كثيرا ما كنت أُكرهُ نفسي على التعامل مع بعض الأشخاص فتزداد نفسي نفوراً منهم دون أن أجد التعليل . ذلك أنني كنت محاوراً يتذوّق فحسب، لا ناقداً يستطيع التعليل ويصبر على التحليل .. كنت أشك في أنسانية أولئك الأشخاص قبل أن أشك في قيمهم الأخلاقية وآدابهم الثقافية ، وكنت أزعم لبعض زملائي في معرض المناقشة أن هذا النوع من البشر خواء من (النفْس )وأن ذلك هو سبب عدم تقبلي لهم .على سبيل المثال هناك شخص قال :البعض بأنه كثير التفكر والهيام ، قليل المزاح والكلام ، فاختلفت معهم قائلا بأنه شخص: تحامل عليه الجهل والفقر حتى أسكتاه ،متعاهد مع الفقر على المحبة - متفلسف- مجادل - وملحه من الاعراب في لغة الفقراء : ما ناب عن المُطْلَق .
جمعتني وإياه أمسية ثقافية في منزل أحد الزملاء وقد كانت أمسيةً مغرية بدسمها الكثير،وغذائها النافع، وموقعها المرضي للذوق الرفيع، وبدأت مشاركتي بموضوع عن شخص عزيزعلي، حباه الله نفساً طيبةً خيرةً يغمر الحنان جوانبها تحاول أن تبتسم وأن يبتسم لها كل شيء ، تعشق الرضى والهدوء ، وتبحث عنهما في كل مكان وتتمنى لوكانت الحياة منبسطة هادئة لا عوج فيها ولانتوء ، إلا أنها اصطدمت ذات يوم بالواقع المُرّ فحارت وتألمت وشكت وبكت تارة وانفعل وغضبت وهدد بالنتقام تارة أخرى وما أن انتهت تلك الزوبعة حتى عاد إليها حنانها فعلت الابتسامة وجه صاحبها ابتسامة لم تفارق ذلك الوجه منذ رأيته إلا في تلك الفترة وبدأت تبحث عن الخير والتقدم بحث اللاهث المستزيد الذي كشفت له التجارب وجوه الأشياء، وكشفت له السنون الطويلة خبايا الناس، وطوايا العلوم فتوجهت إلى الدراسة و حصلت على شهادة الدكتوراه في علم النفس وأصبح ذلك الشخص محاضراً في إحدى أرقى الجامعات العربية ولم يكن لديه من الشهادات آنذاك سوى شهادة المتوسطة ، وكان كثيرا ما يتغنى بالأبيات الشعرية التالية:
إذا ما أتاك الدّهريوماً بِنكبةٍ ** فأفْرغ لها صبراً وأوسع لها صدرا
فانّ تصاريف الزّمان عجيبة** فيوماً ترى يُسراً ويوما ترى عُسرا
وبينما أنامسترسل في الحديث عن تلك الشخصية الفذة إذا بصاحبنا يقاطعني قائلاً : نعم نعم لولا الآلام والمصائب والأمراض لما وصلنا إلى هذا التقدم العلمي والعملي فالاضطرابات الهضمية المزمنة التي كانت تنتاب الخليفة العباسي المنصور ، ونوبات الصداع الشديدة الوطأة على هارون الرشيد هي التي دفعت بالعجلة إلى الدوران فمن قصور العباسيين في بغداد سٌيِّرت الرسل إلى مدينة (جنديساجور)عبر الصحراء لاستقدام ((جرجيس بن بختيشوع ))عميد مدرسة الطب الشهيرة آنذاك والمعروفة بالمدرسة الساسانية ، ومرّ قرن من الزمن وحل الرازي ضيفا على بغداد ليجد أمامه عدد من كتب الطب القديمة منقحة ومترجمة إلى اللغة العربية ،بالاضافة إلى عدة تآليف طبية صنّفها الأطباء العرب ،كالكندي، والكناني، وابن مسكويه وغيرهم.
صدقوني لولا تلك الاضطرابات الهضمية ونوبات الصداع لما كان للعرب بصمة في مجال الطب وأعود وأكرر أنّ الألم بشتى أنواعه هو المحرك الأساسي للتقدم والابتكارلأنه يحمل وجهين لعملة واحدة فهو البلاء الذي يواجهه المبدع بمزيد من الصبروالتضحية ، والغرق في عوالم التجارب والمحن والألم ثقافة ،وفكر، وخيال، واختزال لمآسي البشر، ومحفز للبحث عن النور في ظلمة الحياة، والمسؤول الأول عن ولادة النجاح والابداع ،اللذان ترعرعا في رحم المعانات ،ولولا أني تذوقت مرارة ذلك لكنت مثلكم أيها الكادحون اللاهثون خلف المناصب والمال والجاه، يامن لا تألون جهداً في جمع المال وتحبونه حبا جماً، أياديكم مظلولة إلى أعناكم، ولولا الاسلام لما مددتموها عند السلام على الناس، عندها صرختُ في وجهه قائلاً :ألم يكن موضوعنا عن الآلام والمصائب وكيف استطاع بعض الناس ترويضهما ليكونا دافعين أساسيين لنجاحهما..؟ ..اعلم أنه ليس كل من خُضبت حياته بالآلام بمقدروه أن يصنع الابداع لأن الأمر مُتعلق بالنفس البشرية السوية، والفطرة الانسانية السليمة ، وسل عن ذلك إن شئت السياب ومحمود درويش ودينكنز وبيتهوفن الذين سُجل الفارق بينهم في الابداع بقدر كمية الآلام والأحزان التي أضاءت دروبهم فقدموا للناس روائع تتصف في عالم اليوم بالنبوغ ،والخلود، والتميز، وهذا ما لم تحظى به أنت فآلام والأحزان قد خانتك، أوأنك لم تجد طعمهما يوماً لأنهما ربما لم يستصيغاك لأنك لا تطاق.
بلقم /محمد عبدالله يوسف
لأنك لا تطاق بقلم:محمد عبدالله يوسف
تاريخ النشر : 2010-06-13
