (في دار المنشورات الجامعية)

ب‌. تلقِّي الرسالة (منشورات اليونسكو)

ت‌. التسامح، في عدة مباحث (ليون، فرنسا)

ث‌. الثقافات والزمن (دار Payot)

ج‌. الزمن والفلسفات (دار Payot)

ح‌. الزمن والعلوم (بالإنكليزية، Greenaway)

خ‌. مجازفات العقلانية، للمؤلِّف جان لادريير (Aubier)

د‌. علم الأحياء وعلم الأخلاق (منشورات اليونسكو)

ذ‌. البينمناهجية والعلوم الإنسانية (منشورات اليونسكو)

وبين سنتي 1977 و1983 عمل أستاذا للفلسفة في باريس Jussieu VII، وفي جامعة بربينيان، ثم في جامعة ديجو وأستاذا زائرا لأربع مرات إلى جامعة لافال في كيبيك (كندا). كما أسَّس ونظَّم حلقة نقاشية حول الثقافة المتوسطية، كملحق لجامعة بربينيان .وخلال السنتين 1983 --1984 ألقى سلسلة محاضرات، وأدار حلقات نقاشية في بلجيكا وايطاليا وفرنسا وسويسرا .

كتب الدكتور حليم أسمر بحثا مستفيضا حول الشخصانية في الفكر العربي ودور رينيه حبشي في نشرها وقال إن فلسفة حبشي الشخصانية هي في حقيقة الأمر منهج عمل



لا تتحدّد بفكرة وحيدة فحسب ، بل تنفتح على تجارب الآخرين . هذه التجارب تؤسس على الأرضية نفسها التي تنطلق منها كل فلسفة واقعية حياتية مع أخذ بعدي الزمان والمكان والذات والموضوع وقدرة الشخص بنظر الاعتبار والشخصانية تؤكد على أهمية الجدل. ومن المداخل لها في نظر حبشي الإيمان بالحقيقة .ورحلة الحقيقة هذه، تأخذ عند حبشي درب التجلي أو الخفاء ، فهو يقدم الحقيقة بمنزلتها الضامنة لكل الحقائق الأخرى وكأن للحقيقة مستويات منها ما ينتمي للعالم الموضوعي ، كالحقيقة الرياضية والحقيقة التاريخية والحقيقة السياسية . وحبشي يساوي بين الحقيقة والحرية ،والتساوي بين الحقيقة والحرية يدخلنا إلى مركب ثالث هو المسؤولية تجاه حياتنا وتجاه وجودنا .

ويربط حبشي بين الحقيقة والقلق، ويشيد فلسفته على فكرة الأمل والرجاء باعتبارها من الأفكار الأصيلة في فلسفة حبشي ونرى ذلك من خلال (بدايات الخليقة) ، ففي بدايات الخليقة نجده يقرّر : ".. يهجس في رجائنا قلق عميق، نسمع في دخيلتنا النداء قد أتى من الهاوية، نداء جميع الممكنات، التضرّع الكبير الذي يصعد من العبث حتى لنحسّ معه بالدوار" ، وكأن هذا العبث الإيجابي ومن خلال ممكنات الحياة وتجلّي عمق التجربة لا نصل إليه وبكل أصالة إلا من خلال التعمّق أكثر. ونصل إلى نتيجة مهمة فيها يعلن حبشي تخطي الوجودية وخاصة في مشكلة الموت وعندئذ: "يتلاشى الخوف من الموت، لانعد نرغب أن نتخلّص من الموت ولا أن نستعجله ولا أن نوفّره. ننتظره بصبر لأن الصبر، هو بالتحديد الأبدية فينا والتي تشفق على الزمن، التي تعطف عليه، التي تقبله وتحبه" . هنا لم يعد الموت كما كان عند هيدغر (فاغر الفم) دائماً أو "ما إن يولد الإنسان حتى يرى نفسه في شيخوخة الموت" لايوجد "موت أكثر ضيقاً من موت الذي راهن على حياته بناءً على أمل محدد، لأنه إذا تحقق أولاً، هذا الأمل صفده في الزمن وعند موته، شخصه مستلقى في الزمن ومربوط بأعماله، كما لو أن شخصه ينتهي مع حياته" .وهذا التخريج المبدع لأبدية وخلود النفس يجعلنا ندقق بمقدرات حبشي الميتافيزيقية والواقعية ،وفي الوقت نفسه يصعد هذه المسألة حتى النهاية، الرجاء ، فنحن نحيا أبداً وسوف نحيا . وهذه الدعوة فريدة محملة بعبق الشرق وجذور حضارته وقد قدمها حبشي للعالم بأسره من خلال تاريخه الفكري والاجتماعي .













عناوين أخرى





تؤكد شخصانية رينيه حبشي على التواصل والعلاقات الإنسانية ،وتبرز أولوية الذات على الموضوع، والوجود الذاتي على التصور الكلِّي، وعلى القلق كحافز على المعرفة .وقد راجت الشخصانية في العالم العربي –كما يقول الأستاذ جميل قاسم - من خلال رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي. إلا أن ثمة فرق بينهما في النظرة ،فالحبابي دعا إلى فلسفة شخصانية إسلامية. أما رينيه حبشي فقد وجد في الشخص الفرد وحدةً تقوم على إظهار الذات لذاتها، أولاً، كفرادة متميزة، ومن بعدُ إظهار هذه الذاتية تجاه العالم، والجماعة والآخرين. والفارق بين الفرد والشخص في فلسفة حبشي،أن الفرد لا يرى وجود الآخر، كضرورة لوجود الذات، في حين أن الشخص ينظر إلى الآخر باعتباره حاجة ضرورية لكي يمكِّنه من تحقيق ذاته كمبدع للتاريخ. والجماعة، في نظر حبشي، هي تعددية أشخاص، أي تعددية "الأنيَّات" التي تؤلِّف المجموعة؛ لهذا فالشخص البشري، من حيث هو شخص قائم في ذاته، مدعو إلى أن يتخطَّى ذاته وواقعه لكي يعي ويكتشف واقع جماعته الوجودية.ولا ينادي الفيلسوف حبشي بأولوية الوجود على الماهية، أو بأولوية الماهية على الوجود، بل يعتبرهما ديناميكية واحدة، في جدلية المادة والفكر.

والإنسان، عند حبشي، كائن روحاني، ذو بعد إلهي إنساني؛ وهو مادة ذاته وصانع حريته في انفتاحه على الآخر. وهو، بعكس الحبابي، صاحب الشخصانية الإسلامية، يتبنَّى العلمانية كاختيار فكري وثيق.

ومهما يكن، فأن كتاب حبشي الموسوم : " نحو شخصانية متوسطية" يعد مشروعه الأكبر؛ ، يدعو فيه إلى متوسطية ثقافية، هي الوجه الآخر للمتوسطية السياسية (الفرنكوفونية)، ويطور فيها أطروحاته. وقد لايوافقه البعض على تمييزه الثنائي بين اللغة الفرنسية، كلغة ثقافية "عالِمة"، وبين اللغة العربية كلغة "معيشة"، لأن لغة الفلسفة متعددة، لاسيما أن الدراساتُ الألسنية اللغوية المعاصرة قد أبطلتِ التمييزَ بين اللغات، ووطدتْ الاختلاف اللغوي كبُعد من أبعاد الفكر، في أولوية الفكر على الفلسفة والمنطق والإيديولوجيا.وفي كتابه : " حضارتنا على المفترق " يؤكد حبشي على أن يكون الإنسان سيد نفسه . كما يدعو إلى روحانية ثورية، ليس فيها تناقُض بين (الوحي) و(الثورة). وقبيل وفاته ،رأى في لبنان "رسالة" للتعايش الاجتماعي ، على ضفاف البحر المتوسط، في فلسفة لا ضفاف لها. كما أطلق رينيه حبشي دعوته إلى تأسيس اتحاد يجمع المتوسط في مشروع حضاري ينهض بالدول الواقعة على شواطئه التي تربط أوروبا بالعرب، والمسيحية بالإسلام، والشرق بالغرب، والماضي بالحاضر. ويلخص الأستاذ محمد محفوظ مشروع حبشي بقوله أن حبشي يدعو للعودة إلى ماضينا الشرقي العربي الإسلامي المتوسطي فيقول: علينا أن نطلب من الماركسية والشخصانية والوجودية أضوائها في الحاضر، مع الغوص في فلسفة ابن سينا وابن رشد وتوما الأكويني وأغسطينوس كي نجد عندهم أطر عقلنا. علينا أن نجرب أكثر وصفات الاختبار تجديداً وكي لا نغرق، علينا أن نطلب النصح قبل ذلك من أرسطو وأفلاطون. علينا أن نتمنى أغرب الثورات الاجتماعية واجرأها، شرط أن نبدأ بتأمل حقائق الإنجيل والقرآن الكريم. وأخيرا فأن شخصانية رينيه حبشي تمقت الحرب،وتدعو إلى السلام،وتفسح المجال لمن هم مؤهلين لتحمل مسؤولية المجتمع، وتحارب الفساد والاستبداد، وتؤكد دور التعليم في تنمية المجتمع ،وتؤمن بالتعددية واحترام الآخر وحقوق الإنسان . وكما قال مونييه نفسه، فأن كل مواقفه وآراءه حول الشخصانية التي كتب عنها في كتبه ورسائله قابلة للنقاش والمراجعة فالفيلسوف- أولا وأخرا- لا يقدّم أجوبة نهائية، ولا حلول جذرية للمشاكل والعقد، وإنما يُبقي دائماً خط الأخذ والردّ مفتوحاً لمشاركة الجميع. وهنا تكمن-برأينا - أهمية الشخصانية كرافد مهم من روافد الفكر الفلسفي العربي المعاصر .