كان الصعيد غافيا بقلم: تيسير نظمي
تاريخ النشر : 2010-02-17
كان الصعيد غافياً

تبعثر
رجال الأمن

في مطار القاهرة

وهرعوا راكضين وراء الصعيدي الذي

هرب

الطائرة توشك أن تغلق أبوابها. صفير أجنحتها يتعالى . طاقم الطائرة ينتظر راكباً رفض الصعود بعد أن وقع خاتم المغادرة. سمعهم يتهامسون في قاعة الترانزيت: الطائرة التي سنركبها وصلت. احد ركابها مات بالسكتة القلبية وهو عائد لمشاهدة أهله بعد عشرين... سنة . الصعيدي كان منصتاً . شاهدهم ينزلون الجثة الهامدة. غامت الطائرة في عينيه . طار قلبه . سمعهم بعد ذلك ينادون بالميكروفونات على الركاب أن يصعدوا.. تدافع الركاب من خلفه ومن أمامه . كانت الجثة قد غابت عن الأنظار . لم يطل النظر برجال الأمن من حوله قبل أن يصرخ هارباً : " ما اركبش الطيارة ديت .. ما اركبش .. " فانطلقوا وراءه فاختفى خلف سيارة كانت تربض بجانب طائرة مصابة بالسكتة القلبية . طوقوه فغافلهم وهرب من رؤوس أصابعهم . مع اشتداد هدير الأجنحة النفاثة صوته تلاشى . أصيب بالسكتة القلبية . كان يصرخ ويؤشر بيديه حزيناً . تزايد الراكضون وراءه . هددوه ملوحين بالمسدسات . لوح بيديه أن اقتلوني. وظل يركض على المدرج يلوح بيديه نحو الطائرة رافضاً. تزايد عدد الراكضين وراءه. أطبقوا عليه من كل الجهات. الطائرة لا تزال تنتظر . والصعيد غاف في مصر . الصعيدي مفقود بين الركاب . الصعيدي ملاحق . الكرسي الخالي ينتظر جسداً . وفراش زوجته حسنية قد خلا من رجل . جثة عادت إلى صعيد مصر وجثة تذهب. طار القلب فانكسرت أجنحة الصعيدي وأطبقوا عليه. وكلما اقتربوا به مقيداً من الطائرة يبتعد القلب . وكلما شدوا على يديه بقبضات من حديد تشدد حسنية أظافرها المنشبة في الوسادة . وكلما ضحك الناس في مطار القاهرة ، تهب الريح مع إطلالة الفجر الندي على صعيد مصر . وكلما سألوا حسنية أين زوجك ؟ تجيب سافر للعمل في بلاد بره . وزوجها مقبوض عليه بتهمة رفض السفر . كبلوا يديه ووضعوه كالمتاع على كرسي الطائرة . ربطوه لئلا يزعج المدرسين المسافرين، ورجال الأعمال. احكموا القيد من حول جسده . لم يبق شيء منه إلا ربطوه، سوى القلب لم يجدوه. طار القلب لمرأى الجثة العائدة . كان الصعيدي قد هددوه فانهدم . طارت الطائرة . حدق الصعيدي بعينين منكسرتين لعله يجده في صدره . لم يجده . عندما طارت الطائرة كان قد هبط القلب وعاد . عرف طريقه . وصار للقلب يدين تدقان على باب كل بيت وتوقظه. صار للقلب عينين تريان الوطن المقبوض عليه. والصعيد دق قلبه فانفتح . فاستيقظ على الوطن يتسرب من تحته، والقلب لا يزال يتجول، ويدق.
www.tayseernazmi.com
الكويت-مجموعة قصص الدهس الصادرة عام 1982