هذا الرجل .. سؤال الوجود وجوابه بقلم : محمد حسن رضوان سالم
تاريخ النشر : 2010-03-03
في أواخر السبعينات كنت طالباً في أواخر المرحلة الابتدائية, توفي والدي مبكراً .
كنت أعيش مع أمي وإخوتي الثلاثة في بورسعيد تلك المدينة الساحلية الرائعة,كان في بيتنا الصغير ثلاثة اختراعات تكنولوجية فقط لا غير جهاز تلفاز أبيض وأسود16 بوصة وبوتاجاز ومصباح كهربائي عادي , كان أمتع تلك الأجهزة في نظري هو التلفاز كان وما زال عالماً مدهشاً من الروعة والجمال , كانت تحرص أمنا - أمدها الله بالصحة والعافية – أن نتابع البرامج المفيدة مثل:- العلم والإيمان , نادي السينما ،اللقاء الأسبوعي للشيخ الشعراوي , برنامج جولة الكاميرا , نشرة أخبار التاسعة مساءاً , أفلام الكارتون والعرائس المتحركة . كان أعظم الُمنى وكل المتاح من عالم البث قناتي التليفزيون المصري فقط القناة الأولى والثانية .
كان يطل علينا مساء كل يوم ثلاثاء ذلك الرجل الرائع العجيب ذو النظارة الكبيرة والحديث الهادئ العميق الذي يمزج فيه مزجاً ساحراً مقنعاً بلا تكلف بين العلم والإيمان ويثبت كبرهان رياضي في كل مرة أنه لا تعارض بينهما وأن العلم يقود للإيمان وأن من مقتضيات الإيمان "البحث العلمي" وأن قائد الحياة هو الإيمان وأن الإيمان حقائق توجد الإنسانية روحاً وجسداً وشعوباً , وأن العلم وطلبه دائماً من ثوابت الاستخلاف في الأرض وعمارتها ولا يلغي الإيمان أبداً العقلَ بل يعلي من شأنه ويحاوره ويطلقه من عِقال الأوهام والخرافات والدجل والشعوذة والاستعلاء الكاذب إلي آفاق الحرية والواقعية التي تهدي لسبل الخير والحق والعدل والجمال والسلام .
ومع كل حلقة من حلقات برنامجه " العلم والإيمان " تربيت – وجيلي كله - تربية حقيقية علي أن الحياة رائعة وغنية بكل ما فيها من علوم وأن العلم نور ونور العلم هو الإيمان وأن العلم ثورة وهاديها الإيمان وأن العلم قوة ورحمته الإيمان .
كنت أدرك تماماً تلك المعاني في هذا الصبح المبكر من العمر بعد كل حلقة من حلقات برنامجه الذكي , الذي يأخذك مع الكون المنظور واللامنظور من قطرة الماء حتي المجرات عبر 400 حلقة كاملة لتوقن في النهاية أنك كنت في رحلة مع الله . يقول لك تأمل , اندهش, وفكر واسأل وابحث , العلم سؤال متجدد دائماً ولن ينتهي .
كان برنامجه روشتة نهضة لمصر ولعالمنا العربي والإسلامي يعرض نماذجاً لدول جنوب شرق آسيا وهكذا مبكراً كيف ستنهض وأدوات نهضتها لعلنا نلحق بالمستقبل
وكلما انتهت حلقة من حلقات برنامجه - الذي يشع حكمة ونوراً- لا يسعك إلا أن تجلس مبهوراً في انتافضة وعي وتسبيح بحمد الخالق المبدع العظيم . فيزداد علمك علماً وإيمانك إيماناً .
على شبكة الانترنت الآن تستطيع تحميل ما تشاء من تلك الحلقات المفيدة حقاً .
وفي المرحلة الثانوية مرحلة المراهقة والتمرد والمشاعر والأسئلة الفلسفية كانت كتبه تنوع جديد يأخذ بيدي لبر الأمان , يربض علي كتفي ويقول عندك حق وسؤالك له إجابة , أعطيك جزءاً منها وابحث بنفسك عن التكملة .
في "حوار مع صديقي الملحد" وفي "رحلتي من الشك إلي الإيمان " طريق لله
وفي "يوميات نص الليل" و " أناشيد الإثم والبراءة" و " في الحب والحياة" خبرة الحياة و رؤي جديدة أعمق لمفردات حياتنا كي نفهمها فهماً رشيداً حكيماً وفق رؤى الإسلام .
وفي "55 مشكلة حب" تبكي وتضحك وتتأمل وتندهش من قصص دقات القلوب وما الذي يحدث للمرء عندما يسلم قياده للعاطفة بلا ضابط من عقل أو دين.
وعندما تتوه في فهم لعبة السياسة وألاعيب السياسيين وتحار في فهم واقع الإسلام والمسلمين ومستقبلهم اقرأ إن شئت " الإسلام في خندق" و "قراءة للمستقبل " و "كلمة السر"
وعندما تريد إجابات كاملة لأسئلة حيرت الفلاسفة أعمدة المدارس الفلسفية للغرب اقرأ أجوبتها الشافية عندما تخرج ببساطة من رحيق نفس مؤمنة عصرية في " لغز الحياة" و " لغز الموت" .
أستمتع وأيما استمتاع بكتابه " عظماء الدنيا وعظماء الآخرة" و " التوراة " و " محمد صلي الله عليه وسلم " و" القرآن كائن حي " و " القرآن ..محاولة لفهم عصري"
لقد سخر قلمه وفكره وعمره لإيجاد حالة من الوعي عند المسلمين بقضاياهم الأهم .
ليبقى إنتاجه الفكري في ميزان حسناته "علمٌ ينتفع به" .
مع هذا الرجل عشت عمراً أطول بكثير من عمري.
لم يكتف الرجل بعالم الطب وجراحة المخ والأعصاب ولا بالانقطاع لعالم الفكر والكتابة منذ عام 1960ولا بأنجح برنامج في التليفزيون العربي على الإطلاق إنما تواصل مع آلام الفقراء والمحتاجين ومن عائد بيع كتابه " المستحيل " أشترى قطعة أرض في أرقى أحياء القاهرة وأنشأ عليها مسجد وألحق به ثلاث عيادات طبية لخدمة مجتمعه وجمعية لرعاية الفقراء واليتامى والأرامل ومتحفاً للجيولوجيا وسير القوافل الطبية للأحياء الفقيرة والنائية . ليبقى هذا الصرح العظيم فى مبناه ومعناه في ميزان حسناته " صدقةٌ جارية".
ولقد عرضت عليه الوزارة في مصر في عهد الرئيس السادات فاعتذر عنها بأنه ليس رجل سلطة .
لقد كنت محظوظاً جداً أن عشت في عصر هذا الرجل وأشد حظاً بأن تربيت علي فكره دون أن أراه عياناً , يخسر كثيراً من لم يتعرف علي فكر هذا الرجل ويتعمق فيه ويناقشه ويتأمل كيف يكون الصدق في الطرح والبساطة في الأسلوب. تتمتع معه فى عالم الحوار وتستمتع أكثر معه في عالم القلم .
لقد دمعت عيناي فور قراءتي خبر وفاته صباح يوم السبت 31/10/2009عن عمر 88عاماً نهضت من فوري لأصلي علي روحه صلاة الغائب .
هذا الرجل لم يرحل بل باق بما ترك من علمٍ وصدقٍ وعمقٍ لتجربة النفس الإنسانية
ولا يموت من كانت رسالته أن يدل الناس علي الحي القيوم.
كان يقول دائماً: " قيمة الإنسان فيما يضيفه إلي الحياة بين ميلاده وموته " أشهد ويشهد معي الملايين كم أضفت من خير أيها الرجل الكبير .

ومن آخر ما كتب وهو على فراش المرض :-

إلهي..
لا قدرة لي على طاعتك إلا بمعونتك..
لسان حالي دائماً (إياك نعبد وإياك نستعين)
مستعين بك على عبادتك
وبدون هذا العون منك لا يمكن أن تقوم لنا عبادة
وإن كنت أترنم بأسمائك وأبتهل وأغرق وأسبّح لجلال وجهك فبكلماتك التي تلقيها في قلبي..
يا إلهي..
يا ربّي الوحيد..
أدعو معي - يرحمك الله – اللهم أرحم العالم والطبيب والمفكر والأديب والإنسان الدكتور مصطفي محمود.