ذات ظهيرة بقلم:فاتن الجابري
تاريخ النشر : 2010-03-08
ذات ظهيرة بقلم:فاتن الجابري


ذات ظهيرة
فاتن الجابري
يتناهى إلى سمعي صوت تدفقات الماء في ظهيرات الصيف القائظة يفر نوم القيلولة من أجفاني مع اندلاق المياه ، أخرج خلسة إلى الشارع والجميع نيام تحت لفحات مبردة الهواء التى يزمجرصوت محركهاعالياً, أتسلل خلسة , أرفع مزلاج الباب بحذر زقاق حيناً ، خالٍ تماماً من المارة ، أراقب قدميها الوردتين وأتحرق لانفراجة صغيرة من الباب الحديدي المتآكل ، كان القلب ينبض بدقات العشق الأولى لابنة الجيران أتلصص كلما فتح بابها علني أرى وجهها الجميل مشرقاً بابتسامتها الحلوة وهي تغلق الباب تاركة فرجة صغيرة تنظر إلي من خلاله ، .... كنت لا أرى سوى قدمين حافيتين تغمرهما المياه المتدفقة من الخرطوم البلاستيكي حتى عتبة الباب , صبية زقاقنا يتهامسون بقصة حبي لذات الضفائر الذهبية ويسخرون متضاحكين من ساعات انتظاراتي الطوال تحت أشعة شمس تموز اللاهبة التي أحسها نسائم ربيعية باردة تهفف على روحي الغافية بالعشق الذي لا يناسب ضآلة جسدي وسنوات عمري المبكرة ، كانت الطائرات المقاتلة تجوب السماء باتجاه الشرق تاركة خلفها خيطاً أبيضاً من الدخان نتبعه راكضين ، لكني في تلك الظهيرة قبلت التحدي لاختبار رجولتي ، العملاقة ، والجنية والحبابة كن واقفات منتصبات وسط حديقة دارنا يشهدن حماقة مغامرتي , ليست هذه أسماء فتيات بل نخلات جميلات يميزن بيتنا عن البيوت الأخرى فهن علامة دالة لا يخطئها النظر، الجنية ذات التمر الخستاوي طولها بطول قامة رجل أو أطول بقليل نرفع أيدينا ونقطف رطبها الذي ينضج مبكراً اسماها جدي جنية عندما غرس فسيلتها قبل ولادة والدي ,غرسها بين الحبابة التي نتسلق سلماً صغيراً ونقطف تمرها الخضراوي و العملاقة الباسقة ، التي لاأحد يستطيع اقتحامها والتمتع بتمرها الحلاوي ، تبقى عصية علينا إلا أن يحين وقت قطافها من قبل الصاعود صاحب الخبرة في صعود النخلات الباسقات كعملاقة دارنا ، لكني راهنت الصبية على, تسلقها وقلت لهم ستأكلون من تمرها بعد دقائق ، ضحكوا غير مصدقين ، دخلت حديقة الدار حملت كيساً ربطته حول معصمي ، خلعت النعال البلاستيكي وضعت طرف دشداشتي في فمي طوقت جذع النخلة بيدي الاثنتين وبدأت أنقل قدمي بخفة ومهارة أذهلت الصبية المتجمعين خلف السياج ، كنت أبتعد عن الأرض لا أشعر بجسدي الذي أصبح كريشة ، أشجار الحدائق المجاورة تحت بصري , مرة أخرى .. بدأ الهلع يزحف إلى قلبي الذي غمرته السعادة لسماع ترقرقات الماء من بيت جارتي ، كانت هناك تراقب سقوطي المحتمل ، واصلت الصعود حتى قلب النخلة الزاخر بالعذوق المتدلية والحبلى بالرطب ، أمسكت بقوة بسعفاتها ، وخزات السلى كانت توخز أقدامي ويداي المتشبثتين بتحدي جلست بين السعفات فوق الإبر المدببة التي اخترقت مؤخرتي بعد أن مزقت دشداشتي ، في حين كنت أسمع تصفيقاً وهتافات تشجيعية من الصبية الذين تفرقوا حين ظهور أمي تجري ورائهم صارخة وموبخة تشتم وتلعن رعونتي ، نشوة المنتصر تلاشت ، وأنا أرى أمي كدمية تروح وتجئ في حيرة استعانت بسلم طويل مدته لي لكنه لم يصل الى نصف جذع النخلة تجمع الجيران ينظرون بهلع نحو القرد العالق في قلب النخلة وليس لديه أدنى فكرة عن طريقة النزول إلى الأرض ثانية ، أشعر بأصوات الطائرات الحربية مدوية وهي تمر من فوق راسي ، في رحلتها شرقاً ، أرتعد وتهتز فرائصي هلعاً ، حركة حمقاء مفاجئة واحدة غير محسوبة العواقب تقذفني جثة هامدة لا أدري بأي أتجاه تقذفها الريح التي زادت حركتها في ساعات العصر حيث كنت عالقاً , خرج جدي من غرفته التي نادراً ما يغادرها معتكفاً غارقاً بالحزن وهموم الذكريات منذ أستشهاد والدي, مستنداً إلى عصاه اقترب ووقف تحت النخلة يكلمني ويشد من عزيمتي لكني لا أسمع صوته الواهن ، فجأة انكسرت إحدى السعفات تحت قدمي وتهاوت أرضاً ، علا صراخ أمي مدويا يبوووو ، وتوقف حالاً بسقوط السعفة اليابسة أرضاً ...
بدأ جدي يرفع صوته يرشدني إلى طريقة النزول الأمن ملوحاً بعصاه أن أستدير بمهل :
ـ أترك السعفات وأحضن جذع النخلة مبتعداً عن العذوق ، بدأت بتنفيذ تعليمات جدي وأنقل يدي وقدمي بالتناوب محتضنا الجذع بقوة بيدي الداميتن ، عاد الصبية خلف السياج يهتفون مشجعين نزولي بسلام .... همت أمي بصفعي ، منعها جدي وهو يحتضنني بحب ,قائلاً :
ـ دعيه اليوم ، اجتاز أمتحان الصعود الأول .
لكني عاهدت نفسي أن يكون الأخير , لأن جارتي الحلوة انتقلت من زقاقنا ولم أرها منذ ذلك اليوم .


من مجموعة سرير البنفسج