الزعيم الخالد والزعيم الخائن بقلم:محمد محمود عمارة
تاريخ النشر : 2010-01-04
الزعيم الخالد والزعيم الخائن بقلم:محمد محمود عمارة


بقلم : محمد محمود عمارة

بين الزعيم الخالد والزعيم الخائن لا توجد منطقة وسط ، حال أشياء كثيرة في تاريخنا وفي حياتنا اليومية. فالزعماء عندنا صنفان : صنف خلعنا عليه صفات القديسين فرفعناه إلى أعلى عليين و كأنه منزه عن كل خطأ أو زلل ، و صنف آخر خلعنا عليه صفات الشياطين فهوينا به إلى أسفل سافلين و كأنه خلا من أي ميزة .
الأمر لا ينسحب فقط على تقييم الزعامات بل يمتد للمواقف ، فالبعض يتحرك في مواقفه من منطلق إن لم تكن معي فأنت ضدي ، و إن لم توافقني الرأي فأنت خائن وعميل للعدو على المستوى القومي أو مأجور لجهات أمنية لتسوق وجهة نظرها على المستوى المحلي ، لذا تجد حوارنا صراخ بين طرفين، ومفرداتنا ملغومة بكلمات على وزن : خائن ..عميل ..انهزامي ..انبطاحي..إلخ إلخ.
هؤلاء يتحركون من مبدأ الأبيض و الأسود !! وكأن المسافة بين اللونين قد خلت من أي لون مع أن العكس صحيح ، فبين الأبيض و الأسود ألوان كثيرة ، كما يمكن تركيب ألوان أكثر.
المتصفح لتاريخنا العربي يجد نماذج كثيرة للنموذجين ، ذلك أن تقييمنا للشخوص مبني على العواطف و الانفعالات لا على المواقف و الأفعال.
قال لي صديقي: أنا أحب الزعيم الفلاني .
سألته: لماذا ؟
أجاب : لأنه يقول في خطابه ما يشاء ويسب من يشاء غير آبه لأحد (يقصد أمريكا أو إسرائيل).
سألته وعلى مستوى الفعل ماذا قدم؟
فصمت صديقي صمتاً مطبقاً !!!
إن النموذج الذي انبهر به صديقي نموذج متكرر من زعماء أجادوا صنعة الكلام و التجديف مع التيار بغض النظر عن قناعاتهم الشخصية ، بعضهم أجاد دوره فلعب بعواطف الجماهير لدرجة أنه أعماهم فلا يرون إلا ما يرى و لا يتحركون إلا إلى الوجهة التي يحددها حتى ولو كانت هلاكهم.
هذا النموذج من الزعامات تكون محصلة حكمهم إما كوارث على مستوى الأمة أو نكبات على مستوى الشعوب ، إما إذا حالف الحظ شعباً مسكيناً ، فالمحصلة ستكون مجرد مجموعة خطب ثورية تضيع بغياب أصحابها. أما على مستوى المنبهرين فالنتيجة إحباط حين ينكشف المستور أو أن يكونوا بين ضحايا كوارث الزعيم.
لا أدري أين يضع الناس عقولهم حين يقيمون شخصاً أو دولة على أساس التصريحات الإعلامية أو الخطب السياسية ، و كان الأولى بهم أن ينتظروا ليروا هل ستتحقق الوعود قبل الرفع فوق الأعناق ، أم أن الأمر برمته حديث الزبدة الذي يسيح مع ضوء النهار.
لدينا الكثير من الزعماء المناضلين الذين يذكرونني بالمتنبي حين مدح نفسه قائلاً:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هكذا بما يملكه الرجل من أسمى مواهب الخطاب وهي الشعر ، وصف صاحبنا نفسه بالشجاعة والفروسية ، لكن مع أول اختبار حقيقي لشجاعته فر هارباً حين قطع عليه مجموعة من اللصوص الطريق !!!
تاريخنا العربي الحديث حافل بهؤلاء المتنبيين المناضلين من خلف الميكرفونات المخونين لغيرهم. فهم يخونون غيرهم ليظهروا بمظهر الشرفاء و ليحصلوا على أدوار لا تتناسب وضآلة قاماتهم ولن يتأتى لهم ذلك إلا بخلو الساحة ، غير آبهين بالمصالح والمفاسد ،أو وحدة الصف و فرقته وتشرذمه، أو المكاسب و الخسائر .... المهم مكسبهم الشخصي ، المهم تصفيق الجماهير و هتافهم ...باختصار المهم الكاريزما.
إن تاريخنا في حاجة لإعادة تقييم ليٌكتب بموضوعية بعيدة عن الأهواء و الإملاءات... تاريخ يخلو من الزعيم الخالد والزعيم الخائن لأننا سننزلهم منازل البشر فنقيّمهم بما قدموا بمعايير الإيجابيات والسلبيات ، فإن أجادوا تعلمنا منهم وجودنا تجربتهم وإن أخطأوا تعلمنا الدرس و وعيناه و تجنبناه ، تاريخ يعلم الأجيال القادمة و ينشر بينهم ثقافة الفعل لا القول حتى لا يسيروا كالقطيع خلف كل أفاك أو دجال.
يحكى أن جزاراً وقف يذبح دجاجاته فدخلت ريشة في إحدى عينيه فدمعت ، رأته دجاجة تقف في أحد الأركان فقالت لرفيقتها : ما أرق قلبه ، إنه يبكي رأفةً بنا
فقالت لها الأخرى: أيتها الحمقاء لا تنظري إلى دموع عينيه و لكن انظري لصنيع يديه.