بائع الطين الجزء الأخير بقلم فايز الأشتر
تاريخ النشر : 2010-06-15
بائع الطين الجزء الأخير بقلم فايز الأشتر


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا الجزء الأخير من روايتي بائع الطين،أتمن أن تكون قد نالت

إعجابكم،وأشكر كل المتابعين للرواية،ولكن عندي رجاء،للذين

ينقلون الرواية إلى غير مواقع،أن يضعوا اسمي عليها،لأني بذلت جهداً

كبيراً في كتابتها،وتذكروا قولى الله تعالى (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)


-15-

كانت فرحتي كبيرة جداً،لأنني سوف أرى فلوري في منتصف الأسبوع،فأنا لم أعد قادراً

على الإنتظار حتى تأتي العطلة الأسبوعية،وكان قلبي يخفق بلهفة للقائها،وقبل

أن أصل إلى البيت،أشتريت باقة من الورود الحمراء الجميلة،كي أعبر لها عن حبي

وكنت أمشي وأنا أشعر بقدماي ترقصان من السعادة،سوف نتزوج،وسيكون لنا

بيت يجمعنا سوية،نملئه بالدفء والحب والحنان،وسوف أزرع لها الورود في كل

مكان،وسوف أنظر بعينيها الجميلتين،إنها حبي الجميل،وردتي

الرائعة الجميلة "فلوري"

لم أطرق على الباب،فتحته بمفتاحي كي تكون مفاجئة لفلوري عندما تراني.

دخلت،وأغلقت ورائي الباب،سمعت صوتها الحنون تنادي من داخل الغرفة:

- عمتي..لماذا عدت بسرعة يا عمتي!

فلم أتكلم وقررت أن أدخل إلى الغرفة لتتفاجئ بي،وتأخذني بالأحضان كعادتها.

ما رأيت لم يكن ماعرفت

وما سمعت لم يكن مافهمت

وما هزني أحزنني

والأرض لم تحملني

والجدران تصعقني

هل أنا..أنا!

أم أنا لست مني

وأنت يا قلبُ

ماذا ترتجي!

هل بنيت قصراً بين الغيوم

وحبيبتك ألا تراها في أحضانه تخون

والورود التي أحملها

تمنيت لو حولتها

نار وسموم.

خرجت مسرعاً من الغرفة،والسواد يغشي عيناي،شعرت بالغثيان،ودارت بي الأرض

ولكني استطعت سحب جسدي المتهالك من الصدمة،والوصول إلى خارج البيت،حيث

ارتميت بجانب الباب،لا أرى أمامي سوى السواد.

اقتربت مني فلوري،وقد سترت جسدها بغطاء السرير،ولمست رأسي بأصابعها،تحاول

تهدئتي،فنفرت منها،وأبعدت يدها عني بسرعة،ولم أجد بين الكلمات التي تعلمتها

كلمة تعبر عن الألم الذي بداخلي،فأكتفيت أن أقول لها..دعيني واذهبي بعيداً

عني،فقالت لي،وكأن شيئاً لم يكن:

- حبيبي فارس..لا تحزن أرجوك..إنه صديقي القديم مايكل،وهو يأتي مرة في السنة

من امريكا،ولا يمكث سوى يوم أو يومين،ويغادر،أرجوك تفهم الوضع،فهو يترك لي

مبلغ كبير من المال عندما يأتي،وأنا أسفة،لم أعلم بقدومك اليوم،ولو كنت

أعرف،لما كنت استقبلته هنا،أرجوك حبيبي فارس لا تحزن،أوعدك في المرة القادمة

لن تراه عندما يأتي.

كانت فلوري تتكلم،ولا تعلم بأن كل كلمة تقولها لتخفف عني،تقطع

شراييني من الصميم،كانت تهز أعماقي،تسحق كبريائي وكرامتي،تحرق قلبي

فتجعله رماد منثور.

يااااااا أمي..لا أريدك هذه المرة أن تأتي لتري ابنك،فهذا فسق وفجور

ياااااااااا نساء بلادي..ياهنادي،يا أمينة،يااااااا كل فتاة قُتلت حزينة

من أجل ابتسامة بريئة،اسمعن فلوري ماذا تقول.

جمعت قواي المتبقية من بعد الصدمة التي مزقت رجولتي،وجعلتها أشلاء مبعثرة.

حاولت فتح باب المصعد ولكنه كان قد تعطل،وعندما أردت نزول الدرج،كانت

العمة ماريا قد وصلت وهي تلهث من التعب،ولم أقول لها شيء،فقد فهمت كل

شيء من نظرة واحدة،فراحت تصرخ وتشتم فلوري،وتلعن القرابة التي جمعتها بها

وكانت فلوري تردد الأعتذار،وتحاول سحبي من يدي كي لا أذهب،ولكن....ماذا

أقول لك يافلوري،إنك لا تعلمين أن الدم الذي يجري في عروقي هو دم عربي

دم ينتفض مثل حمم البراكين،دم لا يرضى بالمذلة،ولا يقبل بالهوان.

نزلت الدرج،وقدماي تحملان جسدي المنهك بصعوبة،وصراخ العمة ماريا وهي

تشتم فلوري،يصل إلى مسامعي حتى خرجت من المبنى.

أوقفت سيارة أجرة،وطلبت منه بلغتي الضعيفة،أن يأخذني إلى أقرب مكتب للطيران

كي أحجز مقعداً بالطائرة،وكان حظي سيء،فالطائرة تغادر بعد ثلاثة أيام.

حجزت مقعداً،ثم تمشيت بالشوارع،وخيال فلوري،وكلامها لا يفارق تفكيري،كنت أريد

أن أهرب بسرعة من هذا البلد،حتى أني نسيت الحارس وزوجته،فخطر لي أن

أقضي باقي الوقت عندهم حتى يحين موعد الطائرة،ولكني فوجئت بدورية من الشرطة

تسير بأتجاهي،وقد شدهم إلي ملامحي العربية.

اقترب أحد الشرطة مني وطلب جواز سفري،فأخرجته من جيبي،وقدمته له.

نظر إلى الجواز ثم ابتسم بسخرية وقال:

- مدة الأقامة منتهية،منذ زمن طويل،فلماذا لم تغادر،أو تمدد إقامتك?

- سوف أغادر الأن،وأعطيته تذكرة الطيران.

نظر إليها وقال بسخرية وتهكم:

- هذه التذكرة لا تعني لي شيئاً،فماالذي يضمن لنا بأنك سوف تغادر البلد،أنا

أسف يجب أن تذهب معنا إلى السجن،وعندما يحين موعد الطائرة سوف نأتي بك

إلى المطار،كي نضمن بأنك لن تهرب.

بسبب الألم الذي تركته فلوري في قلبي،لم أقاوم،وذهبت معهم إلى مركز الشرطة

ولكني لم أبقى كثيراً،فقد أتت شرطة الهجرة والجوازات،وأخذوني معهم.

كانت سيارة الشرطة تسير بسرعة وهي تشق طريقها خارجة من المدينة،فسألت

الشرطي باستغراب:

- إلى أين تأخذوني

- إلى المطار،كي تسافر

- ولكن موعد الطائرة بعد ثلاثة أيام

- أعرف ولكن لا نستطيع أن نضعك بالسجن فأنت لست مجرم

- فماذا أفعل? هل سنقيم في مبنى المطار ثلاثة أيام

- ضحك الشرطي بصوت عال،وظننته يضحك من لغتي الضعيفة وكلامي المبعثر وقال:

- ستقيم لوحدك،ولكن ليس في مبنى المطار،فهناك مبنى أُعدَ من أجل المخالفين

مثلك،والذين لا يرغبون بالمغادرة،فنحن لا نستطيع إرغامهم على السفر

فنحضرهم إلى هنا حتى ننظر بأمرهم.

وصلنا إلى مبنى ليس بعيداً عن المطار،وسلمني الشرطي الذي معي إلى شرطة المبنى

ثم غادر.

رحب الشرطي بي،ولم يكن يرتدي لباس الشرطة،وقال:

أهلاً بك،سوف تقيم عندنا هنا، ريثما تسافر،وهذا المبنى بمثابة فندق،وليس سجناً

ولكن غير مسموح لك بالمغادرة،وجواز سفرك سيبقى معنا حتى يحين موعد الطائرة

فأرجو أن تعجبك الأقامة عندنا،والأن سوف أدلك على مكان نومك.

مشيت خلفه وهو يعرفني على أقسام المبنى،وكان عبارة عن غرف كثيرة،لم أعرف

منها سوى غرفة كبيرة للنوم،ينام فيها الجميع،والمطبخ الكبير،والساحة التي

تتوسط المبنى من الداخل.

تركني الشرطي بعد أن أوصلني إلى الساحة وقال لي تعرف على رفاقك بنفسك.

كانت العيون كلها تتجه نحوي ليتعرفوا على القادم الجديد،فقد كانت الساحة

المتنفس الوحيد للنزلاء،يقضون فيها معظم وقتهم في النهار،وفي

الليل يتسامرون في غرفة النوم الكبيرة كُل منهم على سريره.

وكان النزلاء من جنسيات مختلفة،وأكثرهم من دول العالم الثالث،الذين هاجروا

طمعاً في حياة أفضل.

لم أعرف بأي طريقة أتعرف عليهم،فقد أكتفيت بتحريك يدي مشيراً لهم بالسلام

وجلست على مقعد كان بجانبي،وسرعان ماعادا النزلاء إلى مشاغلهم وتنقلهم من

زاوية لإخرى في هذه الساحة الصغيرة.

كان كل شيء غريب بالنسبة لي،وكنت أتساءل في نفسي،هل يوجد عربي بينهم

أتكلم معه،وأردت أن أقف وأنادي بصوت عال،هل بينكم عربي! ولكني

فضلت أن أنتظر قليلاً،فربما يتكلم أحدهم بالعربية فأعرفه.

مضى أكثر من نصف ساعة ولم يكلمني أحد،وفجأة دخل شخص وهو يضع على رأسه

منشفة،واعتقد إنه خرج من الحمام،وعندما رفع المنشفة عن رأسه خفق قلبي

وصرخت بأعلى صوتي...أيمن...أيمن....أيمن

لم أصدق ما تراه عيناي،ركضت نحو أيمن،وأخذته بالأحضان،شعرت بفرحة كبيرة

تغمرني،وأيمن كان يبكي كطفل صغير.

جلسنا على أحد المقاعد،ورحت أقص على أيمن ما جرى معي منذ أن أفترقنا في

السوق حتى الأن،ثم طلبت منه أن يخبرني،ماذا جرى معه! وماالذي أوصله إلى هنا.

تنهد كعادته وقال:

-عندما هربنا من الشرطة في السوق،لم أستطيع الفرار،فقد وقعت بين أيديهم

وطلبوا رؤية جواز سفري،ولسوء حظي كانت إقامتي منتهيه،ويجب علي تمديدها

ولكن يلزمني مساعدة روكسانا لكي تأتي بوثائق تثبت بأني أقيم في بيتها.

- وهل جاءت روكسانا بالوثائق!

- كلا،فقد ذهب إليها أحد الموظفين في الجوازات،ليتأكد إذا ما كنت أقيم في

بيتها،ولكنها طردته،وقالت له:لا أعرف شخصاً بهذا الإسم.

لم أخبر أيمن عن الشاب الذي رأيته مع روكسانا،كي لا أسبب له الإحراج أمامي

ولكني حاولت معرفة ما بداخله فسألته:

- وماذا تريد أن تفعل الإن?

_ لقد طلبت اللجوء الإنساني،وسوف أخرج من هنا،ثم أبحث عن عمل.

- أنا سوف أسافر ولن أبقى دقيقة واحدة في هذا البلد.

طال حديثنا وقاربت الساعة على الواحدة بعد منتصف الليل،ولم يبقى في

الساحة سوانا،فتركنا مكاننا وذهبنا للنوم.

مر الوقت بسرعة،وحان موعد الطائرة،فودعت أيمن،الذي أراد البقاء،ليواجه

المهانة والذل، وطلب مني أن أخبر أهله بأن وضعه جيد ولكن يلزمه بعض

المال ليكمل مشروعه.

ذهبت إلى المطار برفقة أحد الشرطة،ولم يكن بعيداً عن المبنى،ثم توجهت إلى

الطائرة مع المسافرين،بعد أن وضع الشرطي على جوازي تأشيرة الخروج.

كان قلبي يخفق فرحاً وأنا أغادر الطائرة متجهاً إلى القرية،وكانت الساعة

تقارب على الواحدة بعد الظهر،والمزارعين يأخذون قسط من الرحة تحت ظلال

الأشجار.

كنت أمشي على طريق القرية،بعد أن نزلت من الحافلة قبل وصولها إلى ساحة

القرية،كي أتمشى قليلاً على الطريق الزراعي،وكان حلقي قد جف من العطش

فطلبت من إحدى الفتيات التي تعمل بالحقل بجانب الطريق،قليلاً من الماء.

ركضت مسرعة إلى وعاء من الفخار،يحفظ الماء بارداً،ثم ملئت كأس من الألمنيوم

بالماء وعادت تركض،لتقدمه لي.

نظرت إلى عيونها السوداء التي تلمع سحراً وجمالاً،وسألتها:

- ما اسمك

- اسمي سميرة

- اسم جميل وصاحبته أجمل

- تركت الماء بيدي وراحت تركض بين الأشجار،لتخبئ وجهها من الخجل.

وصلت إلى البيت،وكالعادة كان باب التوتة الكبير مفتوح،وأبي يُنظف الأصطبل

وأمي تخلط الطين مع التبن،لكي تعيد بناء الموقد.

مددت يدي من خلف أمي إلى الطين ورحت أحركه بيدي.

لم يخرج صوت أمي،بسبب المفاجئة،فقط دموعها كانت تسيل،ووضعت يداها على

وجهي وكأنها تتأكد مني،ثم مسحت الطين العالق على يديها بثيابها، وضمتني إليها

وصرخت..ابو فارس..ابو فارس..يااااا بو فارس..لقد عاد فارس.