كان طفـــلاً بقلم: تيسير نظمي
تاريخ النشر : 2010-02-16
(من مجموعة الدهس الصادرة عام 1982 عن دار المشرق والمغرب العربي للنشر والتوزيع)-الكويت
----------- كان يومذاك طفلا

بنطلونه الرطب الملتصق بإليته الخلفية تفضفض من حوله جلد مؤخرته المنقوع بكرسي ساخن لوانيت أغبر . انطلق الأغبر مقرقعاً ساخطاً لاعناً لإلية أخرى بعد أن رمى حمولته على طرف الشارع . سارت الحمولة بصندل مقطع تجاه بوابة المستشفى . بدأت تتسلل نسمة ألطف بعد فرن الوانيت إلى لحمه الخلفي الغارق عرقاً . ظلت الحمولة تسير وتلعن الطريق شبراً شبراً . مد يديه إلى مؤخرته وفضفض بنطلونه المبلل لتخر النسمات ويجف البلل ، بدت الحمولة من الخلف كما لو أنها بالت على نفسها ، وجهته استعلامات المستشفى ، زاحمته البوارج اللامعة الهادرة بحنو المنسحلة بهدوء على الشارع كما الحلم فتوقف قليلاً ، متيحاً لها فرصة ألا تركله دون انتباه ، متأملاً البشرات المتوردة المحمرة ، والملامح الهادئة يواريها زجاج نظيف ، مطمئنة حانية على الرفاه والبرودة . برفق.راتها القصور المنسحلة برفق . برفق . برفق. وهو يحاول عبور الشارع من بينها لو لاحظته. ظلت تمر من أمامه ألوانا وأشكالا ، ضخت البوارج المارة من حوله لهبها وعبقها البنزيني العافر بوجهه حتى صعب عليه استنشاق الهواء . ضاعت النسمات النادرة الهبوب وتلاشى احتمال جفاف بنطلونه . عبقت خياشيمه برائحة هدير السيارات المارة . بصق فشاهدته الوجوه الناعمة داخل البوارج فلمح في نظراتهم ازدراء له، بصقت الحمولة فلفتت الأنظار إليها، في الأماكن الحضارية، مر من بين السيارات كالفأر. دلف إلى الداخل والناس يتحاشون بنطلونه الملطخ بدهون السيارات والكراجات وتراب الأرض ، وشعره الأشعث الذي ساهم في امتصاص غبار الجو والتقاط ما تيسر من حشراته . وقف منتظماً مؤدباً بانتظار أن يفرغ موظف الاستعلامات من الأردية البيضاء والياقات المنشاة والفساتين المنحسرة والأردية السوداء ، ظل متردداً وكلما اقترب قليلاً من المصطفين تحدق عيونهم ببنطلونه المشحوم بالأسود فيبتعدون قليلاً لئلا ، ويجفل هو ويرتد مؤدباً . منتظراً . يتجاوز خجله قليلاً ويهم بأخذ دوره بالاصطفاف . ترمقه العيون مرة أخرى وتنحدر إلى بنطلونه فيرتد . العيون تطرد الحمولة ، الحمولة تبقى وحيدة مبللة بعرقها . العيون تمر بين الحين والآخر على شعر الحمولة المغبر . عينا الحمولة تتأملان الشعر الأملس الناعم النظيف . الشعر المرتب الأسود . الشعور المصبوغة المحمرة . الشعر المتهدل اللامع. عيناه تتأملان البنطلونات المكوية النظيفة ، والأردية البيضاء كالثلج ، والأحذية اللامعة على بلاط لامع ، لا ينقص عددهم ، كلما انطلق احدهم ، كلما انطلق احدهم من أمام شباك الاستعلامات ينضاف إلى المصطفين اثنان أو ثلاثة . قرر أن يأخذ دوره ليسأل. اقترب محاذراً أن يمسهم المشحوم . ابتعدوا عنه قليلاً . ابتعد آخرون فتقدم من الشباك أكثر ، التفت المصطف أمامه إلى المشحوم والأشعث فامتعض وسارع بالسؤال والمغادرة ، فتقدم هو من الشباك .
– عائشة عبد القادر .
• متى دخلت ؟
- مبارح ..
• ....
- أمس بالليل ...
قلب موظف الاستعلامات عدة صفحات ثم فتش بقلمه الذهبي بين الأسماء " مبروك.. ولد " كان محمود أبو عيشة ما يزال يحاذر أن يلمسه احد من المصطفين حوله. " الجناح التاسع " وما كاد يلفظها حتى انسل أبو عيشة من أمام الشباك في الردهات أحس بانتعاش لبرودة التكييف المركزي. واصلت فردتا الصندل زحفهما على بلاط نظيف لامع أنظف من وجهه ، وتهدل أمامه شعر اسود تمطي ظهراً عارياً بشرته شهية ملفوحة بشمس البحر ، برونزية ناعمة ، والى جوارها أنثوية أخرى مسقية بماء الورد . وثالثة حليبية بتنورة منحسرة عن بطن ساقين متساويتين ممشوقتين فوقهما بشبر واحد التنورة الناعمة إذ تشف عما تحتضنه بحريرية . هبت عن جانبه الأيمن إذ مر من جانب باقتهن روائح عطور أنثوية أثارت شهوات لم تتحرك فيه منذ أربعين سنة وضحكات غانجة تذوب بلذتها الأحاسيس والأماني والاحلام . وجميعهن – لاحظ – يعرضن رماناً طرياً ، أثداء نصف مكسية ، مشدودة ومعلقة بالصدور تكاد تسقط بين يديه . نصف معراة نصف مكسية بألوان لم يرها من قبل . أبطأت فخذاه قليلاً وتابعتا السير من خلف المهتزات .. وليهتز من بعدهن الكون كله . دخل حيث دخلن . سار حيث سرن . توقف متردداً خائفاً . كالمشبوه حيث توقفن وذات البنطلون المشدود بشراسة على محتواه الصاخب، عندما تند عنها حركة ينفجر نبع لذيذ في جسده. يتدفق نبع حركتها فيه وينتشي يتدفق نبع اهتزازها ويغمره. سال حيث سألن: ولكن عن زوجته أم العيش، لم تعثر ممرضة الجناح على اسم عائشة عبد القادر بين النزيلات.

• متأكد !
- نعم في هذا الجناح
• جناح 14 !
- نعم .
• تأكد مرة أخرى من الاستعلامات ....
تذكر بينه وبين نفسه أن زوجته في الجناح التاسع أو التاسع عشر أو التاسع والعشرين. ولم يستطع تحديد الرقم تماماً أو تركيز ذهنه على ما قاله الموظف خلف الشباك... .
تسربت ضحكات الباقة المتحركة إلى أعماق الجناح ولم يعد ممكنا بعد سؤاله أن يذهب وراءها ابعد مما ذهب..
- انزل إلى الاستعلامات وتأكد ...

عندما غادر الجناح الرابع عشر لم يعرف من أين أتى.اقترب من ممرضة مارة مسرعة وسألها فأشارت له بيدها دون أن تكلمه. وإذ وصل شباك الاستعلامات وجده دون مصطفين وقد بدأ الزوار يغادرون . دون حاجة لان يفتح الدفتر أجابه الموظف " التاسع " قادته فردتا الصندل إلى الجناح التاسع هذه المرة. وفي زاوية في العمق كانت ترقد أم العيش منطفئة اللون مصفرة البشرة ذابلة الملامح. سألته عن الصغار عن علاء وأنور وخديجة ورنا وعباس وفاطمة وصبحية وقاسم . فحاول أن يقدم موجزاً عن كل منهم خلال ليلة لم تنمها أم العيش وسطهم. وعن صاحب الملك وهل ما يزال مصراً على رفع أجرة الملحق ؟ . وعن الجيران وماذا فعلوا بعد صدور الحكم بالزيادة ؟ ، وعن عمله وهل ما يزال المراقب مصراً علالخلفية.لتأخره عن الدوام ، وعن الكهرباء هل دفعها وعن الأولاد هل يذهبون للمدارس ، وعن استيقاظه مبكراً ، وعن فطوره وغذائه وعشائه وعن ملابسه التي يعود بها مساء كل يوم غارقة بعرقه منقوعة بما آلت إليه الحال من مهانة ، وعن الغسيل المتكوم هل غسلته فاطمة ؟ ، ولكنها لم تسأله هل جف العرق عن آليته الخلفية. فمد يده في تحته ، وإذا ببنطلونه وقد التصق من جديد نديا هذه المرة . وباعد بين ساقيه ليقلل من الالتصاق الدبق الذي برد كثيراً بفضل التكييف المركزي . جاءت العربات تكركر محملة بالعشاء . وأصدرت الممرضة المسؤولة أوامرها بانتهاء موعد الزيارة . فنهض لإلقاء نظرة على كتلة اللحم الملفوفة ، فابتسمت أم العيش لأول مرة وحدقت عيناه المتعبتان في تجاعيد وجه الكتلة اللحمية . فخيل إليه وهو يغادر الجناح انه نظر في وجه كهل. وكان شك أن يكون هذا عمره يوم واحد. فتعابير وجهه صارمة وحادة وعيناه عميقتان . ظل يقطع الطريق مغادراً مهموماً مفكراً وظلت أم العيش مبتسمة !
www.tayseernazmi.com/Story.php