ثر الشعوب والقبائل العربية السامية الأولى على اليهود (الموسويون-العبريون) في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد بقلم: محسن الخزندار
تاريخ النشر : 2010-01-18
ثر الشعوب والقبائل العربية السامية الأولى على اليهود (الموسويون-العبريون) في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد بقلم: محسن الخزندار


من كتاب اليهودية في العراء بين الوهم والحقيقة
أثر الشعوب والقبائل العربية السامية الأولى
على اليهود(الموسويون –العبريون)
في اللغة والثقافة والحضارة والتقاليد

بقلم الكاتب محسن الخزندار




أولاً: الآموريون العموريون) :

ذكرهم البابليون بصور مختلفة: امورو، أماري ومارتو. وكلمة "مارتو" مرادفة لمعنى "الغرب"وأُطلق عليهم اسم الاموريين لأنهم كانوا يقيمون غربي بابل. وقد يكون اسمهم مشتقاً من "أمر" بمعنى العلو والارتفاع.
كان الآموريين الذين نزلوا شمال بلاد الشام أسسوا لهم دولة في منطقة الفرات الأوسط. وبعد مدة اجتاح هؤلاء العرب السوريون، العراق، وأسسوا لهم فيه امبراطورية عظيمة عرفت باسم "الدولة البابلية الأولى 1800-1530 ق.م." نسبة إلى عاصمتهم بابل التي تبعد خرائبها 55 ميلاً جنوب بغداد.
والجماعة الآمورية التي نزلت جنوبي فلسطين وشواطئ البحر الميت، أنشئوا لهم مدناً في "تل الحسي "(تلة تقع على مسافة 11 ميلاً للجنوب الغربي من بيت جبرين وستة عشر ميلاً للشمال الشرقي من غزة. وقد وصفت " الوقائع الفلسطينية" المؤرخة في 24 تشرين الثاني 1944 هذا الموقع بقولها: ( تل أنقاض، نقب جزء منه، بقايا سد في الوادي إلى الشرق". والمعروف أن المدينة التي أقامها الآموريون على هذا التل كانت تسمى " عجلون") و" تل النَّجِيلَة" (تلة تقع في الجنوب الشرقي من قرية "برير" الواقعة على بعد 18 كم للشمال الشرقي من غزة. وصفت الوقائع الفلسطينية هذا التل بقولها: ( تل أنقاض وآثار سور مدينة، وأساسات بناء مربع وبقايا خزان في الوادي )، كما بنوا مدينة "شَعَلُبيِّم"( شعبليم، تقوم على بقعتها قرية " سلبيت" إلى الجنوب الشرقي من اللد). وجددوا أو وسعوا مدينتي "لخيش" و"جازر" وحصنوا جميع هذه المدن وأحاطوها بأسوار حجرية ضخمة قوية، فصاروا يسيطرون، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، على المواقع العسكرية في جنوبي البلاد.
عرفنا من الآموريين "يافيع" ملك لخيش أحد الملوك الخمسة الذين قتلهم يوشع في معركة "المغار" .
وقد وجدت صور على جُدر "مقبرة بني حسن" في مصر يعود تاريخها إلى أوائل القرن التاسع عشر قبل الميلاد – في عهد الأسرة الثانية عشرة – يظهر فيها الشيخ الآموري (أبشا-Absha)، وهو غالباً من جنوبي فلسطين وبصحبته أبناء قبيلته من نساء وأطفال ورجال المؤلفة من سبعة وثلاثين شخصاً ومعهم أمتعتهم محملة على ظهور الحمير أتوا للتجارة في الروائح والدهان العطرية الكثيرة الإستعمال عند المصريين.
وليس لهؤلاء الزوار أي علاقة بسيدنا إبراهيم أو بأخوه يوسف كما ورد في بعض المؤلفات.
على أن هذه الرحلة لم تكن الوحيدة في بابها فقد كان عدد التجار الفلسطينيين الوافدين إلى مصر أكثر من أن يحصى.
والأموريين والعموريين بالعين في التوراة والتاريخ سكنوا فلسطين مع الكنعانيين، فالعموريين سكنوا الجبل والكنعانيون سكنوا الساحل والأردن والعموريون شعب سامي خرج من الجزيرة العربية قبل بداية الألف الثالثْ قبل الميلاد إلى سوريا ولبنان ومنها إلى الأردن وفلسطين وأطلق عليهم سكان وادي الرافدين العموريين
يوجد عدد من المؤرخين الجدد من يؤكد أن الكنعانيين انبثقوا من العموريين أو كانوا من القبائل التي تألف منها العموريون.
كانت عقيدة الشعب العموري عقيدة بدائية قائمة على عبادة قوى الطبيعة ولها آلهة رئيسية وآلهة ثانوية فكانت آلهة الحرب (عورو) وآلهة المسرات (عاشره) وآلهة العواصف والأمطار (حدد) الذي تحول إلى الإله (بعل) والذي اتخذه الشعب الكنعاني إلهً وكان إله الخصب (دجن) والذي كان إله الكنعانيين أيضاً، ويشير يارو أن هيكل سيدنا سليمان الذي بني في القدس والذي سمي (بيت يهوه) يستدل أن التسمية و الشكل مقتبسان من الطقوس العمورية والكنعانية.
بعد خلاف حاد بين المؤرخين إلا أنهم اتفقوا في الوقت الحاضر على أن العموريين شعب سامي من مجموعة الشعوب السامية الغربية هاجر من شبه الجزيرة العربية في تاريخ مبكر يصعب تحديده بدقة إلى بلاد الشام ومنها بدأ يتغلغل بطرق سلمية تارة وحربية تارة أخرى في مراكز الحضارات المستقرة والمتطورة في العراق وسورية وفلسطين ويتفق المؤرخون على أن أول من أطلق اسم العموريين على هذا الشعب السامي هم سكان العراق القدامى من السومريين والأكديين إذ كانوا يشيرون إلى جهة الغرب بكلمة أمورو (عمورو) وفي اللغة الأكدية السامية وبكلمة (ما-تو) في اللغة السومرية ثم اكتسبت هاتان الكلمتان مفهوما جغرافياً للدلالة على المناطق الواقعة إلى الغرب من العراق والتي تمتد من غرب نهر الفرات إلى سواحل البحر المتوسط تقريباً ثم أصبح هذان الاسمان يطلقان على سكان المناطق الغربية عامة وسكان بادية الشام خاصة فعرفوا في النصوص السومرية باسم (مار-تو) وفي النصوص الأكدية باسم (أمورو) عمورو.
كما يسجل أنه ورد ذكر للعموريين في المدونات العراقية القديمة في الألف الثالث قبل الميلاد مما يدلل وبوضوح على أن هجرتهم بدأت مبكرة جداً وأن عدداً منهم كان مستقراً في العراق في الألف الثالث قبل الميلاد ويبدو واضحاً كذلك أن ملوك الدول العراقية في هذه الفترة كانوا علاقة ومعرفة بالعموريين ومما يعزز ذلك أن الملك الأكدي شارماليشاري (2254-2230 ق.م.) ادعى تحقيق انتصار على بلاد (مار-تو) أي (بلاد العموريين) وذكر غوديا ملك لخيش أنه جلب الحجر من جبل يقع في بلاد مار-تو وهناك دلائل كثيرة تشير إلى ازدياد عددهم واشتداد خطرهم على بلاد بابل في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد وأن الملك شوسين ملك أور أقام في سنته الرابعة حصناً ليحمي البلاد من هجماتهم وكان ينظر للعموريين من قبل سكان العراق على أنهم أقواماً بدوية غير مستقرة لم تأخذ بأسباب الحضارة ووصفوا بخشونة الطبع كما ويتجلى ذلك بوضوح من وصف العموري في أسطورة سومرية التي جاء فيها:
إن السلاح رفيقه ولا يثني الركبة (أي لا يخضع لأحد)
يأكل الحم نيئاً ولا يمتلك بيتاً طوال حياته
ولا يدفن في قبر بعد وفاته
انتشر العموريون في منطقة واسعة امتدت لتشمل العراق وسورية وفلسطين كما حققوا أعظم إنجازاتهم السياسية والحضارية في العراق بعد أن دخلوها بأعداد كبيرة واقتبسوا أساليب الحضارة السومرية الأكدية المتطورة لذا فإن تاريخهم في هذه البلاد أكثر أهمية ووضوحاً من تاريخهم في سورية وفلسطين بدأ تاريخ العموريين الواضح في العراق في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد بعد سقوط دولة أور الثالثة في سنة 2006 ق.م. الأمر الذي مهّد الطريق لقيام عدة دول عمورية في جنوب العراق وشماله وظهور عهد جديد عرف باسم العهد البابلي القديم وأصبحت لارسا وبابل وسيبار وأشنونة وأشور عواصم لدول عمورية وأصبحت مدينة ماري (تل الحرير على ضفاف نهر الفرات) مركزاً حضارياً رئيسياً على الطريق بين سورية والعراق وبلغ العموريون ذروة مجدهم الحضاري والسياسي في عهد الملك البابلي حمورابي (1728-1686 ق.م.) الذي بسط نفوذه على جميع الدول العمورية في جنوب العراق وشماله كما سيطر على مدينة ماري ووصل سلطانه إلى بعض المناطق الغربية في سورية وأقام الإمبراطورية البابلية التي بهرت العالم( ).
كما كشفت الوثائق الكثيرة التي عثر عليها في مدينة ماري عن وجود عدد من المراكز السياسية والحضارية للعموريين خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد في مناطق واسعة من سورية أهمها حلب وقطنة كما ورد في هذه الوثائق اسم مملكة عمورو وتكشف رسائل العمارنة التي اكتشفت في مصر عن وجود عدد من الدول العمورية في سورية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد وكانت على ما يبدو تتبع سياسة ذكية للاستفادة من الصراع بين دولة مصر والدولة الحثية للحفاظ على مصالحها واستقلالها وكيانها.
ورد اسم العموريين (أيموري) في عدد من أسفار العهد القديم ويتفق أغلب المؤرخين على أن الشعب الذي أشير إليه في التوراة بهذا الاسم هو الشعب الذي ورد ذكره في الوثائق العراقية القديمة باسم (أمورو=عمورو) ومما جاء عنهم في التوراة أنهم كانوا يقيمون في فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي لهذه البلاد وكانت مساكنهم في المناطق المرتفعة في شرق الأردن وإذا كان من الصعب تحديد تاريخ دقيق لدخول العموريين إبى فلسطين فمن الممكن القول أنهم كانوا يقيمون فيها منذ الألف الثالث قبل الميلاد وذلك استناداً إلى الأدلة المستنبطة من نتائج الحفائر الأثرية التي تشير إلى وجودهم في فلسطين في العهد الأوسط من العصر البرونزي الأول ويرى علماء الآثار الذين أشرفوا على عمليات التنقيب أن الدمار الواضح الذي حل بعدد من مدن الألف الثالث قبل الميلاد كانت نتيجة هجمات العموريين وتدفقهم إلى تلك البلاد، يضاف إلى ذلك أن عدداً من الأسماء العمورية كانت معروفة منذ الألف الثاني قبل الميلاد.
كان العموريون كما استنتج من آثارهم المادية يختلفون عمن سبقهم من المستوطنين فقد كان لهم فخارهم المتميز ولهم أساليب دفن خاصة بهم تظهر طبيعة تنظيماتهم الإجتماعية ويبدو أنه كان لكل قبيلة عادات دفن خاصة بها ووصفت المصادر التوراتية العموريين بأنهم من بقايا الجبابرة وأن لهم قامات طويلة كالأرز وأجساد قوية كالبلوط كما يسجل التوراة أيضاً أن العموريين كانوا من بين الشعوب التي حاولت الوقوف أمام الغزو الإسرائيلي ووقع بينهم وبين الإسرائيليين صراع شديد كانت نهايته لصالح الإسرائيليين بعد أن أوقعوا بملك العموريين (سيحون) هزيمة نكراء أدخلت الثقة في إلى نفوسهم وجرأتهم على محاربة المآبيين الذين كان (سيحون العموري) قد انتصر عليهم في حرب سابقة واشتهر من ملوك العموريين في التوراة عوج ملك باشان وكان مصير العموريين الوقوع تحت سيطرة المملكة التي وسعها داود.
ولا يمكن الحديث عن حضارة عمورية واحدة متجانسة لأن العموريين انتشروا في مناطق متباعدة وتعرضوا لمؤثرات حضارية مختلفة وكانت حياتهم قبل الاستقرار تغلب عليها سمات الحياة البدوية وكانوا يعتمدون في حياتهم الاقتصادية على تربية الماشية والأغنام واشتهر العموريون باعتمادهم على الحمير كوسيلة رئيسة في الانتقال وحمل الأمتعة خلافاً لما هو معروف عند الشعوب البدوية من الاعتماد على الجمال وممارسة الصيد وشن الغارات المتتالية على المناطق المستقرة وممارسة أعمال النهب والسلب.
ولعل الصورة التي وردت عنهم في الأسطورة السومرية هي أقرب ما تكون إلى الواقع وإن كانت لا تخلو من المبالغة حيث برهن العموريون بعد استقرارهم على قدرة فائقة في تعلم أساليب الحياة الحضارية والاندماج فيها والعمل على تطويرها كما يبدو واضحاً في تاريخهم في العراق إذ أخذوا بأساليب الحضارة السومرية من الاستعانة بمؤسسات سياسية ودينية وفكرية وكان لهم في التشريع باع طويل وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى شريعة حمورابي الشهيرة التي تدل على فهمهم العميق لمشاكل الحياة الاجتماعية والاقتصادية كما اتخذوا اللغة الأكدية لغة لهم بعد أن تخلوا عن لهجتهم الأولى التي لم يتبق منها سوى أسمائهم الشخصية واتخذوا الخط المسماري أداة في تسجيل وثائقهم وعلى الرغم من تمسكهم بالإله عمورو الذي كانوا يعبدونه قبل الاستقرار فإنهم تحولوا إلى عبادة الآلهة العراقية القديمة ومارسوا الطقوس الدينية وفقاً للطرق السومرية-الأكدية.
أما في سورية وفلسطين فقد تعرضوا لمؤثرات حضارية تختلف عن تلك التي تعرضوا لها في العراق نظراً لما حصل من اتصالات وتقاربت بينهم وبين الحيثيين من ناحية الشمال وبينهم وبين المصريين من ناحية الجنوب وتشير الأدلة المستنبطة إلى قيامهم بإعادة تعمير المدن التي أصابها الدمار بسبب غاراتهم عليها.
وكانوا يستخدمون أسلحة متطورة وابتكروا صناعة أدوات زينة تختلف عما كان معروفاً عند بقية الشعوب.
ومما تجدر الإشارة إليه أن العموريين استطاعوا الاحتفاظ بلغتهم في فلسطين خلافاً لما حصل في العراق وكانت للهجتهم تأثيرات واضحة في اللغات الأخرى التي ظهرت فيما بعد كاللغة العبرية والآرامية ويبدو من الرسوم الجدارية التي اكتشفت في بني حسن في مصر أن رجال العموريين ونساءهم كانوا يرتدون الملابس المزركشة بألوان متعددة وينتعل الرجال الصنادل والنساء يحتذين الأحذية وكانت أسلحتهم في الغالب من السهام والعصي الغليظة( ).
ومن من القبائل العمورية"الزَّمْزَمِيُّون" أو " الزُّوزِيُّون" وكانوا يقطنون شرقي البحر الميت ونهر الأردن.
وكذلك الإيميون من القبائل العمورية وكانت منازلهم في جهات "الكرك" وقد غزاهما "كدرلعومر" وانتصر عليهم.
ومن الآثار الدينية التي خلفها الآموريون بشكل كنعاني معبودهم "رشف"، بمعنى "النار" و"الصاعقة". ويحتمل أن اسم بلدة "أرسوف" القديمة ( تعرف اليوم باسم قرية " الحرم" أو "سيدنا علي" للشمال من يافا) مشتق من هذا الإله الذي عبده الكنعانيون. و" داجون" وهو إله الحبوب عند الكنعانيين. وقد خلد اسم هذا المعبود الآموري ثم الكنعاني في القرى التي تحمل اسم "بيت دجن" في فلسطين. وقد شاعت عبارة "داجون" في أماكن أخرى من الشرق العربي فضلاً عن أنه أصبح معبود "الفلسطينيين" الأول ولم يقتصر الآموريون على ما أسسوه من دول في سورية والعراق، بل كانت لهم أيضاً مملكتان في جنوبي الشام وهما:
(1) مملكة الرفائيين:
الرفائيون
من الأقوام الكنعانية التي كانت تستوطن وفقاً لرواية التوراة منطقة باشان (شرق الأردن) قبل الغزو .ورد
ذكرهم في التوراة مع الفينيقيين والقدمونيين والحثيّين والفرزيّين والكنعانيين والعموريين والجرجاشيين واليبوسيين.
وما روي عنهم أنهم كانوا يقيمون في البلاد في زمن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل التي حدثت على ما يرى أغلب المؤرخين في القرن الثامن عشر ق.م. وورد في التوراة أن ملكاً عيلامياً يحمل اسم "كدرلاعومر" غزا البلاد وضرب الرفائيين في عشتاروت قرنيم في شرق الأردن.
ومن الصعب التأكد من شخصية كدر لاعومر لأن هذا الاسم لم يرد بين أسماء الملوك العيلاميين في المصادر العيلامية أو البابلية ،ويعتقد بعض المؤرخين أن كدرلا عومر ربما كان الملك العيلامي المعروف بِ "ريم-سن" الذي كان يحكم في لارسا وايسن في جنوب بلاد بابل ويطمح إلى بسط سيادته على مناطق واسعة أخرى قبل انتصار الملك البابلي الشهير حمورابي عليه في القرن الثامن عشر ق.م .
فإذا صح هذا الرأي الذي لا يستند إلى دليل قاطع فإنه يتفق مع الرأي الذي يضع الرفائيين في شرق الأردن خلال القرن الثامن عشر ق.م. في زمن هجرة سيدنا إبراهيم الخليل، أي قبل غزو قوم سيدنا موسى بعدة قرون.
ذُكر الرفائيون في عدد من كتب التوراة، الأمر الذي يشير إلى مكانتهم الخاصة بين الشعوب الأخرى.
وأشارت المصادر الأوغاريتية والفينيقية إليهم، واشتهر الرفائيون في التوراة بضخامة أجسامهم حتى إنهم عدّوا من الجبابرة العمالقة. واشتهر من ملوكهم "عوج" الذي كان يلقب بملك باشان، وكان شديد البأس، ضخم القامة.وكان الرفائيون في أيامه من أشد أعداء قوم سيدنا موسى، حتى إنهم أعلنوا عليهم الحرب لمنعهم من المرور بالمناطق التي كانوا يستوطنون فيها. ولكن الإسرائيليين استطاعوا الانتصار عليهم وطردهم من موطنهم.
ومما تجدر الإشارة إليه عند الحديث عن الرفائيين وجود إشارات غريبة إليهم توحي بأنهم كانوا يتمتعون بمنزلة روحية خاصة بين الشعوب المجاورة لهم. فمن ذلك مثلاً استخدام لفظ "رفائي" في بعض الأحيان للدلالة على معني ظل أو روح ( )وورد في إحدى المدونات الفينيقية أن أحد ملوك مدينة صيدا دعا على كل من سيلحق التلف بقبره بعد وفاته بألاّ يكون له مقام مع الرفائيين.وفي هذا الدعاء إشارة واضحة إلى ما كان يعتقده الناس من أن الرفائيين كانوا يتمتعون بمنزلة خاصة في عالم ما بعد الموت. وكانت كلمة "رفوم rpum " تشير في المصادر الأوغاريتية إلى أشخاص كانت لهم طبيعة إلهيّة ويشار إليهم بعبارة "ايلنيم" أي الأشخاص الإلهيين، ولكن طبيعة علاقة الر فائيين ببعض المعتقدات الدينية ما زالت غير واضحة ويحتاج المؤرخون لتوضيحها إلى مزيد من الأدلة والدراسة.( )
تمكن الرفائيون، بعد عام 1375 ق.م. من أن يؤسسوا لهم مملكة عرفنا من ملوكها "عوج". وكان جباراً قامة وبأساً. وملكه يقع شمالي الأراضي الواقعة بين نهر الزرقاء وجبل الشيخ. وله، كما يقولون، سرير من حديد طوله 14 قدماً وعرضه 6 أقدام. احتفظ به أهل عمان عندهم بين تحف زمانهم.
وكان لعوج عاصمتان: "درعا" (إسمها القديم " ادرعي". كانت مشهورة بخمورها الجيدة. وهي على بعد نحو أربعة أميال من الحدود الأردنية، داخل الحدود السورية. عاصمة محافظة حوران. بها حسب إحصاءات عام 1960"409،19" نسمات) و"عشتروت " (يرجح أن تل عشترة" الواقع في "الجولان"، من الأراضي السورية، وعلى مسافة 21 كيلومتراً شرقي بحيرة طبرية هو البقعة التي كانت تقوم عليها مدينة "عشتروت" الآمورية). وقد حاول عوج أن يمنع اليهود من المرور بأرضه في طريقهم إلى فلسطين، غير أنهم هزموه في موقعة دموية في درعا وقتلوه هو بنيه. وبذلك انقرضت مملكته وقسمت مدنه المحصنة بين اليهود.
(2) المملكة الآمورية:
تأسست هذه المملكة بعد زميلتها الشمالية بنحو قرن. وحملت اسم قومها. وكانت تشمل الأراضي الواقعة بين نهري "الزرقاء" و" الموجب". وعاصمتها "حَثبون" (بمعنى تدبير. تقع جنوب غربي عمان، على بعد 26كم منها. تقوم قرية " حسبان" المار ذكرها على بقعتها). عرفنا من ملوكها "سيحون -Sihon) الذي دافع عن بلاده دفاع الأبطال حينما غزاه اليهود، في طريقهم إلى فلسطين إلا أنهم انتصروا عليه وقسموا ملكه فيما بينهم.
المَدْيَنِيّون
جاء في القرآن الكريم أن سيدنا موسى "لما توجه بعد هربه من مصر تلقاء مَدْين وورد الماء وجد عليه امرأتين فسقى لهما ثم تعرّف على والدهما الذي زوجه إحداهما وعهد إليه رعي أغنامه "
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر النبي شعيب "الذي أُرسل إلى مدين وتكرر اسمه عشرين مرة كما في قوله تعالى "وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم ابعدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط" ( )
ثم في قوله تعالي :" كذّب أصحاب الأيكة المرسلين،إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ،إني لكم رسول أمين "( )
لما أراد المفسرون والأخباريون المسلمون التوسع في الحديث عن مَدْين وعلاقتها بالنبي موسى وبحميه ثم بالإسرائيليين عامة،انساقوا بحكم العادة إلى الاستعانة بالإسرائيليات والاستناد إلى الأخبار الواردة في أسفار التوراة.
حتى في الوقت الحاضر لا يجد بعض الباحثين على الرغم من نقدهم طريقة تدوين أسفار التوراة مفراً من الاستئناس بروايات "العهد القديم" عند دراسة تاريخ الشعوب القديمة التي كانت تعيش في فلسطين وعلى حدودها،والتي عاصرت الإسرائيليين فترة من الزمن واختلطت بهم واشتبكت معهم في حروبٍ طاحنة.
وقد لاحظ الباحثون أن التوراة تتحدث في مواضع كثيرة من سفر الخروج عن حمى سيدنا موسى وتصفه بأنه "كاهن مدين" .ومن الواضح أن الشيخ الكبير الذي صاهره موسى حسبما ورد في سورة القصص ،والذي تطلق عليه التوراة اسم "يثرون" أحياناً واسم "رعوئيل" و"حوباب" أحياناً أخرى هو نفسه النبي شعيب الذي ورد في عدة سور أخرى من القرآن الكريم ،وإن كان من الصعب تعليل الاختلاف بين الاسمين.
اكتفى بعض الأخباريين المسلمين الذين لم يجدوا في القصص الشعبية شيئاً عن شعيب باتباع ما جاء في التوراة وقبلوا اسم "يثرون" وقالوا إنه هو شعيب ،في حين أثبت آخرون له نسباً فجعلوه "ابن نويت بن رعوئيل بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم"
وتذكر التوراة أن مَدْين هو أحد أبناء إبراهيم الخليل من زوجته قطورة (ويعني اسمها البخور) ويرمز إلى طريق تجارة العطور من الجنوب التي ولدت لإبراهيم خمسة ذكور آخرين تكاثرت ذريتهم حتى بلغ عدد القبائل المتحدّرة منهم ست عشرة قبيلة .
أن شجرات الأنساب المذكورة في التوراة أو التي أضافها إليها الأخباريون ،لا يمكن الاعتماد عليها لأنها إنما وضعت في عهود متأخرة ،وهي متضاربة يتلف بعضها عن بعض ،ولكن يمكن الاستفادة منها لمعرفة علاقات القربى أو التحالف أو الجوار بين مختلف القبائل ،وهكذا تصف التوراة المدينيين بأنهم إسماعيليون ،وقد ورد فيهم أيضاً أن تجاراً مدينيين سحبوا يوسف من الجب وباعوه بعشرين من الفضة إلى قافلة من الإسماعيليين مرّوا بجمالهم وكانوا ذاهبين إلى مصر فأخذوا يوسف معهم ،وتذكر التوراة أن المآبيين القاطنين في شرقي البحر الميت اتصلوا بشيوخ مَدْين للاتفاق معهم على مقاومة الغزو الإسرائيلي قائلين لهم :"الآن يجلس الجمهور (أي حشو الإسرائيليين) كل ما حولنا كما يلحس الثور خضراء الحقل"
وقد اشتدت نقمة الإسرائيليين على المَدْينيين لأنهم تحالفوا مع ملك مآب وأفسدت بناتهم رجال إسرائيل فأصدر النبي موسى أوامره إلى الشعب قائلاً :"جردوا منكم رجالاً للجند فيكونوا على مدين ويجعلوا نقمة الرب على مدين"
ولما انتصر الإسرائيليون بقيادة سيدنا موسى على المَدينيين "قتلوا ملوك مَدْين الخمسة :أوي وراقم وصور وحور ورابع،وسبوا النساء والأطفال ونهبوا البهائم والمواشي وكل الأملاك وأحرقوا مساكن المدن والحصون بالنار" .
إلاّ ان المَدينيين عادوا وتحالفوا مع العمالقة وبني المشرق و"أخذوا ينزلون على الإسرائيليين ويتلفون مزارعهم ولا يتركون لهم قوت الحياة ،لا غنماً ولا بقراً لا حميراً،فذل إسرائيل جداً من قبل المدينيين".
بعد مدة قام جدعون بن يوآش أحد قضاة إسرائيل فباغت المدينيين وحلفائهم في وادي زرعين وطاردهم حتى حدود الصحراء وقتل بيديه ملكي مدين اللذين وقعا في الأسر،وهما زبح وصَلْمُنّاع ومثّل بهما .
ويبدو من متابعة أخبار التوراة أنه لم يعد للمدينيين شأن يذكر بعد عهد القضاة.
يستدل من القصص الواردة في القرآن الكريم والتوراة ولدى الأخباريين أن المدينيين كانوا كالإسماعيليين من القبائل العربية التي تركت أثراً في تاريخ فلسطين وكانت في طور قريب من البداوة،وأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة وتنتقل قوافلهم بين الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر،وأنهم أول من أدخل الإبل إلى فلسطين.
وقد ربطتهم أواصر القربى بالعمالقة والإسماعيليين والمآبيين والإيدوميين الذين كانوا يسكنون فلسطين وتحالفوا معهم للدفاع عن أراضيهم ومقاومة الغزو الإسرائيلي .
وتشير الآية القرآنية من سورة هود إلة أن أهل مَدْين كانوا بخير وأن أحوالهم الإقتصادية كانت جيدة،وأن النبي شعيباً جاء ينذرهم وينهاهم عن أساليب الغش والخداع والتلاعب بالمكاييل والأوزان ويدعوهم إلى إتّباع أوامر الله ،ومما يدل على تقدم مدين في العمران النصائح التي كان يسديها يثرون إلى موسى وتتعلق بالشرائع والقوانين والأنظمة وقواعد السلوك وأعمال الرؤساء والقضاة والمحاكم .
كانت كلمة مدين تعني في باديء الأمر القوم الذين ينتسبون إلى جدّهم الأعلى مدين ابن إبراهيم الخليل ،وقد لاحظ ياقوت في معجم البلدان أن مدين هو اسم القبيلة ولهذا قال الله تعالي:"وإلى مدين أخاهم شعيبا ".
ثم صارت مدين تطلق على مدينة تقع إلى الشرق من البحر الأحمر والجنوب من العقبة ،وقد ذكر المؤرخ يوسيفوس في القرن الأول الميلادي مدينة "ماديانا" مقابل البحر الأحمر في حين سماها بطليموس في القرن الثاني "ماديا ما" وعيّن موقعها عند الحدود الشمالية-الغربية للعربية "السعيدة".
كانت مدينة مدين معروفة لدى الجغرافيين والمؤرخين العرب المسلمين فقد جاء في سيرة ابن هشام أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين فأصاب سبياً من أهل ميناء وهي السواحل وفيها جماع الناس ويتبين من هذا الخبر أن زيداً لم يصل إلى مدينة مدين نفسها بل غزا المرفأ التابع لها على شاطيء البحر الأحمر.
ويذكر اليعقوبي في كتاب "البلدان" أن مدينة مدين القديمة كان يسكنها في عهده (أي في أواخر القرن التاسع الميلادي) أناس من مختلف القبائل يملكون البساتين ويسقون النخيل من أنهارٍ وآبارٍ غزيرة المياه.
ويقول الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في إختراق الآفاق" أن مدينة مدين كانت تتقاطع فيها الطرق الرئيسة الممتدة من مصر وفلسطين والمتفرعة جنوباً إلى المدينة ومكة وشرقاً نحو تبوك ومنها إلى تيماء والحجر،ثم يضيف قائلاً أنها كانت في عهده (أي في القرن الثاني عشر الميلادي) أكبر من مدينة تبوك وأن فيها بئراً يقول السكان إن النبي موسى كان يستقي منها لبنات شعيب.
أما المقريزي فيذكر في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" أنه في طريقه إلى الحج مرّ بمدينة مدين التي تقع على خليج القلزم وتبعد مسيرة خمسة أيام عن أيلة (المسافة تبلغ 125 كم).
ويلاحظ المقريزي أن مَدْين المشهورة في القديم لم يبق منها في عهده (أي القرن الخامس عشر الميلادي) سوى بعض الخرائب وأطلال أبنية ضخمة وألواح ونقوش غريبة،وأن السكان لا يجدون فيها إلاَ القليل من وسائل المعيشة.
وفي أوائل هذا العصر زار الرحالة والمستشرق التشيكوسلوفاكي موسيل المنطقة الواقعة على الشاطيء الشرقي من خليج العقبة فرسم خارطتها وحدّد عليها موقع مدينة مَدين التاريخية بالاستناد إلى الأخبار في المصادر القديمة،وبالإعتماد على مشاهداته الشخصية في واحة البدع وتنقيباته في مغاور شعيب وخرائب الحوراء والبرج والملقطة ،كما نشر صوراً شمسية ورسوماً توضيحية للمدافن الموجودة في تلك الأماكن المحفورة في الصخر وترجع حسب رأيه إلى عهد الأنباط .
وقد وصف موسيل في كتابه "شمالي الحجاز" أشجار الدوم التي تشبه النخيل و تكثر في منطقة مَدْين وتتشابك أغصانها ،وهي المقصودة بالأيكة المذكورة في القرآن الكريم ،ويضيف موسيل ؟أن الخرائب الموجودة إلى جانب الأيك ما تزال تسمى الحوراء أي البيضاء ،وهو يعتقد أن الحوراء نفسها هي مع الواحات التي حولها مدينة المَدْينيين .( )
وإذا كان المديانيون ينتسبون ا إلى مِدْيَن أو مديان ، أحد أبناء إبراهيم من زوجته قطورة ، فإن بعض المؤرخين يقولون أنهم من بقايا الهكسوس وأنهم في الأصل قبيلة من المعينيين ، وتمتد أرضهم من خليج العقبة إلى مؤاب وطور سيناء ، وسكن قسم منهم منطقة طبريا في الشمال ، ولما خرج سيدنا موسى من مصر سكن بينهم وتزوج ابنة كاهن مديان وقد آمن المديانيون بالإله الواحد باسم "يهوه" وهو الاسم نفسه الذي عبد به بنو إسرائيل الله ( )
اختلط المديانيون بالكنعانيين واقتبسوا منهم واشتهروا بالزراعة والري والتجارة ، وكانوا أقوياء إلى حدٍ مكنهم من فرض الخراج على المدن الخاضعة لهم ، أما سيرتهم مع بني إسرائيل فتنتقل من مصاهرة النبي موسى إلى سيرة من القتال والصدام المتواصل وخصوصاً لما عصى بنو إسرائيل أوامر ربهم ونبيهم ، فذاقوا الذل سبع سنوات على يد المديانيين فكانوا يلجئون إلى الجبال والكهوف والحصون وكان المديانيون مع العمالقة وبني المشرق يغيرون بأعداد هائلة على أرضهم ويسومونهم الهوان .
وفي عهد القضاة تمكن أحدهم جدعون من كسر جيش المديانيين والعمالقة قرب بيت شان (بيسان) واستمر في مطاردتهم وقتل أمرائهم ، وإمعاناً في الانتقام جمع سبعة وسبعين من الشيوخ وألقاهم فوق حزم الشوك وجعل النوارج تمر فوقهم ، وبعد عهد القضاة لم يعد للمديانيين ذكر في فلسطين ( ).
يرى بعض الباحثين أنهم جماعة من بقايا "الهكسوس". وأنهم في الأصل قبيلة من المعينيين( )وكانت منازلهم تقع بين مصر وفلسطين والحجاز وامتدت يوماً إلى مدينة بئر السبع نفسها، وإلى الشرق والشمال الشرقي من البحر الميت. ويرجح أن شتيتاً منهم نزلوا جهات طبرية واستقروا فيها. ولعل القبر الموجود في "حطين" – شرقي طبرية – والذي ينسب إلى شعيب النبي المديني يلقي ضوءاً على هذا الرأي.
اختلط المدينيون بالكنعانيين واقتبسوا بعض عاداتهم. وكانت لهم تجارة مع لبنان وفلسطين ومصر. وهم الذين سحبوا يوسف عليه السلام من البئر الذي ألقاه فيه إخوته وباعوه لقافلة تجارية من الاسماعيليين مقبلة من بلاد عجلون في طريقها إلى مصر وهي حاملة "الكثيراء " (نوع من الصموغ يسيل من بعض الأشجار. وإذا وضع في الماء انتفخ وكون لعاباً لزجاً. وهذه الصموغ كانت من مواد فلسطين التجارية أيام الكنعانيين. وتستعمل في الصنائع للتغرية، وفي الطب للتلطيف والتصميغ) وبلساناً ولادناً. وكان الثمن الذي دفعته القافلة للمدينيين عشرين شاقلاً من الفضة (وزن الشاقل يعادل 11.46 غراماً. قال جورج بوست (قاموس الكتاب المقدس: 2/165)"قيمة كل شاقل من الفضة نحو اثني عشر قرشاً" وفي صفحة 242 من الجزء الاول المطبوع عام 1894 ذكر بأن من كل خمس شواقل من الفضة تعادل نحو نصف ليرة إنجليزي) . ويرجح أن هذه الحادثة حدثت في أواسط القرن السابع عشر قبل الميلاد.
والمدينيون، كما هو معروف ، أصهار موسى عليه السلام. وينسب إليهم النبي شعيب عليه السلام الذي ظهر في نحو أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ذكره القرآن الكريم عشر مرات. وقيل أنه دفن في قرية "حطين"، وأما ياقوت فقال إن قبره في قرية "خيارة" قرب حطين. وفي جنوبي السلط، بركة ماء، إلى جانبها شبه دائرة صغيرة تسمى "مقام النبي شعيب" يستحيل على البدو من سكان تلك الجهات أن يحلف أحدهم كاذباً بحق شعيب أو برب شعيب أمامها.
كان المدينيون يشتغلون بالزراعة والرعي. والمدن التي في حوزتهم كانت تدفع لهم الخراج، وكان السكان المقيمون بها يزرعون الأرض مقابل النصف والثلث من المحصول( ).
ولما دخل اليهود شرقي الأردن عقد المدينيون حلفاً مع ملك (موآب) لمحاربتهم. ووفقاً لما ورد في العهد القديم( )، إن بني إسرائيل أغاروا على أهل مدين وقتلوا أربعة من ملوكهم وغنموا رواحلهم وماشيتهم وأضرموا النار في جميع قراهم ومضاربهم.
وفي سفر القضاة إن المدينيين أذلوا الإسرائيليين وأن الرب دفع الإسرائيليين إلى أيدي المدينيين سبع سنين إلى غير ذلك من الأقوال التي تشير إلى تغلب أهل مدين على الإسرائيليين( ) .
إلا أن جدعون، أحد قضاة اليهود، تمكن من أن ينتصر على اثنين من رؤساء مدين – أو ملوكها – "صَلْمُنّاع" و "زَبَح" في "الجُبَيْهة" في ظاهر عمان ومثل بهما.
والمدينيون هم الذين أدخلوا، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، الجمل المدّجن إلى فلسطين وسورية فكان له مفعول عظيم في الانتقال والحمل، وفي الغزو على مسافات بعيدة.
ويظهر أنه لم يعد لهم في فلسطين، بعد عهد القضاة، شأن يذكر ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى.

القينيون
اشتق هذا الاصطلاح لغة من فعل قان يقين قينا الحديد عمله وسوّاه، والقينيون هم أصحاب الحديد، ويطلق من الناحية التاريخية على قبيلة شبه بدوية احترفت أعمال الحدادة منذ القرن الثالث عشر ق.م. وكسبت معاشها من هذه الحرفة.
وقد استقرت في المنطقة الصخرية الغنية بالثروة المعدنية في السفوح الغربية من وادي عربة، وكانت هذه القبيلة تتنقل بآلاتها وأدواتها المعدنية في بلاد مدين بين فلسطين وسيناء وشرقي خليج العقبة. وهم من ذوي قرابة "شعيب" ولعلهم من المدينيين.
ويظهر القينيون في أقدم نصوص التوراة على رأس قائمة من الأقوام التي استوطنت أرض كنعان، كما تشير نصوص أخرى من القرن الثالث عشر ق.م إلى أنهم استوطنوا وادي عربة.
ويرتبط القينيون بالعبرانيين وقد احتلوا مكانة معترف بها في المجتمع الإسرائيلي ويبدو أنهم هم الذين عرّفوا الإسرائيليين الفنون المعدنية.
وليست هناك معلومات موثقة عن مدى العلاقة بين القينيين والإسرائيليين، ولكن يعرف أن القينيين بعد وصولهم إلى النقب ارتبطوا برباط قوي بالعمالقة في جنوبي فلسطين، ولم يكن الإسرائيليون راضين عن هذه العلاقة، وفي عصر القضاة هاجر فرع من القينيين إلى هضبة الجليل، ولا تعرف الظروف التاريخية التي أحاطت بها الهجرة.
وفي عهد سيدنا داوود واجهوا غزواً إسرائيلياً إذ عدّهم سيدنا داود أعداء لبني إسرائيل.
ولا يعرف شيء عن القينيين في التاريخ المتأخر لبني إسرائيل في فلسطين، ويبدو أنهم بدءوا بالاختفاء مع بداية الألف الأول ق.م. ، ومن الصعب توثيق الادعاء القائل بوجود رابطة بين القينيين وقبيلة بني القين التي كانت تسكن المنطقة الممتدة بين تيماء وحوران في القرن السادس الميلادي ( ) .

الاسماعيليون
ينتسب الإسماعيليون إلى إسماعيل بن إبراهيم ن وقد اشتهروا بالتجارة عبر الصحراء ما بين كنعان ومصر وكانت مساكنهم برية شور أمام مصر ، وهم الذين اشتروا يوسف من المديانيين وأخذوه إلى مصر كما علمنا ، وكانوا هم والمديانيون والعمالقة يسكنون دياراً واحدة ، وفي القرآن الكريم ارتبط بنو إسماعيل بالجزيرة العربية كما اقترن اسم إسماعيل ببيت الله العتيق .
وقد ورد اسم إسماعيل في الكتابات البابلية في وثيقة من عهد حمورابي (1792 ق.م-1750ق.م) وفيها اسم أهوبا بن إسماعيل بصفته شاهداً على وثيقة تجارية وهذه الوثيقة دليلاً على أن التسمية سامية عربية ن وترجع إلى ما قبل عصر موسى على أرض فلسطين ( ) .

قيدار وجشم العربي
قيدار اسم سامي معناه "قدير أو أسود" وهو الابن الثاني لإسماعيل، كما أنه اسم لقبيلة مشهورة عربية استوطنت حوران وضواحيها في جنوبي بلاد الشام وشمالي الحجاز.
وتصف التوراة القيدارية بأنهم سكان بادية يعيشون في خيام سوداء وقد استوطن بعضهم قرى غير مسورة، وهم رعاة أصحاب مواش يجوبون بها المناطق الرعوية ويصلون إلى مدينة صور ليتاجروا هناك.وقد عبدت قيدار الأوثان ذاتها التي عبدها العرب قبل الإسلام، وهناك إشارات كثيرة إلى هذه الأصنام في النصوص الأثرية وفي التلمود البابلي.
كان يحكم قيدار أمراء لهم معاملات تجارية معروفة، كما أن القيداريين محاربون أشداء اشتهر منهم رماة السهام، وقد أصبح لهم مركز مهم ومجد تليد في الشرق القديم ولا سيما في فلسطين وجنوبي سوريا. ويبدو أن قبائل القيداريين البدوية الرعوية لم تستقر لفترة طويلة في مكان معين، بل جابت المنطقة الواسعة الممتدة بين شرقي مصر وفلسطين وشرقي الأردن بحثاً عن الماء والكلأ.وفي رواية تاريخية أن قيدار كانت لا تزال في المنطقة الواقعة شرقي مصر في القرن الخامس ق.م.
وفي النصوص الآشورية من القرن السابع ق.م. أن كلمة قيدار ترادف العرب، فكان حزائيل ملك قيدار يسمى ملك العرب كذلك، وقد استطاع سنحاريب الآشوري الانتصار على حزائيل القيداري وسلب كثيراً من الأوثان العربية التي عبدها القيداريون.
وقد حاول الملك القيداري أمولاري مهاجمة مناطق النفوذ الأشورية في فلسطين وسوريا، ولكن أشور بانيبال ((668-633 ق.م) دحره ورده على أعقابه، وكان الأسرى العرب في حملة أشور بانيبال يُسمّون القيداريين.
كما حمل الأشوريون الكثير من الغنائم التي تعد من منتجات جزيرة العرب، وتجاه ضغط الأشوريين تحالفت قيدار مع الأنباط.
ولما جاء نبوخذ نصر (605-562 ق.م) إلى الحكم في العراق أخضع قيدار واحتل أغلب المراكز التجارية التي كانت خاضعة لها.
ومن ملوك قيدار العظام جشم العربي، وتشير النصوص الآرامية من القرن الخامس ق.م. إلى أنه استطاع أن يمد نفوذ هذه القبيلة العربية من شرق مصر حتى شرق الأردن بما في ذلك فلسطين( ).
و "قيدار" في التوراة هي في التاريخ العربي (في كتب الطبري والمسعودي وابن خلدون) ، "قيذار" و" قيذر" و" قيدر" وهي قبيلة عربية ورد اسمها أيضاً في النصوص الآشورية والمؤلفات الكلاسيكية (في كتب المؤرخين اليونان والرومان) ، فذكر بلينوس أنها كانت تقيم على مقربة من النبط ، وقد حاربها الملك آشور بنبال (768 ق.م-625 ق.م) ، ويظهر من المصادر المذكورة كلها أعلاه أن القيداريين كانوا شعباً قوياً أعرابياً ، ويعتنون بتربية المواشي، وقد وصفت التوراة خيامهم بأنها خيام سود ، وبينهم الحضر سكان المدن وسكان المناطق الصخرية .
ويعرف من تاريخهم أنهم كانوا مع قبائل عربية أخرى يهاجمون حدود المملكة الآشورية والقوافل الآشورية ولم يكن من المتوقع أن يقبل ملوك الآشوريين بهذا الوضع فجردوا الحملات على القبائل العربية وانتقموا منها ( )
وقد عرفنا عبر المكتشفات الأثرية من وثيقة آشورية (قرميدة من القرميد المكتشف في العراق) أخبار الملك سرجون الثاني الآشوري وفتوحاته ، كالتالي :
أن قبائل ثمود وعباديد مرسمان وخيابا من قبائل العرب سكان البادية الذين لم يصل خبرهم إلى حكيم ولم يدفعوا الجزية لأحد قبلي ، كل هذه الأمم غلبتها باسم آشور إلهي ، ونقلت بقاياها إلى سامريا ( ).
وبعد انتقال القبائل العربية من أعالي الحجاز أو من قرب العقبة إلى السامرة بثلاث قرون ظهر فيها أميرها جَشَم ، وقد قيل عنه في سفر نحميا أنه جشم العربي ، وأنه من أمراء السامرة وفي هذه التسمية دليل على أن كلمة "عرب" من دون سواها كانت قد رسخت في معناها ومدلولها وشمولها ، وغطت على التعابير السابقة في مرحلة كتابة التوراة (أي بعد السبي) .
وأضيف إلى تعريف جشم في " قاموس الكتاب المقدس" أنه كان ملكاً على قبيلة قيدار.
وقد اكتشف مؤخراً نقوش في الجهة الشمالية الشرقية من مصر على وعاء فضي ويذكر أن جشم كان ملكاً على قبيلة قيدار.( )
ونستنتج مما تقدم من التوراة ومن المكتشفات الأثرية في العراق وفي مصر أن جشم الأمير أو الملك هو وارث السلالة العربية منذ نقل سرجون الثاني القبائل العربية إلى السامرة . وقد عاصر جشم عودة نحميا إلى أورشليم وعمله على إعادة بناء سور المدينة المهدم ، وكذلك عمله على إعادة اليهود للسكن داخل المدينة ، وقد ورد في الأسفار: " ولما سمع سَنْبَلَّطُ الحورونيُّ وطوبيَّا العبد العموني العربي هزؤوا بنا واحتقرونا وقالوا ما هذا الأمر الذي أنتم عاملون أعلى الملك تتمردون ، فأجبتهم وقلت لهم إن إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبني ، وأما أنتم فليس لكم نصيب ولا حق ولا ذكر في أورشليم"( ) ، وأيضاً:"ولما سمع سنبلط وطوبيا العرب والعمونيون والآشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت والثُغَر ابتدأت تُسد غضبوا جداً وتآمروا جميعهم معاً أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضرراً .فصلينا إلى إلهنا وأقمنا حراساً ضدهم نهاراً وليلاً بسببهم ن وقال يهوذا قد ضعفت قوة الحمَّالين والتراب كثير ونحن لا نقدر أن نبني السور "( ) .
وتمكن اليهود على الرغم من معادة السكان لهم وبينهم العرب من إعادة بناء السور بإشراف نحميا في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ، والعبرة من وراء هذه الحادثة أن اليهود على الرغم من تمكنهم من إعادة بناء السور والهيكل فإنهم عادوا فضعفوا فيما بعد ن وعلى الرغم من ثوراتهم أيام اليونان والرومان فإن ذكرهم قد انتهى منذ مطلع القرن الثاني للميلاد ، أما العرب وقد كانوا بعضاً من سكان فلسطين أيام العمالقة ، كما كانوا بعضاً من سكان فلسطين في منتصف القرن الخامس ق.م ن فإن قوتهم أطردت وازدادت وتعززت بموجات الهجرة العربية قبيل الإسلام ثم توطدت بالفتح العربي الإسلامي ، ولم تصبح اللغة العربية في السائدة فحسب ، وإنما بقى العرب أيضاً هم السادة وهم الأكثرية الساحقة حتى القرن العشرين .

المعينيون
هم أصحاب الدولة المعينية ، أقدم دولة عربية عاشت في اليمن منذ الألف الثالث ق.م (133 ق.م-630 ق.م) ومن الثابت أنها كانت دولة ذات حضارة .
امتدت دولة المعينيين في عهد إزدهارها إلى شمال الحجاز وجنوب الأردن وفلسطين ، فكانت مدينة معان في الداخل مركزاً مهماً للمواصلات والتجارة ، ومحطة للقوافل ما بين جنوب الجزيرة العربية وشواطئ البحر المتوسط ن ويعتقد أن الفضل يعود إليهم في بناء مدينة غزة ، أما فضلهم في نمو المدينة وازدهارها فمؤكد ، كما أن العديد من قبائلهم سكنت الجنوب في منطقة غزة ، وحافظت على كيانها حتى عهد الاسكندر الكبير ( ).
والمعينيون من العرب الذين نزلوا فلسطين، في عهدها الكنعاني، الذين تعد دولتهم من أقدم الدول العربية التي وصل إلينا خبرها. عاشت في اليمن وازدهرت على رأي أكثر المؤرخين بين سنة 1300 -630 ق.م. وهناك من المؤرخين من يرجعهم إلى الألف الثالث قبل الميلاد.
وقد بلغت حدود هذه الدولة، في أوج عزها، شمالي الحجاز وجنوبي فلسطين. فكانت "معان" مركز سلطتهم وتجارتهم. قال زيدان: ] وامتد نفوذ المعينيين في إبان دولتهم إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط وشواطئ الخليج العربي وبحر العرب ] .
وقد اشتهر المعينيون بالتجارة فكانت قوافلهم تنقل السلع والبضائع المختلفة من جنوبي بلاد العرب إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط ورأى بعض المؤرخين أنهم هم الذين أسسوا "غزة" التي كانت في نهاية الطرف الغربي لقوافلهم التجارية، أو أنهم على الأقل، ساعدوا على تقدمها ونموها.
ومما لا شك فيه أن بطوناً معينية غزت جنوبي فلسطين وكونت لها دولة في منطقة غزة وحافظت على كيانها إلى عهد الإسكندر الكبير.



















هجرات سامية عربية أخرى إلى الشام
الآراميين (الأخلامو)
في نحو علم 1500 ق.م أي بعد مرور نحو ألف وخمسمائة عام على استقرار الكنعانيين في فلسطين ولبنان تعرضت بلاد الشام لهجرة عربية أخرى وهي هجرة الآراميين ومعهم القبائل المؤابية والآدومية والعمّونية .
نزل الآراميون من العرب الساميين شمالي الشام وشواطيء الفرات الأوسط كما نزل آخرون منهم جنوبه الشرقي.
الآراميون (الأخلامو)( )
أُطلق اسم الآراميين على مجموعة القبائل الناطقة باللغة الآرامية التي هي إحدى اللهجات السامية الشمالية –الغربية، مثل الكنعانية والعبرية ،واللغة العربية التي تشابه الآرامية في نواحٍ كثيرة، الأمر الذي دفع الباحثين إلى القول إن أصل الآراميين يرجع إلى جزيرة العرب ،أو أنهم على الأقل قد عاشوا فيها مدة من الزمن قبل النزوح إلى ما بين النهرين وبلاد الشام .
عند دراسة الشعوب التي انتقلت من البداوة إلى الحضارة تصعب معرفة الموطن الأصلي وتحديد أوقات الهجرة والاستقرار، إلاَّ أن جميع الظواهر تدل على أن الآراميين قد جاءوا من بادية الشام، وانتشروا في بلاد الهلال الخصيب بين بابل وحوض الخابور والفرات وشمالي سوريا حتى فلسطين.
وقد استقيت المعلومات التي جمعها الباحثون حتى الآن عن الآراميين من ثلاثة مصادر:
1-العهد القديم
2-النقوش والسجلات الآشورية
3-بعض الكتابات والآثار الآرامية
تتضمن التوراة كثيراً من الأخبار عن الآراميين، سواء عن علاقات النسب بينهم وبين الآباء العبرانيين في القديم، أم عن الحروب بين الحكام الآراميين واليهود وملوك آشور منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الثامن ق.م.
تذكر التوراة اسم "آرام" بين أبناء سام بن سيدنا نوح وتعدّد آرام:عوص وحول وجائر وماش.
ثم تشير إلى بلاد "آرام النهرين" و"فدان –آرام"، وآرام دمشق، وآرام صوبة، كما تتحدث عن انتقال سيدنا إبراهيم الخليل من أور الكلدانيين إلى حرَّان في البداية، ثم هجرة سيدنا يعقوب بن اسحق بن سيدنا إبراهيم من فدان –آرام إلى أرض كنعان بعد أن صاهر خاله "لابان الآرامي" وخدعه بالهرب مع نسائه ومواشيه ،وقد تحدث سيدنا يعقوب هذا عن نفسه وعن أبيه بقوله :"آرامياً تائهاً كان أبي"
وتروي التوراة حوادث الحروب التي نشبت بين الآراميين واليهود واستمرت مدة طويلة منذ عهد الملوك شاول (طالوت) حوالي سنة 1020 ق.م ، وداوود (963 ق.م) ،وسليمان (923 ق.م) إلى زمن أحاز ملك يهوذا (720 ق.م) .
أما النقوش الآشورية فإن أول مرة يذكر فيها اسم الآراميين هي كتابة من عهد الملك تغلات فلاسر الأول (1115-1077 ق.م) ،جاء فيها هذا الاسم مضافاً إلى اسم "أخلامو" الذي يفيد معنى الرفاق أو الأحلاف تقول الكتابة إن تغلات فلاسر الأول أرغم "الأخلامو-الآراميين" على التراجع إلى ما وراء الفرات ،وتعقبهم حتى معاقلهم في جبال بشري ،ثم يضيف الملك قائلاً:"لقد حاربت الأخلامو –الآراميين ثماني وعشرين مرة،بل اجتزت الفرات مرتين في سنة واحدة ،وطردتهم من تدمر في بلاد آمورو ، وغنمت أموالهم وأتيت بها إلى بلدي آشور"
يستدل من هذه الوثيقة التاريخية أن الأخلامو هم قبائل بدوية كانوا يعيشون في بادية الشام وحوض الفرات، ويهاجمون المدن أو يجندون مرتزقة في مختلف الجيوش.
وقبل هذه الكتابة ورد ذكر الأخلامو في واحدة من رسائل تل العمارنة يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 1375 ق.م في معرض الشكوى من تعدياتهم على الحضر .
وفي سجلات الملك الآشوري شلمانصر الأول (1274-1245 ق.م) أنه حارب الحوريين وحلفائهم الحثيين والمرتزقة الأخلامو في الجزيرة وهزمهم.
يبدو أن الآراميين كانوا يؤلفون جزءاً هاماً من هؤلاء الأخلامو الذين اختفى ذكرهم تدريجياً من الحوليات الآشورية، وبرز عوضاً عنه اسم الآراميين فقط.
وقد سنحت الفرصة للآراميين في الاستقرار بالجزيرة وبلاد الشام منذ القرن الحادي عشر ق.م عندما ضعفت مملكة أشور من جهة، وانهارت الإمبراطورية الحثِّية من جهة ثانية.
فإنه بعد مقتل تغلات فلاسر الأول سنة 1077 ق.م انتقلت بلاد آشور إلى فترة من الفوضى والاضطراب والحروب الأهلية والكوارث دامت 166 عاماً قبل أن يعتلي العرش الملك أداد نيراري الثاني في سنة 911 ق.م ،وهو الذي أنقذ المملكة من الأخطار المحدقة بها ،فانتعشت واستعادت قوتها .
في هذه الحقبة أخذت القبائل الآرامية تتدفق من بادية الشام إلى الجزيرة واستطاعت أن تجتاز نهر الخابور وتتقدم نحو نهر دجلة فوصلت شمالاً إلى نصيبين، وبسطت نفوذها في الجنوب حتى أن أحد الزعماء الآراميين تمكن من الاستيلاء على عرش بابل باسم أداد –أبال الدين (1067-1046 ق.م) ،ويبدو أن الآشوريين أنفسهم قد ساعدوه على ذلك أملاً في إبعاد التيار الآرامي عن آشور.
وقد أسّس الآراميون في هذه الفترة عدة ممالك أو إمارات إلى الشرق من الفرات مثل "بيت عدن" وعاصمتها "تل بارسيب"، وآرام النهرين" التي كانت عاصمتها "غوزانا" أي تل حلف ومملكة "فدان-آرام" وعاصمتها مدينة "حرَّان" التي كانت من أهم مراكز الحضارة الآرامية.
أما في بلاد الشام فقد استفادت القبائل الآرامية من انهيار الإمبراطورية الحثية التي اجتاحتها جحافل شعوب البحر الآتية من الشمال والزاحفة على شواطيء أسيا الصغرى وسورية حوالي سنة 1200 ق.م . ولما تمكن الفرعون رعمسيس الثاني من هزيمة هؤلاء الغزاة في البر والبحر، وردَّهم عن مصر سنة 1174 ق.م استقر قسم منهم ،هم الفلسطيُّون في سواحل بلاد كنعان التي عرفت منذ ذلك الوقت باسمهم "أي فلسطين" في حين التحق القسم الآخر مرتزقة بجيوش فرعون
وانتهز الآراميون أيضاً فرصة ضعف المملكة الآشورية لتأسيس عدة ممالك صغيرة إلى الشرق من الفرات، كذلك استغلوا الفراغ الذي نشأ من انهيار الحثيين ،فشيدوا بعض الممالك والإمارات غربيّ الفرات وفي بلاد الشام بدءً من سفوح جبال أمانوس حيث قامت مملكة سمأل(شمال) وعاصمتها موقع "زنجرلي" ثم إمارة "بيت آغوشي" في منطقة حلب وعاصمتها "أرباض-تل رفعت" ثم مملكة "حماة" على العاصي وقد اشتهر ملكها "زكير" صاحب النقش المحرر بالآرامية الذي عثر عليه إلى الجنوب من حلب ،ثم "آرام –صوبه" في البقاع التي ربما كانت تؤلف مملكة واحدة مع "بيت رحوب" على نهر الليطاني ومع "بيت معكة" و"جشور" في شرقي الجليل . وأخيراً أسس الآراميون مملكة "آرام-دمشق" التي كانت أشهر الممالك الآرامية وأهمها والتي تولت زعامة الآراميين مدة من الزمن .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الآراميين الذين أسسوا إمارات كثيرة لم يتوصلوا إلى جمع القبائل المتفرقة ودمجها في دولة واحدة قوية ،فقد ظلت الدويلات الآرامية منفصلة متنازعة في الغالب،وإن قامت أحياناً محاولات لتأليف اتحاد منها في سبيل مقاومة الخطر الخارجي .
تذكر التوراة مثلاً أن "حدد عزر" ملك آرام-صوبه أقدم على تكوين اتحاد من الإمارات الآرامية في ما بين النهرين وبلاد الشام ومن العمونيين والمآبيين والايدوميين في فلسطين وشرقي الأردن لمقاومة توسع العبرانيين وتعدياتهم على سكان البلاد والجيران ،وقد استطاع سيدنا داوود (1004-963 ق.م) أن يتغلب على الآراميين وحلفائهم هؤلاء ن ولكن ملك دمشق رصين الأول استأنف محاربة الإسرائيليين في عهد سيدنا سليمان (963-923 ق.م) وفرض سيطرته على أكثر الدويلات الآرامية من حماة حتى شرقي الأردن ،ثم قام ملك دمشق بن حدد الأول (حوالي 879-843 ق.م) واستغل انقسام المملكة العبرانية بعد موت سيدنا سليمان فاتفق مع ملك يهوذا لمهاجمة ملك "إسرائيل"،وانتزع منطقة جلعاد في شرقي الأردن وأجزاء من الجليل من العبرانيين ولما تقد شلمانصر الثالث ملك آشور لإحتلال بلاد الشام نجح بن حدد الأول في تجهيز جيش كبير باشتراك 12 من الملوك معه لمواجهة الآشوريين في معركة قرقر على العاصي سنة 853 ق.م التي انتهت بدون نتيجة حاسمة .
بلغت مملكة آرام –دمشق أوج قوتها في عهد الملك حزائيل (842-796 ق.م) الذي حارب الإسرائيليين وضربهم في جميع تخومهم من الأردن حتى وادي أرنون وهدد أورشليم .
ولكن المملكة أخذت تضعف في عهد خلفائه وتتعرض إلى هجمات الآشوريين حتى تمكن الملك الآشوري تغلات فلاسر الثالث من الاستيلاء على دمشق سنة 732 ق.م ، ولما حاول السكان الثورة جاء الملك الآشوري صارغون الثاني سنة 720 ق.م وحطم المقاومة في حماة ، ونفى السكان إلى أماكن أخرى وقضى نهائياً على استقلال الآراميين .

إذا كان الآراميون لم يكتب لهم النجاح في الميدانين السياسي والعسكري بسبب اختلافهم وانشقاقهم إلى دويلات منعزلة فإنهم على نقيض ذلك استطاعوا أن يحتلوا مقاماً رفيعاً في تاريخ الحضارة البشرية .
كان الآراميون في الأصل من البدو الجفاة الذين عاشوا منعزلين في بادية الشام منهمكين في الغزو والحرب ، وكانت الدول القوية حولهم من أكاديين وبابليين وآشوريين وحثيين تحاصرهم وتمنعهم من الانتشار والاستقرار في البلاد المجاورة من الهلال الخصيب ، فلما ضعفت تلك الدول وتمكن الآراميون من الانتقال إلى المناطق المتحضرة وأسسوا الممالك والإمارات تأثروا بأساليب المعيشة والتفكير السائدة بين السكان كما كان لهم بالمقابل تأثير كبير في تطور الشعوب التي احتكّوا بها .
لا شك في أن أهم ناحية برع فيها الآراميون هي التجارة التي أكسبتهم شهرة واسعة ومكانة مرموقة في تاريخ الحضارة .
إن القبائل الآرامية البدوية كانت تسيطر على طرق المواصلات بين جميع مناطق الهلال الخصيب وكانت قوافلهم تنتقل من بلاد الشام إلى ما بين النهرين وإلى الأناضول وهي تحمل الأرجوان من فينيقية والمنسوجات والمطرزات من دمشق ، والكتان والنحاس والأبنوس والعاج من إفريقيا وبفضل تبادل المنتوجات والمصنوعات ازدادت الثروة وتقدمت الزراعة والصناعة وتحسنت العلاقات بين الشعوب .
ولعل أهم نتيجة مباشرة لنشاط الآراميين التجاري واختلاطهم هي انتشار لغتهم التي امتازت بسهولة كتابتها الأبجدية،والتي أصبحت اللغة السائدة في فلسطين وسائر بلاد الشرق الأدنى .
أما فيما يتعلق بديانة الآراميين فإنها تتألف من عناصر مختلفة مقتبسة عن الشعوب الأخرى. إذ يستدل من كتاباتهم وأسمائهم أنهم كانوا يعبدون آلهة سومرية –أكادية وحثية وكنعانية وفينيقية وغيرها .
كان أهم آلهتهم هو "حدد" الذي يرد في التوراة باسم "هدد" أو "رمون" وقد مزجوا بينه وبين "تشوب" إله الزوابع والرعد لدى الحوريين وكان أكبر معبد له في مدينة هيرابوليس (منبج في شمالي سوريا) ،كما كان له معبد كبير في دمشق ،وقد أقام أحد ملوك سمأل تمثالاً ضخماً له في عاصمته .
وكانت تعبد مع حدد زوجته "آتارغاتيس" التي كان اسمها مشتقاً من اسمي الآلهتين الفينيقيتين عشتاروت وعناة . وهي آلهة الخصب والأمومة، وقد انتشرت عبادتها بين اليونان والرومان الذين كانوا يسمونها الآلهة السورية Dea Syria
كذلك كان الآراميون يعبدون إله القمر عند البابليين "سين" وإله الشمس الآشوري وإله العاصفة والحرب الفينيقي"رشف" ،والآلهة الكنعانية "إيل وبعل وبعل شمين"
وفي الفنون الجميلة أيضاً تأثر الآراميون بالشعوب المعاصرة التي اختلطوا بها في بلاد الشام وما بين النهرين، فكانوا يستخدمون النحاتين والنقاشين الكنعانيين ،ويتبعون أساليب الحوريين والبابليين والحثيين في العمارة والنحت والنقش والزخرفة ،وقد كشفت التنقيبات الأثرية في تل حلف عن قصر آرامي يبدو عليه مظهر التقليد في طراز البناء وبساطة الزخرفة ن وبين آثار أرسلان طاش بالقرب من عين العرب ،حيث كانت تقوم مدينة "حداتو" الآشورية عُثر على قطع زخرفية من العاج كانت ترصع سرير الملك حزائيل مع بعض التحف الفنية التي كان الآشوريون قد غنموها من دمشق ،ونقلوها إلى بلادهم .
وتبين من هذه الآثار أيضاً أن الآراميين ظلوا يتبعون تقاليد الشعوب السابقة ،ولم يبلغوا مستوى الأصالة في الإبداع الفني .
وبذلك اقتصرت مكانتهم التاريخية على التقريب بين الأمم والمزج بين الحضارات القديمة وحفظ تراثها .( )
لا يوجد مكان تعايشت فيه الثقافة البدوية مع الثقافة الحضرية وتبادلتا الاعتماد على بعضهما البعض مثل منطقة الهلال الخصيب ، فمنذ العصر النيوليتي كان سكان المنطقة يتبادلون الأدوار حيث يتحول الرعاة إلى مزارعين مستقرين كلما مال المناخ نحو الرطوبة والبرودة ، ويتحول المزارعون المستقرون إلى رعاة كلما جف المناخ وعز المطر . ولعل التفسير الأقرب إلى الصواب لظاهرة الهجران المفاجيء للقرى الزراعية النيوليتية في بعض أحقابها وخلوها من السكان دون شواهد على حدوث تدمير متعمد أو زلازل وحرائق في مواقعها ، هو ذلك التفسير الذي يرى في تلك الظاهرة نتاجاً لتحول مناخي دفع السكان إلى ترك الزراعة والتجول مع قطعانهم بحثاً عن المرعى ثم العودة إلى مواقعهم السابقة أو الاستقرار في غيرها مع عودة الشروط الملائمة للزراعة مجدداً .
وقد بقى القوم على هذا الحال حتى بعد ظهور المدن وارتقاء الحضارات الكبرى في المنطقة، ولعل أكبر مثال على التحول الجمعي لثقافة بأكملها تقريباً من حياة القرية الزراعية وحياة المدن الكبرى إلى حياة الرعي المتنقل أو البداوة ، هو ما حدث في مناطق بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط(أي فيما بين أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني قبل الميلاد )
فخلال هذه الفترة انتهى المناخ المطري البارد الذي ساد المنطقة منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد ، وتبعه مناخ حار وجاف أدى إلى انهيار شامل لثقافة عصر البرونز المبكر ، فانهارت المملكة القديمة في مصر وإمبراطورية أكاد في وادي الرافدين ، وفي المناطق السورية هُجرت معظم القرى الزراعية والكثير من المدن التي تقع في المناطق الحساسة للجفاف ثم تحولت بعد فترة إلى أطلال ، وقد عثر المنقبون في مواقع هذه المدن المهدمة خلال أواخر عصر البرونز المبكر وخصوصاً في منطقة فلسطين على آثار واضحة تشير إلى قيام حياة بدوية على أطراف المدن القديمة فظنوا أن هؤلاء البدو هم المسئولين عن ذلك التدمير ، وفي الحقيقة فإن ما لاحظه المنقبون لم يكن سوى ظاهرة عادية ومألوفة في سياق حضارة الشرق القديم ، حيث تحل البداوة محل الحضارة وتتنقل هذه إلى تلك كوسيلة عملية للتعامل مع الطبيعة في هذا الجزء من العالم ، ففي نهاية عصر البرونز المبكر أخذت الجماعات الآمورية بالظهور حول المدن المهدمة وحول المدن التي بقيت تتنفس بصعوبة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية ن ولكن هذه الجماعات البدائية نفسها هي التي كتبت الصفحة التالية في حضارة الشرق القديم ، وأعني بها حضارة البرونز الوسيط .
ولقد أعاد التاريخ نفسه في الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد عندما أدت الكارثة المناخية الشاملة إلى هجراتٍ واسعة وتحولات سكانية شملت شرقى أوروبا واليونان وبحر إيجه والأناضول وأقطار شرقي المتوسط ، فانطلقت شعوب البحر من مواطنها في بحر إيجه تبحث عن أرض جديدة في الشرق وحلت المجاعة في جميع أرجاء المملكة الحثية وفي مناطق سوريا وفلسطين ويبدو أن المملكة الحثية قد انهارت من الداخل قبل وصول شعوب البحر إليها ، وكذلك المدن السورية التي كانت مزدهرة خلال البرونز الأخير مثل أوغاريت وغيرها . فمن المرجح أن أوغاريت قد هدمتها الزلازل قبل وقت من وصول شعوب البحر إليها وهجرها أهلها لعدم قدرتهم الاقتصادية على إعادة البناء ، وكذلك بعض المدن الكبرى الأخرى في سورية وفلسطين وربما تحول هؤلاء السكان إلى رعاة متنقلين أو أنهم أوغلوا شرقاً بحثاً عن أماكن أكثر ملائمة للاستقرار جديدة وبذلك تكون شعوب البحر قد وصلت إلى مناطق مفقرة ومهدمة لم تشجعها على الاستقرار لذلك فقد تابعت هذه الجماعات التائهة التي كانت ترتحل مع نسائها وأطفالها وأدواتها المنزلية الخفيفة مسيرتها نحو مصر حيث قضى الفرعون رمسيس الثالث على كل طاقتها وزخمها القتالي ولم تمضِ بضعة عقود حتى ذابت هذه الجماعات الغريبة في الأمكنة التي توقفت عندها وضاع أثرها .
خلال هذه الفترة القاتمة أخذت القبائل الآرامية التي كانت متواجدة منذ زمنٍ طويل في البادية السورية وعلى أطراف المناطق الزراعية في الهلال الخصيب بالظهور على المسرح مستفيدة من فترة الفراغ الشامل وحالة الفوضى والاضطراب التي ميزت نهاية البرونز الأخير وبداية عصر الحديد وعندما أخذت موجة الجفاف بالإنحسار مع التقدم في عصر الحديد الأول (1200-1000 ق.م) كانت هذه القبائل قد استقرت في الأرض وأخذت ببناء القرى الزراعية فالمدن الكبرى فالممالك وقد ساعدها على ذلك غياب القوى العظمى التقليدية من حولها والوضع الداخلي المتضعضع لمناطق الجزيرة العليا وغربي الفرات وانعدام السلطة المركزية فيها ومع مطلع القرن العاشر قبل الميلاد كان الآراميون قد شكلوا دويلات قوية على طول حوض الخابور وحوض الفرات الأوسط والأعلى ، وفي الشمال السوري فيما بين الفرات والبحر المتوسط ، وكذلك فيما بين حلب شمالاً ودمشق في الجنوب السوري ، وفي مقابل الضغط الآشوري العسكري على بلاد آرام منذ مطلع القرن العاشر قبل الميلاد ، كان الآراميون يمارسون ضغطاً سلمياً ومعاكساً على منطقة وادي الرافدين وخصوصاً باتجاه بابل حتى استطاع الفرع الكلداني من المجموعة من المجموعة الآرامية السيطرة تماماً على جنوب بلاد الرافدين بعد فترة من التسرب التدريجي وأسس المملكة البابلية الجديدة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد التي كان نبوخذ نصَّر ثالث ملوكها .
من الممالك التي تكونت في سياق عصر الحديد الأول واستمرت خلال عصر الحديد الثاني ، مملكة بيت بحياني في حوض الخابور ، وكانت عاصمتها جوزان في موقع تل حلف الذي يقع في أقصى الشمال السوري عند منابع نهر الخابور وقد تم اكتشاف موقع جوزان عام 1899 صدفة من قبل المنقب الألماني فون أوبنهايم واستمر التنقيب فيه حتى عام 1929 على فترات متقطعة . ونظراً لقلة المواقع القديمة المعروفة في سورية خلال ذلك الوقت فقد صنفت آيات النحت العظيم والعمارة الراقية لتل حلف تحت تسمية جديدة من "الفن الحثي الجديد" ودعيت جوزان وغيرها من الممالك السورية التي اكتشفت بعدها بالممالك الحثية الجديدة وأخذ دارسو فنون وثقافة هذه الممالك بالبحث عن الروابط التي تجمعها إلى فنون وثقافة كل من آشور وحاتي ، وذلك دون النظر إلى الطبيعة الخاصة لهذه الثقافة وتفردها . ورغم أن تسمية "الحثي الجديد" قد بقيت مصطلحاً تاريخياً وفنياً وأركيولوجياً لفترة طويلة من الزمن ن إلاَّ أن الاتجاهات الحديثة في علم الآثار وتاريخ الفن في سورية القديمة قد أخذت تتلمس الشخصية المستقلة لهذه الثقافة السورية في عصر الحديد وترى فيها طابعاً آرامياً رغم تأثرها بالثقافتين الحثية والآشورية ، وهو أمر طبيعي يفرضه تداخل التاريخ والجغرافيا لهذه الثقافات المتقاربة ن ويجب أن لا ننسى أن هذه المناطق من الشمال السوري قد استوعبت عدداً كبيراً من المهاجرين من آسيا الصغرى عقب انهيار المملكة الحثية ، وأن هؤلاء المهاجرين قد ساهموا في بناء ثقافة عصر الحديد السوري ويقول المؤرخ وعالم الآثار المعروف باولو ماتييه مكتشف مدينة إيبلا بخصوص مصطلح " الحثي الجديد" أن هذا المصطلح من أكثر المصطلحات والمفاهيم التي كونها الباحثون المبكرون دوغمائية وخطأ ، وهو يحرم الفن السوري من كل أصالة وإبداع خاص .
وإلى الغرب من مملكة بيت بحياني الآنفة الذكر ظهرت مملكة بيت عديني التي شملت الأراضي الواقعة بين نهر بليخ والفرات وقد اكتشفت عاصمة هذه المملكو واسمها تل برسيب في موقع تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات وعلى مسافة 20كم إلى الجنوب من بلدة جرابلس الحالية على الحدود التركية ، وعثر في الموقع على كتابات تذكر اسم ملكها المدعو آخوني المعروف في السجلات الآشورية ، كما عثر في بوابة قصر تل برسيب على أسدود بازلتية ضخمة عليها نقوش للحاكم الآشوري الذي ولي المدينة بعد أن ألحقها الأشوريون بممتلكاتهم وحكموها بشكل مباشر( ) . وفي منطقة الفرات الأعلى قامت مملكة كريكش التي اكتشفت عاصمتها التي تحمل الاسم نفسه قرب بلدة جرابلس على الفرات ، وقد تبين من الألواح المسمارية المكتشفة في الموقع أن المدينة كانت مزدهرة قبل وصول الآراميين إليها ، كما أن الوثائق الكتابية من مدينة ماري ومن مدينة حاتوسس عاصمة الحثيين تذكر كركميش كمدينة كبرى مزدهرة في عصر البرونز الوسيط ، وخصوصاً خلال عصر الامبراطورية الحثية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد .
ونستطيع في هذا الموقع القديم أن نتابع تشكل الفن المدعو بالحثي الجديد منذ بداياته الأولى ومن خلال تطوره الذاتي لنستكشف ملامح هذا الفن المتميز وتفرده كفن سوري أصيل .
وإلى الشمال الشرقي من كركميش قامت مملكة حداتو وقد اكتشفت عاصمتها التي تحمل اسم حداتو في موقع أرسلان طاش على مسافة 30كم شرقي الفرات ، وأهم ما تم العثور عليه في الموقع مجموعة من المنحوتات العاجية التي تعبر عن مدرسة فنية سرية متميزة وتظهر روابط واضحة مع عاجيات فينيقيا وفلسطين ، وفي مناطق غربي الفرات قامت مملكة بيت جوش في منطقة حلب وعاصمتها أرفاد التي يرجح أن تكون في موقع تل رفعت على مسافة 35 كم إلى الشمال الشرقي من حلب . وفي أقصى الشمال الشرقي قامت مملكة يأدي التي سيطرت على منطقة جبال الأمانوس ، وقد اكتشفت عاصمتها شمالاً في موقع تل زنجرلي الحالي .
ومن أهمما أفاض به هذا الموقع من آيات فنية هو مجموعة من المنحوتات البارزة الضخمة على بوابات قلعة المدينة تشكل في حد ذاتها مدرسة سورية متميزة في هذا النوع من الفن ، وقد الحقت هذه المنحوتات من قبل مكتشفيها الأوائل في مطلع القرن العشرين بمدرسة النحت البارز الآشوري ، أما اليوم وبعد أن توفر لدينا ما يكفي من الأعمال الفنية المشابهة فإن الوقت قد حان لدراسة النحت السوري في استقلاله وتميزه كمدرسة قائمة في حد ذاتها .
أما فيما يتعلق بآراميي وسط وجنوب سورية فإن المعلومات على بدايات تواجدهم في هذه المنطقة قليلة جداً ومبعثرة ، فمن المؤكد أن كلاً من حماه ودمشق قد وقعتا تحت السيطرة الآرامية منذ أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، إلاّض أن المعلومات التفصيلية تنقصنا عن بدايات التواجد الآرامي في هاتين المدينتين وعن الأسر الحاكمة الأولى فيها .
والمعلومات التوراتية التي وردت عنهما ضمن أخبارسيدنا داوود وسيدنا سليمان ليست مما يمكن الاعتماد عليه وبخصوص الممالك الآرامية التي يذكرها سفر صموئيل الثاني وهي آرام معكة التي وضعها المؤرخون في سفوح جبل الحرمون مع امتدادات تصل إلى بحيرة الحولة وطوب التي وضعوها في شرقي الأردن شمالاً إلى الجنوب من جيشور ، وآرام صوبة التي صنعوا منها قوة كبرى في الشرق الأدنى ووضعوها في البقاع الشمالي مع امتدادات تصل شرقاً إلى البادية وأطراف الفرات ، فهذه جميعاً ممالك يحوم الشك حول وجودها أصلاً ، وإنني أطرح هنا وبكل ثقة علمية رأياً مفاده أن هذه الممالك لم تقم أصلاً لا في القرن العاشر قبل الميلاد ولا في أية فترة لاحقة من تاريخ المنطقة ، فمملكة سيدنا داوود التي دخلت في حروب مع هذه الممالك لم تكن قائمة في القرن العاشر قبل الميلاد كما أثبتنا سابقاً بالادلة العلمية، والوثائق الكتابية لممالك الشرق الأدنى القديم لم تحفل بذكر واحدة من هذه الممالك لا في القرن العاشر ولا بعده ، والتنقيبات الأثرية في جمع المواقع المفترضة لهذه الممالك لم تخرج بشاهد أثري واحد يدل على وجودها . فأي شيء يبقة بعد ذلك يدعونا إلى الاستمرار في الحديث عن هذه الممالك المهمة والقوية .
لقد أراد محررو التوراة ابتكار خصوم وهميين لمملكة وهمية وملك وهمي ، ونظراً لجهلهم الكامل بتاريخ تلك الحقبة التي يتحدثون عنها وبخارطتها السياسية وهو جهل استطعنا إثباته عبر نقدنا النصي والتاريخي سابقاً ، فقد التقط هؤلاء المحررون أخباراً متواترة عن مشيخات آرامية قريبة إليهم زمنياً وجعلوا منها شعوباً وممالك قوية ، أما هدد عزر ملك صوبه الأسطوري الذي امتدت سلطته من البقاع غرباً إلى نهر الفرات وفق ما يراه المؤرخون التقليديون فلا أدري لماذا لم يتساءل هؤلاء المؤرخون عن سبب صمت النصوص الآشورية في القرن العاشر قبل الميلاد عن ذكره ، وهي التي لم تترك مملكة ذات شأن في بلاد الشام إلاّ وذكرتها .
والحقيقة كما أراها بخصوص هذا الملك أنه لم يكن سوى هدد عدر ملك دمشق الذي حكم في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد وواجه الآشوريين في عدد من المواقع الحربية المهمة وردهم عن مناطق غربي الفرات ، وكانت أهم معاركه معركة قرقرة المشهورة على نهر العاصي ، ونظراً لغموض وتضارب الأخبار التي توفرت لمحرري التوراة عن أحداث القرن التاسع فقد جعلوا هدد عدر هذا ملكاً على صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد تحت اسم هدد عزر ، وأحلوا محله على عرش دمشق في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ملكاً اسمه بن هدد لم يكن موجوداً في ذلك الوقت .
دمشق قبل العصر الآرامي
كانت دمشق بين المناطق الرائدة لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في المشرق العربي القديم ، ورغم أننا لا نملك الأدلة من موقع المدينة ذاتها على تواجد إنسان العصر الحجري ، إلاَّ أن انتشار المواقع النيوليتية حول المدينة مثل موقع تل أسود وموقع تل الرماد يدل على أن المنطقة كانت مسكونة منذ مطلع الألف السابع قبل الميلاد على أقل تقدير وأنها قد ساهمت في الثورة الثقافية الأولى في تاريخ البشرية والتي يدعوها الأركيولوجيون بثورة العصر الحجري الحديث (أو الثورة النيولوتية) وبما أن مدينة دمشق العصر الإسلامي داخل السور ما زالت مسكونة حتى الآن ، وتجثم فوق الطبقات الأركيولوجية السابقة ، فإن قصور الأدلة الأثرية من موقع المدينة ذاته عن تلبية حاجة المؤرخ لا يقتصر على العصر الحجري بل يتعداه إلى جميع العصور التاريخية اللاحقة وذلك نظراً لصعوبة التنقيب في المناطق المأهولة ،إن لم يكن استحالته من حيث المبدأ .
من هنا فإن معلوماتنا عن دمشق في العصور القديمة مستمدة بشكل رئيسي من النقوش الكتابية للشعوب والثقافات المجاورة إضافة إلى بعض المعلومات القليلة جداً التي يقدمها لنا موقع المدينة الاسلامية داخل السور والذي يتطابق إلى حد كبير من موقع مدينة العصر الروماني وما سبقه . فمن المؤكد اليوم أن معبد جوبيتر دمشق الذي بنى في العصر الروماني لإله المدينة هدد بعد أن طابق الرومان بينه وبين جوبيتر يقع تحت المسجد الأموي الكبير وأن المعبد الآرامي الأصلي يقع تحت المعبد الروماني كما يرجح الباحثون أن التل الذي يرتفع حوالي ستة أمتار ويقع على مسافة 250 م إلى الجنوب من القوس الروماني المعروف باسم باب شرقي، هو المكان الذي بنيت فيه القصور الملكية القديمة وأنه بمثابة أوركروبوليس دمشق ن وفيما عدا ذلك فقد وصلنا أثر فني واحد فقط من جميع العصور القديمة للمدينة ، هو لوح حجري أبعاده 80*70 سم ، منقوش عليه صورة لسفينكس(أبو الهول) عثر عليه مدعوماً بجدار المعبد الروماني عام 1940 أثناء عمليات ترميم وإصلاحات في المسجد الأموي ، ويستشف من الأسلوب الفني لتنفيذ العمل أنه ينتمي إلى القرن التاسع قبل الميلادي وهو العصر الذهبي لآرام دمشق .
يظهر الاسم "دمشق" لأول مرة في التاريخ حوالي عام 1450 ق.م وذلك في سجلات الفرعوت تحوتمس الثالث الحربية ، حيث ورد بصيغة تمسكو (تا-مس-كو) ثم ظهر بعد ذلك بقرن من الزمان في رسائل تل العمارنة ، حيث ورد ثلاث مرات وبثلاث صيغ تميشقي ( تي-ما-اش-قي) ودمشقا (دي –ماش-قا) ودومشقا (دو-ما-اش-قا)وفي السجلات الآشورية فيما بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد يرد اسم دمشق في معظم سجلات الآشورية على بلاد الشام ، وذلك بثلاث صيغ هي دمشقا (دي-ماش-قا) ودمشقي (دي-ماش-قي) ودمشقو ( دي-ماش-قو) ، أما في النصوص الآرامية فيرد بصيغة واحدة هي دمشق ( د.م.ش.ق) وما زال علماء اللغات السامية مختلفون حول معنى الاسم وجذره السامي .
لم تكن دمشق مدينة مهمة خلال عصر البرونز الأخير (1600-1200 ق.م) وهو العصر الذي بدأ فيه اسم المدينة بالظهور في الوثائق الكتابية ورغم أن المدينة تنتمي إلى إقليم يمتد في الجنوب السوري اسمه إويي ( أو أوبو) إلاَّ أننا غير متأكدين من أن دمشق كانت عاصمة لهذا الاقليم ، أو أنها كانت المدينة الرئيسية فيه ، وجل ما وصلنا من معلومات عن إقليم أويي وعن مدينة دمشق خلال عصر البرونز الأخير قد جاء في سياق معلوماتنا عن العلاقات بين القوى الكبرى الثلاث في ذلك الوقت وهي مصر وميتاني وحاتي فمع مطلع عصر البرونز الأخير أخذت مملكة ميتاني الحورية بالخروج من مناطقها الرئيسية في الشمال السورية والتوسع باتجاه أواسط سوريا ، وفي نفس الوقت تقريباً ابتدأ فراعنة الأسرة الثامنة عشر في مصر حركة مد إمبريالي مستمر بإتجاه آسيا الغربية وبعد ذلك أخذ الملوك الحثيون بالضغط على ميتاني من الشمال حتى استطاعوا إزالتها أخيراً من طريقهم كقوة عظمى ووقفوا وجهاً لوجه أمام مصر ومن بين هذه القوى كانت مملكة قادش في سوريا الوسطى على نهر العاصي ( قرب حمص الحالية) هي القوة الكبرى في سوريا وتسيطر على جميع المالك الصغيرة في وسط وجنوب سوريا ولكنها كانت موالية لمملكة ميتاني وتعمل من خلال استراتيجيتها العسكرية والسياسية في المنطقة وقد شنت مملكة قادش حملة كبيرة ضد الفرعون تحوتمس الثالث حوالي عام 1450 ق.م ويساعدها في ذلك عدد من جيوش الممالك الصغيرة في سوريا وفلسطين ، والتقت قواتها بالقوات المصرية عند مدينة مجدو بفلسطين في معركة حاسمة قررت نتيجتها مصير الوجود المصري في آسيا . ويذكر سجل حملة تحوتمس الثالث على قوات التحالف السوري في مجدو أن الفرعون الذي قاد المعركة بنفسه قد هزم ملك قادش وحلفاءه هزيمة منكرة ، وفي نهاية هذا النص الطويل والمفصل يرد ذكر أسماء الممالك والمدن المقهورة وبينها مدينة دمشق التي تذكر بشكل عابر ودون التوكيد على قوتها أو أهميتها ، ويبدو أن إقليم أوبي قد بقى منذ ذلك الوقت ضمن المناطق التقليدية للنفوذ المصري .
مع التقدم في عصر البرونز الأخير وإزدياد صراع القوى العظمى على المناطق السورية يكتسب إقليم أوبي أهمية متزايدة نظراً لوقوعه على حدود التوتر الفاصلة بين مناطق نفوذ تلك القوى ، وقد بقى هذا الاقليم بمثابة الحد الشمالي التقليدي للنفوذ المصري في آسيا الغربية وصولاً إلى عصر العمارنة الذي حمل معه تغييرات أساسية في ميزان القوى ، وذلك بسبب تزايد المد الإمبريالي الحثي وتوسع أباطرة حاتي الجدد على حساب مملكة ميتاني ، ومع إعتلاء الملك شوبيلو ليماس عرش حاتي ، قام بحملته السورية الأولى واستولى على كل أملاك ميتاني في الشمال السوري وجعل ملكها توشراتا تابعاً له ، وبعد عودته المظفرة من واشوكاني عاصمة ميتاني استولى على المناطق الشمالية الغربية من سوريا ثم هبط فاستولى على مملكة قطنة في سوريا الوسطى ( شرقي حمص في موقع تل المشرفة) ثم تابع جنوباً نحو أراضي إقليم أوبي الذي يدعوه الحثيون أبينا ولكن ملك قادش المجاورة لقطنة اعترض طريقه في محاولة منه لعون ميتاني ، فهزمه ثم قبض عليه وأرسله أسيراً إلى حاتي ووضع مكانه على عرش قادش ابنه المدعو ايتوغاما الذي حوَّل ولائه من ميتاني إلى حاتي ، بعدذ لك تابع مسيرته نحو أوبي فاستولى عليها وهزم ملكها المدعو أريوانا وعند هذه النقطة في الجنوب السوري تنتهي حملة شوبيلوليماس ويقفل عائداً إلى عاصمته في الأناضول بعد أن فتح صفحة جديدة في التوازن الدولي حيث غابت ميتاني كقوة عظمى ، ووقفت حاتي وجهاً لوجه أما مصر.
ويبدو أن حملة حاتي على سوريا الوسطى والجنوبية لم تعزز مواقعها تماماً إلاَّ في قادش التي بقى ملكها المعين من قبل الحثيين إيتوغاما يسعى جاهداً لرعاية مصالحهم في المنطقة ويتدخل في شئون الدويلات السورية والفلسطينية إبان فترة الاضطرابات التي سادت المنطقة خلال حكم الفرعون اخناتون ، وفي مقابل ملك قادش الذي كان يرعى مصالح حاتي ، يتكرر في رسائل تل العمارنة ذكر شخصية عسكرية هامة اسمها بيرياوازا، ولا نعرف على وجه التحديد منصب هذا القائد العسكري لأن الرسائل كانت تشير إليه بالاسم فقط وكأنه أشهر من أن يُعرَّف ويبدو أنه كان المفوض المصري الأعلى في المنطقة رغم أنه من أصل آري لا من أصل مصري ويرتبط اسم بيرياوازا هذا بمدينة دمشق إذ نعرف من إحدى الرسائل المتبادلة بينه وبين الفرعون أنه قد هرب من وجه أعدائه وانسحب إلى دمشق ثم نعرف انه قد انتقل من دمشق إلى مدينة كاميدو في البقاع الجنوبي ومن هناك أرسل إلى الفرعون قائلاً أنه متحصن الآن في مدينة الملك ومن هنا يعتقد بعض دارسي رسائل تل العمارنة بأن بيرياوازا كان حاكماً لمدينة دمشق ، ويدعوه الباحث وليم فوكسويل أولبرايت بأمير دمشق .
لا ندري كيف عادت أوبي وقطنة إلى الجانب المصري بعد حملة شوبيلوليماس ولكن المؤكد أن دمشق وقطنة كانتا مواليتان للفرعون أخناتون ومفوضه بيرياوازا خلال الأحداث التي تغطيها تلك الرسائل .
نقرأ في رسالة من ملك قطنة إلى الفرعون قوله : "إن قطن خاضعة تحت قدمي مولاي مثل دمشق في بلاد أوبي .." لكن إيتوغاما ملك قادش كان دائم التآمر ضد الممالك الموالية لمصر معتمداً بشكل رئيسي على عازيرو ملك آمورو الذي تعاون مع جماعات العابيرو المرتزقة وشكل حلفاً من الدويلات المناهضة للنفوذ المصري ، فكانت قطنة وأوبي من جملة الدويلات التي عانت من تعدياته على ما نفهم من تقارير بيرياوازا إلى البلاد المصرية، غير أن أوبي لم تسقط على ما يبدو في يد التحالف المعادي لمصر ، لأننا نعرف من رسالة تعود إلى أواخر عصر العمارنة أن ملك أوبي المدعو زلايا كان موالياً للفرعون ، لأن الفرعون يطلب إليه في تلك الرسالة أن يبعث بفريق من جماعات العابيرو المرحلين من المنطقة لإسكانهم في النوبة بمصر العليا ، وقد وجدت الرسالة في كامد اللوز بالبقاع الجنوبي وهو موقع كاميدو القديمة .
بعد وفاة أخناتون استمر التوتر على المناطق الحدودية بين القوتين العظميين وخصوصاً في مناطق أوبي والبقاع وقادش ، ففي السنوات الأخيرة من حكم توت عنخ آمون تخبرنا السجلات الحثية عن حملة مصرية على قادش وكان ملكها القديم إيتوغاما مازال على العرش . وقد رد شوبيلوليماس على العدوان المصري بهجوم على منطقة البقاع ، إلاَّ أن كلا الحملتين لم تسفر عن نتيجة حاسمة بالنسبة إلى الطرفين ، وبعد ذلك بمدة قصيرة توفي توت عنخ آمون في ريعان الصبا ، وسادت مصر فترة إضطرابات استغلها الحثيون بإرسال حملة جديدة إلى المنطقة لم تكن حاسمة أيضاً ، وعاد الجنود إلى الأناضول حاملين معهم وباء الطاعون الذي تفش في المملكة الحثية ومات الملك شوبيلوليماس نفسه بالمرض وخلفه ابنه مورشيلي الثاني عام 1346 ق.م قد عاصر مورشيلي الثاني الفرعون حور محب القائد العسكري الذي أنهى فترة الاضطرابات مما أعقب وفاة توت عنخ آمون واعتلى عرش مصر ، وقد عمل حور محب على دعم ثورة محلية في سوريا ضد حاتي تركزت في منطقة قطنة ومنطقة توخاشي (بين حمص وحلب) فأرسل فرقاً عسكرية مصرية لدعم المتمردين ، ولكن مورشيلي قضى على المتمردين وهزم الفرق المصرية المساندة لهم .
كان الفرعون حور محب آخر ملوك الأسرة الثامنة عشر ، ومات دون أن يكون له وريث على العرش ، فخلفه رمسيس الأول الذي أسس الأسرة التاسعة عشر وحكم مدة سنتين فقط ثم مات وخلفه سيتي الأول الذي حكم من 1302-1290 ق.م وقد وطد سيتي الأول سيطرة مصر على مناطق نفوذها في فلسطين وسوريا الجنوبية وقام بحملة على قادش فأعادها إلى النفوذ المصري ، ثم انقلب نحو الساحل السوري فأخضع مملكة آمورو الصديق التقليدي لحثيين . وأخبار حروب سيتي الأول موثقة في نصوص قصيرة منقوشة تحت عدد من المنحوتات البارزة في معبد الكرنك، تصور مشاهد حروبه في سوريا التي تدعوها النصوص المصرية من تلك الفترة ببلاد ريتينو.
نقرأ في أحد هذه النصوص تحت مشهد يصور عودة الفرعون: " عودة جلالته من ريتينو العليا بعد أن وسع حدود مصر " وتحت مشهد آخر نقرأ: " تقديم القرابين من الفرعون إلى أبيه آمون رع لدى عودته من بلاد حاتي بعد سحق المتمردين وبلدانهم ، وقد أتى معه بأمراء ريتينو الأوغاد ليضعهم في معبد أبيه آمون رع " ، وهناك مشهد يصور حصار مدينة قادش كتب تحته : " صعود الفرعون لتدمير قادش وبلاد آمورو" وقد تم العثور في موقع مدينة قادش على حجر تذكاري للفرعون سيتي الأول الأمر الذي يؤكد صحة الروايات المصرية .
تابع رمسيس الثاني (1290-1224 ق.م) ما بدأه أبوه سيتي الأول من حركة ضغط مستمرة على حاتي . وقد ترك لنا هذا الفرعون عدداً من النصب التذكارية لحملاته على بلاد الشام اكتشف واحداً منها في موقع بيت شان بفلسطين وثلاثة على الساحل ، وكان لابد أخيراً من الصدام مع حاتي ن فالتقى رمسيس مع الجيش الحثي في قادش عام 1286 ق.م .
ورغم أن المعركة لم تكن حاسمة ، وأن الفرعون قد وقع في كمين كاد يودي بحياته لولا أن تخلص منه بشجاعته الفردية ، إلاَّ أن رمسيس الثاني قد خلد هذه المعركة في نص مفصل طويل ، وقد استمرت المناوشات بين الفريقين لمدة ستة عشر عاماً تلت معركة قادش ، وانتهت عام 1270 ق.م بتوقيع معاهدة سلام بين مصر وحاتي تعتبر من أشهر معاهدات العالم القديم ، وقد أطلقت المعاهدة يد الحثيين في مناطق بلاد الشام الوسطى والشمالية ابتداءً من قادش ن واحتفظ المصريون بمنطقة أوبي التي بقيت الحد الفاصل بين الملكتين ، وقد تم اكتشاف نسختين من المعاهدة واحدة في حاتوسس عاصمة حاتي والثانية في طيبة عاصمة مصر ، وقد أعقب المعاهدة زواج رمسيس الثاني من ابنة الملك الحثي حاتوشيلي ، وتشير مراسلات الطرفين بخصوص ترتيبات موكب الأميرة الحثية إلى أن الموكب سيصل تحت حراسة حثية حتى أراضي أوبي ن ومن هناك تتعهده الحراسة المصرية حتى الوصول إلى طيبة .
استمر حكم رمسيس الثاني حتى العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر ، وفي عهد ابنه مرنفتاح لم يحصل تغيير يذكر في موازين القوى الدولية ، فقد كان مرنفتاح مشغولاً بالتصدي لليبيين الذين هاجموا الدلتا بمعونة شعوب البحر ، وبعد ذلك ظهرت في الأفق جحافل الفريق الآخر من شعوب البحر الذي هبط من آسيا الصغرى متخذاً طريقه نحو مصر ن فتصدى له رمسيس الثالث وشتته ، ومع هذه الأحداث الجسام التي ختمت ثقافة عصر البرونز الأخير وافتتحت عصر الحديد ، تغيب أخبار أوبي ودمشق لعدة قرون تالية .
وعندما يظهر ذكر دمشق مجدداً نراها كمدينة آرامية قوية .
وخلاصة القول بشأن مدينة دمشق في العصور السابقة للعهد الآرامي ، أن المعلومات التاريخية حولها قليلة ومبعثرة ، ومصدرها الرئيسي سجلات القوى العظمى التي تضاربت مصالحها في منطقة بلا الشام وتصادمت مع بعضها البعض لفترة طويلة ، وبما أن ذكر إقليم أوبي لا يرد في هذه السجلات إلاَّ في سياق أحداث الصراع على مناطق النفوذ ، فإن منطق الأمور يشير إلى قلة شأن هذا الاقليم خلال عصر البرونز ، وكونه مجرد منطقة تنافس وتطاحن لا يعتد بقوتها الذاتية أو بتكوينها المدني والسياسي ، وفيما يتعلق بمدينة دمشق بشكل خاص فإن الأخبار المتفرقة عنها لا ترسم صورة عن أوضاعها الداخلية وبنيتها السياسية ن فهي تظهر تارة كإمارة أو حتى مشيخة بدون كيان سياسي واضح عندما يأتيها المفوض المصري بيرياوازا ويقيم فيها دون ذكر لحاكمها أو ملكها ، وترة تخبرنا النصوص عن ملوك يحكمونها وتعلمنا عن ملكين منعم هما أريوانا الذي قبض عليه الملك الحثي وزلايا الذي خاطبه الفرعون في رسالته بخصوص ترحيل العابيرو إلى مصر .
من هنا يمكن القول بأن دمشق في عصر البرونز لم تكن سوى بلدة صغيرة تعيش على هامش الأحداث ، غير أن هذه البلدة قد قيض لها بعد ثلاثة قرون من عصر العمارنة أن تغدو الفترة الرئيسية الثانية بعد آشور في مناطق غربي الفرات تحت حكم ملوك آرام ( )
آرام معكة
دولية آرامية صغيرة تقع على حدود فلسطين الشمالية ، في شمال شرقي بحيرة الحولة ، وكانت تمثل على ما يرى أغلب المؤرخين أقصى امتداد سياسي حققه الآراميون من ناحية الجنوب .
وهناك ما يشير إلى احتمال امتداد دويلة معكة من الناحية الغربية إلى مدينة تل آبل التي كان يطلق عليها اسم " آبل بيت – معكة) أي : آبل التابعة لدولة معكة ، ويعتقد أيضاً أن لسكان معكة ارتباطاً بسكان جشور Geshur،حتى أن ملك هذه المدينة " تاملي" أطلق على ابنته اسم "معكة" ، وكانت من زوجات سيدنا داوود.
وذكرت معكة عدة مرات في التوراة، ومما ورد عنها أنها وقفت إلى جانب الآراميين والعمونيين في حروبهم مع سيدنا داوود.
وذكر في التوراة أن العمونيين أرسلوا ألف قنطار من الفضة إلى كل من مملكة صوبة في لبنان ، وآرام النهرين وآرام معكة ثمناً للخيول والعربات التي قدمتها هذه الدويلات في الحرب ، كما استأجروا ألف رجل من ملك معكة ، إلاَّ أن سيدنا داوود انتصر على الآراميين مما دفعهم إلى الاستسلام لحكمه ( ).

اللغة الآرامية
الآرامية إحدى اللغات السامية الشمالية الغربية التي بدأت في الانتشار في الشرق الأدنى مع ظهور الأقوام الآرامية في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد ثم شاع استعمالها بين شعوب كثيرة وحلت محل الكثير من اللغات السامية الأخرى ومما ساعد على انتشارها الواسع تبني الدولة الفارسية الأخمينية لها حتى أصبحت اللغة الرسمية في عهد داريوس الأول (521-486 ق.م.) في مختلف أنحاء الإمبراطورية التي امتدت من الهند إلى الحبشة.
انقسمت اللغة الآرامية إلى شرقية وغربية وانتشرت الغربية في فلسطين والمناطق الغربية وشاع استعمالها بين الناس حتى تغلبت أخيراً على اللغة العبرية وحلت محلها وأصبحت للآرامية في فلسطين منزلة رفيعة حتى بات تعلمها من مستلزمات الوصول إلى المراكز العليا للبلاد وكان الملوك ووزراؤهم ومستشاروهم وكبار رجال الدولة يقبلون على تعلمها وظهر أثر اللغة الآرامية واضحاً في أسفار التوراة ولاسيما في أسفار حزقيال ودانيال وعزرا وإستر( ).
وتأثر بها كتاب الأمثال ونشيد الإنشاد كما ترجمت أجزاء من هذه الأسفار إلى الآرامية ولعل من أشهر ما دون باللغة الآرامية الترجوم الذي يضم أجزاء كثيرة من التوراة ويبدو أثر الآرامية في التوراة العبرية واضحاً في المفردات وفي الصرف وصياغة الجمل وفي عدد من الصيغ البشرية وصاحب استعمال اللغة الآرامية استخدام الخط الآرامية الذي حل محل الحروف الفينيقية القديمة في تدوين أسفار التوراة.
وتقسم اللغة الآرامية عادة إلى قديمة تعود إلى ما قبل القرن الثامن قبل الميلاد ووسطى بدأت حوالي سنة 300 ق.م. وظلت مستعملة إلى أوائل العصر الميلادي واكتشفت كتابات مدونة بهذه اللغة في مدينة القدس ودونت بها أغلب ترجمات التوراة ومخطوطات البحر الميت وأما اللهجة الثالثة فهي الآرامية المتأخرة التي أصبحت لغة السيد المسيح وأتباعه النصارى وكتبت بها الأناجيل على ما يرجح وانتشرت هذه اللهجة في مناطق حماة وتدمر والأنباط وثم توارت بعد ذلك بسبب انتشار اللغة العربية أما الآرامية الشرقية فقد شملت اللهجات السريانية والمندائية والآرامية التي دون بها التلمود البابلي وكانت السريانية أهم هذه ودون بها أدب جم واستمر استعمالها إلى القرن الثالث عشر للميلاد عندما حلت اللغة العربية محلها( ).

المآبيون
شعب سامي نزح من الصحراء إلى شرق الأردن وكانت تعرف قديماً باسم مآب فنسب إليها بعد استقرارهم فيها وتقع هذه المنطقة بين الصحراء من ناحية الشرق والبحر الميت ونهر الأردن من الغرب وتمتد جنوباً إلى أدوم وأما حدودها الشمالية فلا يمكن تحديدها بوضوح.
اعتمد المؤرخون في تتبع تاريخ المآبيين على ما ورد عنهم من أخبار في التوراة وعلى آثارهم التي كشف عنها في المناطق التي كانوا يستوطنوها وأهمها مسلة الملك ميشع وبما ورد عنهم في الوثائق الأشورية والبابلية.
ورد في التوراة أنهم من نسل سيدنا لوط وابنته إلى اعتبارهم أبناء غير شرعيين نظراً للعداء الشديد بين المآبيين والإسرائيليين أثراً في ذلك فيدفع الكتّاب اليهود ذلك كما ورد اسم المآبيين في التوراة مع العموريين مما يوحي بوجود صلة بين الشعبين وأما الأدلة الأثرية فتشير إلى استقرارهم في مآب في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد ويتفق هذا مع عدم الإشارة إليهم في النصوص المصرية في تلك الحقبة عندما كانت فلسطين ترزح تحت النفوذ المصري كما لم يرد لهم ذكر في رسائل تل العمارنة.
وتشير الدلائل الأثرية إلى قيام مملكتهم في الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد في فترة فقدت فيها مصر سيطرتها على فلسطين وكان الضعف قد بلغ مبلغه في كيان الإمبراطورية الحثية ولم يكن للدولة الآشورية من أثر يذكر في الأحداث الجارية في سورية وفلسطين وهكذا تهيأت الفرصة للمآبيين لتأسيس مملكتهم وكان لموقع مآب الممتاز بين سورية والجزيرة العربية وبين العراق وفلسطين ومصر أثر كبير في تحديد طبيعة علاقتها بالشعوب المجاورة لها فمكن وشارك المآبيين في الأحداث التي كانت تجري في فلسطين وسورية مشاركة فعالة.
ووقعت بين مملكة مآب والدول الأخرى حروب كثيرة ذاق المآبيون فيها حلاوة النصر حيناً وويلات ومرارة الهزيمة حيناً آخراً وكانت بلاد مآب قلعة حصينة يصعب الدخول إليها من الغرب والشمال والجنوب إلا أن حدودها الشرقية المتصلة بالصحراء جعلتها عرضة لغزوات القبائل البدوية المتكررة وهذا يفسر العناية الكبيرة التي بذلها الملوك بإقامة الحصون المنيعة التي كشفت التنقيبات الأثرية عن الكثير من معالمها وقد دخلت مملكة مآب في بداية تاريخها في صراع عنيف مع العموريين من ناحية الشمال سجل عن هذا الصراع أن الملك العموري سيحون أوقع المآبيين هزيمة نكراء أثارت شماتة الإسرائيليين بهم حتى إنهم ظلوا يتغنون بها طوال تاريخهم.
وكانت علاقة المآبيين بالإسرائيليين تتصف بالعداء الشديد وقد بدأ الصراع بينهم مع بداية نزوح الإسرائيليين ومنع المآبيين للإسرائيليين من المرور بأراضيهم إلى فلسطين مما سبب لهم متاعب كبيرة وفقاً لما أشارت إليه المصادر التوراتية وكانت للمآبيين في بادئ الأمر السبب الرئيسي في ذلك الصراع حتى أن الإسرائيليين كانوا يعملون على تجنب الدخول في حرب معهم لاسيما عندما كانوا يخوضون حرباً مع أعدائهم العموريون بيد أن انتصارهم على سيحون العموري الذي سبق له الانتصار على المآبيين أدخل في نفوس الإسرائيليين الغرور وجرأتهم على محاربة المآبيين وانتهاز الفرص لاحتلال أراضيهم فوقعت بينهم الحروب الكثيرة واستطاع الملك عجلون استعادة المناطق التي سيطر عليها الإسرائيليون وفرض الضرائب على عدد من القبائل الإسرائيلية إلا أنه اغتيل غدراً على يد ايحود كما جاءت الرواية التوراتية الأمر الذي أدى إلى ارتباك صفوف المآبيين وتراجعهم إلى شرق الأردن ومرة أخرى استطاع المآبيون في استعادة بعض نفوذهم من خلال الصراع والخلافات التي رافقت قيام الدولة اليهودية حتى إن سيدنا داود لجأ إليهم هرباً من شاؤول وبعد توليه الحكم شن الحرب عليهم ونجح في بسط نفوذه على منطقة مآب واستمر هذا الحال إلى ما بعد وفاة سيدنا سليمان فاستغل المآبيون ما أصاب الدولة اليهودية من ضعف وانشطارها إلى دولتين صغيرتين فاستعادوا استقلالهم ووسعوا حدود مملكتهم وأخفق ملوك إسرائيل في إخضاعهم إليهم وبعد أن تولى العرش عمري نجح في إيقاع الهزيمة في المآبيون.
وفي سنة 870 ق.م. تقريباً تولى ميشع عرش مآب وتشير الدلائل إلى أنه كان أقوى ملوكها وأكثرهم نجاحاً وأعلن ميشع الثورة على إسرائيل بعد وفاة الملك آخاب واستعاد استقلال بلاده وقوى حدودها الشمالية وأعاد بناء المدن التي هدمها الإسرائيليون.
كما ازدهرت البلاد في عهده حضارياً واقتصادياً ودوّن أخباره على مسلة تعد من أهم ما عثر عليها من آثار مآبية فقد سلطت ضوؤاً على لغة المآبيين وعلى قدرتهم في مجال النحت وتشير الدلائل إلى وفاة ميشع في سنة 840 ق.م. وبعد وفاته دبّ صراع بين الأطراف المتنافسة على الحكم وانتشرت الفوضى في مآب وتهيأت الفرصة للملك يهودا ياهو لإعادة فتح بعض المناطق التابعة للمآبيين وهاجم حزائيل ملك آرام (دمشق) مما أدى إلى تقليص حدودها وتحولت إلى مملكة صغيرة لا شأن لها.
وفي هذه الفترة بدأ اندفاع الدولة الآشورية إلى فلسطين بعد سقوط إسرائيل في سنة 721 ق.م. على يد صارغون الثاني الأشوري فتغيرت الأحوال السياسية في فلسطين وانتهزت مآب الظروف الجديدة فاستعادت استقلالها واتبع المآبيون في تلك الحقبة سياسة حكيمة هي تجنبهم الدخول في حرب مع الآشوريين محاولة لاسترضائهم بتقديم الجزية والهدايا إليهم مما جنبهم الدمار الذي يحل بكل دولة اختارت الوقوف في وجه الجيش الآشوري ومما تجدر الإشارة إليه أن المآبيين استفادوا من ولائهم للآشوريين فكانوا يقفون معهم في صد غزوات القبائل البدوية أشبه بتحالف الدول اليوم وازدهرت الحياة مرة أخرى في مملكة مآب وتوفر الأمن والاستقرار واستمر ولاء المآبيين للآشوريين في عهد جميع ملوك الإمبراطورية الآشورية الأخيرة بسبب يأسهم على ما يبدو من جدوى الانصياع لمصر والمشاركة في مؤامراتها على الدولة الأشورية ومما يذكر أن المآبيين قدموا المعونة للملك سنحاريب في حربه مع يهودا كما قدموا العون إلى أسرحدون في حملته على مصر وأشاد أشور بانيبال بانتصار المآبيين على القبائل العربية التي كانت تثير المشاكل والاضطرابات في وجه الدولة الأشورية كما تسجل الأحداث الآن مآب آلت بعد سقوط أشور في سنة 612 ق.م. للدولة الكلدانية التي قامت في بابل ووقف المآبيون في بادئ الأمر إلى جانب نبوخذ نصر في حربه مع دولة يهودا وحصاره مدينة القدس إلا أنهم وقعوا في سنة 589 ق.م. في خطأ جسيم تمثل في تحالفهم مع صدقيا على الدولة البابلية ولكن ما كاد الجيش البابلي يظهر في فلسطين حتى تخلت مآب عن يهودا ودفعت الضرائب للملك البابلي وكان سرور المآبيين كبيراً بسقوط دولة يهودا مما جلب عليهم لعنات أنبياء يهودا فبلغ كرههم لهم ما بلغ حتى أصبحت كلمة مآبي مردفة لكلمة مذنب أو مجرم كما أن نبوخذ نصر لم يغفر للمآبيين موقفهم الأول في النزاع وانحيازهم إلى يهودا ومصر فقرر غزو مآب في سنة 582 ق.م. وأنزل بمدنها الدمار وحمل عدداً من سكانها إلى بابل وبذلك وضع نهاية لمملكة مآب التي استمر تاريخها عدة قرون.
وبعد سقوط دولة مآب وانهيار حصونها بدأت جموع من القبائل البدوية تستقر في مآب وطغت هذه الشعوب الجديدة على المآبيين الذين فقدوا هويتهم القومية وذابوا في الأنباط العرب الذين سيطروا على منطقة شرق الأردن.
تسجل الآثار المآبية إلى الرقي الذي وصلت إليه حضارتهم من الازدهار في مجالات متعددة حتى إنهم كانوا على مستوى حضاري واحد مع الشعوب المجاورة لهم فقد برعوا في النحت والنقش كما يستدل من مسلة الملك ميشع التي سبق الحديث عنها سالفاً ونصب بالوعة وعلى الرغم من تأثير صناعتهم الفخارية بالصناعات الفنيقية والآرامية فإن فخارهم المصنوع محلياً لا يقل جودة عن فخار الشعوب المجاورة.
ومع أن المعلومات عن لغتهم قليلة لأنها تقتصر على النص المدون على مسلة ميشع ونص قصير على جزء من نصب بالوعة فإن أغلب العلماء يرون أنها لهجة كنعانية وثيقة الصلة باللهجات الكنعانية الأخرى ويبدو واضحاً أنها ذات صلة بالآرامية واللهجة العبرانية الشمالية وقد ظهرت فيها بعض الصيغ العربية.
أثرالموقع في الحضارة:
كان لموقع مآب بين الصحراء من جهة والمجتمعات المستقرة من جهة ثانية أثر واضح في معالم الحضارة المآبية فقد حافظ المآبيون على الكثير من القيم البدوية حتى بعد استقرارهم وأخذهم بأسباب الحضارة المستقرة واحتفظ المآبيون بديانتهم الوثنية مع بعض المؤثرات التي انتقلت إليهم من الشعوب المجاورة وكانت الضحايا تقدم للإله الأعظم كيموش الذي يعتبر إله الحرب ويرجع أنه كان في الأصل من الآلهة التي عُبدت قي القبائل البدوية وفيه بعض صفات الإله البابلي (نرجال) التي تتصل بالحرب وبالعالم السفلي.
ويعتقد بعضهم أنه الإله بعل نفسه وكانت تقدم له الضحايا عبارة عن الكباش وغيرها من الحيوانات وذكر ذلك في التوراة وتشير أن الملك ميشع ضحى بابنه لهذا الإله استرضاء له كما دخلت في ديانتهم آلهة كانت تُعبد في سورية وفلسطين مثل الإله عشتارة وكانوا يمارسون الختان ولا يعرف آراؤهم في الحياة بعد الموت.
اعتمد اقتصاد مآب على الزراعة والرعي والتجارة وكانت ثروتهم الحيوانية كبيرة وكان ميشع يلقب بسيد الشياة.
وورد في التوراة أنه (ميشع) كان يدفع في بداية حكمه ضريبة لإسرائيل تبلغ مائة ألف حمل ومائة ألف كبش كل عام وترجع الدلائل والوثائق إلى الاستفادة المآبيون من سيطرتهم على الطرق التجارية التي تربط سورية والجزيرة العربية والعراق وفلسطين ومارسوا التجارة بحذق فكسبوا منها أموالاًُ ساعدت على ازدهار حياتهم الاقتصادية( ).
الإيدوميون

يستخلص من المصادر المقدسة والكتابات القديمة والآثار أن الإيدوميين Edomites قوم من العناصر ذات الأصول العبرانية والعربية ومن سكان البلاد الأصليين التي استوطنت المنطقة جنوبي البحر الميت وأطلقت عليها اسمها إيدوم، وإن كانت تسمى في بعض مواضع التوراة باسم بلاد سعير،نسبة إلى جبال المنطقة ،كما سمي الإيدوميون بالعماليق .
وتنتسب هذه الجماعات حسب التوراة إلى "آدوم" أي الأحمر بالعبرية ،وهو الاسم الثاني لعيسو الابن التوأم الأصغر لإسحق بعد سيدنا يعقوب أو إسرائيل . ومن نسل آدوم تحدر الإيدوميون.
وتذكر المصادر أن الإيدوميين كانوا أكثر الأقوام التي احتك بها العبرانيون في فلسطين وكانت علاقاتهم بهم تراوح ما بين الجوار الحسن الذي يدل عليه إطلاق العبرانيين عليهم لقب "الإخوة" والتبعية العسكرية وبخاصة في حالات الضائقة الإقتصادية في فلسطين والاضطرار إلى احتكار تجارة البحر الأحمر .
ويعتبر التاريخ السياسي والحضاري للايدوميين من أغمض تواريخ الأقوام التي استوطنت فلسطين وجنوبها بشكل خاص .
ترد أول إشارة إلى هؤلاء عندما أرسل سيدنا موسى عليه السلام من قادش وكان في طريقة من مصر إلى كنعان (فلسطين) ،أرسل رسولاً يطلب إليه مفاوضة ملك الإيدوميين من أجل السماح للعبرانيين بالمرور عبر أراضي مملكته واعداً إيّاه بعدم التعرض للكروم والحقول والمياه ،ولكن الملك الايدومي رفض وهدد بقتال سيدنا موسى وقومه مما اضطر سيدنا موسى إلى اتخاذ طريق أطول للوصول إلى أريحا بداية الأرض التي يريد الوصول إليها . وعندما اشتد ساعد العبرانيين بعد تأسيس أول ممالكهم في عهد سيدنا داوود (1004-963 ق.م) أخضعوا الايدوميين لسلطانهم ،وفي أواخر حكم ابنه سيدنا سليمان (963-923 ق.م) تحررت آدوم من السيطرة العبرانية ،ولكن ذلك لم يمنع استمرار العلاقات بين الشعبين لدرجة أن يورام أو يهورام ملك إسرائيل (المملكة العبرانية الشمالية بعد انفصالها) استعام بالايدوميين عندما قام حوالي عام 842 ق.م بحملة ضد المآبيين، وقد ساءت العلاقات في عهود بعض ملك يهودا (المملكة العبرانية الجنوبية) اللاحقين، وتخبر المصادر أن الإيدوميين ثأروا من ملك يهودا يورام بن يهوشافاطن فقام أحد خلفائه وهو أمصيا بن يؤاش (795-786 ق.م) بتجريد حملة على الايدوميين،كما استولى ابنه عزريا (786-740 ق.م) على مدينة أيلة على خليج العقبة وحصّنها
ويبدو أن الايدوميين تمكنوا بعد ذلك من الانتقال من مرحلة الخضوع إلى مرحلة ردّ العدوان على أراضيهم ،إذ تذكر المصادر أن ملك يهوذا آحاز بن يوثام طلب من الأشوريين مساعدته في صدّ الغزوات الإيدومية المتكررة على قومه ،بيد أن الإيدوميين لم يتمكنوا على ما يبدو من فرض سيطرتهم لفترة طويلة على فلسطين الجنوبية .
إذ تضيف المصادر نفسها إن آدوم اضطرت بعد فترة قصيرة إلى دفع الجزية للآشوريين أسوة بما كانت تدفعه فينيقيا وعمون ومآب .
وأنه عندما قام صارغون الثاني عام 711 ق.م بتوجيه حملة ضد أشدود الثائرة استخدم قوات إيدومية كما استخدم بعد ذلك الملك البابلي نبوخذ نصر الإيدوميين ضد الأورشليميين قبل حملته الشهيرة التي انتهت بسبي اليهود الثائرين عليه إلى بابل عام 586 ق.م ،وخلال فترة السبي قام الإيدوميين بنتيجة ضغط القبائل العربية من الجنوب بالتوسع في فلسطين الجنوبية واستولوا على أقسام من أراضي دولة يهودا ،ولكنهم سرعان ما خضعوا مع بدايات القرن الثاني قبل الميلاد للسيطرة اليهودية وأكرهوا على اعتناق اليهودية بحد السيف .
وحوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد استولى الرومان على سوريا وانضمت المنطقة الجنوبية من فلسطين إلى روما باسم إيدومية Edomea .
لم يخلف الإيدوميين معالم حضارة بارزة ،وكل ما يمكن استخلاصه من المصار أنهم اعتمدوا في فترة ما مدينة "حبرون" عاصمة لهم ،وأنهم كانوا يتحدثون بلهجة شديدة الشبه بالعبرية والمآبية والعمونية ، وأنهم احتكروا في فترات قوتهم تجارة البحر الأحمر الشمالية .( )






















العمّونيون

حلوا محل "الزّوزيون" من الآموريين كانت عاصمتهم "ربّة عمّون" والظاهر أنه مع الزمن سقطت كلمة "ربّة" من اللفظ للتخفيف وبقيت "عمّون" تدل على اسم المدينة الذي حُرّف إلى "عمّان" وكانت مساحة "عمّون" 60 أكراً ،منها 29 للمدينة العليا و31 للمدينة السفلى.
وقد حارب العمّونيون اليهود واشتركوا في معركة قرقر عام 853 ق.م مع السوريين ضد الآشوريين،وكانوا كغيرهم يعبدون الأصنام .وكان تقديم الضحايا جزءاً مهماً من طقوسهم الدينية وذلك لإعتقادهم أن الآلهة لن ترضى عنهم وتستجيب دعاءهم دون ذلك،وكانت الضحايا إما بشرية وإما حيوانية حسب أهمية الأمر المراد تحقيقه ،ومن أشهر أصنامهم "مُوّلك" وهو مصنوع من نحاس وجالس على عرش من نحاس أيضاً ،ورأسه عجل كبير مزين بإكليل ،وهو ماد ذراعيه إلى الأمام وكان العرش والصنم مجوفين .وكانت تشعل النار في التجويف حتى إذا وصلت حرارة الذراعين إلى الحمرة وضعوا عليها قربانهم ،وفي تلك اللحظة تُدق الطبول وترتفع أصوات المرتلين من الكهنة حتى لا يسمع صراخ الذبيحة وهي تحترق في تلك الأثناء ،ثم يتفرق الناس وهم يتضرعون إلى الإله أن يحقق آمالهم التي قُدّمت الضحية من أجلها.وبمثل هذه الطقوس كان الفنيقيون يقومون بعبادة "مِلكارت" إله مدينة صور.
وقد اقتبس اليهود عبادة "مُولك" من العمونيين واستمروا في عبادته مدة طويلة .ومن الأماكن التي مارس فيها اليهود عبادة الصنم "وادي جهنم" في القدس وسبب هذه التسمية يعود إلى أن اليهود أخذوا يرمون فيه ضحايا "مولك" وقاذورات بيوتهم ،ويشعلون فيه ناراً دائمية منعاً لإنتشار العفونة منه فصار بذلك مرادفاً لجهنم ( ).











الأنباط

في أعقاب سقوط الإمبراطوريات الرافدية والشرقية وتوغل المد اليوناني في قلب آسيا وتفتته بعد ذلك إلى دويلات هلنستية وممالك وإمارات عربية نشأت في شمال الجزيرة العربية وفي الهلال الخصيب اضطلعت بدور سياسي وعسكري واقتصادي بالغ الأهمية أحياناً ومنها مملكة الأنباط.
وأصل الأنباط عربي ثابت يجمع عليه الباحثون حيث ثبت أن موطنهم (العربية الحجرية) كما ظهرت اللغة العربية في كتابتهم بالآرامية وأسماء أعلامهم (الحارث وعبادة ومالك) وكذلك أسماء آلهتهم (ذو الشرى واللات والعزى ومناة وهبل...) كما ما ورد في المصادر اليونانية واللاتينية.
ويرى بعض المؤرخين أن الأنباط قدموا من جنوب الجزيرة العربية واستقروا زمناً في الحجاز ويرى آخرين أنهم حجازيون أصلاً حلوا محل الأيدوميين في موطنهم( ) وأخذوا اللغة الآرامية عنهم وأسسوا مملكة هامة أما ما ورد في المصادر العربية الإسلامية بشأن الأنباط والنبط والنبيط فإنما يدل ذلك على السكان المحليين العاملين في الزراعة لاسيما فلاحي سواد العراق.
ويرجح أن الأنباط قدموا من الجزيرة العربية في القرن السادس قبل الميلاد وإن كان وجودهم التاريخي يراوح بين القرنين الرابع قبل الميلاد والثاني بعده، وقد تركزت مملكتهم في البلاد التي كانت تعرف في المصادر التاريخية القديمة باسم العربية الحجرية على امتداد الحجاز والبحر الأحمر والبحر المتوسط والشام وبادية الشام حتى الفرات وكانت جبال الشراة في شرقي الأردن (البتراء) العمود الفقري لأرضهم.
اتصف الأنباط بالمنعة وحب الحرية والغزو والصبر على الجوع والعطش ويذكر المؤرخون أنهم لم يخضعوا لأحد ولم ينجح أحد في السيطرة عليهم واعتمدوا في اقتصادهم على تجارة القوافل والتوغل في البحر وسيطروا على طرق التجارة العالمية مستفيدين من مواقعهم الممتاز الذي تتلاقى عنده أهم طرق القوافل الخاصة بهم مروراً بأراضيهم وعملوا على حماية القوافل ووضعوا المكوس على العبور وعلى البيع والشراء وشيّدوا لأنفسهم مملكة قوية غنية تذكر حتى الآن في القرن الثاني قبل الميلاد بهروا الدنيا بها ( ) .
كانت علاقة الأنباط السياسية بالبطالمة والسلوقيين والرومان واشتد صراعهم مع اليهود الأشمونيين المكابيين في فلسطين لرغبتهم في تأمين السير الطبيعي لتجارتهم الناجحة وكانت معظم حروبهم موجهة لهذا الغرض.
ويقسم تاريخ الأنباط السياسي والاقتصادي إلى فترتين أساسيتين هما:
أولاً الفترة الهلنستية:
وتبدأ من حكم البطالمة والسلوقيين انتهت في عام 64 ق.م. وفي تلك الفترة احتلت جنوب سورية من قبل الرومان.وقد أخفق البطالمة ثم السلوقيون في اخضاع المملكة النبطية من ملوك الأنباط في هذه تلك الفترة (الحارث الأول، والحارث الثاني، وعبادة الأول، والحارث الثالث) وقد اصطدم الأنباط باليهود المكابيين الذين هددوا مصالحهم الاقتصادية حين استولوا على ميناء غزة وقد هزم الملك اليهودي اسكندر جانوس عند مدينة جدرة (أم قيس فوق الحمة) من قبل الملك عبادة الأول عام 93 ق.م. كما هزم عبادة السلوقيين بقيادة أنطيوخوس الثاني عشر في النقب عام 85 ق.م. وقد بلغت دولة الأنباط درجة عالية من القوة والمكانة حتى
ضمت دمشق إليها في عهد الملك الحارث الثالث الذي سير جيشاً جراراً إلى القدس وحاصرها.
ثانياً الفترة الرومانية:
استطاع الرومان في بداية هذه الفترة أن يهزموا الأنباط كما استطاع الرومان تنصيب ملكاً على اليهود وهو غير يهودي الموطن وهو هيرود انتيباس الذي أنجبه هيرود من أبرز ملوك هذه الفترة الحارث الرابع (8 ق.م.- 40 ب.م.) الذي يعد عهده أطول العهود وأزهاها وقد ظل الرومان يهددون مصالح الأنباط الاقتصادية ووجودهم السياسي إلى أن ألحق الإمبراطور تراجان مملكة الأنباط بولاية سورية وأسس ولاية جديدة باسم الولاية العربية في 22/3/106م عاصمتها بصرى وضمت مملكة الأنباط إليها إلى حلف المدن العشر (ديكابوليس). وظلت حضارة الأنباط مستمرة بعد نهايتهم السياسية ولكن بمظهر روماني وفقد تمسك قسم من الأنباط بديانتهم القديمة أحقاباً من الزمن بعد انتشار المسيحية في القرن الرابع الميلادي.
وتروي بعض المصادر شيئاً عن تنظيم الدولة النبطية فالملك كان يرأس الدولة وتشاركه زوجته أو أخته أو أمه في إدارة البلاد وله حاشية بمنزلة الوزراء والمستشارين وهناك مجلس للشعب يقدم له الملك حساباً عن عمله كما كان للنساء منزلة رفيعة لدى الأنباط وكان التآزر سائداً مجتمعهم وقد عبدوا كالعرب قبل الإسلام أرباباً ترمز إلى عناصر الطبيعة وإلى بعض القيم التي يتعلق بها الناس كالشجاعة والعدالة وكانوا يمثلونها تمثيلاً رمزياً إلى أن قوي عندهم تأثير الديانات اليونانية- الرومانية من خلال تقريب النصب على الأشكال البشرية ومن أربابهم ذو الشرى (منسوب إلى جبال الشراة) والعزى واللات ومناة. والفن النبطي فن محلي متأثر بجنوب الجزيرة العربية والرافدين وقد طبع بطابع هلنسي وتجلى أكثر ما تجلى في العمارة ولاسيما عمارة المدافن في العاصمة البتراء وتبين ذلك بنحت الصخر الرملي الجميل وإنشاء الأوابد في أعماقه أو على ذراه وبرز نحت الواجهات المعمارية الزخرفية الرشيقة للمدافن وقد أنتج فن العمارة النبطي طرازاً جديدة من تيجان الأعمدة فيه اختزال وجمال ، أما النحت النبطي فهو أقل طرافة وأهمية وظهر في منحوتاتهم مزج الفن الإغريقي والتقاليد المحلية وقد مالوا إلى النقش البارز أكثر من ميلهم إلى التماثيل وكان إيداع الأنباط أعظم في ميدان صناعة الفخار فقاموا بصناعة فخاراً رقيقاً ناعماً جيد الشيء ذا لون وردي أو طحيني مزخرفاً بلون زهري أو خمري أو قاتم. واستخدموا في زخرفهم أشكالاً نباتية وقاموا بتطوير عناصر زخرفية على أشكال هندسية في داخلها طلاء أبيض ( ).







الأيطوريون

"إيطورية" مقاطعة بين اللجاة والجليل ،ماؤها غزير وترابها بركاني وأكثر أراضيها مخصب جداً ،والأيطوريون سكانها جيل من العرب يرقى نسبهم إلى العرب العدنانية ،يتكلمون الآرامية وكانوا في باديء أمرهم يقيمون في شرقي نهر الأردن في أيام "شاول-طالوت" ،وقد حاربوا اليهود .ويظهر أنهم هاجروا نحو الشمال واستقروا في المنطقة التي نسبت إليهم مؤخراً ثم شمل سلطانهم البقاع وحَوران والجولان وفلسطين الشمالية ،ويرجح أن خلفيس –Chalcis وهي "غنجر" اليوم عاصمة مملكتهم.
وعرف الأيطوريون ببأسهم وحذقهم رمي السهام ،وفي أواخر القرن الثاني عشر ق.م في أيام ضعف السلوقيين توغلوا في لبنان الشمالي واستولوا على "شِكا" وأنحاء "جُبيل" وأضحت طرابلس مركزاً لهم في هذه الجهات .ولما استولى الرومان على الشام حاربوا الأيطوريون وحولوا بلادهم إلى مقاطعة رومانية ألحقوها بسوريا ( ).






















المراجع
1- أحمد سوسة: "العرب واليهود في التاريخ"- بغداد 1972.
2- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الثالث (ص-ك)- الطبعة الأولى 1984- إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية-صـ340-341
3- الكتاب المقدس- سِفر أشعيا 14:26
4- أحمد سوسة ،"العرب واليهود في التاريخ"، بغداد 1972
5- قرآن كريم –سورة هود :84
6- قرآن كريم –سورة الشعراء :176-178
7- جورج بوست :"قاموس الكتاب المقدس"،بيروت 1971
8- مصطفى الدباغ :"بلادنا فلسطين" ،الجزء الأول،2002،دار الهدى للطباعة والنشر ،كفر قرع ، ص406-407
9- الكتاب المقدس-العهد القديم"، سفر القضاة، الإصحاحات: السادس والسابع والثامن
10- جواد علي:" المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"- بيروت 1969 ،ص314
11- شمال الحجاز: ص 78. تأليف أ.موسل . ترجمة عبد المحسن الحسيني. الإسكندرية 1952
12- الكتاب المقدس – سفر القضاة عدد 31:1-12
13- الكتاب المقدس –سفر القضاة-الإصحاح السادس:1،6
14- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969
15- أحمد سوسه : "العرب واليهود في التاريخ "،بغداد 1972، ص450
16- الطبري ،"تاريخ الرسل والملوك"طبع دار الفكر –القاهرة 2001
17- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969
18- جورج بوست ،" قاموس الكتاب المقدس" ،بيروت 1971
19- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969، الجزء الأول ، ص290
20- جرجي زيدان ، "العرب قبل الاسلام" ، القاهرة ، مطبعة الهلال، الطبعة الثالثة 1939 ، الجزء الأول ، ص92
21- جورج بوست ،"قاموس الكتاب المقدس"،بيروت 1971
22- الكتاب المقدس- سفر نحميا (9:2-20)
23- الكتاب المقدس-سفر نحميا (7:4-10)
24- مصطفى الدباغ :"بلادنا فلسطين" ،الجزء الأول،2002،دار الهدى للطباعة والنشر ،كفر قرع ، ص409
25- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969 ، ص106
26- فراس السواح ، لآرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي ، دار علاء الدين للنشر والتوزيع ن سوريا ، دمشق الطبعة الخامسة 2002 ، ص187-198
27- جورج بوست ،"قاموس الكتاب المقدس"،بيروت 1971
28- مصطفى الدباغ :"بلادنا فلسطين" ،الجزء الأول،2002،دار الهدى للطباعة والنشر ،كفر قرع
29- د.علي أبو عساف ، الآراميون ، دار أماني –سوريا 1988 ، ص88
30- خزعل الماجدي ، المعتقدات الآرامية ، دار الشروق ، الطبعة الأولى 2000
31- الموسوعة الفلسطينية ، القسم العام ، المجلد الأول ، طبعة 1984 ، ص20
32- فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين- (مترجم)- بيروت 1958
33- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الأول (أ-ث)- الطبعة الأولى 1984- إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق، ص21
34- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الرابع (ل-ي) الطبعة الأولى 1984- هيئة الموسوعة الفلسطينية- ص60-62
35- فيليب حتي ،"تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين"، بيروت 1958
36- نجيب مخائيل ،"مصر والشرق الأدنى القديم" ،سوريا 1966
37- مصطفى الدباغ :"بلادنا فلسطين" ،الجزء الأول،2002،دار الهدى للطباعة والنشر ،كفر قرع ،ص501-502
38- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969
39- مصطفى الدباغ :"بلادنا فلسطين" ،الجزء الأول،2002،دار الهدى للطباعة والنشر ،كفر قرع
40- الموسوعة الفلسطينية: القسم العام في أربعة مجلدات- المجلد الأول (أ-ث)- الطبعة الأولى 1984- إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية ص308-309.
41- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1969،ص292