الشاعر الفرنسي شارل بودلير بقلم على عبد الفتاح
تاريخ النشر : 2010-05-22
- 18 –


شارل بودلير
( 1821- 1867 )

وقف الشاعر الفرنسي شارل بودلير أمــام القضــاء يدافـع عن تلك القصــائد
التي أطلق عليها " القصائد اللعينة " حيث تحدث فيها عن المرأة من خلال صور ماجنة وفاحشة لم يكن المجتمع في عصره قد تقبلها بعد
وقد انساق شارل بودلير حقاً وراء مفاتن المرأة معبراً عن اللذة الحسية دون اعتبار لقيم المجتمع .
ومن هذه القصائد التي اشتهرت بفرط الغزل الفاحش قصيدة ( الجثة ) التي عبر فيها عن المرأة حينما تفقد سحرها عند الموت ويذوي جمالها دون أن تستثمر في المتعة والنشوة واللذة الجسدية .
ويقول بودلير :
حينما ترقدين رقدتك الأخيرة
يا حلوتي المظلمة
في قعر رمس من مرمر أسود
وحين لا يبقى لك مخدع أو مأوى
غير كهف ينهمر عليه المطر
وغير حفرة جوفاء
وحين يضغط الحجر على صدرك المرتقب
وعلى جبينك ليعبث بهما
بلا مبالاة
سيمنع قلبك من أن
يخفق أو يشتهي
ويمنع قدميك من المضي في جريهما المغامر
وكان بودلير يقول :
- إني أرى أن مما لا فائدة منه بل ومن التفاهة أن أصور ما هو قائم لأن ما من شئ في هذا العالم يرضيني
إن بودلير تخترق الفكرة وجدانه .. فلا يمزجها بالطبيعة وإنما يغني ما وراء الطبيعة .. وهنا تختلط الصور الذهنية في أعماقه .. فلا يرضيه أن يزخرفها بالخيال وإنما ما وراء الخيال في عصف شحطاته الجسورة .
ولذلك نحس في شعره بعضاً من الرهبة والغرابة كأنه منقاد إلى منافذ عليا من التعبير وسلطة وقوة تدفع به إلى غرائب الأشياء .
وجاءت قصائد بودلير تثير الانفعالات والسخط حتى إنه أحياناً لا يدري كيف احتقر المرأة وصورها مجرد مصدر للمتعة الرخيصة .
ولذلك يقول بودلير لحبيبته ماري :
إني أحبك يا ماري .. أحبك حباً صادقاً
لإني أحب الله .. ولا أدري كيف كتبت
تلك القصائد اللعينة فأغفري لي يا ماري
ويعبر بودلير عن خوارق إبداعية تجتاحه ناتجة عن تأملات في الكون والموت والحياة ويكتب كما كتب جون ملتون في رائعته ( الفردوس المفقود ) ، والمعري في ( رسالة الغفران ) ، وشكسبير في ( هاملت ) ، ودانتي في ( الكوميديا الآلهية ) .
ولكن إذا كشفنا بعض أسرار في حياة بودلير تبين لنا بوضوح سر هذا الانزلاق إلى هاوية التهتك والفحش في شعره عن المرأة .
وحياة بودلير تقول بأن أم بودلير كانت شابه صغيرة مراهقة عندما تزوجت أباه الرجل الكبير الذي أقترب من الشيخوخة والأم ما زالت شابة في زهو الربيع .
وبعد وفاة والد بودلير تزوجت الأم الشابة من رجل آخر أثار الحقد والأحزان والبؤس في نفس الطفل بودلير
وفشل بودلير في دراسته وطرده زوج أمه من البيت ، وعاش بودلير وحيداً ضائعاً مشرداً وانطلق في حياة شاذة وانفق كل ما يملك من المال وحاول أن يقدم على الانتحار أكثر من مرة .
وظل يكتب رسائل إلى أمه ويقول لها :
- إن الذي أشعر به هو يأس مرير : إحساس بالوحدة لا يحتمل .. خوف مبهم من ضرر متوقع ، ثقة ضائعة بنفسي .. رغبة مفقودة .. البحث عن التسلية في غير طائل ..
ويكتب قصائده عن المرأة الساقطة المنهزمة المرأة الشيطان ، وجمع هذه القصائد في ديوانه : أزهار الشر.
وتلاحظ دائماً لعناته على المرأة .. وإحساسه بالخوف من الأشياء والكائنات .. ويحلم أنه في غابة مرعبة أو في مدينة تسكنها الوحوش .
ويظل يبكي . ويكتب شعراً ..
ويكتب رسائل إلى أمه لتنقذه من الضياع والجوع .. والظمأ إلى حنان الأمومة .
ويقول في إحدى قصائده معبراً عن خوفه وأحزانه :
حول جنتي أحسست بالشيطان
إنه يسبح حولي كهواء غير محسوس
استنشقه وأحس به يحرق رئتي
ويملؤها بشهوة أبدية مجرمة
وأنه ليعرف حبي للفن
فيتخذ شكل امرأة فاتتنة مغرية
وبشتى الطرق والمحاولات يلصق شفتي
بأقداح محرمة
وبهذا يبعدني عن أعين الله .
ورغم هذه المشاعر الحسية التي صور بها المرأة إلا أن شطحاته الذهنية أحياناً كانت تتجه إلى السمو .. والهروب من جحيم الجسد .. والمادة ومحاولة التحليق، فيقول في قصيدة عنوانها " سمو " :
فوق البرك .. وفوق الوديان
وفوق الجبال .. والغابات والسحب والبحار
بعد الشمس .. بعد الأثير
بعد حدود الفلك المكوكب
أنت يا روحي تجولين بخفة
كالسباح الماهر .. مترنحاً فوق الأمواج
وأنت لتمخرين في أعماقها العظيمة
بلذة جميلة
طيري عن هذا الغصن المريض
تطهري في الآفاق العليا
وأشربي ذلك الرحيق السماوي
تلك الشعلة الصافية التي تملأ الأجواء الشفيفة
وعاش بودلير في برك الإثم والخطايا حتى سقط مريضاً وفارقته روحه الحبيسة في سجون الصدر .. وطويت صفحة من الألم .. والذكريات الحزينة ..
واللحن الممزق ..
والنغم الضائع ..