"الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو "بقلم: عدنان أبو شومر
تاريخ النشر : 2010-05-15
استطاعت أن تنهب الطريق بخطواتها .. تسابق خيالها الممتد بين كل خطوة , وخطوة.. حتى غابت عن أنظار الجميع .. استندت عند أول جدار في نهاية الطريق , ثم توكأ ت على عصى كانت ملقاة الى جانب الجدار , وكأن لسان حالها يعاتب سنوات عمرها .. أرقبها من بين ثنايا الطريق البعيدة.. لم تنتبه لأحد .... استراحت فترة قصيرة , ثم أكملت مسيرها , حتى مالت بها الطريق الى الشرق ..
انحنت بقامتها , ثم استحثت خطواتها أكثر .. الطريق بدت أكثر اكتظاظا...!!
تاهت بين الزحام , وبين عيون المارة , فأصبحت تميل يمنة ويسرة , تصطدم بهذا تعتذر منه وتصطدم بتلك فتعتذر منها .. أدركت بأنها فقدت توازنها , انحنت الى إحدى جوانب الطريق أمام أحد المعارض .. لفتت بترنحها انتباهه , أسرع إليها وشدها بيديه , ثم قال لها : اجلسي يا ابنتي .. أراك متعبة .. يبدو أنك مريضة ..!! لم تتحدث.. مالت بما تبقى معها من آثار قوة لتهبط دفعة واحدة على كرسي صغير أعده الرجل العجوز لها , ثم أسندت ظهرها الى باب الجدار .. وأخذت تحدق في نفسها وفي الآخرين وفي محتويات المعرض .. وقع نظرها أخيرا على العجوز صاحب المعرض .. نظرت إليه , وكأنها تخاطب أبيها الذي ضاع هو الآخر في زحمة الزمان والمكان .. وكان ضياعه للأبد ... علم من نظراتها أنها بحاجة الى من يمسح دمعتها , ويداوي جرحها بكلمات حانية , اقترب منها , ثم جلس على كرسي يقابلها .. وقال لها : ما حكايتك يا ابنتي.!؟
قالت بعيون تفيض بالدمع .. ! ليست لي حكاية...!!
والدي العزيز المكان لا يسمح لي بالحديث ..!دعني أرتاح قليلا .. ثم أمضي الى حال سبيلي ... !! انتظري قليلا يا ابنتي .. لتشربي هذا الكوب من الماء .. ثم استدار بنظره الى زبونة من زبائن المعرض تسأله عن بعض الأصناف .. قائلا لها ..... اختاري ما تشائين ..!! الأصناف كلها جميلة ...!!
ثم عاد إلى الفتاة .. أعتقد أنك أصبحت الآن بحالة أفضل ... حاولت النهوض , ولكنها هبطت دفعة واحدة فقد عاودها الدوار .. من جديد
أدرك صاحب المعرض أنها بحاجة الى مزيد من الراحة , تركها لحظة .. ثم نظر في عينيها
فقرأ فيهما سرا كبيرا وقصة خطيرة ... اتصل عندئذ بزوجته , وطلب منها الحضور على جناح السرعة , حضرت الزوجة..تمتم في أذنها وأشار الى الفتاة...
اقتربت منها .. ثم جلست الى جوارها تحدق في عينيها ووجهها , وأخذت تمسح دموعا غظت وجهها.. رفعت رأسها تحدق في زوجة صاحب المعرض , وتقول بلسان حال اليائس: أمي .. !!! احتضنتها زوجة صاحب المعرض , وأجهشت معها بالبكاء , ثم أخذتها الى غرفة جانبيه بعيدا عن عيون وآذان الزبائن , وقالت :أكملي يا ابنتي .. قالت : لقد تركني الجميع أواجه مصيري .... بعد أن ...!!!!
لا تتوقفي .. أكملي ..!!
فأنا كلي آذان صاغية , ثم أردفت بلهجة المرتجف الخائف: أنا ... لا أستحق الحياة ..
لماذا يا ابنتي ..؟!!
أنا من ضيع عمره بين ..!! وبات ينتظر قدوم الليل لأعانق الهوى .. !! بعد أن غاصت أقدامي في وحل الخطيئة .. !! وبت بلا أنيس وبلا رقيب .. !!
من أي الديار أنت ..؟!!
أنا من جانب الجبل الممتد من منبت الغروب..!! الى اعتراض أطرافه المتكونة عند بوابة الشمال ..!!
أنا من بين أطياف الليالي الداكنة البعيدة عن الضوء ..! أنا ابنة شياطين المساء المتربعة فوق عروش الآثم ..!
أغني في الليالي الحمراء ...! أراقص الهوى مع ظل خطيئتي ..!احتضن غراما قززني..!! وأضاف الى ذاكرتي مزيدا من القهر والضياع.. !
أبيت بين هذا وذاك , أعيش المساء رغم أنفي.. وأعيش مع الهم بعد أن يتركني سقطة القوم ..!! ابكي ولا يراني الى الذين هم أكثر احتقارا مني .. !! ولكنهم يبكون بين زوايا جسدي المخفية بعد أن يرتعوا من بواقيه.. ضاع هذا الجسد ...!!!بعد أن كان يحلم بفارس قادم على ظهر حصان أبيض يحتضنه.. ويحلق فيه في سماء العفة والفضيلة ..
انكساري هو ضعفي , وهو ما كان من صنع يدين كانتا رمزا للطهر والعفاف , حتى أوقعتني تلك الساقطة في أحضان نفاقها , عندما جردتني من كل قيمة أخلاقية , ثم قادتني الى بهو غرفتها ... كنت أظنها صديقتي الحميمة , ولكني بعد ما استيقظت ..!! أدركت أنني أصبحت فريسة سهلة تنهشها الوحوش لتتغذى بنهم الشهوة , وأتون الشذوذ .. !!
فبت أراقص الهم , وأبيع ما تبقى من إضاءات كانت مخفية.. لحقير ساقط ..!! , أو لكبير ناقص ..!! حتى حان وقت انتقامي من سبب بلائي وسقوطي , وضياع شرفي ..
ثم ....!!! ثم ماذا ؟!!.. توقفت فجأة عن الكلام أخذت تدور بعينيها يمنة ويسرة ..!! وكأن أحدا يلاحقها وترتجف .. ما بك يا بنتي ...!! لا تخافي ..!!
أكملي .. اقتربت مني ووجهت صوتها الخافت الى أذني...ثم قالت .. قتلتها .. !! نعم قتلتها ..!! ثم ...قتلته.. نعم قتلته ..!! وتركت سكيني مغروزا فيها ..!!
وأخيرا ...انتظرت حتى خرجت آخر أنفاسه ... وآخر أ نفاسها ...ال خ ب ي ث ة .. !!


غزة ـ فلسطين