للكاتب / محمد نصار
توقفت العربة بجانب الطريق وترجلت منها امرأة في العقد الثالث من عمرها ، قوام ممشوق وجمال لم يخفه اللباس المحتشم ولا استطاع المنديل الذي يلف شعرها، منع خصلة سوداء كما الليل من التدلي على جبينها الناصع كسيف لا يستهان بحدته.
أخذت تحدق في اليافطة المعلقة على الباب بنظرات حائرة.. تائهة، كأنها تبحث بين كلماتها عن شيء ضاع منها، أو سلبتها إياه السنون "أمراض النساء والولادة" جملة أثارت بداخلها أشياء كثيرة وحركت مشاعر وأحاسيس شتى ، فلم تشعر بالجلبة الآتية من الطرف الآخر للشارع، عدد من الصبية يهتفون بشعارات وكلمات تبدو غير مفهومة لها، أو غير واضحة في بعض الأحيان، التفتت نحو زوجها تستحثه، لكي لا تقف بالباب طويلا، فرأته منهمكا في تأمين أبواب العربة، نادته ، فرد من دون أن يرفع رأسه قائلا: لحظة.
عادت تحدق في اليافطة من جديد رغم رغبتها في العزوف عن ذلك، إلا أن قوة ما كانت تشدها.. تناديها، اقترب الموكب فلم تعبأ به و عادت تستحث زوجها الذي أعياه أحد الأبواب وكدره.
أنهى الأمر وهم باللحاق بها، فوقع نظره على الحشد الذي بات قريبا، شاهد امرأة بثياب بالية، وهيئة مزرية تتقدم الركب ، تهتف .. تصرخ بأعلى صوتها "بسم الله" والصبية بجيبونها "الله أكبر"
يتكرر الهتاف مرة تلو أخرى، دون أن يثير أي من المتواجدين في الشارع، سواء كانوا من المارة، أو أصحاب المحلات التجارية وكأنهم ألفوا المشهد، أو اعتادوا عليه.
أخذ يحدق في المرأة التي بدأت تتضح معالمها أكثر وتبدو صورتها إليه أقرب، راح يفرك عينيه وكأنه يريد التأكد مما يرى ، ففغر فاه مذهولا وجحظت عيناه على اتساعهما، لم يسمع زوجته وهي تناديه للمرة الثالثة وقد أثارتها الحالة التي بدا عليه.
عادت تنظر إلى الجهة التي ينظر إليها، ثم تعيد النظر إليه مرة أخرى، فأصابها الهلع وقد رأته يندفع كالسهم نحو المرأة المقبلة ويصرخ من أعماق أعماقه: ليلى .....ليلى
تنبهت المرأة إلى الشخص المهرول نحوها ، نظرت إليه بشيء من الذهول ، وحين شخصته بشكل جلي ، علت وجهها ابتسامة واسعة وامتدت يداها إلى وجنتيها تجفف دمعا انحدر فوقها، ثم اندفعت نحوه وهي تهتف باسمه: محمود.....محمود
احتضن كل منهما الآخر على مرأى من الجميع، فبدا المشهد غريبا على شارع لم يألف مثله من قبل وألهب مشاعر الصبية الذين كانوا يهتفون خلفها ،فتحوطوهما مستغربين ما يروا، بدت الدهشة على وجوههم ولمز بعضهم بإشارات وحركات، ثم همسات وتعليقات دفعت أحد الرجال إلى التقدم وطرد الصبية المتجمهرين حولهم.
صحا حينها من الصدمة التي حطت عليه دون سابق إنذار، جفف دموعه، ثم أمسك بيدها ورافقها عائدا إلى حيث كانت تقف زوجته تتابع ما يجري بدهشة وذهول.
استقل ثلاثتهم العربة، فجلست سميحة في المقعد المجاور صامتة لا تنطق بحرف وجلست ليلى في المقعد الخلفي لا يسعها المكان من شدة الفرح، تبتسم حينا وتضحك حينا، تقفز .. تتمدد على المقعد ، تبدي حركات غريبة كأنها تعبر من خلالها عن مدى سعادتها باللقاء، تلف يدها حول عنقه محاولة احتضانه، تنطق بأشياء وتساؤلات تشي بالحالة التي باتت عليها، جل حديثها انصب على المرأة الجالسة إلى جواره.
-أختك ؟ .....زوجتك؟
ثم تستدرك قائلة: لا .. أنا زوجتك ولن أدعك تبتعد عني بعد الآن ،أو يأخذوك مني مرة ثانية ، ثم تعود لاحتضانه من جديد.
...... صور شتى تتوالى أمام ناظريه .. سنين بعيدة تطفو على السطح من جديد.. طفولة تأتي بريئة ناصعة كالثلج، حين كانا يلعبان معا كثنائي لا يتبدل مهما تبدلت الألعاب أو الصبية .. رنين ضحكاتها وهما يتقاذفان بواقي الفاكهة والخضار، التي كانا يجمعانها من مخلفات سوق الخضار ويستغلونها طعاما لطيور يربونها داخل البيت ، يوم أن فاتحها بحبه ...يوم زفافهما.....يوم فراقهما المشؤوم
دموع انهمرت رغما عنه .. انهمرت بلا توقف ، فلم يعد يرى الطريق أمامه ، توقف جانبا وألقى رأسه على المقود مطلقا لدموعه العنان، أخذت تربت على كتفه محاولة تهدئته وبعبارات ساذجة لا تخلو من حنان، ناشدته أن يكف عن البكاء.
كانت تنظر إليهما بذهول تام وبين الفينة والفنية تمسح بمنديلها دمعا ينحدر رغما عنها، مرت لحظات خيم خلالها صمت لم يعكره إلا النحيب الصادر عن محمود ، أحست حينها أن الأمر بدأ يخرج عن حده ، فأقبلت عليه وبصوت يخنقه البكاء قالت : كفى يا محمود ، كنت أظنك أقوى من ذلك ..........كفى ودعنا نكمل المسير.
صمت للحظة بدأ بعدها يجفف دموعه ويستعيد رباطة جأشه من جديد، ثم أدار محرك العربة التي انطلقت تشق طريقها في سكون تخلله بعض الحركات ، التي كانت تصدر عن ليلى بين الحين والآخر.
........ توقفت العربة في باحة البيت ، فاندفعت خارجة منها تغمرها فرحة عارمة، راحت تقفز في كل مكان كنحلة حطت في بستان، تردد بذهول ممزوج بالفرح : هذا بيتك ياه، ثم تعود لتتأبط ذراعه مستدركة : لا.. بيتنا .. لن أدعك تهرب مني بعد الآن .
.... كانا يقطعان المسافة عبر الممر المؤدي إلى البيت بصمت تخدشه نظراتها المتسللة إلى أعماقه ، محاولة من خلالها فهم ما يدور بخلده ، أو الحصول على توضيح يشفي نهمها، أو يجيب على التساؤلات التي تعصف بها، لكنه ظل صامتا وكأنه لا يشعر بما يدور حوله ولا يلتفت له.
..... ألقى بجسده على أقرب مقعد صادفه، فقفزت إلى جواره تداعبه كطفل برئ ، دون أن تعير اهتماما للمرأة التي ترقب ما يدور بحيرة وذهول بالغ.
استدرك الموقف وأخذ يفيق من الحالة التي ألمت به، شعر بما يخالج زوجته من أحاسيس وتساؤلات وما يبدو على وجهها من ضيق تجاهد لإخفائه، لكنه يغالبها بفعل التصرفات الغريبة ،التي تبدر عن هذه المرأة الدخيلة.
أزاحها بلطف عنه وبلهجة يشوبها اللطف والوداعة طلب من زوجته أن تعد لها الحمام وتستبدل ثيابها البالية بأخرى من عندها، فانصاعت من دون أن تعقب بشيء وكأنها تتحرك بتأثير قوى غريبة، تجهلها ولا تقوى على التملص منها وقد أصبحت منعطفا تعصف به أحاسيس ومشاعر شتى، الحب.. الغيرة ... الشفقة ، لا تدري أي منها يحركها أو يوجهها، فآثرت أن تنفذ ما يطلب منها بصمت، لعلها تصل في نهاية الأمر إلى رؤيا واضحة، تنقذها من الهواجس والظنون التي تعصف بها.
أسدل الليل ستائره وغرق الكون في ظلام دامس وسكون لم ينغصه سوى نباح الكلاب ونهيق حمار يأتي من مكان بعيد، فيعكر لحنا سمفونيا جميلا، تعزفه مجموعة من الضفادع المنتشرة في البستان القريب بأداء و تناسق جميل.
نظر إلى ساعته فأشارت إلى العاشرة وبضع دقائق ، أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بصمت وتأمل ، ثم غاص في بحر من الأفكار والذكريات، التي عادت تطفو إلى السطح من جديد، فلم يشعر بها وقد وقفت مقابله ، تنظر إليه بحيرة وقد آلمها الحال التي بات عليها.
رفع رأسه ، فرآها تنظر إليه ، سألها بهدوء: هل نامت ؟.
فردت وهي تقترب حتى جلست بجواره: اضطررت أن أضع لها مهدئاً في الحليب.
أطرق للحظة وكأنه يستذكر شيئا ، ثم قال .. مسكينة ... لاقت من المآسي والهموم ما تعجز عن حمله الجبال، فردت محاولة تخفيف الأمر عليه: إن هذا قدرها ولم يكن في وسعها الهروب منه.
غطت وجهه سحابة كالحة وبشيء من المرارة والأسى قال: لقد ارتكبت في حقها ذنبا لا يغتفر .
- لا.... لا تهول الأمور على هذا النحو
- أرجوك يا سميحة . فكل ما تعرفينه عن هذه المرأة بعض أمور أخبرتك بها سابقا، لكنك لا تعرفين ما بيننا ولا السنين التي أمضيناها معاً، أو العلاقة التي كانت تربط بيننا ....
بدا منفعلا إلى أبعد حد، حتى أنه لم يعد يشعر بزوجته التي بدأت تثيرها طريقته في الكلام و التصريح عما أخفاه سنين طويلة بداخله وكانت تظنه في طي النسيان ، فشبت مشاعر الغيرة تنهش روحها كوحوش انكب على فريسته بشراهة ونهم ، ترنحت تحت أنيابه من هول الصدمة، لكنها تماسكت وكتمت ما يخالجها من غيرة وغضب، مؤثرة الصمت أمام الحالة النفسية التي يمر بها ،آملة أن يخفف ذلك الأمر عليه، فشجعه صمتها على الإسهاب في الحديث عن ماضيه واسترجاع صفحاته كشريط سينمائي يمر أمام ناظريه.
كنا نسكن نفس الحي.، استهل حديثه قائلاً، يفصل بيننا جدار أزيل جزء منه لاحقا وتربطنا صلة قرابة، ربما كان لها دور في بناء العلاقة بيننا، لم نفترق أبدا، حتى الألعاب كنا نلعبها كثنائي رائع ، كثيراً ما أثار غيرة بعضهم وأخص بالذكر ابن عمها وليد.....و
صمت للحظة تغيرت معها ملامح وجهه بشكل أثار انتباهها، فبدا كمن تذكر شيئا بغيضا، ثم تابع: كثيرا ما تعاركنا نتيجة ذلك
، ثم أخذ نفسا عميقا من سيجارته، نفثه بقوة، فانتشر سحابة فوق رأسيهما واستطرد قائلاً : لم نكن قد تجاوزنا العاشرة حين اندلعت حرب الأيام الستة، أو على الأصح الساعات الست ، هالنا ما سبق ذلك من استعدادات لم نكن نعرف لها معنى ...الشوارع ... ساحات البيوت تحولت إلى حفر وكـأنها قبور مفتوحة تنتظر من يملأ الفراغ، كل ما طبع في ذاكرتي منها هو تلك الكلمة "استقام "وإن كان الأمر قد اتضح جليا ًحين اندفعنا بداخلها كالفسيخ، يئز فوق رؤوسنا الرصاص وتدوي من حولنا الإنفجارات وعاليا في السماء كان صوت الطائرات يطن في الآذان كطنين النحل، حينها بدأ الخوف يأخذ فينا مأخذه ومع غياب من يشد أزرنا ونحن خليط من النساء والأطفال بمختلف الأعمار، كان الأمر مرعبا.
أطرق للحظة وهي تراقبه باهتمام بالغ وقد شدها الحديث الذي بدأه بشكل دقيق ومفصل وكأنه يرى شريط أحداثه يمر من أمامه
من دون أن يسقط منه شيء أو يداريه .
علت وجهه ابتسامة عريضة ولمعت في عينيه دمعة أخفاها خلف ستار الدخان المنبعث من فمه وتابع قائلاً : بينما نحن على هذه الحال من الخوف والجزع ، دنت مني وهمست في أذني قائلة : محمود.. أنظر إلى تلك الفتاة.، فنظرت إلى حيث أشارت وانتابتني حيرة كبيرة وأنا لا أجد تفسيراَ لما أرى، فلقد انكبت إحدى النساء على وجه فتاة تلطخه بالسواد وتنهرها بشدة قائلة : ألا تدركين أن جمالك قد يغريهم فيأخذوك كما حصل لكثيرات من قبل.
التصقت بي مذعورة وبصوت مكتوم همست قائلة:محمود أريد أن ألطخ وجهي مثلها لكي لا يأخذوني أيضا.
وبدون تردد اندفعت نحو الوعاء تريد أن تفعل مثلها، فنهرتها أمها بقوة صائحة : " اقعدي يقصف عمرك ".
فلم أتملك نفسي من الضحك، فزغدتني قائلة وقد طأطـأت رأسها خجلاً: ماذا يضحكك ....ألا يخشون علي : ألست فتاة مثلها؟
ازدادت وتيرة الخوف ودب الرعب في قلوبنا مع اقتراب دوي الانفتجارات منا، فصدرت اقتراحات عدة مطالبة بترك المكان , إلا أن غياب الرجال في الخندق واستفراد النساء في الأمر ضيع كل قرار
أمضينا يومين بلبليهما داخل ذلك الحجر، إلى أن أشرقت شمس اليوم الثالث، فخفت حدة الأوضاع قليلا وعلت التساؤلات تبحث عن تفسير لذلك التطور المفاجئ، فجاء الرد سريعاً مصحوبا بصوت المجنزرات وعربات الجيش وهي تجوب الشوارع ، ثم علت أصوات مكبرات الصوت تنادي بأشياء لم نفهمها في حينه ولكن عرفنا أن مصيبة حطت علينا، إثر الدموع التي ذرفتها النساء والرعب الذي ألم بهن وكلمة دارت كأنها الموت: هزمنا.
تركنا الخندق وجلسنا في بهو البيت على شكل حلقة كبيرة، النسوة يضربن يداً بيد وقد علا نحيبهن ورعب بدا واضحاً في تساؤلاتهن الملتاعة : هل هم أحياء ؟ أم ماتوا ؟ ، ؟ هل وقعوا في يد اليهود؟.
علا صوت البكاء والنحيب حتى بكينا دون أن ندري لماذا ، مما دفع عجوزاً كانت تجلس في الركن، إلى التدخل محاولة تخفيف الأمر : هذه إرادة الله ولا أحد يموت وله بقية .
كنا في حيرة من أمرنا، نراقب بأعين باكية ولا ندرك ما يدور، فما الداعي لكل هذا ؟ وما هي الحرب ؟ هل ما حدث هو الحرب ؟ وكيف انتصر اليهود وانهزم العرب؟ وما سبب هذا العويل الصادر عن النسوة؟.
تنهد بحرقة وتابع قائلاً: أمور لم تكن واضحة في حينها وإن دفعنا دماءنا ثمناً لها بعد ذلك، صمت قاتل أطبق علينا مع وقع طرقات ثقيلة اهتز تحتها باب الصفيح الذي يسترنا وعلا صوت ينادي بلكنة عربية ضعيفة: افتح الباب...جيش .
"يهود". انطلقت الكلمة من الأفواه ودارت بين الجالسين، الذين جحظت عيونهم هلعة مذعورة وكأن ملك الموت بالباب، تملكني الرعب وأنا أسمع الصوت يتكرر والطرقات لا تنقطع، فهم سيدخلون بعد لحظة ... ترى كيف شكلهم ؟ وماذا سيفعلون بنا ؟ أين ليلى ؟ أمسكت بها بقوة رغم التصاقها بي منذ اللحظة الأولى، ربما خافت أن يأخذوها.
صاحت العجوز في النسوة بضيق وتذمر : فلتذهب إحداكن وتفتح الباب.
لم تتحرك أي منهن ، أعادت الطلب ولم يأت جواب من بينهن، اتكأت على عكازها وتقدمت إلى الباب ببطء وهي تردد قائلة :حاضر سنفتح الباب .
كانت لحظة رهيبة، شعرت خلالها أن حواسي توقفت كلها، لم يبق منها سوى عيون تترقب الخطوة التي توصلها إلى هناك، فكانت اللحظة التي اندفع عدد من الجنود إلى باحة البيت، فتأكدت حينها أنهم بشر مثلنا ولا يمتازون عنا بشيء آخر وبنفس اللكنة السابقة سأل أحدهم : في رجال في البيت؟
فردت العجوز : كلهم نساء وأطفال .
أثارهم وجه الفتاة،أخذوا يحدقون فها ويتهامسون بريبة وتشكك، فأدركت العجوز ما يراودهم وأقبلت على الفتاة ترفع الغطاء عن رأسها، مما خفف حدة التوتر بعض الشيء، فانتشروا في البيت يجرون تفتيشاً لبقية الغرف وبعد لحظات غادروا المكان .
بعد مضي أسبوع من ذلك اليوم،عادت المرأتان أمي وأمها تجران أقدامهما وقد أنهكهما السير طيلة اليوم، تارة في المستشفيات وأخرى عند الصليب الأحمر وثالثة لدى الذين أفرج عنهم، ممن كانوا يعملون لدى القوات الدولية وتم أسرهم في حينه، فلم يسمعا خبراَ عن زوجيهما وذهبت آمالهما مع الريح ،على إثر ذلك تدخلت العجوز محاولة تخفيف المصاب.
- يمكن عبرا الحدود إلى مصر، كما فعل كثير من الناس .
فردت أمها بحرقة وألم : وربما لم يعبرا وجثتيهما على رمال الصحرا،ء تنهشها النسور والطيور الجارحة، فصاحت بها العجوز بحدة :يا لطيف فال الله ولا فالك.
كل منا التصق بأمه نذرف الدموع كما يذرفن وإن كنا لا ندرك معنى الحدث ، لكن بصيص أمل ظل يلمع في عيون النسوة وإن كنا لا نعلم ما تخفي الأيام لنا، حتى برهنت مع مرورها أننا أصبحنا ضحايا مباشرين لها وقد اختفى ذلك البصيص في ظل واقع جديد لفنا،فكنا في صراع مع الحياة من أجل توفير لقمة العيش التي نقتات بها، بسطات الخضار في السوق ألفت وجهنا ونحن ننظفها يوميا، من البقايا التي تظل بعد أن ينهي الناس بيعهم وشراء هم، فنعود بما جمعنا من مخلفاتها ونكمل السهرة في تقطيعها قطعا صغيرة، ليسهل على الطيور التي نربيها ابتلاعها .
لم نكن أحسن حالاً من غيرنا .،استطرد قائلاً : الصدمة تعلو الوجوه ،الضياع سمة الحياة ... المقاهي مكتظة عن آخرها ولا يتحرك بداخلها سوى النادل وسحب الدخان المنبعثة من الأجساد المتخشبة على المقاعد، الشوارع شاحبة وقد عم روادها الغم، إلا من بعض حافلات تقل أفواجا من يهود ،جاءوا يحتفلون بالنصر فوق أنوفنا، يرددون الأغاني العربية والعبرية باستفزاز واضح.
لم يدم الوضع طويلاً على هذا الحال، مرت الأيام كئيبة .. حزينة، لكنها جاءت بحرب الاستنزاف التي اندلعت على قناة السويس اشرأبت الأعناق ودارت الأعين كأنها تبحث عن شيء فقدته ، المذياع أصبح محط اهتمام الجميع، الابتسامة علت الوجوه وقد زاد الأمل فيها بزيادة أعمال المقاومة في الداخل، مناطق عدة من مدن القطاع وقراه تحت سيطرة الثوار وإن كان الثمن باهظا جدا، دفعته الجماهير من دمها ومقدراتها .
أطرق للحظة وعلت وجهه ابتسامة عريضة كأنما تذكر شيئا ما، ثم تابع: كنت في طريق عودتي إلى البيت، أحمل حقيبتي المدرسية متباهياً وقد أصبحت من طلاب المرحلة الإعدادية، فجأة دوى انفجار هز المدينة، تلته صليات عدة من بنادق أوتوماتيكية وانتشار سريع لجند الاحتلال، حتى خلتهم قد نبتوا من الأرض، أردت الهروب، فلم أدر إلى أين ؟، الخوف أعجزني ، كل شيء حولي يتحرك.. يهرول يصيح ..اقترب الجند، جريت.. فطالني أحدهم بكعب بندقيته في عقب رأسي وصاح قائلا: روح البيت.
سالت دماء على أذني وغطت مساحة واسعة من قميصي، سرت على غير هدى، أترنح تارة وأعتدل أخرى، زاد الوضع سوءاً حين ارتفع صوت مكبر الصوت منادياً : ممنوع التجول، أخذت أتخبط في الشوارع والأزقة حتى وصلت البيت، صرخت أمي حين رأتني وكل ما أذكره أنني قلت يهود، ثم وقعت مغشياً .
بعد لحظة شعرت برطوبة تسري في جسدي، ففتحت عيني لأجد ليلى وأمها من حولي وقد هرعن لدى سماعهن صراخ أمي، أخذت تمسح الدماء عن وجهي ، ثم أحضرت شاشاً فيه بن، ناولته لأمها التي لفت به رأسي.
في ذلك اليوم شعرت أن شيئاً يشدني إليها، شيئا غير ذلك الذي اعتدته من قبل ..بدأت أشم شذاها، أتفحصها من جديد وكأنني أراها لأول مرة، أتابع حركاتها.. عينيها و الاستحياء الذي بدأ يظهر فيهما كلما تلاقت نظر اتنا.
على أثر ذلك الحادث لازمنا البيوت أسبوعاً بفعل حظر التجول المفروض علينا، عاث خلاله الجند في المنازل شتى أنواع التنقيب والتفتيش بحثاً عن المناضلين وخصوصاً أن القتيل من أصحاب الرتب العالية، أحاله اللغم إلى رماد اختلط مع تراب الأرض سنين عديدة.
أخذ نفساً عميقاً من سيجارته راح ينفثه بصمت، ثم راح يتابع حلقاته المنبعثة في فضاء الغرفة وهي تنظر إليه بتلهف وشغف شجعته على متابعة الحديث .
كبرنا وكبر حبنا معنا وكذلك كبرت التحديات المحيطة بنا، بدأنا ندرك مفاهيما وقيماً لم نعها من قبل، صارحتها بحبي للثوار , ورغبتي في الانخراط معهم، فشهقت مصعوقة، ثم تمالكت نفسها، حاولت ثنيي عن ذلك، تذرعت بصغر سني، فقلت أساعد قدر استطاعتي، فردت وأمك ؟.، صحت مذعوراً : لا تخبريها بشيء.، فقالت : وهل يصح ذلك؟. ، ألا يكفيها فقدان أبيك ..ماذا سيحدث لو فقدناك يا محمود ؟.
...شعرت بسعادة عارمة وأنا أرى دمعة تنحدر من عينيها.، فهمست قائلا : لا تشغلي بالك يا ليلى .
فصاحت مرتبكة : كيف؟ .. كيف لا أشغل بالي وليس لي أحد سواك .. أنت أخي وأبي وحبيبي.، فلم أدر كيف احتضنتها وبجرأة لم آلفها من قبل.
شعرت بالامتعاض وهي تراه مندفعاً في الحديث عن تلك المرأة، التي قفزت إلى حياتها بشكل لم يكن متوقعاً على الإطلاق، الغيرة تنهشها وهي ترى كل خلجة من خلجاته تحكي قصة علاقته بها و إسهابه في الحديث عن كل صغيرة وكبيرة لدى استرجاعه تاريخاً حفظه عن ظهر قلب، يدل على مدى الحب الذي يكنه لها، حتى أنساه ذلك أنه يخاطب امرأة هي في الأساس زوجته ولها مشاعر وأحاسيس لا تحتمل ولا تطيق أن تهمش على هذا النحو، مفسحة المجال لدخيلة ولو لحظة واحدة.
إلا أنها آثرت الصمت، كتمت مشاعرها تفادياً لأي إشكال قد يكون مدمراً ضمن الظروف النفسية التي يمر بها وربما انصياعاً لمشاعر الحب التي تحركت من جديدا ، قاومت تلك الأحاسيس الشاذة، ثم تساءلت في سرها : ممن تخشى؟ .. من امرأة ضعيفة، مصابة في قواها العقلية، هذه الحقيقة كان لها أثر مريح في نفسها ، مع غياب أوجه المقارنة بينهما.
....ظل مسهباً في الحديث من دون أن يلاحظ الشرود الذي أخذها بعيدا عنه ، حتى فاتها جزء من حديثه وحين أدركت أنه لم يلاحظ ذلك، أنصتت وكأن شيئاً لم يكن .
... كبرت الآمال وارتفعت الهامات، خلت الناس يرقصون فرحا في الشوارع وصوت المذياع يعلن في كل مكان أخبار الانتصارات على الجبهتين المصرية والسورية، الحلقات منعقدة و النقاشات حامية، البيانات متلاحقة، فرحة عارمة عمت المكان بعد أن خبت معالمها مع خبو المقاومة في حينه... أقبلت تزف البشرى : المصريون عبروا القناة أيام ونتحرر ، نرفع رايتنا عالية خفاقة في السماء .. سوريا تشارك في القتال .... الدول العربية ترسل قواتها إلى الجبهات، العراق ليبيا ... الأردن والبقية يحاربون بسلاح النفط ودعماً بالأموال ..كل يدلي بدلوه .. الناس أصبحوا ساسة ومحللين عسكريين، يتابعون كل صغيرة وكبيرة، حتى أضحت الأرض المحتلة بكاملها غرفة عمليات، أو مقرة قيادة يزخر بالخبراء والمحللين وفجأة ذهب الكل كما الحلم الجميل ، يأتي في لحظة ويفل في أقل منها وكأن قدر هذا الشعب ألا يفرح ، أو حتى يحلم بالفرح .
ترقرقت دمعة في عينيها وقالت بأسى: ضاع الأمل ....لقد باعونا .
- نعم باعونا يا ليلى وغدا ستكتمل اللعبة .
.. عدنا نتأقلم مع الفشل .. مع الضياع، فهذه سمة هذا الشعب المثيرة، قدرته وسرعة تأقلمه مع الأحداث، شققت طريقي مجدداً بقوة وإصرار لا أدري سرهما، حاولت منعي متذرعة بالواقع العربي اللعين، فأبيت حتى يئست مني، فآثرت أن تكون بقربي حتى اندمجت بعد ذلك و ساهمت في مواطن عدة لا يصلح فيها الرجال، اعتقلت بعد ذلك مدة عامين، كان كل يوم خلالها دهراً، لم أدل بأي اعتراف، رغم الأسابيع التي أمضيتها في الزنازين وأصناف العذاب المختلفة...بالماء الساخن والبارد ،الوقوف المستمر لأيامً وليالي طويلة، الشبح وأعقاب السجائر، حرب ضروس مع رجال المخابرات ورغم ذلك لم أتفوه بشيء حرصاً على الآخرين وأولهم ليلى، ليلى التي كانت صورتها لا تفارقني أبدا، فيئسوا مني وحاكموني بشهادة الشهود.
شعرت بالانتصار حينها ...بالزهو و وكم كانت فرحتي كبيرة، حين أتت لزيارتي في أول زيارة ترافقها أمي.
- كنت مضرب الأمثال يا محمود. ، قالتها بفخر واعتزاز أنساني صنوف العذاب التي ذقتها، سعادة تغمرني ... نسيت أيام العذاب التي عشتها ومواضع الآلام التي تغرس في، نظرت إلى أمي التي بدت منهكة وسألتها عن حالها فردت قائلة: أنا بخير يا ولدي فلا تشغل بالك علي واحرص على نفسك، فلدي من يرعاني. وأشارت إلى ليلى التي طأطأت رأسها حياءً ،أخذ يزداد حين قلت بحب وامتنان: كل يوم تكبرين في عيني يا ليلى ولن أقدر على رد ذلك، فردت أمي : ذلك لن يتم إلا ومدت يدها تداعب وجنتيها اللتين علتهما حمرة وارتباك ، ثم أشاحت بوجهها خجلة تداري ابتسامة على شفتيها أضفت على سحرها سحر اً وبهاء .
- هذا مفروغ منه يا أمي ، بغض النظر عما تفعله الآن.
....تكررت الزيارات ومع كل زيارة يزداد الأمل بانتهاء المدة ، حتى كانت الزيارة الأخيرة على ما أظن، أقبلت وجمة قلقة أثارت بي الشكوك، كانت أمي برفقتها وعلى أحسن حال ....ترى ماذا حدث هل أصاب أمها مكروه ؟ لكن شيئاً من هذا لم يكن وحين سألتها أرادت إخفاء الأمر عني ومع إلحاحي المستمر قالت : هناك من تقدم لخطبتي ... شعرت بسقف الغرفة يهوي على رأسي وبلا وعي صحت :من هو؟ . ، وليد . ، ابن عمك اللعين ...إلى متى يظل هذا الشخص ينغص أحلامنا ويكدر حياتنا لم يجد سواك في هذا الكون!.
- هون عليك . ، لقد رفضته، لكنه يضغط علينا مستغلاً وجودك في السحن.
ابق على موقفك ولا تخافي، فبعد أسابيع معدودة سأخرج وأنهي الأمر بزواجي منك وإن أصر على لعبته الوقحة معك، توجهي إلى أي من الرفاق حتى يلزمه حده.
... أحس بالاختناق ، فقام من مكانه وقصدً النافذة ، وقف يحدق في الظلام الدامس وقد شده السكون ودغدغه النسيم الذي راح يتسلل إلى جسده باردا منعشا، حاملاً معه روائح عطرة أنعشته، أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بتلذذ ، ثم استدار نحوها حيث كانت تراقبه باهتمام وسألها قائلاً : ألا تشعرين بالنعاس ؟. ، فردت بهدوء : لا.،
- لقد صدعت رأسك بهذه الحكاية.
- أبداً فانا شغوفة لمتابعة القصة .
عاد ينفث دخانه بهدوء وعلت وجهه إشراقة توحي بأن شيئاً جميلاً قفز من الماضي البعيد، ليقف أمام ناظريه بكل تفاصيله وجوانبه، ثم تابع قائلا : كان عرسا لا مثيل له وإن واجهته بعض المشاكل من أقربائها، إلا أنني تغلبت عليها، ربما بفضل الوضع التنظيمي الذي كنت أتمتع به وقتها، الساحة امتلأت عن آخرها، الفرحة عارمة وقد أصبحت فرحتين، أضيفي إلى ذلك شعور الفخر الذي يعمني وقد خرجت منتصراً في معركة الصمود و التحدي التي خضتها مع أقاربها، ثم تنهد بعمق :
كم كانت فرحتي بها ، لم تسعنا الدنيا وقد تحقق حلمنا بعد طول عناء، خلنا القمر يظهر لنا والشمس تشرق من أجلنا .
طنين الكلمات أصبح قوياً في أذنيها،حتى عجزت عن سماع ما يقول، صور شتى راحت تقفز أمامها، ليلى تجسدت ببدلة العرس كزهوة يانعة تتمايل كلما هب النسيم، العرس الذي يتحدث عنه، خالته أمامها والفرحة تلمع في عينيه وان غلب عليها الأسى خناجر تغمد في أحشائها، غيرة قاتلة تنهشها حاولت طمسها، إخمادها أو الهرب من الهاجس المخيف الذي ما فتئ يلاحقها، حتى فاجأها بقوله: يبدو أنك تحلقين بعيداً، أو أن حديثي يشعرك بالملل.
استدركت الموقف على عجل : لا...لا مجرد خاطر مر بي وبإمكانك أم تتابع.
مرت سنة على زواجنا كأنها يوم فر على عجل، أقبلت نحوي ضاحكة المحيى، متهللة الأسارير وألقت بما يراودها دفعة واحدة: محمود.. أنا حامل يا محمود.
شعرت بسعادة لم أعرفها من قبل، أمسكت بكتفيها أهزها و أنا أصيح : حقاً يا ليلى.
- نعم يا محمود لقد كنت في العيادة وأخبرتني الطبيبة بذلك.
- سأصبح أباً يا ليلى.
شعور غريب ينتاب المرء في هذه اللحظة وقد بدأ يشعر بأنه غادر مرحلة وأقبل على أخرى ، غير أن القدر في بلدنا لا يشفق ولا يرحم و كأنه عقد حلف ضدنا ، جاء اليوم الذي طالما حدثتك عنه وسمع به القاصي والداني ، يومها استمر الاشتباك لساعات عديدة ، سقط فيه رفاقي الثلاثة، كان آخرهم يحاول تغطية انسحابي من المكان ، لكنه لم يدر بأنني أصبت إصابة أعجزتني عن الحركة وبدلا من الانشغال في أمره، راح يسعى جاهدا لجري من المكان، لكنه في لحظة غادرة سقط فوقي بلا حراك وأنا لفني ظلام لم أصحو منه إلا على سرير عيادة السجن
الفصل من رواية " صرخات " بقلم:محمد نصار
تاريخ النشر : 2010-06-14