الأنباط تاريخ وحضارة(الجزء 8والأخير من الفصل 2) لمؤلفه عزام أبو الحمـام
تاريخ النشر : 2010-07-20
الأنباط تاريخ وحضارة(الجزء 8والأخير من الفصل 2) لمؤلفه عزام أبو الحمـام


ثالثاً- أنماط العمارة النبطية وسماتها المعمارية:
أولاً- أنماط العمارة وسماتها المعمارية:
أ- العمارة الدينية:
هي العمارة المتمثلة بالمعابد النبطية، وتمثلها عدة نماذج معمارية بنيت لتناسب طقوس العبادة، وأهمها:
1- المعبد الكبير في البتراء: وتضمن مسرحا صغيرا ومدرجا وقاعات مستطيلة.
2- المعبد الثلاثي: يتكون من أقسام ثلاثة أمامي وأوسط وداخلي أو "قدس الأقداس"، ويمثله قصر البنت في البتراء ومعبد - القصر في الربة بجوار الكرك، ومعبد "روافه" شمال تبوك.
وإذا ما تفحصنا معبد "قصر البنت" أو "قصر بنت فرعون" كما يسميه الناس، عرفنا أن هذا المعبد كان مخصصا لواحدة من الآلهة الرئيسية، ويجادل البعض أن هذه الآلهة هي "اللات" فيما يعتقد آخرون أنها "العزى"، ورأى آخرون أنه للإله الأعلى "ذو الشرى"، وكان من المثير للنقاش علاقة هذا المعبد بالإلهة "إيزيس" المعبودة المصرية، وكان ذلك من الظواهر المستغربة(61).
ويمكن اعتبار "بناء الخزنة" من هذا النمط من المعابد إذا صح أنه معبد وليس شيء أخر، ولأن معبد الخزنة من أهم المباني المنحوتة في الصخر وأروعها، فلا بأس في وصفه باختصار: أجمل ما في هذا الأثر واجهته الرائعة التي حفرت في الصخر، فظل الصخر من حولها طبيعيا وبارزا عن النقش، تبلغ واجهتها 92 قدما، وارتفاعها حتى نهاية الجرة، أعلى نقطة فيها 130 قدما، وأغرب ما في الخزنة اشتمالها على أعمدة كورنثية، وهذا ما يقوي الافتراض بأن الذين بنوها كانوا معماريين غرباء. يتقدم الواجهة ستة أعمدة ضخمة تعلوها التيجان الكورنثية، وهي ترتفع لما يقرب من 40 قدما، ويوجد فوقها جملون (شكل فني مثلث قاعدته ترتكز على الأعمدة) وهو غزير الزخارف الهندسية والفنية، وأضلاع هذا المثلث عبارة عن خطوط على شكل كورنيش، وفوق هذا الشكل تبدو الرائعة الفنية الأخرى التي تبدو كواجهة قصر يتقدمها أيضا أعمدة ستة برزت من الصخر دون أن تنفصل عنه، وكل عامودين اثنين من هذه الأعمدة يشكلان وحدة فنية وتعبيرية مستقلة، إذ يقع بين كل عامودين شكل فني بارز، وللأسف لم تعد معالم هذه التماثيل محققة تماما، لذلك افترض البعض أنها تمثل صور بعض الآلهة، ومنها الإله "إيزيس" في الوسط، وفي الوقت الذي تكون فيه الأعمدة الأربعة الجانبية أشكالا هندسية هي أقرب إلى المستطيلات الرأسية، ويتوسط هذين الشكلين الشكل "المركزي" الذي يقع بين العامودين الثالث والرابع، ويمتاز هذا الشكل باستدارته الاسطوانية، وعلى هذه الاسطوانة يبدو ما يعتقد البعض أنه الإله "إيزيس"، وتعلو الأعمدة أطر وأفاريز غاية في الدقة والجمال، وفوق هذه الأفاريز تتموضع "الجرة" التي أعطت البناء كله اسمها. أما بخصوص داخل البناء فهو الأقل أهمية مثلما هي معظم أبنية البتراء المنحوتة، فإنه يتألف من أربع حجرات: الوسطى - الكبرى وهي بمساحة أربعين قدما، وفي الصدر منها حجرة صغيرة لا تعكس أية أهمية، وعلى جانبي الحجرة الكبرى يتفرع بابان يفضيان إلى حجرة يمنى وأخرى يسرى، ولا شيء مهم يمكن أن يلفت النظر في هذه الحجرات باستثناء القليل من الزخارف في الغرف الجانبية الصغيرة، أما الغرفة الوسطى فهي خالية من أي زخارف، وما تزال أزاميل النحاتين باديا فيها بخشونة واضحة، ويهيأ لي أحيانا أن البناء لم يكتمل بعد من الداخل على الأقل، إذ عرف عن الأنباط اهتمامهم بقصارة الجدران الداخلية من خلال الملاط الملون أو الملاط الأحمر، وعرف عنهم مهارتهم في تزيين الجدران أيضا بالفريسكو. لكن تقديرات الأثريين لتاريخ البناء تدور حول عصر الإمبراطور هدريان، أي حوالي عام 131 ب.م. ويفترض بعض الأثريين أنها معبد للربة مناة، وأقيم في رأي آخرين للعزى ،وذهب فريق ثالث إلى أنه معبد – ضريح لأحد ملوك الأنباط. وما كل ذلك إلا تخمين لا يستند إلى براهين حاسمة(62).
3- المعبد الصندوقي: وهو على شكل صندوق وشكله مربع وتحيط به الممرات وله بعض الغرف الطقسية الملاصقة من الخارج مثل معبدي "التنور" و"وادي رم".
4- المعبد ذو المصطبة المركزية: وهو قريب الشبه بالمعبد الصندوقي، ويتكون من ساحة أمامية تؤدي إلى ساحة مربعة في وسطها مصطبة للتقدمة، وربما وضع عليها المعبود. وأهم نماذج هذا النمط معبدا "الذريح" و "الأسود المجنحة"(63).
5- وهناك أنواع أخرى من المعابد البدائية مثل المعليات كالمذبح الكبير في البتراء على رأس الجبل، وهناك رموز وإشارات كالأنصاب وهي حجارة على شكل مسلة أو شكل غير منتظم، يعتقد أنها كانت تمثل مراكز عبادة للأنباط، ومن المحتمل أنه هذه المراكز كانت تمثل المرحلة المبكرة من استقرار الأنباط، ولكنهم مع كل التقدم الذي حصلوه في العمران لم يتخلوا عن هذه المراكز لقيمتها الدينية.
ب: العمارة السكنية:
تكونت عمارة الأنباط السكنية من فئات عدة، هي:
1- فئة القصور، كتلك التي في البتراء (الزنطور) ووادي موسى (الجاية) والذريح (القصر) وعبودة في النقب (فيلا كولت) وقصر إثرة (السعودية). وكانت هذه المساكن فارهة جدا لتفي بمتطلبات فئة ميسورة من المجتمع النبطي، ولعلها فئة كبار التجار وكبار رجال الدولة، وتتضمن هذه القصور العديد من الغرف المتعددة الاستخدامات، فمنها ما هي للجلوس وأخرى للنوم وأخرى للخدمات كالمطابخ والحمامات الفارهة وغرف التخزين، واشتملت هذه القصور على نظام مائي متطور يتناسب وفخامة البناء، وتعتبر البتراء أو وادي موسى أهم الأمكنة لهذا النوع من البناء.
2- المساكن الكبيرة (الفيلا): انتشرت هذه المساكن في جنوب الأردن في المدن والقرى النائية، وقد احتوت على الأقسام المختلفة، فقسم للاستقبال وآخر للخدمات وقسم خاص بالعائلة. وشبكة المياه الصحية أمر ضروري في كل المباني النبطية، وهي بالضرورة تمتلك بئرا أو أكثر لتخزين مياه الأمطار أو الينابيع. ومن هذه الآبار يتزود المسكن بمياه الشرب والاستخدام اليومي.
3- فئة مساكن المزرعة (الريفية): والمسكن عبارة عن مجمع كبير يضم وحدة سكنية ومخازن وإصطبلا وساحات متعددة، مثل قصر "كرنب" في النقب. ومن هذا النوع من المساكن ما وجد في الحميمة وكان مؤلفا من ثلاث أو أربع غرف حول ساحة مكشوفة، وقد زين بزخارف بسيطة، ويعكس حال الطبقة الريفية المتوسطة ماديا واجتماعيا.
4- فئة المساكن البسيطة: تشكل غالبية مساكن الناس، كالتي في الحميمة. وهي عبارة عن غرفتين أمامهما ساحة مكشوفة ويعكس هذا النوع مساكن المزارعين البسطاء وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية.
5- فئة المساكن ذات الصفة العامة: وهي التي كانت مصممة لخدمة الكهنة وزوار المعابد ، كالتي في وادي رم وفي الذريح.
ج- العمارة العامة:
ومباني مدينة البتراء خير مثال على هذا النوع من المباني باعتبارها المدينة – العاصمة التي تضم جميع أنماط المباني العامة إضافة للمباني الخاصة.
المباني العامة: وبنيت هذه المباني وفق مخطط المدينة العام كما يشاهد في البتراء، حيث الشارع الرئيس الذي تأثر بمخطط المدينة الرومانية. إذ أن الشارع يكاد يقسم المدينة إلى نصفين، وهو يحاذي الوادي مما اضطر المهندس النبطي لبناء بعض القنوات تحت أرض الشارع وكذلك العبارات والأقواس الحجرية التي ترتفع عن سيل الوادي في فصل الشتاء، وما يزال بالإمكان ملاحظة بعض آثار هذه المرافق في الشارع الرئيسي بعد الانتهاء من ساحة الخزنة.
1- المسرح: يقع على الشارع الرئيسي في البتراء وهو مقطوع في الصخر ومؤلف من أربعين صفا من المقاعد، بحيث يتسع لحوالي سبعة آلاف مشاهد، وأكملت المناطق المحفورة بالبناء العادي، خاصة أقبية المداخل، كما بنيت بالكامل خشبة المسرح وخلفيتها(64)، وفي منطقة سيعا بجنوب سوريا عثر على بقايا خرائب نبطية منها مسرح صغير ومعبد مخصص لذي الشرى وغير ذلك من نقوش وكسر زخرفية(65).
2- المسبح: يقع بجانب المعبد الكبير للبتراء من الجهة الشرقية، ويؤرخ هذا المسبح لنهاية القرن الأول قبل الميلاد(66).
3- الحمامات العامة: تقع جنوب البوابة الثلاثية في البتراء.
4- النافورة: تقع على الشارع المعمد في البتراء، ولم يبق منها إلا جزء قليل.
5- المخازن التجارية: وهي مبنية على الشارع المعمد في البتراء وتعود إلى القرن الأول الميلادي، مما يدل على وجود أسواق تجارية وسط المدينة.

د- العمارة الجنائزية:
اهتم الأنباط اهتماما كبيرا بمقابرهم مما انعكس في عمارتها التي حشد فيها الكثير من الفنون المعمارية والفنية ومما يوحي باهتمام الأنباط "بالحياة الآخرة" بالنسبة للأموات بخلاف ما كان شائعا عنهم من خلال ما قاله سترابو عن عدم اهتمامهم بجثث موتاهم، حينما قال أن الأنباط ينظرون للميت نظرتهم إلى النفايات، ولذلك فهم يدفنون موتاهم حتى ملوكهم بجانب أكوام النفايات(67)، غير أن الظاهرة الأبرز في حضارة الأنباط - أو بالأحرى في عمارتهم - كانت المقابر ثم المعابد الدينية، والظاهرة البارزة في هذه المقابر إضافة إلى معمارها الرائع والمتنوع هي اشتمالها على عبارات اللعنات والتحذيرات التي تحرم تدنيس المقبرة أو فتحها أو استخدامها بغير وجه حق(68)، ومن المحتمل أن هذا الاهتمام جاء متأخرا أو سبقته مرحلة أخرى هي التي أشار إليها "استرابو" من عدم اهتمام الأنباط بمقابر موتاهم. تتمثل هذه العمارة بالواجهات الصخرية المنحوتة في البتراء والحجر وكذلك مغائر شعيب، والعمارة المبنية بالحجارة المقطوعة من الصخر، ويظهر هذا النوع من العمارة براعة الأنباط المعمارية في الأخذ ببعض المظاهر المعمارية لدى الأمم التي تعاملوا معها من غربية وشرقية بأسلوب يتفق مع مفاهيمهم التراثية، فأنتجوا إرثا حضاريا ومعماريا متميزا.

ويمكن تقسيم هذا النمط من العمارة إلى قسمين:

أ – عمارة المقابر المنحوتة: وهي أكثر ما أشتهر عن الأنباط، وقد أجريت عليها العديد من الدراسات المتخصصة أظهرت " أن المهندس النبطي جمع بين التأثير المصري والأشوري والفارسي مع الذوق النبطي(69)، ويمكن مشاهدة الكثير من هذه القبور في أماكن مختلفة من البتراء وما حولها وخصوصا في الطريق قبل الوصول إلى السيق، ومن قبور البتراء الشهيرة: قبر "المسلات" وقبر "الجرة" و "القبر ذو النوافذ" ويحار المرء في ضخامتها وفنونها الجميلة حتى ليعتقد أنها واجهات قصور سكنية، وثمة روائع فنية يمكن ملاحظتها في هذه القبور وكذلك قبور مدينة الحجر في الأراضي السعودية.
ب – المقابر المبنية بالحجر المقطوع: وهذا النمط من المقابر يظهر تنوعا يدلل على تطور عمران القبور، فمنها نمط جماعي على شكل بئر في عمق الأرض، ويتكون البئر من عدد من الطاقات أو الحجرات المخصصة للدفن، وتأتي هذه الحفرات بعضها فوق بعض أي على شكل طبقات، وسميت هذه الحجرات أو الطاقات "جوحا"، ويمكن أن يقسم بين عدد من المالكين بواسطة عدد "الجوحيات" أو "الجوحيم"، وثمة تقسيم أخر يعتمد على الياردات، أو بالحصص "الفلج"(70).
أما بخصوص القبور المبنية، فهي غالبا حفرات بني فيها الحجر الجيري الجيد التشذيب، وهو غائر أو مطمور في الأرض كأنه البئر، ومنها ما هو فردي ومنها ما هو جماعي، والجماعي يتألف من عدد من الحجرات في الجوانب، وهذه القبور الفردية منها والجماعية تتميز بدقة البناء وغطيت من الأعلى بعدد من البلاطات الحجرية(71).
أما بخصوص الفنون والزخارف للمقابر، فبقائها دون أية زخرفة هو الطابع العام، كذلك فإن الرموز المصاحبة لهذه الأضرحة تكاد لا تتغير فهي الصقر والجرة والقناع الآدمي، وتشذ هنا "الخزنة"، (هذا إذا كانت ضريحا في الواقع)، وفي داخل غرف الضريح تكاد الزخرفة تكون معدومة(72)، مما يعكس أيضا روح البساطة وربما نظرة الأنباط لمفهوم الدنيا الآخرة.
ثانيا- السمات العامة للعمارة النبطية:
أ- من حيث المواد المستخدمة في البناء:
استخدم الأنباط العديد من المواد حسب توفرها في البيئة، فبالإضافة إلى نحت الصخور الرملية والكلسية وجعلها مساكن ومنشآت وقبور وتماثيل وغيرها، فقد تم استخدام كل أنواع الحجارة في البناء النبطي حيثما فرضت البيئة ذلك، ففي الصحراء مثلا، جرى استخدام الحجارة البازلتية السوداء لمختلف أغراض البناء، ويظهر ذلك في آثار "أم الجمال" وفي السويداء وصلخد، وفي "إيلة" وأبنية جبال الشراة عموما، كخربة الذريح جرى استخدام الحجارة الكلسية الأقل قساوة من الحجر البازلتي ولكنها أصعب في التعامل من حجارة البتراء ومدائن صالح الرملية، ومع ذلك فإن بوسع المرء ملاحظة استخدام العديد من أنواع الحجارة في البناء الواحد، ففي معبد القصر – الربة، بني البناء إجمالا بالحجر الكلسي الذي لا بد أنه قطع من أماكن قريبة، وثمة أحجار بطول مترين أو يزيد وبعرض ثمانين سنتيمترا وسماكة 40 سنتيمترا تقريبا، وتجد في الوقت نفسه حجارة بازلتية بحجم 80× 20×40 أو أكثر أو أقل، ويبدو أن هذه الحجارة جلبت من شمال المنطقة التي تنتشر فيها الحجارة البركانية بالقرب من وادي الموجب.
وبالنسبة للحجارة أيضا فقد استخدمت أشكال مختلفة من الحجارة في البناء كما في معبد القصر- الربة، فبالإضافة إلى الحجارة المنقوشة والمهندسة بعناية بأشكال مختلفة، فإن الحجارة الغشيمة والصغيرة غالبا ما كانت تستخدم بين صفين من الحجارة المهندسة، ومن الواضح ايضا أن الملاط الذي يعتمد على التربة المحلية كان يستخدم "مونة" بين صفوف الحجارة الكبيرة، ومن شأن هذا تحسين قدرة الجدران على العزل الحراري إضافة إلى عزل الرطوبة والأمطار.
وفي معظم الأبنية الكبيرة كالمعابد استخدمت فنون معمارية كثيرة منها الأقواس الكبيرة والصغيرة التي تعتمد على تراص الحجارة لا على المونة أو الدعم الأرضي بالأعمدة، وفي بعض الحالات جرى سقف بعض الأبنية أو الحجرات بصفوف متلاصقة من هذه الحجارة قبل أن تجري تغطيتها بالملاط الطيني من فوقها لدرء أمطار الشتاء ولعزل حرارة الصيف أيضا.
وبخصوص الملاط، استخدم الأنباط الملاط في معظم أبنيتهم المهمة أو الكبيرة، وليس لدينا تحديد دقيق لمكونات هذا الملاط، لكنهم بالتأكيد عرفوا الملاط الذي يتكون من الشيد أو الجير، وكان بالإمكان تحضير هذا الجير من خلال حرق الحجارة بواسط "اللتونات" جمع "لتون"، وثمة تقديرات بأن الأنباط عرفوا هذه العملية في أوقات مبكرة، وتشهد التوراة على أن "مملكة عمون مثلا" كانت تصدر الجير ولذلك جاء وفد من العبرانيين يطلب قدرا منه لإعادة بناء الهيكل في الفترة الفارسية، أي أواسط القرن السادس قبل الميلاد. خلطة المونة هذه يبدو أنها اعتمدت على الجير بالدرجة الأولى ولذلك ما تزال بقايا هذا الملاط متماسكة في الكثير من الأبنية ومنها قصر – الربة. وبالإمكان أيضا مشاهدة هذه المونة التي استخدمت في قصارة بعض الأبنية والآبار والخزانات المائية كخزان "الحميمة"، وثمة شواهد كثيرة من المساكن النبطية في النقب تدل على متانة بنائها ومتانتها، إذ أنها بقيت صالحة ومسكونة حتى القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وأضيف عليها صلبان مثل تلك التي عثر عليها في كرنب، حيث نقش أكثر من صليب على عضادات الأبواب وبعض الأسكفة(73).
وبالنسبة للمواد الأخرى المساعدة، فقد استخدمت الأخشاب في التسقيف وصناعة الأبواب والشبابيك، ويبدو ذلك في منطقة وادي موسى والبتراء بسبب توفر الأشجار في المنطقة(74)، وثمة بعض الإشارات على أن جبال الشراة كانت غنية بالأحراج إبان مرحلة الأدوميين والأنباط من بعدهم، ويدل على ذلك وجود العديد من الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور التي كانت تفضل العيش في هذه الأحراج أو الغابات. وتم الاستدلال على ذلك بالصور التي ظهرت في بعض الزخارف المعمارية. وعرف الأنباط استخداما آخر للأخشاب في البناء من شأنه تعزيز صمود الجدران أمام الهزات الأرضية، حيث عثر على بقايا تلك الأخشاب في بعض الأبنية منها بناء "قصر البنت" في البتراء.

أنماط متعددة من التيجان النبطية
المصدر: The Architecture of Petra,1990,Newyork-oxford Mckenize.,Judith,

ب- من حيث الفنون المعمارية:
من المتفق عليه بين دارسي العمران النبطي أن هذه العمارة عكست تأثير الحضارات المعاصرة بعد أن قام الأنباط "بتنقيتها" بعبقريتهم(75) وأول هذه التأثيرات يأتي من الحضارة الهلينية (اليونانية) ثم الرومانية، وبدرجة أقل التأثيرات الفارسية إلى حد ما والفرعونية، وهذا ما دعى المؤرخ الكبير فيليب حتى لأن يقول: "كانت حضارة الأنباط عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، سامية في ديانتها، ويونانية ورومانية في فنها وهندستها المعمارية، وهي لذلك حضارة مركبة، سطحية في مظهرها الهليني، ولكنها عربية في أساسها"(76) حيث انعكست هذه الآثار في الفنون المعمارية النبطية في المعابد والمنشآت العامة والقبور وأنماطها... ومع ذلك فإن روعة الفن المعماري النبطي تمثلت في قدرة الأنباط على إبداع طابعهم المميز بين كل هذه المؤثرات المعمارية والحضارية القوية التي هاجمتهم من الشرق والغرب والشمال، وقد استطاع الدارسون الأثريون تمييز البصمات النبطية الخالصة في فنونهم المعمارية، بل إن هذه الفنون بدأت تؤثر في الحضارات الأخرى ومنها الحضارة الرومانية التي أخذت عن الفن المعماري النبطي بعض ملامحها، ويبدو ذلك في اقتباس الرومان أشكالاً فنية من واقع البيئة النبطية كشكل أوراق الكرمة وعناقيد العنب وثمرة الرمان وغير ذلك.
أما بخصوص النحت في الصخر الذي ميز العمران النبطي فقد كان للمهندسين والنحاتين الأنباط طرق وأساليب مدروسة بدقة في تخطيط أعمالهم وتنفيذها، فبعد اختيارهم للسطح الصخري المناسب، يقوم النحاتون بتسوية هذا السطح ليصبح لوحا أو سطحا يوضع عليه الرسم بعد إجراء الحسابات والتعديلات اللازمة، ثم يبدأ بتنفيذ العمل من أعلى هذا السطح بعد تثبيت "سقالات – جمع سقالة" في الواجهة، ويمكن مشاهدة النقور الصغيرة في الصخور التي كانت ترتكز إليها هذه السقالات في معظم الواجهات المنحوتة في البتراء وبالأخص في واجهة "الخزنة". ومن المؤكد أن النحاتين كانوا على درجات أو تخصصات، فبعضهم يقوم بتسوية السطح ليأتي المهندسون لتخطيط المبنى وحساب قياساته، ثم ليأتي النحاتون الآخرون الأكثر مهارة لتنفيذ الأعمال الأساسية، ثم ليختص الفنانون منهم بنحت التماثيل والأشكال الفنية المعقدة التي لا تنفذ بغير الموهبة العالية والخبرة الطويلة في النحت، وقد عرفنا من خلال النقوش بعض أسماء المهن لهؤلاء منها البناء (بنيا) والنحات (فسلا)، والقصار، المهندس، الرسام..إلخ مما تناهى إلى معلوماتنا من خلال النقوش الكثيرة على واجهات القبور والأبنية، ويلاحظ أن النقوش التي وجدت على واجهات القبور كانت تشير إلى اسماء أصحابها دون ذكر اسماء عائلاتهم أو عشائرهم، وبدلا من ذلك فضل هؤلاء الإشارة إلى مهنهم التي تتعلق بالبناء والمعمار" كقولهم "هذا قبر البناء أو النحات فلان"، مما يشير إلى أن المهن المتعلقة بأعمال البناء والنحت كانت نوعاً من المكانة الاجتماعية التي يفتخر بها صاحبها، ولقد ذهبت (هتون الفاسي 1993) إلى تفسير هذه الظاهرة بافتراضها أن الأنباط لم يعتمدوا الانتماء إلى قبائل وعائلات وحمائل، وهذا – برأينا – غير صحيح وسنناقشه في الفصل المتعلق بالمجتمع النبطي ومؤسساته الاجتماعية.

مراجع الفصل الثاني وهوامشه:
1- وليم ليبي وفرانكلين هوسكنر، 2005،183
2- (Hammond.p.c.Nabataens,p6)
3- Lawler ,Endrew,Reconstracting Petra ,Smithsonian,Jan 2007,vol,38 Issue 3,p42-49.8p.8c.
4- المصدر السابق نفسه.
5 -محمد خطاطبة 2006، 139
6- وليم ليبي وفرانكلين هوسكنر ،177.
7- هاردنج 1971، 159
8- إحسان عباس2007، 88
9 -محمد خطاطبة 2006، 113
10 - صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب، ج 1، بغداد، 1959.
11- الدباغ: ج1، ق1، ، 614
12- خيرية عمرو، التاريخ الاجتماعي لمنطقة البتراء وجوارها، تحرير: باسم الطويسي، مركز الأنباط للدراسات – البتراء، 2003
13 - خيرية عمرو، المصدر نفسه.
14 - محمد خطاطبة 2006، 152
15 - Glueck.N,1940,p
16 - هاردنج 2006، 181
17 - هاردنج 1971، 18
18- هاردنج 1971، 183
19- Diodorus , 3,43,4
20- Strabo 16,4.4.18
21 –محمد خطاطبة2006، 160
22 - Browning, Lain ,Petra,London,4th edition,1944. Chatto & Windus ltd-London)
23- محمد الخطاطبة2006، 48
24 - فوزي زيادين ،2005 ، 105
25 - فوزي الخطبا، الطفيلة: الانسان والتاريخ ،1985، 186-187
26 – محمد خطاطبة، 2006، 9 عن (ابراهيم والطلحي، 1988، 57- 58)
27 - هتون الفاسي، 1993،200
28 - سليمان الذيب، 1998،6
29 - إحسان عباس،2007، 84
30 - Hammond,Nabataens-1973,p 66
31 – هتون الفاسي، 1993،101-102
32- An introduction to: Saudi Arabian ntiquities,Department of Antiquities and Museum.1975 A.D) ص 128
33 - جارت بوردن، روبرت ميللر، كريستوفر ايرنز " التنقيبات الأولية في تيماء"، أطلال، عدد 4، 1400 ه م 1980 م. ص 81-127
34 -محمد خطاطبة 2006، 167
35 - إحسان عباس2007، 80- 85.
36 - Starcky,op.cit.S.D.B,PP 904
37- خليل المقداد، حوران عبرالتاريخ، ط 1( دار حوران – دمشق)، 1966. ص 46
38 - إحسان عباس 2007، 85
39 - موقع www.swaidao.cm
40 - موقع www.swaidao.cm
41 - احمد العجلوني، 2002،216
42 - موقعwww.swaidao.cm
43 - الدباغ، ج 1، ق1،122- 125
44 - جيمس هدسون، جغرافية فلسطين المحتلة، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية – بيروت، 1969 ،22
45 - جواد علي، ج 3،16-17
46 - إحسان عباس 2007، 77
47 -محمد خطاطبة 2007، 181
48 -. Negev , 1997;63
49 - خير نمر ياسين، 1994، 55-60
50 - جواد علي، ج5،،7
51 – المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
52 - Lawler,tndrew , 2007, 3,p42-49.8p.8c)
53 - زيدان المحيسن 2007، 39-40.
54 - وليد جابر أبورائد، الآثار لنبطية في السويداء على ضوء المكتشفات الأثرية الجديدة، موقع السويداء Swaida.com www.
55 - خيرية عمرو ، المصدر نفسه.
56 – Swaida.com
57 - يونس شديفات،1944،50
58 - زيدان كفافي، 2006،276
59 - زيدان الكفافي، 2006،281
60 - جل هذه المعطيات تم اقتباسها من دراسة: الخطاطبة، 2006 332-336
61 - Hammond ,P.C " The tempge of the winged lions" PETRA rediscoverd ,Lost city of the Nabataeans,Editor,pp.223-229.
62- إحسان عباس ،2007، 88
63 - Hammond ,1975: 21
64 - Hammond , 1973;52
65 - إحسان عباس 2007، 84
66 -Bedal ,L.A." Apool Complex in Petra,s Centre " BASOR,324,PP,23-41.2001)
67 - Strabo ,16:4.20
68 - يونس شديفات، 1994 ،61
69 -محمد خطاطبة، 2006،107
70 - احمد العجلوني، 2002،225
71 - المحيسن، 1996: 186- 187
72 - إحسان عباس، 2007 ، 142
73 - Negev,1988, 122m126
74 -محمد خطاطبة، 2006، 166
75 - Gluck,N.Deities and Dolphins,p 74
76 - فيليب حتى، تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، ج1، ترجمة: ادوارد جرجي وجبرائيل جبور، بيروت، 1949. ص 426.