ليس البحرُ أكثرَ احمراراً اليوم بقلم:جفرا دلال
تاريخ النشر : 2010-06-07
أغلق باب بيته الصّغير وراءه حيث ترك عائلةً كبيرةً تنسجُ الحياةَ كلّ يوم بما لديها من رغيفٍ و مكابرة ، و أطلق ساقيه للطّريق و خيالهُ لمزيدٍ من الواقع و الخيال.
هو الآن ذاهبٌ نحو البوّابة الوحيدة المُتبقّية. بوّابةٌ عجوز لكنّها لا تهرم. بوّابةٌ كبيرة مفتوحة للأبد على المدى.
هو الآن ذاهبُ إلى البحر.

وقف عند حافّة الماء فغمرته رائحة البحر.
بلّل يديه في خشوع غريب كأنّه يتهيّاُ للوضوء ثمّ رفعهما إلى السّماء كأنّه آخذٌ في الصّلاة ، ثمّ جلس.

ليس البحر اليوم أكثر احمراراً من اليوم الذّي استشهد فيه أفراد عائلة هدى غالية و هم يُمارسون حقّهم المشروع في أن يبلّلهم ماؤه قليلاً و أن تُزيّن بشرتهم بعض حبّات رماله. و ليس الشّاطئ أكثر اصفراراً. و ليس الموتُ أقلّ نشاطاً. و ليس الرّغيف أشدّ انقطاعاً. و ليست المستشفياتُ أشدّ استنفارًا. ولكنَّ بحر غزّة اليوم هو الأكثر شهرة من بين كلّ بحار العالم و العالمُ اليومَ غاضبٌ فعلاً ، حتّى أنّ مجلس الأمن قد اجتمع على الفور و قد تكْسِرُ الجامعة العربيّة القاعدة وتعقد اجتماعاً عاجلاً يكون عاجلاً فعلاً.

أخذ البحرُ يسرد عليه ملحمةَ الفجر ، فالبحر هو المكان و الشّاهد ، و البحر لا يكذب.
أخذ هو يَصِفُ للبحر ضجّةَ البَرِّ و كيف هَمَّ الباحثون دوماً على الهتافِ بالهتافِ ، و قد عاش " الشِسْمُو " اليوم ، عاش.
فالبرُّ لا يكسر الموجَ فقطْ ، و لكنَّ البرَّ يكسرُ أيضاً النّواياَ.
و النّوايا لا تسمن أخاهُ الصّغير النّحيف و لا تغنيه من جوع. و النّوايا لا تبني غُرفهم المُهدّمة منذُ أن صَمَّتْ آذانَهم نوايا المقاومة التّي لم تقاوم. و النّوايا لا تشفي والديه. و النّوايا لا تحميه من قنابل أو رصاص يشّوه أحلامَه و جسدَه متى شاء الضّابطُ الذّي شاء أن يشّوه البحرَ و يخنقه بقنابل الغاز اليوم. و النّوايا لا تعيد إليه شطر الوطن الآخر.

و النّوايا لا تصنعُ شيئاً البتّة ، غير مزيد من صور أبطال متخيّلين و هتافاتٍ خرافيّة.

ضحك كثيراً و هو يرتّب مصطلحات في ذهنه كأنّها قطعٌ من أحجية لا تكون إلاّ على هذا النّحو :

بحرٌ - برٌّ
برٌّ - واقعٌ
واقعُ - معضلةٌ
معضلةٌ - فراغٌ
فراغٌ - خيالٌ
خيالٌ - بحرٌ


و قبل أن يهمّ بالعودة إلى بيته الصّغير ، رمى بنظراته بعيداً نحو الأفق المُتَمَدِّدِ على ظهره دائماً دون حراكٍ و قالَ : فَلْتَعِشْ ما شئتَ من أسماء و لكنْ إيّاكَ أن تُغلق بوّابتي!