6 ـ تأنيب الضمير :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الأيام التالية تصدرت العناوين الرئيسية للصحف قصة الموت الغامض للراقصة ورفيقيها ، وبعد أيام قلائل أعلنت نتيجة التشريح ، كانت مذهلة وغير متوقعة ، فقد صرح المسؤولون عن التحقيق أن الثلاثة ماتوا بلسعات قاتلة من العقارب .
أدلى كثير من العلماء في الصحف والإذاعة والتلفزيون عن دهشتهم لهذه النتيجة ، تساءلوا كيف تمكنت العقارب من التواجد في مثل هذا المكان ؟! وفي مثل هذه البيئة ؟! شكك الكثيرون أنه حادث مدبر ، ذلك بعد أن أحضر مجهول أو مجهولون العقارب من الصعيد أو الصحراء ، ووجدوا وسيلة ما للقضاء على هؤلاء الثلاثة ، وأرجعوا الجريمة إلى دافع الانتقام أو الشرف .
تواردت أخبار أكثر إثارة ، فقد مات ضحايا كثيرون بلسعات العقارب ، وبدأت الصحف تهاجم المسؤولين عن الإهمال الجسيم في محاربتها ، وشنت حملة عنيفة للقضاء على العقارب ، ورصدت جوائز مالية لمن يصطاد العقارب حية أو ميتة .
اشترى "عزيز" سيارة بجزء من الأموال التي ربحها ، كان يضعها في مكان مهجور قريب من الفيلا ، وفي الليل يتسلل منها ، ويستقل السيارة ويبدأ في اصطياد فرائسه ، أصبحت لذته التي لا غني عنها أو العيش بدونها لسع ضحيته بعد أن تأمن له ، ويستدرجها إلى أحد الشوارع الخالية ، أو الأماكن المهجورة ، ثم التخلص منها .
ثم بدأ يغير خططه ، وأصبح يجد متعة ولذة في اصطحاب ضحيته إلى الصحراء ، بعد أن يلسعها يدسها في التراب .
أصيب الناس بفزع ورعب شديدين ، بعدما أعلن على الملء أن هناك ثمة غموض رهيب يحيط بهؤلاء الضحايا ، ولا يستبعد أن يكون عدوا خارجيا يسلط هذه المخلوقات ؛ لبث الرعب بين الشعب ، وأصدر بيان عام بالابتعاد عن الأماكن المهجورة ، وعدم السير في الأماكن الخالية ، بالرغم من ذلك كانت الحوادث تتزايد ، ويأتي كل صباح بالأخبار المثيرة المفزعة عن ضحايا جدد .
كان الدكتور "أسعد" يطالع الصحف ، ويتابع الأخبار في الإذاعة والتلفزيون باهتمام بالغ ، وبدأت الهواجس والريب تجتاح فكره ، فمنذ سبعة عشر عاما ساعد في استنساخ مخلوق مسخ ، كان يحمل مورثات العقرب ، بالرغم من أنه لم يره بعد مولده مطلقا ، ولم يعد يعرف عنه شيئا بعدما أسدل الدكتور "عزام" ستارا كثيفا ، وعتم على أي معلومات عن مدى نجاح هذه التجربة المثيرة مع تقدم عمر هذا المخلوق .
ومن ثم بدأ يشعر بتأنيب الضمير ، وأنه شريك في هذه الجرائم التي راح ضحيتها أبرياء ، انتابته الحيرة البالغة في مواجهة هذه المشكلة المخيفة ، أيضا الفزع من عقاب الدكتور "عزام" الذي يستطيع بإشارة من إصبعه القضاء على مستقبله ، بل وتصفيته جسديا ، على الجانب الآخر فلن تصدقه السلطات وستعتبره مجنونا إذا اعترف لهم بجرمه ، هذا بالإضافة إلى عقاب المجتمع له إذا قدر أن يصدقوا هذه الحقائق .
أصابته حيرة قاتلة وأعياه التفكير ، حتي اهتدي لحل لم يجد مفرا منه على الرغم من خطورته ، قرر بعد أن استجمع قوته وإرادته أن يتصل "بسكينة" التي لم يعد يراها منذ ولادتها نسخ الدكتور "عزام" .
دق رنين الهاتف في فيلا الدكتور "عزام" ، كان هذا حدثا غريبا ، فمن النادر أن يصلصل صوته ، فرقمه سري ولا يعرفه أحد ، تطرق صوته إلى "سكينة" وهو يرن بإلحاح شديد ، هبطت من حجرتها إلى الطابق السفلي ، تقدمت إليه ببطء وتردد ، رفعت سماعته ويدها ترتجف ، وتناهى إليها صوت مألوف عبر الخط الآخر ، مع ذلك لم تستطع أن تميزه ، هتف الصوت :
ـ إنني الدكتور "أسعد" .
تمتمت "سكينة" بفتور:
ـ أهلا يا دكتور .
قال بانفعال :
ـ أريد أن ألقاك لأمر هام .
دق قلبها سريعا وهي تسمع نبرات صوته المنفعل ، تبادر إلى ذهنها من فورها أنه يريد أن يحدثها عن أمر يخص نسخ الدكتور "عزام" ، فحاولت أن تتكلم بصوت ثابت وهي تتساءل :
ـ ما هو يا دكتور ؟
صاح :
ـ لا أستطيع البوح في التليفون ، قابليني غدا في حديقة الأورمان الساعة العاشرة والنصف صباحا ، بعد أن تتأكدي من مغادرة الدكتور "عزام" الفيلا .
وضعت "سكينة" سماعة الهاتف بذهن غائب ، لاح على وجهها شرود ، جعلها لا تسمع خطوات الدكتور "عزام" المتلصصة حتى أصبح خلفها تماما ، عندما التفتت لتصعد إلى حجرتها وجدته أمامها ، أجفلت بعنف وتراجعت إلى الوراء في رهبة .
بدا على وجهه شبح ابتسامة متوعدة تنذر بالويل ، هتف بصوت بارد كنصل السكين :
ـ مع من كنت تتكلمين ؟
كان وجهها شاحبا كالأموات ، ازدردت ريقها بصعوبة ، وقالت في محاولة يائسة لتكون رابطة الجأش :
ـ الدكتور "أسعد" .
رمقها بازدراء وهو يقول بحدة :
ـ ماذا كان يريد ؟
ـ كان يريدك لأمر هام لم يخبرن عنه .
لم ينبس الدكتور "عزام" بشفة ، فقط أدار ظهره لها متوجها إلى مكتبه ، ودخله بعد أن دس مفتاح من مفاتيح كثيرة معلقة في سلسلة أنيقة من الذهب ، ثم صفق الباب بعنف .
تنفست "سكينة" الصعداء ، صعدت في السلالم ، في طريقها إلى حجرتها ألقت نظرة على حجرة "عزيز" المغلقة بإحكام ، سادها سكون عجيب كسكون الأموات ، وهو قابع داخلها لا يتحرك في مكانه المعهود من الصوان .
جلست خلف نافذتها المطلة على الحديقة ، عادت بذاكرتها إلى الوراء ، منذ كان "عزيز" في الثامنة من عمره ، فقد كذبت عينيها عندما لمحت الذنب القاتل ، يلتف حول الكلب الوولف ليختفي فجأة ، انتابها الشك ، وساورتها الظنون في أن "عزيزا" كان وراء تلك الحوادث ، التي قرأتها في الصحف ، وسمعتها في الإذاعة والتلفزيون ، ثم بدأ الشك يتحول إلى يقين بعد أن رأته يتسلل من حجرته خلسة ، ثم يخرج من الفيلا في جنح الظلام .
كان شعورها غريبا ، فقد أحست بالرثاء والخوف على "عزيز" ، لم يخالجها أي شفقة على هؤلاء الضحايا الذين سقطوا موتى بعد أن سرى السم الزعاف إلى أجسادهم ، لأنهم أيضا جلادون مثل الدكتور "عزام" .
لقد كانت أول ضحايا هذا الرجل الرهيب الذي سلبها آدميتها وإرادتها ؛ ثم "عزيز" المسكين الذي فقد هويته كإنسان أو حتي حيوان ، لقد أصبحت على يقين أن الدكتور "أسعد" يشاركها هذا السر الخطير ، وعليها أن تناضل من أجل ابنها .
في هدأة الليل سمعت صوت صرير نافذة "عزيز" تفتح ، ثم حفيف أوراق الشجرة المقابلة للنافذة واصطكاك فروعها وتكسرها ، أبصرت شبحه يتسلل في الظلام المخيف ، ويتلاشى في الغبش الداكن ، انتابها خوف غامض ، ليس منه ، بل عليه .
في الموعد المحدد جلس الدكتور"أسعد" ينتظر في حديقة الأورمان على إحدى الأرائك الخشبية المتناثرة في الحديقة ، كان القلق يرتسم على وجهه ، ثم أصبح أكثر توترا وهو ينظر إلى ساعته من وقت لآخر ، بدأ يصوب نظراته المترقبة إلى البوابة الضخمة للحديقة .
بعد فترة من الترقب القلق أبصر "سكينة" مقبلة تتعثر في خطواتها ، فلبث في مكانه لا يتحرك حتى أصبحت قبالته ، فقام وهو يهتف هامسا:
ـ أهلا يا "سكينة" .
ثم أضاف وهو ينظر حوله بحذر ، تعالي إلى مكان منعزل بعيدا عن الأنظار .
سارا خلال الحديقة الخالية من الزوار تقريبا عدة دقائق ، وقع اختيار الدكتور "اسعد" على مكان يشبه الدغل بأشجاره المتكاثفة ، ووقفا في ظلال الفروع المتشابكة يحتمون بها من حرارة الشمس التي كانت ترسل أشعتها الحارقة .
قال وهو يجفف العرق المتصبب على جبينه ، ثم ينزلق على رقبته :
ـ إنك بالتأكيد قد خمنت لماذا استدعيتك إلى هذا المكان ؟
أومأت برأسها دون أن تنبس بشفة ، قال بصوت خافت مضطرب :
ـ إن الموقف يزداد سوءا ، ويجب أن نحسم هذا الأمر .
صرخت وقد برقت عيناها ببريق لامع ، ارتسم على وجهها غضب فائق ، وهي تكشر عن أنيابها كلبؤة تدافع عن شبلها :
ـ ماذا ستفعل إذن ؟
انتابه ذعر عارم لرد فعلها غير المتوقع ، همس محذرا وهو يلتفت حوله :
ـ أرجوك اخفضي صوتك ، فالأمر خطير .
ثم استطرد بانفعال ..
ـ لا يوجد إنسان غيرك أستطيع أن أتعاون معه لوقف هذه الجرائم البشعة .
سألته بتهكم وسخرية :
ـ ماذا سنفعل ؟ وما دورنا نحن ؟!
قال دون تردد وهو ينظر إليها مليا :
ـ نقضي على نسخة الدكتور "عزام" .
تضرج وجهها بالدماء ، وقد انتابها غضب مروع .. صرخت فيه بعنف :
ـ إنه ضحية الدكتور "عزام" وكنت أنت شريكه في هذه المؤامرة ، قبل أن تحاكمه وتصدر عليه الحكم ، كان يجب أن تحاكم الدكتور "عزام" ونفسك .
هتف بتوسل :
ـ أرجوك يا "سكينة" ..
قاطعته وهي تقول بصوت حازم متوعد :
ـ لن أعطي الفرصة لأي شخص في هذا الوجود سلب حياة ابني ، وإذا سولت نفسك شيء ، فسوف أقضي عليك دون رحمة.
التفتت بحدة وخطت خطوات ثابتة واثقة ، تاركة الدكتور "أسعد" وهو يشيعها بنظراته تائها حائرا ، وقد تجمد في مكانه متخاذلا ، لا يستطيع النهوض ، فقد أضناه تأنيب الضمير من جهة ، ومن جهة أخري سيطر عليه الرعب لمصيره الرهيب على يد الدكتور "عزام" ، إذا انكشف أمر النسخ .
الفصل السادس من رواية الرجل العقرب
للروائية / فايزة شرف الدين
تاريخ النشر : 2010-02-22
