كتب / حسام خضرة
جلست قليلاً أتأمل الواقع الذي نعيش, وجدت أننا في زمن غير ذاك الزمن, ودنيا غير التي كانت, فالناظر إلى فلسطين على مر التاريخ يجد الأمور قد سارت بعكس ما كانت.
كان الحب يملأها, والطيبة تغمر أهلها, والود ظاهر في ضواحيها.
يروي لي والدي بعضاً مما كان فيقول, كان الفرح واحد, وكان الحزن أيضا واحد, هدوء يسود جميع المنازل المتواضعة التي بنيت بعرق جبين الناس البسطاء.
كنا نذهب حيث نريد في أي وقت نريد, كنت طفلاً حينها ولكن, كان والدي ينظر إلى كل يوم ليرى كم كبرت, ليتحقق حلمه الذي يبني بأن أصبح طبيباً أقدم خدماتي الإنسانية إلى شعبي.
نظرت إلى نفسي قليلاً وعاودت النظر إلى ثقب الباب لأرى الحياة واقعاً كما يروي والدي, الذي أكمل قائلاً, كان شباب مدينتنا يسعون إلى السفر خارج فلسطين لرفع اسمها عالياً, فمنهم من كان في الخليج, والبعض في أوروبا, وجميعهم كانوا على قدر من العلم والكفاءة.
يتأمل والدي قليلاً ثم يتابع, كان الاحترام سائداً بين الناس, لا بغض ولا كراهية, لا حسد ولا غيرة فكلنا سواسية, الغني منا يعطف على الفقير, الصغير يحترم الكبير.
أنزل والدي رأسه بدمعة حاول إخفائها, فعلمت أنه شبح الاحتلال, جاء ليقتلع ما بناه الأجداد, لكن في غفلة من أمري وجدته رفع رأسه مبتسماً بين الدموع ليقول لي, لم ولن يقدروا على اقتلاع ما علمنا إياه آبائنا, لأن الوحدة كانت أيضاً كانت سمة تميز شعبنا.
تابع بحزن ما بدأ, بعد الواقع الأليم الذي حل بنا وجدنا أنفسنا في مخيمات اللجوء, يساعد القوي منا الضعيف, يطعم الغني منا الفقير, لم يحدث أي تغيير في العلاقة التي تحكم الناس ببعضهم بعد ضياع الأرض.
تعبت من النظر في ذلك الثقب الجميل, فأدرت ظهري قليلاً, ولكني صدمت بواقع مرير جعلني أرجع إلى الثقب ثانية كي لا أقطع لحظات من الحب الجميل.
نظر والدي إلى باستغراب حين وجدني كذلك, وكأنه يعلم الذي أعاني منه, واصل ما يقول وكأنه اندمج مع تلك الديباجة وأعادته لأيام طفولته التي قضاها في ربوع البلاد.
تابع والدي مردداً حرمنا الاحتلال أرضنا, لكن كنا نذهب لنزورها, ونعمل بها لأننا على يقين بأننا سنعود في يوم من الأيام, فهذا وعد الله لنا.
كانت جدتك حين تشعر ببعض من الضيق تقول لي أود الذهاب إلى فلسطين, حينها أدير محرك السيارة ونتحرك نحو الأراضي التي هجرنا الاحتلال منها لنتنسم عبير الأرض وروح الحياة.
اضطررت مألوماً إلى العودة عن الثقب, لأصطدم بالواقع الذي أحياه, حاولت أن أقوم بمقارنة خفيفة لأوضع يدي على الجرح.
فوجدت الغدر بعد المحبة والشقاء من بعد الراحة, نظرت إلى حالنا قليلاً وجدت أن جواز السفر الفلسطيني ممنوع من كل الدول, لا احترام ولا تقدير ولا حتى معاملة حسنة.
وجدت الفرح في بيت والحزن في بيت أخر, لا أحد يأبه بأحد, وجدت القوي يأكل الضعيف, الحسد والغيرة سمة من سمات هذا الزمان.
وجدت الآلاف يجلسون على معبر مغلقةً أبوابه, ينتظرون جندياً من بني جلدتنا ليخرج المرضي والمسنين, ويا ليت الخروج يكون بشكل لائق, فالخارج من فلسطين يرى مدى المهانة التي نتعرض لها داخل معبر هو ملكنا.
انتظرت قليلاً لأقول أن المعبر قد فتح هذه الأيام بعد القرصنة التي قام بها الاحتلال على سفينة مرمرة, ولكني وجدت أن الممنوعين من السفر أكثر من المسافرين, والأدهى من ذلك والأمر أنه يجب عليك أن تدفع لتخرج.
نظرت إلى أناس كانت تسير في الشوارع بملابس ممزقة, والآن تسير بسيارات فارهة, جني ثمنها من تجارة الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة سنوات.
طأطأت رأسي قليلاً, وجدت المرآة مكسورة تحت قدمي, والشعر قد ملأ وجهي, والهم ظاهر في عيوني, والعقل حائر في المستقبل الذي ينتظر شباب فلسطين.
حاولت النهوض ولكني اصطدمت بباب مقفل, فالبحر أمامنا والعدو خلفنا, ذهلت قليلاً, ولكن, عشنا أكثر من عقدين من الزمان ونحن على هذه الحال, لم نري يوماً جميلاً, فلم الحزن.
حينها أثارني شيئ داخلي يقول في نفسي, صبرنا على ظلم الأعداء كثيراً لماذا لا نصبر بضع سنوات أخرى, ولكن لم يبقي من العمر بقدر ما مضى.
سألت نفسي بعد تلك المقارنة المضنية, وجدت أن الزمن الأول قد تحول, فبقدر ما كانت المحبة أصبحت الكراهية, وبقدر ما كان الغنى أصبح الفقر, وبقدر ما كان العدل أصبح الظلم, وبقدر ما كانت فلسطين أصبحت قطاع غزة والضفة المحتلة.
نظرات من ثقب الباب بقلم:حسام خضرة
تاريخ النشر : 2010-06-15