سبحاني ما أعظم شاني بقلم:محمد محمود عمارة
تاريخ النشر : 2010-06-25
سبحاني ما أعظم شاني  بقلم:محمد محمود عمارة


في القرن الرابع الهجري ، وقف رجل يصرخ في أتباعه قائلاً: - أنا الحق
و كان يبدأ رسائله لهم بقوله : - من الهو هو رب الأرباب ، المتصور في كل صورة إلى عبده فلان...
بهذه المقولات الشنيعة أفتى علماء عصره بكفره و وجوب قتله ، فقُتل صلباً و أُحرقت جثته بالنار و ذر رمادها بنهر دجلة.

لم تكن تلك العبارات التي رددها ذلك الرجل ، و اسمه ( الحلاج ) ، الأولى من نوعها فقد سبقه كثيرون ، و رددها من بعده كثيرون ، فقد رُوي أن أبا يزيد البسطامي قال :
- إن الله رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني الى آحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك. فتكون أنت ذلك، ولا اكون انا هنا.
وقال: خرجت من الحق الى الحق حتى صاحوا مني فيّ! يا من أنا أنت. إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. سبحاني ما أعظم شاني

وقال آخر: - ليس في جبتي سوى الله.
من هذه الهرطقة وقف الفقهاء و الفلاسفة على طرفي نقيض ، فبينما يرى العلماء و الفقهاء أن ترديد مثل تلك العبارات كفر صريح يستوجب توبة صاحبه ، أو قتله إذا لم يفعل ، يرى الفلاسفة أن ذلك ليس كفراً و لا ادعاءاً للإلوهية ، إنما هي حالة من التوحد مع الله ؛ لذلك يعذرون أمثال هؤلاء و يعتبرون ما ينطقون به تجليات ربانية أنطقها الله على ألسنتهم ، وقد أفردوا لتلك الظاهرة في كتبهم مباحثاً سموها " الفناء و الاتحاد".
و الفناء و الاتحاد ليستا نظريتين إسلاميتين ، لكنهما تعودان إلى أصول وثنية ، تُرجمت ثم دُست بين ثنايا الفكر الإسلامي دساً ، و نُسبت إليه و هو منها براء، بل إنها كانت أحد العوامل التي أساءت إلى الفكر الصوفي. فالفلسفة اليونانية و الهندوسية والبوذية هم أصل هذه الأفكار.

بين عامي 205 و 270 م. عاش في الأسكندرية فيلسوف يوناني وثني اسمه أفلوطين نادى بنظرية ، لم يكن له السبق فيها ، هي نظرية الفيوض ، التي أخذها عنها الفلاسفة المسلمون فيما بعد و طوروها إلى نظرية "الفيض الإلهى" ، ملخص نظرية الفيوض أن أفلوطين يرى أن قوام العالم يقوم على ثلاث ركائز: النفس والعقل والواحد
وتلعب النفس همزة الوصل بين العالم العقلي والعالم الحسي ، وعلى هذا فترتيب الركائز الثلاث عنده تكون كالتالي: في القمة نجد الواحد وعنه يفيض العقل وعن العقل تفيض النفس. وكل مرتبة من هذه المراتب تحتوي جميع الكائنات. فالواحد يحوي كل شيء من دون تمييز، والعقل يحوي جميع الكائنات لكنها متميزة متضامنة. أما في النفس فإن هذه الكائنات تتميز حتى إذا ما وصلت إلى العالم المحسوس انفصلت وانتشرت.
فالنفس عنده واحدة في جوهرها و تعدد الأنفس لا يعني خلق أنفس جديدة ، وبعد حلول النفس في الجسد تظهر بعض القوى كالذاكرة والإحساس والإدراك، وهي جميعاً دليل ضعف لأن هذه القوى تحد من حياة النفس الروحية ؛ لأن النفس تعيش خارجاً عن الزمان وبعيدة عن المحسوسات ولأن "التفكير معدوم في الأزل".
وبعد أن تعود النفس إلى ذاتها، بعد أن تكون قد منحت العالم المحسوس نظاماً وحياة، ترقى إلى مُبدئها وهو العقل أي الأقنوم الثاني في الثالوث الأفلوطيني. ويرى أفلوطين أن العقل لا يكون عقلاً إلا إذا تلقى من الواحد نوراً ووجد في الواحد ما يمكّنه من اكتشاف النِّسب الثابتة وفهمها.

هذا المذهب نجده عند بعض الفلاسفة اليونانيين السابقين على سقراط كانكسمندر ومن بعده اسكينوفان الأيلي الذي يرى أن الله هو الموجود الثابت السرمدي وقال بوحدة كل شيء وسماها الله ، وتلميذه برمنيدس الأيلي الذي يقرر أن الوجود ثابت لا يتغير ولا يفنى ويبقى دائماً هو هو، والعقل والوجود فيه يتحدان. ثم جاء الرواقيون فقالوا إن الوجود واحد يتجلى على شكل وحدة فردية إلهية ويتجلى بالكثرة وهي العالم.

و في الهندوسية استخلص البراهمة مذهب (الفيدانتا ) الذي يتجلى فيه مذهب وحدة الوجود ، وخلاصة المذهب أن " الإتمان " هو الموجود الفردي الأبدي الذي لا نهاية له ( أي الإله الخالق) ، صالح لأن يأخذ صورة كل عالم بنفسه ، و هو السبب الأول الموجد للوجود ، والعالم مادة أوجدها من ذاته ( أي الخلق) ، فكل الكائنات نشأت منه و إليه تعود ، مثلها كمثل الشرر المتصاعد من موقد تنبعث منه و إليه تعود ، و هو يسكن قلب الإنسان و يظهر هنالك بمظهر المحدود ، لكن الإنسان يستطيع أن يتحقق إذا تأمل تأملاً مركزياً أن "إتمانه" هو الإتمان العام نفسه ، و يستطيع أن ينضم إلى الوحدة العامة ، ويدرك أنه لا يوجد إلا إتمان واحد و إنه هو ذلك الإتمان ، وعلى ذلك فالمحدود (الإنسان ) منبعث من غير المحدود ( الإله ) و هو صالح أن يعود إلى المصدر الذي انبعث عنه ، و هذا العود هو الحياة الدينية.
و يؤمن البوذيون بمرحلة النرفانا و هي حالة التخلص أو التحرر من جميع الشهوات و الآلام ليصل الإنسان إلى حالة يفقد فيها وعيه وشعوره بالحياة ، لأن نفسه تتخلص أثناءها من الإحساس بالألم الذي يسببه ارتباط النفس بالجسد.
الفرق بين النرفانا عند البوذيين و والفناء الاتحاد عند مدعي التصوف هو نقطة النهاية ، فالنهاية في البوذية النرفانا هي الفراغ من كل شئ ، بينما الفناء عند الصوفية يتبعه الاتحاد بالله.
و يُعرف التراث الصوفي اليهودي بـ" القبالاه " و يدور في إطار حلولي يصدر عن الإيمان بالوحدانية الكونية حيث يحل الإله في الطبيعة والإنسان والتاريخ و يتوحد معها و يصبح لا وجود له خارجها ، فيختزل الواقع بأسره إلى مستوى واحد يخضع لقانون واحد ، ومن ثم يستطيع من يعرف هذا القانون الغنوصي ( أي الباطني ) أن يتحكم في العالم بأسره ، و هذا هو هدف المتصوف في هذا الإطار ، فبدلاً من التدريبات الصوفية التي يكبح بها الإنسان جسده و يطوع لها ذاته ، يأخذ التصوف شكل التفسيرات الباطنية وصنع التمائم والتعاويذ و البحث عن الصيغ التي يمكن من خلالها التأثير في الإرادة الإلهية ، ومن ثم التحكم في الكون. إذاً الهدف من التصوف عند هؤلاء هو الوصول إلى الإله و الالتصاق به ، و التوحد معه و الفناء فيه ليصبح المتصوف عارفاً بالأسرار الإلهية ، ومن ثمّ يصبح هو نفسه إلهاً أو شبيهاً بالإله.
و الهدف في التصوف النصراني هو الفناء في الذات الإلهية و الثمرة هي : السكينة حسب اعتقادهم.