إنها البلهـاء بقلم : أمان السيد
تاريخ النشر : 2009-12-19
إنها البلهـاء..



بقلم : أمان السيد

- إنها بلهاء..
قالتها صديقتي تُسمعني، وهي تمر بجانبي مطرقة برأسها .. هي هكذا حين تكون حانقة ..
تمتمتْ: إنها زوجة "خالد" الأبله .. تعرفينه..
لا أدري لم تفترض صديقتي أن أتذكر جميع أهل قريتها، لكنني تذكرته فعلا.. رجل كانوا ينعتونه بالمعتوه، وينظرون إليه ويعاملونه على أنه مسكين مصاب بالخبل..
كان ذاك منذ سنوات قد مرت كالحلم يأتي إلى "أمّ حياة" والدة صديقتي باعتبارها بعرف الجميع عمدة القرية، وحجر الأساس فيها ..امرأة من البساطة لو أنك مررت بها لا تفكر أن تقف عندها، لكنك لوعرفت ما تحتويه نفسها من كنوز لأطلت المكوث!..
كان خالد يقصدها لتؤمن له عملا عند بعض من الذين يزورونها ما إن يتعرفوا بها؛ فيصبح بيتها لهم استراحة لا بد أن يتقيلوا أشجارها.. ببساطتها، وبشاشتها جعلت من بيتها المحور بين بيوت القرية..
كان العمل الذي سعت في تأمينه له حمالا ً في مؤسسة للإسكان العسكري ساعدها في تأمينه نائب مديرها الذي كان من زوارها، وزوجته في تلك الفترة من الزمن ..
" أم ّحياة" انتقلت إلى رحمة الله، ووريت مثوًى بسيطًا ثرًّا كروحها تحت شجرة وارفة في ركن من بستان يجاورك في سيرك عبر طريق صاعد في الجبل؛ فتتنفس النقاء؛ وتحتضنك أنسام تنغمر فيها حتى الانتشاء.. أما "خالد " ،فقد بقي في عمله إلى حين تزوج بتلك المرأة البلهاء التي يذاع عنها أنها منعته حتى من العمل..
اقتربت زوجة "خالد" الأبله مني.. ظننتها تبتسم لي ..وعندما اقتربت اكتشفت أنها ليست ابتسامة تلك التي بدرت منها..إنه شكل وجهها، وأسنانها البارزة من فم واسع يخيل إليك أنها تبتسم ابتسامة لا يغلق عليها فوهها ..أشعرتني أن المرأة غير طبيعية..
سحبت المرأة كرسيّا وجلست بالقرب مني ..كنا على شرفة واسعة تطل على منحدر يكشف لنا المارين، وكان "خالد" زوجها في أول المنحدر صعودًا لا يجرؤ على الاقتراب من شرفتنا.. في حين كانت صديقتي تتابع تجوالها بين البيت، وتحت الشرفة، وهي واجمة. .
نظرت إليّ المرأة، وقالت:
- لقد أنمتهما..
لم أكن أدري عمن تتحدث.. وعندما كررت الجملة ثانية كان لا بد أن أستفسر منها..
- من هما؟
- ولداي.. أنمتهما وخرجت من المنزل..
كانت تتحدث كمن قام بإنجاز كبير يستحق الثناء!..
سألتني :
- أعندك أولاد؟ كم عمرهم؟ أين زوجك؟
تتحدث المرأة، وأنا أستمع إليها.. شعرت أنني أمام امرأة طبيعية، وأمّ ترتاح آخر النهار حين تطمئن إلى رقاد أولادها..
سمعت صديقتي تسألها:
- لماذا لم يصعد خالد حين ناديته؟ أريده أن يحمل لي أكياس القمامة إلى الحاوية..
أجابتها المرأة دون أن تفارق كرسيها:
- أنا قلت له ألا يصعد ... عندنا نساء فكيف يصعد!..
كانت الجملة أقل من عادية عندما التقطتها أذناي. .لكن نظرات صديقتي لم تكن عادية!
حملت المرأة جسدها وولت.. لتحل جارة لصديقتي قريبًا مني، وكأن عليها أن تفسر لي ما تتوقع أنه لغز علي في وقت لم يكن في بالي شيء!
- إنها تغار عليه - قالتها الجارة- وهي تحرص على ألا يتعالى صوتها ليصل إلى المرأة التي أضحت في وسط المنحدر.. إنها تفهم كل شيء ..لا تظنيها امرأة سهلة.. تغار عليه من النساء، وتمنعه من أن يتواجد في مكان هن فيه.. تصوري.. بلهاء، وتغار على أبله!
أكملت المرأة حديثها ..كانت قصة لا تصدق..أن يتفجر الحبّ في قلب مخلوقين لا يصنفهما الناس بين أكوانهم ، بل أقرب إلى المنبوذين في عالمهم الإنساني..
المرأة كانت قريبة لخالد، وحين رآها في زيارة لهم صار يتردد عليهم في النهار أكثر من مرة بينما ريقه الذي لا يفارق جوانب شفتيه يزداد غزارة ،فكان لا بد من تزويجهما .. كان من الصعب الوقوف في وجهيهما في تلك الأثناء، والتفكير بعواقب هذا الزواج الذي أثمر عن طفلين..
قلت لها: أهما طبيعيان؟ أقصد طفليها؟
تكمل الجارة حديثها : ابنتها "بشرى" تبدوطبيعية، إلا أن أخاها "بشار" مايزال صغيرا، ولا بدّ أن أمامه وقت طويل ليتضح إن كان كأخته!.
- "بشرى"، و"بشار" اسمان جميلان مميزان يفيضان بالأمل!.
تضحك الجارة وهي تقول : نعم لم يكن أحد يتوقع أن تختار لهما هذين الاسمين!
عدت أفكر بيني وبين نفسي.. الأسماء هبة الله في أرضه يستطيع امتلاكها من كان!
أحسست بمجالستي تقرب فمها من أذني كأنها تريد أن تسرإليّ بأمر عظيم..
- أهل القرية يتصدقون على عائلة البلهاء،أذكر مرة أنني حملت لهم صحن طعام وقرعت الباب طويلا، وحين امتددت برأسي كانت المرأة وولداها نائمين، والبيت وكرٌ للقمامة.. لا تصدقين مهما وصفت لك. .ألبسة، وأطعمة، وصحون كثيرة مبعثرة بين تلال ، ووهاد..والروائح ..ماذا أقول لك عنها؟!
- لا يرجع صحن نرسل فيه طعاما إليهم أبدا..أغلب صحوننا في بيتهم..
- صممت منخري، وهربت تاركة الطعام إلى جانب الباب.. تصوري لم يشعروا بي كانوا في سبات عميق رغم كل ما حولهم !
تركتني جارة صديقتي لأعيش في فضاء هذه المرأة،ورغم أنها لا تعنيني، وربما لن تقدر لي رؤيتها ثانية، لكنني لم أستطع منع نفسي من التفكير فيما سمعته عنها ..
وكأني بكيوبيد (* ) كان على موعد مع هذه المرأة في هذه القرية الممتدة على كتف جبل أخضر.. ينفرد بجناحيه مستوطئا ضلعها، وبسهم منه يصيب مرماه في قلب ينفى انتماؤه إلى قلوب البشر!..
من بإمكانه أن يتخيل أن قلب البلهاء سيهلل للحب ثانية؟ حبّ تاجر قدم من الشرق في سيارة تجرّ سطحًا معدنيا اصطفت عليه أقمشة متنوعة، وأوان بلاستيكية وأساور ملونة مما يبتهج بها أهل القرى البسطاء..
تناثر الأطفال حول بوق السيارة كأحجار في رقع شطرنج كسيحة، ومعهم تواثب ولدا زوجة خالد في طريق جبلية غدت تكتظ بسيارات المصطافين ..
تجمع الجميع حول التاجر مبهورين ببوق يزعق بتواصل، ووسطهم كانت زوجة خالد كأنها تلبي نداء خفيا..
أهي تريد منع طفليها عن الطريق؟ أهما الألوان والحلى؟ أهما العينان الغريبتان تشدانها إلى عالم جديد؟ لا أحد عاد يدري.. كل ما يرويه أهل القرية أنهم رأوا المرأة في سيارة التاجر القادم من الشرق وهي تلوح لطفليها من بعيد وبقعة في وجهها تحتل الفم البارز تزداد رحابة ،أما "خالد" الأبله فيتراكض في المنحدر، ومن شفتيه ينزلق ريق غزير..غزير..

ــــــــــــــــــــــــــــ



* ـ كيوبيد في الميثولوجيا الإغريقية هو ابن الإلهة فينوس وقد أشتهر دائما بحمله للسهم وبكونه طفلا ، كان كيوبيد شديد الجمال، وكان سهمه يصيب البشر فيسبب وقوعهم في الحب. كان غالبا يصور كطفل صغير - قليل الحظ - في هيئة ملاك بجناحين ومعه سهم الحب. وأحيانا كان يصور أعمى كرمز علي أن الحب أعمى ولا نختار من نحب.