نافذة من بغداد : وزير .. بدرجة معلم بقلم د. كامل خورشيد
تاريخ النشر : 2010-06-10
نافذة من بغداد : وزير .. بدرجة معلم بقلم د. كامل خورشيد


الدكتور كامل خورشيد
جامعة الشرق الأوسط – عمان
عندما نقول عن فلان من الناس إنه) وزير) فإننا نشير إلى الوظيفة الرسمية المعروفة في العالم، وعندما نقول عنه بأنه) معلم ) فإننا نعطي للكلمة مدلولين: معنى الوظيفة الرسمية التربوية ومعنى الصفة، فالمعلم ليس وظيفة فحسب بل أرقى صفة يمكن أن يتصف بها الإنسان، و رحم الله الشاعر أحمد شوقي عندما حيا المعلم برائعته الشهيرة :
قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا !

و حديثي اليوم عن معلم تربوي شغل وظيفة وزير في العراق لسنوات، أبى خلالها إلا أن يظل معلما، وعندما غادر الوزارة للتقاعد فإنه لم يغادر صفة المربي والمعلم المتأصلة فيه، فبقي معلما، لأنه اختار طريقا يسمو به الإنسان ويرتقي إلى مصاف الأولياء، إنه أستاذي الدكتور عبد الجبار توفيق البياتي، وزير التربية في العراق من عام 1995-1997 ووزير التعليم العالي والبحث العلمي من عام 1997-2000 .
أبا آوس .. وهكذا يحب أن يكنى، عراقي الولادة والنشأة، حصل على شهادة الدكتوراه في التربية من جامعة ( بيتسبيرغ ) في الولايات المتحدة الاميركية عام 1972 وكان في الثلاثين من العمر، وله من الجامعة نفسها شهادة الماجستير في التربية، تخصص في العلوم التربوية والإحصاء التربوي والقياس والتخطيط التربوي، ويعد واحدا من أشهر المتخصصين بأساسيات التربية في العالم، وله باع طويل في هذا المجال حتى أن منظمتي اليونسكو والأليسكو العالمية انتدبتاه للكثير من مشاريعها ونشاطاتها على صعيد العالم والعالم الثالث تحديدا .

كان يوم الثلاثاء 23حزيران 1998 الساعة العاشرة صباحا موعدي مع الوزير لمقابلته بعد أن نقلت من وزارة المالية إلى التعليم العالي والبحث العلمي، ولم يدر بخلدي أنني بهذا اللقاء سوف أتسلم بعد ساعة واحدة فقط مهمة رئاسة قسم الإعلام بالوزارة المرتبط بالوزير مباشرة، بل وبقيت في ذلك اليوم حتى منتصف الليل بصحبة الوزير في مهمة إعلامية كانت باكورة أدائي في الوزارة .

كان الدكتور البياتي منظما جدا، ويكره الفوضى، ويحب الأصول ويحترم التقاليد الجامعية، بل يقدسها، ويتعامل مع الموظفين بالوزارة تعامل الأب مع أبنائه تماما، ولا يتخذ القرارات المصيرية إلا بعد أن يتشاور مع أعضاء هيئة الرأي الذين هم رؤساء الجامعات العراقية والمديرين العامين بالوزارة، ويولي أدق التفاصيل اهتماما خاصا، يطالع الصحف مع قهوة الصباح، ويحب الإعلاميين ويخصص وقتا كثيرا من يومه للقائهم والاستماع إليهم ومناقشتهم، الأمر الذي كان يكلفني ساعات طويلة من الوقت الإضافي لمتابعة ما بعد تلك اللقاءات !!

ما يميز الدكتور عبد الجبار البياتي هو الطبيعة الإنسانية وحب الخير والرقة في التعامل مع من يستحق العطف والرعاية والشدة مع المارقين والمسيئين، فكان عدوا للسيئين صديقا للخيرين، وقد كلفته هذه النزعة الإنسانية أحيانا عواقب مؤلمة في غير محلها ولكنها كانت بنت ظروفها وعصرها .
وحينما يكون في الوزارة فكأنه يعيش في بيته، يسأل عن هذا، ويتفقد ذاك، ويتابع الموظفين بروحية الأب الحريص، فلم ينس يوما أن يسأل عن موظف مريض أو يتابع حالة إنسانية أو يساعد محتاج أو يتدخل لتحقيق العدالة إذا ما شعر أن سطوة القانون أعلى من الرحمة، فكان شعاره "الرحمة فوق القانون"، وبالوقت نفسه كان يظهر حرصا على رصانة التعليم العالي وإبقائه نقيا نظيفا من التدخلات، حتى أنني شخصيا كنت شاهدا على مواقف شجاعة ورجولية أظهرها الوزير ضد إرادة متنفذين وكبار، فكان بمثابة صمام أمان للتعليم العالي من الانزلاق لهاوية الضعف والتدني .

كان حريصا على أن يطالع التقرير الصحفي الذي نعده بقسم الإعلام بالوزارة الأمر الذي جعلني أبكر للعمل بالوزارة قبل بداية الدوام الرسمي، وطبعا لا أستطيع مغادرة عملي إلا بعد أن يغادر الوزير إلى البيت منتصف الليل! ولكنه بالوقت نفسه لم يغمط حقي أبدا بالتمتع بيومين في الأسبوع تفرغ علمي في كلية الآداب لممارسة التدريس وإلقاء المحاضرات بقسم الإعلام .

ولقد غمرني وزملائي في قسم الإعلام بالوزارة بالرعاية التي لا توصف، فمع طول ساعات العمل المضنية كنا لا نشعر بالتعب أو الإرهاق، فمعه كان العمل متعة حقيقية، وكانت تلطيفاته التقديرية والمكافآت التشجيعية والحوافز المادية التي يغمرنا بها تخفف عنا وطأة العمل .
وقبل أن أعمل بالوزارة بهذه الوظيفة المتعبة ( مدير قسم الإعلام ) لم أكن أتصور حجم العمل الذي تنوء به الوزارة، فالوزير مسؤول عن أكثر من ربع مليون طالب جامعي و حوالي 12 الف أستاذ جامعي يعملون في 13 جامعة، فيها 126 كلية و 597 تخصصا علميا وإنسانيا. وهناك 8 كليات تقنية و9 معاهد فنية، بالإضافة إلى ( 9 ) كليات أهلية أخرى .
وكان على الوزير أن يتابع أيضا 56 مركزا بحثيا في الجامعات العراقية و23 وحدة بحثية و105 مكاتب استشارية و 65 مجلة علمية ومحكمة وعامة تصدرها الجامعات العراقية، وهذه الأرقام رسمية تعود لسنة 1999 كنت قد وثقتها آنذاك ووظفتها في مفكرة الوزارة لعام 2000 .
كان الدكتور عبد الجبار وزيرا شغولا، لا يعرف الملل ولا الكلل، فكان يواصل الليل بالنهار من اجل خدمة أبنائه الطلبة الذين كان يعاملهم بروح الأب الحنون وزملائه أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين يعاملهم بكل ود وتقدير قل نظيره.

وتشاء الأقدار أن التقي في عمان الدكتور عبد الجبار البياتي ثانية بعد تسع سنوات من التجربة السابقة، وأن أعمل معه في جامعة الشرق الأوسط الأردنية، والزائر لمكتب الدكتور البياتي في الجامعة سوف يندهش لكثرة الطلاب الذين يلجأون إليه في استشارة أو سؤال وهو يستقبل الجميع بروح متعاونة ويقدم الاستشارات العلمية للجميع بدون مقابل سوى ما يتقاضاه من راتب الجامعة، فهو وإن كان سابقا وزيرا بدرجة معلم ... فاليوم هو معلم بدرجة إنسان !!

[email protected]