ستيفن كي. وايت و جي. دونالد مون/ ترجمة رمضان جربوع: ماهي النظرية السياسية؟ مقاربة للفهم ...(1/2)
يتناول هذا الفصل من الكتاب تحديد معاني المصطلحات، مثل النظرية السياسية، الفلسفة السياسية والإيديولوجيا؛ كذلك توضيح معاني مصطلحات متخصصة تستخدم من قبل المنظرين السياسيين، يقدم الفصل كذلك أمثلة لحجج جدلية أو خاطئة لتبيان حقيقة مفادها: أي حجة سياسية يتقدم بها أحد؛ من الممكن الاعتراض عليها من خلال منظور إيديولوجي مختلف. كذلك لإظهار أهمية النظرية السياسية من أجل تقييم صلاحية الحجج الإيديولوجية مثل: هل يجب أن يكون الناس أكثر سواسية؟ هل الدولة أكثر أهمية من الفرد؟ هل يمكن لمجتمع اشتراكي أن يكون حرا؟ هل يمكن تبرير العنف السياسي على أي حال؟ هل نتسامح مع غير المتسامح؟ هل تستطيع الأغلبية الإملاء على الأقلية؟ هل من العدل أن يصبح الأغنياء أقوياء (سياسيا)؟
هذه الأسئلة تقع ضمن دائرة اهتمام النظرية السياسية. فهي؛ وعلى الرغم من بساطتها المضللة، من حيث توقع الإجابة عليها بنعم أو لا، إلا أننا عندما نحاول الإجابة عليها سيظهر علينا كمًّا وافرا من الافتراضات قابلة للمنازعة ومعاني مفرداتها أيضا موضع جدل. إضافة إلى ذلك؛ الإجابات ستعبر عن آراء تدور حول "ما يجب أن تكون عليه القضية" عوضا عن "ما هي القضية؟"
المسألة هنا تتعلق بالقيم والمثل السياسية، والخيارات ما بين المثل وهذه يجب أن تحسم. فأنا قد أعطي الأولوية للحرية بدلا من المساواة لأنني أعتقد بأهميتها الحيوية لسعادة الإنسان، وأنت قد ترى عكس ذلك.
غالبيتنا نتأثر بالإيديولوجية السياسية، سواء كنا معتنقين لها على بينة أو نقوم بذلك من غير وعي عن طريق آراء تلقيناها؛ بناء على ذلك نستطيع القول بأن الإجابات على المسائل السياسية تتنوع طبقا لآراء الفرد وتختلف كذلك وفقا لموقف الفرد من الناحية الإيديولوجية.
تناول النظرية السياسية يساعدنا على التحصل على إجابات منطقية، وكذلك لنقد ما يعطيه الآخرون من إجابات، وكل ذلك ضمن التعامل مع المسائل السياسية بمستوى أكثر عمومية وتجريدية مما قد نتحصل عليها من خلال العلوم السياسية. وعلى سبيل المثال نأخذ السؤال: "هل يمكن تبرير العنف السياسي؟"
الإجابة "العلمية" تستوجب القول بلا دون تردد، فالعنف محرّم قانونا ودستورا. ولكن النظرية السياسية ستتساءل فيما إذا كان ممكنا تقديم التبرير طبقا للظروف المحيطة؛ هل سيكون لأقلية مضطهدة محرومة من حقها في المطالبة بقضيتها، هل هذا يعطيها المبرر للجوء للعنف؟ وهل صلاحية هذا التبرير ستتوقف على نوع العنف وضد من يتم استخدامه؟ وهكذا ..
الفائدة من النظرية السياسية تكمن في أنها تسمح لنا باعتبار مثل هذه القضايا دون الرجوع إلى الإجابات المستندة إلى وقائع حقيقية يقدمها اصحاب المذاهب مثل "الدستوريون" أو "القانونيون" فهي تحررنا من التفكير النقدي، أوالمعياري أو الاحتمالي أو المثالي، عوضا أن نكون منحصرين في توصيف ما هو موجود كما ولو كان غير قابل للتغيير. المقاربة النقدية تعتمد أساسا على مقدرتنا بالفرار من الموجود.
ابتداء، يبدو لنا أن "عظماء المنظرين السياسيين" منهمكين، ليس في النقد، ولكن في صراع هدفه إضفاء الشرعية على الحكام أو الحكومات وكذلك في سبيل تبرير ظاهرة السلطة.
الفيلسوف الإغريقي أفلاطون كان يعلي قيمة "العدالة المطلقة" لتبرير فرقة "الحرّاس" كحكام شرعيين.
فقهاء المسيحية إبّان عصر النهضة الأوروبية كانوا يطرحون "نوايا" الرب كمبرر لتكريس حكم الملوك
بينما أصحاب نظرية "العقد" مثل (هوبس) و(لوك) كانوا يرون في الحكومات كمؤسسات نشأت بخيار الشعب العقلاني. ولكن أفلاطون وهوبس ولوك كانوا أيضا من أكثر الناقدين صخبا لسياسات مجتمعاتهم وكانوا يظهرون معارضتهم في توصيفاتهم للحكومة بكونها "ما يجب أن تكون" أي مثالية. النظرية السياسية تقنية تحليل يمكن استخدامها سواء للدحض أو التأييد:
بطبيعة الحال كان هنالك دائما العديد من المبررين النظريين لمعظم الأنظمة السياسية التي كانت قائمة، الأقل أهمية من هؤلاء هم "المروجين" أو محترفي البروباغندا – الدعاوية السياسية – ولا يعتني بهم أحد سوى الذين يهتمون بالتاريخ الاجتماعي ونادرا ما يندرج بعضهم ضمن قائمة أسماء حملة الفكر. النظرية السياسية هي باختصار تقنية تحليل يمكن استخدامها سواء للدحض أو التأييد. النظرية السياسية، عندما تتخلى عن حقيقة الواقع والتفاصيل، تقوم بتوصيف السياسة بمصطلحات تجريدية وعمومية، وهذه تتيح النطاق للتخيل النقدي. وعليه يمكن تحديد مفهومها كنهج يستهدف شرح أو تبرير وضعية السلطة / القوة في المجتمع. فهي تحدد توازن القوة ما بين الدول أو المجموعات أو الأفراد. "السلطة" تستخدم بصيغة متسعة: فحتى "الطاعة" تعتبر من ملامح السلطة حيث أنها تعبر عن التحفظ الذاتي من قبل المواطنين الذين إن لم يفعلوا ذلك، فقد يقاومون الحكومة.
بصفة أساسية السلطة تكمن حيث توجد الموارد (الشخصية، الاقتصادية، الأخلاقية، الإيديولوجية .. الخ) وهي تفعّل من خلال الإغراءات وبنفس المقدار من خلال التهديد وأيضا من خلال حبس أو إتاحة الموارد.
علماء الاجتماع عادة يحللون السلطة بمصطلحات التفاعل الفردي، حيث نجد أن (أ) يستطيع أن يستميل (ب) لرغباته. وتستخدم النظرية السياسية هذه التفاعلات اليومية ضمن إطار منهجي في بنية "السلطة/القوة"، ولكن حتى المنظّرون أنفسهم الذين يرصدون هذه الظواهر قد يطرحون مفهوما لبنية السلطة بصور مختلفة (مثل: الليبيراليون يعتنقون المساواة والتناغم الاجتماعي) كان ماركس يرى فيها صراعا واضطهادا، وبالتالي ستخرج علينا استنتاجات مختلفة، فعلى سبيل المثال سنرى "الدستوريون"، الذين يفهمون السياسة بمصطلحات مؤسساتية، قد يميلون للرأي القائل بعدم السماح لاتحادات العمال بأن تكون نشطة سياسيا، بينما الذي يفهمون السياسة كنشاط قائم لمجموعات الضغط قد يعتقدون بأن قيام الاتحادات بنشاط سياسي لا مفر منه، بل وأن الأمر يستوجب ذلك. وهكذا تنوع واختلاف المفاهيم الخاصة بالسلطة ستنتج مثل وإشكاليات متعددة ومختلفة.
ما هي الديمقراطية تحديدا؟ : القارئ الجديد في مجال النظرية السياسية قد يقدم الاعتراض التالي:
"قد يكون من المستحسن دراسة المؤسسات السياسية عوضا عن مفاهيمها التجريدية المطلقة، فالأفكار يجب تسجيدها في مؤسسات إذا أريد أن يكون لها معنى. وقد يكون من الأفضل أن نكتشف معنى –الديمقراطية- كما سيعتقد البعض، من خلال فحص ودراسة مؤسساتنا نحن، وكذلك دراسة الدول الديمقراطية الأخرى وإسقاط ملامحها الرئيسة الخاصة بها، وهذا سيكون أفضل من قراءة "أفلاطون" وصنوه". وهذا من شأنه أن يثير إشكالية كبرى، وهي الإشكالية التي تؤرق كافة مواضيع العلوم الاجتماعية: أي: أيهما أولى، المفهوم أو الواقع؟ هل هناك "روح" للديمقراطية أو هل هي تتكون من خلال التركيبة القائمة التي نلاحظها في الديمقراطيات على النمط الغربي؟ هذا بكل بساطة هو إعادة استدعاء الجدلية الفلسفية القديمة: هل يعكس الواقع أفكار؟ أم العكس؟.
هذا السؤال المعاود دوما لا إجابة مرضية عليه هنا، ولكنه يوفر فرصة لتحديد بعض معاني المسميات الغامضة التي تستخدم في العديد من المحاججات في النظرية السياسية. رؤية أفلاطون، والتي ألحقت أيضا بديكارت وغيره، تنص على أن الواقع يتقارب مع أفكار معرفية لا تتغير وتقع خارج نطاق التجريبي، وهذه الرؤية مثالية التشكيل (وهنا لا يجب الخلط بينها وبين "المثالي" والذي يعني: الترويج لمثل وقيم).
في العلوم الاجتماعية، تعني المقاربة المثالية الأفكار والنظرية التي تسبق الملاحظة الواقعية.
المادي أم الطبيعي؟
الرؤية المضادة، والمنسوبة للفيلسوف "لوك" تقول بأن مفاهيمنا تنشق من ملاحظتنا للواقع المادي أو الطبيعي، وتدعى أيضا بالرؤية المادية (ومرة أخرى لا يجب الخلط بينها وبين "المادي" الذي يعني ما ينشغل بالثراء المادي أو السلع).
الرؤية المادية تنسب أيضا للأمبيريقية (التجريبية) أو المنهج العلمي الاستقرائي وإن كان ليس كذلك دوما. الأمبيريقية تتطلب أن يقوم العالم الاجتماعي أو عالم الطبيعة أولا بملاحظة الواقع، ثم يستقرئ ويخرج بنظرية عامة مؤسسة على عدد كبير من الحقائق والأحداث والملاحظات. وهي تلحق أيضا بالرؤية الإيجابية التي تصرّ على التقدمات ذات المعنى التي يجب أن تكون قابلة للتحقق منها بإشارتها للعالم الحقيقي الواقعي؛ التقدمات الأخلاقية أو الدينية أو الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) تعتبر في مفهومها فارغة وغير ذات معنى.
الأمبيريقية أم العقلانية؟
الأمبيريقية هي النهج العلمي المسيطر في العالم الأنجلوساكسوني، جذر المصطلح يعني "التجربة" وهو ما يوحي بأن الأمبيريقيون يرفضون المفاهيم المسبقة ويتصرفون كأنهم ملاحظون سذّج حيث يقومون باكتشافات من خلال التجارب: هذا يتناقض مع أسلوب "العقلانيين" الذين يشرعون في بناء "نظرية". والتضارب ما بين رؤيتي "العقلاني" و"الأمبيريقي" هو تضارب أساسه الإيبستومولوجيا (المنظور المعرفي) أي أنه يتعلق بالمعيار الذي بموجبه تتأسس "المعرفة" وبالتالي "الحقيقة" والزيف والدليل. والجدال، حتى وإن كان فلسفيا، إلا أنه يقترب كثيرا من قضايا النظرية السياسية، كما سنرى.
وعود على الديمقراطية: في هذه الأثناء، المعارض الذي ينشد تحديد الديمقراطية من خلال ملاحظة الدول الديمقراطية ما زال ينتظر الإجابات، هو هنا يدفع بالمقاربة الأمبيريقية التي قد تقدم المبادئ العامة للديمقراطية من خلال البحث في المنظومات الظاهرية التنظيمية.
الخلل البديهي في ذلك، هو أن تحليل الفكرة من خلال التدقيق في الدول الديمقراطية أو المؤسسات المشار إليها تكرارا بالديمقراطية، سيجعلنا بدون معيار مستقل للحكم فيما إذا كانت ديمقراطية أم لا. ثم كيف لمثل هذه المقاربة أن تتعامل مع الدول من خارج دائرة الغرب والتي تنعت نفسها بالديمقراطية والتي في رأي الملاحظون الغربيون ليست سوى سلطوية مثل سنغافورة وتانزانيا؟
لا توجد مبررات بديهية لاستبعاد تحليل هذه الدول. فتحديد مفهوم "الديمقراطية" من خلال دراسة الأنظمة التي تصف نفسها بالديمقراطية سيفرض علينا السؤال عما تعنيه الديمقراطية أصلا. فالنظرية التي تؤسس هكذا يفترض أنها تعكس الظواهر المشاهدة، بينما النظرية التي يفترض حيازتها قوة حادة؛ تحتاج أن تشير إلى مرجعيات تتعلق بالتركيبة المثالية للديمقراطية.
الحجج المضادة للمقاربة الأمبيريقية أو المقاربة "الفعلية الواقعة" بخصوص المفاهيم السياسية، تمت صياغتها جيدا من قبل الفيلسوف اليساري "ماركوس". فلقد حاجج بأن قاموسنا السياسي صار يبدو "مقفلا" أكثر فأكثر، حيث أصبحت المفردات الرئيسة الدالة تعرّف بمصطلحات توافقية (على سبيل المثال: الديمقراطية تعني رجل واحد صوت واحد، الاقتراع السري، دوائر انتخابية متساوية .... الخ)، وبالتالي أصبحت الاستخدامات الحرجة أو النقدية مستحيلة. فالأسماء (في علم النحو) مثل "الحرية"، "المساواة"، "الديمقراطية" و"السلام"، توحي تحليليا بمجموعة محددة من الصفات تحدث بصفة غير متغيرة عندما ينطق "الاسم" أو يكتب... يعني ذلك أن المفهوم الطقوسي (الذي يحمل صفة الطقوس المقدسة) أصبح محصنا ضد المناهضة!
مسرحية المفاهيم السياسية:وبكلمات أخرى، المفاهيم السياسية أصبحت مثل الشخصيات المسرحية في قصص "ديكنز"، كل منها يحمل ملامح مميزة. نحن لا نستطيع أن نتخيل الحرية بدون خيارات "مستهلكها" – أو ممارسيها- كما نحن لا نستطيع أن نتخيل السيدة "غامب" (إحدى شخصيات روايات ديكنز) بدون زجاجة الجن (خمرة) في يدها!. ذكر "ماركوس" أبحاثا قام بها تتعلق بعمال المصانع وشكواهم من مظالم، هذه الأبحاث جعلت من الشكاوي أو المظالم فعلية وواقعية، حيث حولت الاعتراضات الغامضة غير المحددة بخصوص ظروف العمل والأجور إلى شكاوي محددة ونوعية منها غرف المراحيض القذرة والمشاكل المالية لبعض العمال...الخ. بهذه الأساليب (والتي أستخدمها أيضا أرباب الأعمال) تحولت إلى تعاطف وتماهي، ثم إلى قضية فعلية واقعية غير ذات أهمية بينما العنصر الحساس فيها، أي المظالم التي يعاني منها العمال، غيبت عن الوعي والأذهان.
أطروحة ماركوس العامة كانت مقاربة عملية لشؤون سياسية، وهي تستبعد استخدام المفاهيم المجردة كأدوات بدون حدود للنقد والاعتراض. فحتى لو رفضنا هجوم ماركوس على الرأسمالية، إلا أن البعد النقدي يظل أساسيا للفكر والمحاججة، وهذا ما لا يمكن إنكاره.
المصطلح "النقد" يُحمّل دائما بسمة سلبية خفية، ولكن تحديد معنى النقد، وإقرار النقد بكونه المهمة الرئيسة للنظرية السياسية يعني: أنا أنظر إليه بالمعنى المحايد كما رأى ذلك فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، أي أنه الأداة التي بواسطتها يتم تقييم النظام الاجتماعي. نحن لا نستطيع الوصول إلى تقييم منفصل عن المجتمع الموجود حتى لو استحال أن يكون غير منحاز بالكامل إلا باعتماد مقاربة مفهومية تجريدية. العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية السياسية غالبا ما تفتقد الانفصال، النظرية السياسية مهمة لأنها تستطيع أن توفر لنا هذا المنظور.
هذه الحجج قد تقنع المتشكك في أن النظرية السياسية هي فعلا ذات جدوى، ولكنها قد تطرح بنفسها في جدواها فيما يتعلق بالحياة الفعلية، إنها ليست برجا عاجيا لا أهمية له للمواطن العادي، هي موضوع تتميز مقارباته المفارقة بمنعه التأثير على العالم أدناها؟
ما سيلي يقصد به إظهار، ليس فقط بأن النظرية السياسية تستطيع تحليل الجدليات السياسية، ولكنها أيضا تستطيع إظهار بأن أية حجة سياسية تعتمد على مفاهيم أساسية ومثل ما يتم توفيرها بواسطة النظرية. وهذه غالبا لا تسمع، ولكن دورها هام جدا في تحديد أشكال الحجج السياسية و"السياسية الواقعية"، وعليه سيكون "المُنظّر" السياسي هو من يقع عليه عبء الكشف عن هذه الآليات المخفية غير المسموعة.
المحاججة السياسية
الجدل حول مشاركة العمال في الإدارة (أي ما يعرف بالديمقراطية الصناعية)، يبدو لأول وهلة أنه يتعلق بالعلاقات الصناعية، ولكنه في الحقيقة هو إعادة إخراج للحجج القديمة التي تثار في مسألة "أفضل شكل للحكومة". المدافعون عن إدارة بواسطة العمال (بما فيهم بعض أرباب العمل) يرون في مشاركة العمال كعامل جيد وإيجابي، فهي تحقق زيادات في وجهات النظر، وتتيح للعمال الشعور بأنهم يسيطرون على مصيرهم (انظر اليابان على سبيل المثال)، وترفع من مستوى القبول بالقرارات وتشدد على مسؤولية العمال ليتقيدوا بسياسات الإدارة (فكرة تواجد ممثلين عن العمال في مجلس الإدارة وبهذا المعنى تبدوا أنها مستوحاة من وجهة نظر الفيلسوف "هوبس" (التي مفادها بأن الناخب عليه واجب اتباع ما يقرره ممثله).
وضد هذه التقدمة، يقول المعارضون بالتركيز على قيمة الكادر المتخصص والإدارة ذات الخبرة، وهو ما يعكس تبرير حكومة النخبة، التي منذ عصر أفلاطون، كانت ترتكز بطريق غير مباشر على المقاسمة الافتراضية ما بين العمل العقلي والعمل اليدوي. وفي سياق هذه الحجة، يقال بأن العمال سيكونون مهمومين بأحوالهم على المدى القصير، ولن يكونوا قادرين على اتخاذ خيارات صناعية استراتيجية والتي تتطلب المعرفة والخبرة الإدارية الاقتصادية. وعلى النقيض من ذلك، سيقوم مجلس إدارة يتكون من خبراء ومدراء ومن خارج الدائرة من الذين يتميزون بمستواهم المعرفي، باتخاذ قرارات (لا فائدة ذاتيه فيها لهم) ولكنها تصب في صالح الشركة وموظفيها.
حكومة الخبراء أم بمشاركة من الشعب بعمومه؟:
المبدأين الرئيسيين في هذا الجدل، عُرفا حتى في العصور القديمة، حيث تمت تجربة حكومة الخبراء والمشاركة من قبل الشعب في المدينة الإغريقية، أو المدينة الدولة في أثينا. فالأول يشدد على مزايا المعرفة والحكمة وما ستقدمه للإنسان، بينما المبدأ الثاني، على أساس المساواة، يخرج الأهمية الموضوعية للأفراد عندما يكون لهم صوت في الشؤون العامة، والثنائية هي: الخبرة والفعالية أو المشاركة والرضى على مستوى أوسع؟
هذه القيم المتنافسة لا تتمازج ولا تحمل أسس توضع محل مقارنة، ولا يمكن تنفيذها معا؛ فالاختيار ما بين مشاركة العمال (أو بصفة أوسع، الحكم الرشيد) يتطلب تعيين الأولويات، والتغيير في الأولويات أو القيم سيغير في المؤسسات الاجتماعية التي تجسد هذه القيم وبالتالي تصبح القدرة على تحديد وتقييم القيم القديمة والجديدة بالغة الأهمية للمشاركين في مثل هذه الجدلية السياسية
وعلى سبيل المثال:أرجع الآن إلى مجموعة الحجج المؤسسة على مبادئ غير مشار إليها بالبنان، فيقول الكثير من الناس بأن المهاجرين في بريطانيا لا حق لهم في الوجود بها، وبأنهم يستهلكون موارد يعود الحق فيها إلى المواطنيين البريطانيين المحليين. هذا الزعم يشير إلى مصدره الفكري المعروف بالعدل الطبيعي، والذي يفترض بأن المولود في بلد ما له حق خاص في مواردها بما في ذلك المساعدة الاجتماعية والحق في العمل. هذا المفهوم غريزي أو عفوي للعدل، ومن هنا نُعت بالطبيعي، وهو مصطلح يستخدم عندما لا توفر العقلانية دعما لحجة ما.
عندما كان هنالك القليل من خدمات النقل ووسائله، ومن ثم قليل من التنقل، كانت الناس تعيش في اقتصاديات القرية حيث يوجد اكتفاء ذاتي محلي، نرى أن هنالك أساس لوجهة النظر القائلة بحقهم في الموارد المحلية التي يقوم السكان بالاعتناء بها ويعتمدون عليها (نجد أيضا تقاليد الكرم والتعاضد في هذه المجتمعات في الأوقات العصيبة).
الآن، أصحبت الهجرة أمرا عاديا، وانتقال الناس عبر العالم تقريبا متاح، على الأقل في بلدان الغرب، والاقتصاديات لم تعد محلية أو وطنية، ولكن كونية، فكيف لنا أن ندعم مثل هذا الحق المزعوم بالأحقية الطبيعية؟
أي شخص يعلن بأن سكان مانشستر الأصليين فقط لديهم الحق في العمل بمانشستر أو استهلاك مصنوعاتها الثمينة سيتم الحكم عليه، وعلى حق، بأنه منافي للعقل وسخيف. ولكن هذه الحجة المنافية للعقل تختلف فقط بالدرجة عن تلك التي تقول بأن المهاجرين لا يجب أن يعيشوا في بريطانيا.
صدرت في بريطانيا مجموعات من القوانين تحد من الهجرة (1971، 1981، 1988) كانت تدور حول جدلية مفهوم "الانحيازية"، وجسدت عدم التناسق في فكرة الاستحقاق الطبيعي. فنتساءل في أي معنى نفهم "الانحياز"، هل المنحاز له هو الذي يكون أحد أجداده بريطاني؟، أي يكون له الحق في القدوم إلى بريطانيا والعمل بها؟ القرابة عن طريق الجدّ قد تكون علاقة طبيعية، ولكنها أيضا تم اختيارها عشوائيا، لماذا لا نعتمد القرابة عن طريق أبناء العم والخال، أو العمة والخالة؟ وبالتالي تعطي صلة القرابة هذه، الحق في الهجرة والعمل.
مبدأ حرية الانتقال للعمالة في الاتحاد الأوروبي شرعت نوعا جديدا من الاستحقاق، وهي أيضا متعارضة مع مفهوم العدل الطبيعي – مسألة الاستحقاق هذه تجتهد المجموعة الأوروبية الآن في الحد منها عندما بدأت الدول الشيوعية سابقا في الالتحاق بالاتحاد الأوربي.
والعدل الطبيعي؟
من جانب آخر، وفي الحالة التي يتواجد فيها مبدأ العدل الطبيعي، فقد يكون من شأنه كذلك دعم الهجرة، فمعظم الهجرة منذ الحرب العالمية الثانية كانت نتيجة الاستعمار الذي خلق الامبراطورية البريطانية: فمنح الجنسية البريطانية لسكان المستعمرات أعطاهم الحق والحافز للهجرة إلى بريطانيا. من الممكن إيراد الحجة بأن ثراء بريطانيا الحالي، يرجع الأصل فيه على نطاق واسع لاستغلال موارد هذه المستعمرات، وبالتالي أسلاف مهاجري اليوم ربما اعتبروا بأن لهم استحقاق طبيعي فيه كذلك. أو ليس العدل الطبيعي يشرّع بأن الأحفاد لهم الحق في القدوم إلى بريطانيا والاستمتاع بالرخاء فيها؟ هذه الحجة قد تكون ضعيفة بنفس مقدار ضعف الحجة المعارضة. ولكنها تظهر بأن الاستناد إلى العدل الطبيعي لدعم حق أدبي وفي نفس الوقت غير قانوني ضد شخص آخر، يعتبر سلاحا ذو حدين، لأن مفهوم الاستحقاق عن طريق الميلاد، أو الجغرافيا أو ما شابه من أحداث من الممكن الرد عليه من خلال مطالبة، هي الأخرى تدخل ضمن مفهوم "العدل الطبيعي" قد يكون هنالك أسباب عملية أو تكتيكية للحد من الهجرة، ولكننا يجب أن نتوقف عن التفكير بأن الحد من الهجرة يستند إلى مفهوم "العدل".
جاذبية المطالبة بالاستناد على العدل الطبيعي قوية دون شك، ولكن المفهوم ينهار عند التمعن فيه. في القرن الثامن عشر قال المفكر "بنتام" ما مفاده: الحقوق الطبيعية لا تعني شيئا، الحقوق هي فقط التي تكرس في قوانين إيجابية. قد يكون من الممكن أن يقول نفس الطرح فيما يتعلق بالعدل الطبيعي. عالم الاقتصاد مالتوس كتب قائلا "إن الفقير المعدم المتشرد لا يجد مقعدا له في مأدبة "الطبيعة" الكبيرة، فهي تقول له إذهب! لا محل لك عندي" في أحد الجوانب، ما يقوله مالتوس صحيح: لا يوجد ما يثبت بأن العالم يدين لنا "طبيعيا" بمعيشة، وكذلك لا يوجد ما يثبت أن إحدى بقاع العالم تدين لساكنيها بمعيشة بدل غيرهم. حقيقة أن مثل هذه المطالب تأسست على مواثيق اجتماعية وقانونية لا يجعل منها عادلة طبيعيا!. لا يوجد عدل في الطبيعة، على الرغم من معارضتنا بحجة عدم إمكانية التحكم في العالم الطبيعي، وعدم اعتناء هذا العالم بحاجاتنا عن طريق اصطناع فكرة الحقوق الإنسانية ومؤخرا، الحق في العناية الاجتماعية والحد الأدنى الاجتماعي. ولكن العنصر الأهم في فكرة حقوق الإنسان هو عالمتيها وشموليتها، أي أن حق الفرد في الحياة والمعيشة، ولكن "العدل الطبيعي" يرفض هذه الحجة غالبا!
الحركات السياسية المعاصرة:من أبرز الحركات السياسية المعاصرة، "القومية"، "الانفصالية"، "الإقليمية"، الأكراد، الباسك، الأرمن، الكشميريين، الجيش الجمهوري الإيرلندي وغير ذلك العديد من المجموعات المطالبة بحقوق الأقليات أو التي تناضل من أجل الاستقلال الذاتي، وكذلك العديد من المجموعات في الاتحاد السوفييتي سابقا وفي شرق أوروبا من التي نجحت، مثل ليتوانيا ولاتفيا وإيستونيا والكروات. مبررات هذه المطالب ومعارك النضال ترتكز كلها على: مثالية الحق في تقرير المصير، وما يدعمه من مفاهيم وحدة الحيّز الجغرافي أو العرقي أو الثقافي.
البديهية التي تقول: "كل ما هو طبيعي، هو جيد" انتصرت، فعندما نعتبر الطريقة العشوائية الاعتباطية وكذلك الماكيافيلية وأيضا التوخي الاستراتيجي التي اتبعت في تخطيط الحدود السياسية للدول، خصوصا في أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى، وكذلك في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فلا يجب أن نندهش كثيرا مما حدث بعد ذلك؛ الحروب والانفصال أصبحت مادة شبه يومية.
لأول وهلة، نستطيع القبول بمبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لأن أفرادها أعضاء بمجموعات عرقية أو لغوية، فهؤلاء لديهم ما يوحدهم ثقافيا ويجعلهم مختلفين عن غيرهم. ولكن ليس من السهل استنباط مبدأ سياسي عام على أساس الانتماء "الطبيعي". فحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الذي صنع دول البلقان سنة 1919، قدم أيضا التبرير اللازم لأدولف هتلر لكي يزحف على تشيكوسلوفاكيا وبولندا بزعم "حماية" المواطنين الناطقين باللغة الألمانية.
ولقد شاهدنا مشاكل مشابهة في أوروبا الشرقية، حيث كل دولة فيها تحتوي على أقليات تشعر بانتماء وولاء أكثر لدولة مجاورة. أكثر أشكال القومية شراسة تؤسس عادة على زعم بعقيدة بطبيعية الوحدة القومية. وبالتأكيد، العديد من الأمم تعاني اليوم من حدود سياسية غير مناسبة أو غير صالحة أو لأنها تحتوي مجموعات غير سعيدة تحمل ثقافات مختلفة (كما كانت الحالة في يوغوسلافيا سابقا)، ومع ذلك، تدمير الوحدة الترابية قد يؤدي إلى نتائج أسوأ بالنسبة للجميع، بمن فيهم الانفصاليون. وفي مواجهة مثل هذه المشاكل المعقدة، تستطيع النظرية السياسية على الأقل؛ تحليل الحجج المقدمة حول "الوحدات الطبيعية" وللنظر فيما إذا كانت تحمل أساس جيدا أو شمولية قابلة للتطبيق كونيا. تستطيع أيضا عرض طرق بديلة لإحكام مفاهيم توائم مثل هذه الأوضاع، والتي قد تكون أكثر ملاءمة أو أكثر جدوى. ( القومية ستناقش في الفصل الحادي عشر).
القول المأثور بأن كل ما هو طبيعي هو جيد، لم يفقد جاذبيته بعد في حضارتنا عالية الاصطناعية. ويستخدم في السياسة، لتكريس القناعات والطروحات العاطفية والعفوية والتي لا دليل جاهز عليها، ولكن الإيحاء بأن المجتمع هو نتاج طبيعي مثله مثل الأشجار والصخور، موهم لأقصى الحدود، صحيح أن الكائنات البشرية تعتبر جزءا من الطبيعة، حيث أنها تعتمد على نفس الحاجات وتمر بمراحل الهرم مثلها مثل غيرها من الثدييات، ولكن المجتمع ليس سوى بيئة اصطناعية ويخضع للقوانين الطبيعية: نحن نستطيع أن نتلاعب بالمجتمعات ونغيرها. وعلى الرغم من شدة شغف بعض السياسيين من تشبيه السياسة بجسم الإنسان، إلا أن المجتمع لا يعمل ككائن حي، وبالتالي الادعاءات بما هو "طبيعي" في المجتمع سيكونه مضللا. كذلك من الخطأ ذكر الطبيعة كمعيار أخلاقي من شأنه أن يقيس ويقيم ترتيباتنا الاجتماعية: لا يوجد أخلاقيات في الطبيعة، وليس هناك الكثير مما يستحق النعت بالطبيعي.
التوهم الشعبي
أحد مهام النظرية السياسية يجب أن يكون إقصاء التوهم الشعبي من النوع المذكور أعلاه ثم الكشف عن الأفكار المضللة. في هذا المضمار سيكون مجديا الاعتبار بإيجاز، الفكرة المضللة الأخرى وهي التي يعتد بها كثيرا في الجدالات السياسية، ألا وهي "الطبيعية الإنسانية" فهي في المحاورات؛ فرضية غير قابلة للإثبات، يستنجد بها لدحض نظرية ما أو إيديولوجية (مثل ما يقال كثيرا بأن الاشتراكية مستحيلة لأن الناس بطبعهم ذوي طمع وجشع). أويا -7 أغسطس 2010
[email protected]
http://jarbou.maktoobblog.com
النظرية السياسية ... ما هي؟ ترجمة رمضان جربوع
تاريخ النشر : 2010-08-08
