بائع الطين(12-13-14) بقلم:فايز الأشتر
تاريخ النشر : 2010-06-13
بائع الطين(12-13-14) بقلم:فايز الأشتر


-12-

لم أدري ماذا جرى بعد أن وقعت على الأرض مغمياً علي،ولكني عندما فتحت

عيناي شعرت أني قد نمت لمدة طويلة جداً،واعتقد بأنني نمت يومين أو أكثر من

شدة التعب و الأرهاق ،وكانت معدتي الفارغة تلتصق بظهري من الجوع.

وجدت نفسي مستلقياً على سرير في غرفة صغيرة،مبنية من الطين،وسقفها من جذوع

الأشجار،فأدركت بأنني في بيت ريفي لشخص فقير.

رفعت عني الغطاء الذي غطوني به،وكان عبارة عن بساط أحمر مصنوع يدوياً.

أردت أن أنهض،ولكني لم أستطيع،فقد كنت مقيداً بالسرير.

حاولت جاهداً فك قيدي،ولكني لم أستطيع،فقد كنت مقيداً بإحكام شديد،بدأت

أصرخ،أنادي لعل أحداً يسمعني،ولكن لم يجيبني أحد.

مر الوقت ببطئ شديد،فأنا لا أعلم أين أكون! وماذا حصل لي!ولماذا أنا

مقيد هكذا? ومرة ثانية عدت للنوم،لعلي أستيقظ فأجد نفسي في غير هذا

المكان،وربما أستيقظ من هذا الكابوس الذي يطبق على أنفاسي،ولكني استيقظت

على يد الحارس الذي رأيته في السوق،وأعتقد بأنه هو الذي أنقذني في تلك

الليلة،وجاء بي إلى بيته،ولكن لماذا قيدني?.

فك الحارس قيدي،وتركني وخرج،من غير أن ينطق بأي كلمة.نهضت من على السرير

ولحقت به.

عندما خرجت من باب الغرفة لم استطيع أن أفتح عيناي ،فقد سطعت أشعة الشمس

بوجهي،وكأنني لم أرى الضوء منذ فترة طويلة،وكما توقعت فقد كنت في بيت ريفي

له حديقة صغيرة قد امتلئت بالأوراق الصفراء المتساقطة من الأشجار المحيطة بها

معلنة قدوم الشتاء القاسي جداً في اوروبا الشرقية.

كان البيت عبارة عن غرفتان ومطبخ كبير،والحمام موجود في الخارج بجانب

الأسطبل،الذي يحتوي على قسم للدجاج،وقسم أخر للخنازير،وبقرة كبيرة.

كان الحارس يُقيم في المنزل مع زوجته العجوز،التي لم تستغرب عندما رأتني

أخرج من باب الغرفة،لأني كنت موجود في بيتهم منذ أيام غائب عن الوعي.

ابتسمت لي العجوز التي كانت تقوم بجمع أوراق الأشجار المتساقطة من ساحة

المنزل،وبدأت تكلمني،ولكن الحارس قاطعها بصوت عالي،وأظنه كان يقول لها،ألم

أقل لك إنه لا يعرف لغتنا،وتابعت العجوز الكلام،ولكن هذه المرة مع الأشارات

وكنت قد بدأت أفهم بعض الكلمات،فقد كانت تدعوني لتناول الطعام.

دخلت معها إلى المطبخ،وجلست أنظر إليها وهي تضع الطعام على الطاولة،ثم

نظرت بعيني،وهي تريد أن تقول شيئاً،ولكنها عجزت أن تُفهمني بالأشارة،وفجأة

حملت صحن الطعام الذي وضعته على الطاولة،وجرتني من يدي كما تجر الطفل

الصغير،ومشينا حتى وصلنا إلى الأسطبل،فقد كنت في حيرة من أمر هذه العجوز

ماذا تريد مني ? هل تريدني ان أكل في الأسطبل مع الحيوانات!.

أدخلتني إلى قسم الخنازير،ثم أشارت بأصبعها إلى الخنازير،ومن ثم إلى الصحن

لتفهمني أن الطعام لا يحتوي على لحم الخنزير،وبعد ذلك،أدخلتني إلى قسم الدجاج

وعملت نفس الشيء،لتفهمني بأن الطعام يحتوي على لحم الدجاج فقط.

فوجئت بثقافة هذه العجوز التي تعلم بأننا لا نأكل لحم الخنزير،فشكرتها

كثيراً،لأنني تعلمت كلمات الشكر،ثم عدنا إلى المطبخ،ورحت ألتهم الطعام

بشراهة من شدة الجوع.

بعد أن تناولت الطعام خرجت من المطبخ،وجلست بجانب الحارس،وكنت أحاول

ببضع كلمات تعلمتها أن أفهم منه السبب الذي جعله يقيدني بالسرير

فتشجع الحارس وراح يكلمني ويشرح لي بالكلام تارة وبالأشارات تارة أخرى،وبعد

جهد جهيد،فهمت أنه بعد أن أنقذني من بين الكلاب المشردة،وجاء بي إلى بيته

كنت أستيقظ بين الحين والأخر،وأصرخ بصوت عالي،ثم أطرق على باب الغرفة بكل

قوتي،ولا أتوقف حتى يغمى علي،فقرر تقيدي كي لا أجرح نفسي

وكي يضمن سلامتي أثناء نومه،فشكرته كثيراً،لما فعله من أجلي.

أمضيت وقتي في ساحة البيت،أنظر إلى السوق الذي بدا صغيراً من بعيد،وبصعوبة

بالغة استطعت إخبار الحارس وزوجته العجوز بقصتي،وكيف فقدت أيمن في السوق

فوعدني الحارس بأن يأخذني كل يوم إلى السوق كي ابحث عن أيمن،حتى أجده.

أيقظني الحارس،ولم تكن الشمس قد أشرقت،فتعجبت لأمره!لماذا يريد أن يأخذني

في هذا الوقت المبكر إلى السوق? ولكني عرفت الجواب عندما وصلنا إلى السوق

فقد كان مكتظاً بالزبائن الذين يأتون قبل بزوغ الفجر ليشتروا بضائعهم

ويغادرون قبل أن تزدحم الشوارع.

لم يمضي وقت طويل حتى انتشرت أشعة الشمس بالمكان،وكانت الشاحنات تدخل إلى

السوق فارغة ثم تخرج ممتلئة بالبضائع،أما الحارس فقد كان يعمل في تحميل

البضائع على الشاحنات في النهار،أما في الليل فقد كان يتولى الحراسة.

جلست بجانب البوابة وأنا أراقب كل شخص يدخل ويخرج لعلي أرى ايمن،وقد جاء

ليبحث عني،أو لعلي أرى أحد العرب فيساعدني أو يدلني على المنزل،ولكني

لم أرى سوى الصينيين،وعندما كنت أرى شخصاً يشبه العرب،كنت اركض نحوه

كي أكلمه،ولكني أعود بخيبة أمل،عندما أكتشف إنه تركي أو إيراني،لا يفهمون

من لغتي شيئاً سوى التحية (السلام عليكم،وعليكم السلام).

جاء الحارس ومعه أكياس من النايلون،وطلب مني بأن أذهب إلى بيته،وأملئ هذه

الأكياس بالطين من حديقة بيته،كي يغلق بها مجرى مياه الأمطار عن غرفة الحراسة.

لم اتأخر كثيراً،فقد ملئت الأكياس بمساعدة زوجته العجوز،ثم وضعتها على عربة

صغيرة،دفعتها أمامي،وعدت إلى السوق.

جلست بجانب البوابة،والعربة أمامي انتظر الحارس كي يأتي ويأخذ الطين،ولكن

الحارس تأخر بسبب تفريغ شاحنة كبيرة ممتلئة بالبضائع،فجلست في مكاني أنظر

إلى زبائن السوق،ربما أرى أحداً من العرب يساعدني.

شعرت بالجوع،فقد انتصف النهار ولم أكل شيء،وكنت أنتطر عودة الحارس كي اطلب

منه أن يجد لي عملاً في تحميل البضائع،أكسب منه بعض المال،ولا اكون عالة على أحد

لم أستطيع الأنتظار أكثر،فقررت أن أذهب إليه،فربما يدعني أعمل معه

في الشاحنة التي يفرغها،وما أن تحركت من مكاني،حتى رأيت رجلاً يقف بجانب الطين

ويسأل عن سعر الكيس،فقلت له بكلمات متقطعة،ولكنه فهمها،هذا الطين ليس

للبيع،ولكنه أصر على الشراء،وأخرج نقوداً من جيبه،ووضعها في يدي.

حملت كيس من الطين،وأعطيته للرجل وأنا مصاب بالذهول،تعالي ياأمي لتري

ابنك يبيع الطين،أنا متأكد بأنك لن تصدقي بأن الطين يباع،ولكني أنا

هنا ياأمي أبيع الطين،ومعي نقود استطيع شراء الطعام بها.

جلست مكاني وراء أكياس الطين،ورحت أرتبها الواحد بجانب الأخر،ولم يمضي

وقت طويل حتى بعتها كلها.

جاء الحارس،وهو ينظر إلي مستغرباً،فهو يرى العربة أمامي فارغة،وهذا يعني

أنني ذهبت إلى المنزل،وأحضرتها،إذاً أين الطين?

ظن الحارس بأنني لم افهم عليه جيداً،وقد أحضرت العربة فارغة،لكني قلت له

أني بعت الطين،وطلبت منه أن يأخذ النقود،لكنه رفض،وضحك كثيراً

لغرابة هذا الأمر،وضحكت أنا أيضاً رغم المصائب التي لا تفارقني.

كنت ادفع كل يوم مبلغ من المال حتى يُسمح لي بالوقوف جانب بوابة السوق

لأبيع الطين،وكنت صباح كل يوم أملئ الأكياس بالطين من الأراضي المجاورة

للسوق،وأبيعها بجانب البوابة،ومضت الأيام وأنا أبيع الطين من أجل الزهور

أو لأشياء أخرى،وكنت أمضي معظم وقتي في السوق وعيني تراقب مدخل

السوق،ولكن لم أرى أثراً لأيمن.


-13-

كان كل يوم يمر،مثل اليوم الذي قبله،لا يتغير شيئاً،اجمع الطين في المساء

وأذهب به إلى السوق في الصباح،وأحياناً كنت أبيع كل الكمية،وأحياناً

أخرى تبقى نصف الكمية إلى اليوم التالي،وكنت أعطي زوجة الحارس نصف النقود

التي أكسبها من بيع الطين،حتى لا أكون عالة عليهم،وكانت العجوز ترفض أن

تأخذها،ولكني كنت أضعها في جيبها شاءت أم أبت.

وفي يوم من الأيام حصل ما لم أكن أتوقعه ولا كان ليخطر ببالي،استيقظت

في الصباح فوجدت كل شيء في الخارج أبيض،فقد تساقط الثلج طوال الليل،ولم

استطيع الذهاب إلى السوق من شدة البرد،حتى الطين تجمد وأصبح قاسياً،وقد

غطته الثلوج،وصار من المستحيل تعبئته بأكياس.

غيرت الثلوج كل نظام حياتي،وكنت كل يوم أنتظر أن تتوقف الثلوج،وأعود

لعملي،ولكنها كانت تتساقط بغزارة،حتى ارتفعت بحوالي المتر عن سطح الأرض.

كنت اذهب كل يوم إلى السوق،وأقف بجانب البوابة،ليس لكي انتظر ايمن،لأني

فقدت الأمل منه،ولكن ربما يحتاجني أحد التجار او الزبائن،فأكسب بعض المال

ولكن بسبب برودة الجو،والتي كانت تتجاوز العشرين تحت الصفر،فقد كان أكثر

الأحيان السوق فارغاً،حتى المتسولين واللصوص هجروه إلى مرتع أخر.

كنت أشعر بها تلاحقني بنظراتها كل يوم عندما أقف بجانب البوابة،وكانت

الأبتسامة لا تفارق وجهها عندما تقع عيني بعينها،ولكني حاولت مراراً أن

أبقى بعيداً عنها،فما رأيته من روكسانا جعلني أكره كل الفتيات في هذا

البلد،ولكن مع هبوب عاصفة ثلجية على السوق،وجدت نفسي أرتجف من البرد

بجانبها،في المتجر الذي تعمل به.

قالت:

-لماذا تقف بعيداً عني

- لا أريد أن أضايقك

- تعال وأجلس بجانبي،البرد شديد وسوف تصاب بالزكام

- لا عليك فقد تعودت

- اقترب فأنا لا أكل البشر

ضحكتُ،واقتربت منها،لتعطيني نصف الغطاء الذي تضعه على كتفها،ثم سألتني:

- ما اسمك

- فارس

- فلوري

- مرحباً بك

- اهلاً وسهلاً

ثم صمتت فلوري ولم تعد تقول شيئاً،واسم فلوري يعني "وردة" وكانت وردة حقيقية

فتاة في التاسعة عشرة من عمرها،وجنتاه مثل البرتقال،وعيناها خضراوتان

كبيرتان،فمها صغير،وشعرها الذهبي المتماوج يتراقص على كتفيها،كانت وردة جميلة

جداً،ولكني لم أشعر بها حتى الأن،ربما لكثرة الهموم التي تلاحقني.

كانت فلوري تقيم في المدينة وتأتي كل يوم إلى العمل في السوق،فهي تعمل عند

تاجر صيني كبائعة،ومنذ أن تعارفنا كنت أقضي معظم وقتي بجانبها،حتى رأني

الصيني،وعرض علي العمل عنده في تحميل البضائع من المستودع إلى المحل،ولكن الأجر

كان زهيداً،فوافقت ريثما تتوقف الثلوج،وأعود لبيع الطين.

كانت الايام تمر بسرعة،وكنت سعيداً جداً بمعرفة فلوري،فكنت أمضي معها معظم

النهار،وفي الليل انام عند الحارس وزجته العجوز الطيبة.

لم أكن أعلم أني قد وقعت في حب فلوري إلا عندما أتيت إلى السوق في الصباح

ولم أجدها،فسئلت الصيني عنها،ولكنه هو أيضاً،لايدري عنها شيء،وأنتظرت

قدومها طوال النهار،ولكنها لم تأتي.

لم تغمض لي عين طوال الليل،كنت افكر،ماذا حصل لفلوري?لماذا لم تأتي?

وقبل موعد مغادرتي الطبيعي كل يوم إلى السوق،ذهبت مبكراً،وأنتظرتها عند

البوابة،وبقيت واقفاً أحدق في كل الفتيات التي تدخل السوق،ولكنها لم تأتي

وبين الحين والأخر،كنت اسأل الصيني عنها،فربما دخلت من غير أن أراها،ولكنه

كان يجيبني بالنفي،وهكذا مرت ثلاثة أيام بلياليها من الأنتظار والترقب.

كانت عيناي لا تفارق البوابة،،وفكري مشتت بين همومي

وفلوري التي ضمتني،حلقت بي إلى السماء،نسيت معها همومي وألامي،عوضتني عن الحرمان

أعطتني الحب والحنان،وقلبي دائم الخفقان،شعر معها بالأمان،فأغمضت عيني بهيام

فضاعت كل الأحلام،حبيبتي،قد خطفها الزمان،قدمت له القربان،صرخت ناديت،

سخر مني الزمان،لن ترى حبيبتك بعد الأن،سحرها عفريت من الجان،فتلاشت مع زبد

الشطآن،ارجع من حيث أتيت،قد فات الأوان.

لم استطيع البقاء كثيراً في السوق،فخيال فلوري يلاحقني في كل حركة اتحركها،

عدت إلى بيت الحارس،وأنا محطم،مشغول البال،ارتميت على السرير،ووضعت الوسادة

فوق رأسي،محاولاً الهروب إلى اعماقي الدفينة،لعلي أجد فيها شيئاً يواسيني

فشعرت بشفتيها تلامس أصابعي،وأنفاسها تدق أبواب قلبي،لم يكن حلماً،كانت هي

حبيبت،لم أقول شيء،شعرت بأن القلب الذي توقف،عاد ينبض من جديد،وضمتني

إليها،ثم قالت:

- اشتقت لك

- وأنا أيضاً،أين كنت كل هذه المدة?

- لقد زرت عمتي،وكانت مريضة جداً،فلم استطيع تركها وحدها،حتى تعافت.

- وأنا

- ما بك

- لقد مرضت بسبب بعدك عني،فمن سيبقى بجانبي?

ضمتني بقوة وقالت:

- لن اغيب عنك بعد الأن

- وإذا مرضت عمتك مرة ثانية!

- عندها،سوف نذهب سوية إليها

شعرت أن الحياة عادت من جديد،وكل شيء رجع كما كان،حتى الثلوج،لم تعد

تتساقط بغزارة،وعدت إلى بيع الطين،ولم أكن أفارق فلوري نهائياً،كنت أبقى

بجانبها حتى تركب الحافلة في أخر النهار،وأبقى واقفاً أنظر إليها حتى تغادر

وفي الصباح كنت انتظرها عند موقف الحافلة،وعندما تاتي أضع يدي

بيدها ونمشي إلى السوق.

عشت أيام جميلة مع حبيبتي فلوري،فقد نسيت كل الدنيا،ولم يبقى في عقلي وقلبي

سواها،اتفقنا على الزواج،وأن نبحث عن بيت نقيم به،ولكن بعد أن نجمع بعض

المال،وكانت تحبني كثيراً،فقد كانت تبكي عندما تأتي في الصباح ولا تجدني

بأنتظارها عند موقف الحافلة،فكنت أضمها إلى صدري،وأشرح لها سبب تأخري

فتهدأ،وتعود البسمة إلى وجهها الجميل.

كان الشتاء في أيامه الأخيرة،يحاول عبثاًالبقاء،ولكن الربيع لن يعطيه من

وقته مهما هدده بالثلوج والأعاصير،والشمس كانت تساعده،فقد ملت الشتاء

الطويل،وحنت للبلابل والعصافير.

كالعادة كنت أنتظر فلوري كل يوم في الصباح عند موقف الحافلة،ثم تعانقني

وأضع يدي بيدها،ونذهب للسوق،ولكن هذه المرة جاءت فلوري،وهي حزينة،وقد

احمرت عيناها من البكاء،وبالكاد تسطيع الكلام،فسألتها،ما بك:

_ عمتي مريضة جداً،وقد سهرت معها طوال الليل

- وكيف حالها الأن

- صحتها ليست جيدة،وقد جئت أخبرك بأني سوف أبقى بجانبها لبضعة أيام

حتى تشفى من المرض

- ولكني لا أستطيع البقاء من دونك

- سوف أخذك معي إلى عمتي لكي تتعرف عليك

- هل أخبرتيها عني?

- كلا ،لم أجد الوقت المناسب،فقد كانت مريضة جداً

- أمهليني بضع دقائق كي أخبر الحارس وزوجته،ثم نغادر فوراً.

ودعت الحارس وزوجته العجوز بعد أن أخبرتهم بأني سوف أغيب لبضعة أيام،مع

فلوري،وأخذت نقودي التي جمعتها من بيع الطين،تحسباً لطارئ ما قد يحدث معي.

وبسرعة وجدت نفسي جالساً بجانب فلوري في الحافلة متجهين إلى المدينة،وكنت لم

أرى المدينة منذ شهرين،عندما جئت مع أيمن،وتركني في السوق أعاني الويلات.

كانت فلوري تجلس بجانبي،وهي تمسك بيدي،وكأنني عصفور تخاف أن يطير منها،ويهرب

من النافذة.

نزلنا من الحافلة،ثم ركبنا بأخرى،لأن الحافلة التي تأتي من السوق لا تذهب

مباشرة إلى بيت عمة فلوري،وكنت قد بدأت أتذكر الشوارع التي سارت بها

الحافلة عندما جئت مع أيمن،فسألت فلوري:

- أين تقيم عمتك?

ابتسمت فلوري مع أنها حزينة على مرض عمتها،وقالت:

- لماذا تريد أن تعرف?

- لا شيء،مجرد فضول!

- على كل حال،عمتي تقيم في حي يقع على اطراف المدينة،في منطقة تكتظ بالغجر

وما يضايقني أكثر إنها تقيم بالطابق العاشر،وأغلب الأحيان يكون المصعد

معطل.

فسألتها بسرعة:

_ وما اسم عمتك?

ابتسمت مرة ثانية،وحدقت بي بدهشة،وكنت أتابع حركات شفتيها،وشعرت أن

الكلمة تحتاج يوم كامل لتخرج من فمها.


-14-

عندما سمعت اسم العمة ماريا تنطق به فلوري،أصابتني رعشة،سرت في عروقي

وشعرت بدوار يلف رأسي،فكررت وراءها بسرعة:

- ماريا..ماريا..هل قلت عمتك اسمها ماريا?

نظرت إلي بدهشة وقالت:

- نعم ماريا،لماذا تتعجب هكذا! وكأنك تعرفها

صمت لأن الكلمات التي أعرفها لا تساعدني كي أشرح لها كيف أعرف العمة ماريا

وتركتها كي تعرف بنفسها عندما نصل إلى بيت العمة ماريا.

نزلنا من الحافلة،ثم مشينا في الشارع الممتلئ بالغجر الذين كانوا يتابعون

خطواتنا عن قرب،دخلنا المبنى،ومن حُسن حظنا لم يكن المصعد معطلاً.

خرجت من المصعد لأصطدم بروكسانا،وهي تفتح الباب،فرمقتني بإستحقار ودخلت

إلى المصعد،ولم يكن أيمن معها،بل كانت تجر بيدها شاب أسود،ذو ملامح أفريقية

ولم أستطيع أن أكلمها،فقد غادرت بسرعة،وكأنها لا تريد أن يعرف الشاب بأنني

أعرفها،وكانت فلوري تضغط على جرس بيت العمة ماريا التي لم تفتح الباب،ثم

انتظرنا قليلاً،وعادت فلوري لتضغط الجرس تارةً،وتارةً أخرى تدق على الباب

ولكن لم يجيب أحد،فتذكرت مفتاحي الذي أخذته من العمة ماريا،فمددت يدي إلى

جيبي وأخرجته بسرعة،وفتحت الباب لأجد العمة ماريا ملقاة بجانب الباب ولم

تستطيع الوصول لتفتحه،من شدة مرضها.

أعنت العمة ماريا على الوقوف،ثم نظرت إلي وهي لا تصدق ما تراه،وصرخت مندهشة

فارس..نعم أنت فارس،وأخذتني بالأحضان،والعبرات تسيل من عينيها.

أما فلوري فقد كانت مندهشة،وهي تفكر،كيف تعرف عمتي ماريا فارس بائع الطين

وكيف وصل إليه مفتاح بيتها،ولكن كل هذه الأسئلة،أجابتها عليها العمة

ماريا عندما جلستا تتحدثان بسرعة،حتى أني لم أفهم إلا القليل من الكلام

بسبب السرعة،أو كان يخيل لي ذلك لأني لا أعرف لغتهم جيداً.

سألت العمة ماريا عن أيمن وفوجئت عندما قالت لي بأنها لم تراه منذ أن

غادرنا في ذلك اليوم.

أين ذهب أيمن إذاً،هل ممكن أن يكون قد ذهب إلى القرية،لا أعتقد ذلك،فلن

يذهب من دوني،أخاف أن يكون قد أصابه مكروه.

كانت العمة ماريا تتحدث،وقد بانت على وجهها علامات المرض والأرهاق،فطلبنا

منها أن تدخل لتستريح على سريرها،وبقيت أنا و فلوري حتى ساعة متأخرة من

الليل أقص عليها حكايتي الطويلة والشاقة،وكانت تهز رأسها بأستمرار،لتقول

لي بأنها تفهم ما أقول،مع أني كنت متأكداً بأنها لا تفهم ربع ما أقوله.

مر اسبوع على وجودنا مع العمة ماريا،كنا نحرص على أن تأخذ الدواء

بمواعيده،وكنا نخرج أنا وفلوري للتسوق،وكنت أقدم لها باقة من ورود الثلج

اللبنية التي انبثقت من بين الثلوج المتبقيةعلى الأرض،معلنة قدوم أول أيام

الربيع،وبعد أن شعرنا بأن صحة العمة ماريا قد تحسنت،قررنا العودة للعمل

في السوق،ولكن المفاجئة كانت قاسية على فلوري،عندما وجدت فتاة أخرى قد

حلت مكانها في متجر الصيني،ولكن صديقي الحارس وعدها أن يجد لها مكاناً أخر

تعمل به،وبقيت أنا أبيع الطين كالعادة بجانب بوابة السوق.

انتقلت فلوري للعيش مع عمتها،بعد أن تركت الغرفة التي كانت تستأجرها

ولم أفهم منها لماذا لم تقيم عند عمتها التي تملك بيت كبير.

أما أنا فكنت أبيع الطين،وأنام عند الحارس كل يوم،ماعدا أيام العطلة،فقد

كنت أذهب إلى بيت العمة ماريا،كي أرى حبيبتي فلوري التي كنت أشتاق لها

كثيراً،وأعد الدقائق،والثواني،كي أصل إليها.

كنت أجلس بجانب بوابة السوق أبيع الطين،وفجأة دخلت سيارات الشرطة،وأنتشروا

في كل المكان،وكالعادة كانت الزبائن تهرب من السوق والتجار يغلقون متاجرهم

وأنا أيضاً تعودت على هذا الأمر،فكنت عندما تأتي الشرطة،أترك الطين وأهرب

إلى بيت الحارس،حتى تذهب الشرطة،أعود فأجد الطين على حاله،لم يمسه أحد،ولكني

هذه المرة قررت أن أذهب إلى فلوري فقد اشتقت لها كثيراً،ثم اعود في الصباح.

أخبرت زوجة الحارس بأني لن أعود هذا اليوم،كي لا تقلق علي،فهي متعودة على

غيابي أيام العطل فقط،ثم ارتديت ملابس نظيفة،واتجهت إلى الحافلة،أسابق

خُطاي،لأصل إلى حبيبتي فلوري،كي أفاجئها بمجيئي،فهي لم تتعود أن تراني سوى

أيام العطل،وأنا متأكد بأنها ستطير من الفرح عندما تراني،وسوف أبحث معها

موضوع الزواج،فأنا الأن أعمل وأكسب المال ونستطيع أن نسكن في بيت واحد.

كنت أشعر بأن الحافلة لا تتحرك من مكانها من شدة شوقي لرؤية فلوري

حتى أني تمنيت لو نزلت من الحافلة،وركضت بأقصى سرعة حتى أصل إلى حبيبتي.