بلاد العجائب بقلم :عبد الغفور محمد احمد السلامة
تاريخ النشر : 2009-12-02


كان لزاما علي أن أصحو باكرا وأذهب الى مطار الموصل الدولي لاستقبل احد المستثمرين الخليجيين وبصحبته مندوب من شركة "تطوير" الخليجية للمصادقة على مشروع "السنبلة" والذي كانت شركة "تطوير" الشركة الفائزة من بين عدة شركات عربية واجنبية لانجاز هذا المشروع .
والمشروع باختصار عبارة عن منتج سياحي عالمي على نهر دجلة وبمواصفات خيالية تجمع بين سحر الشرق وتكنولوجيا الغرب ليصبح بعد تنفيذه اعجوبة من عجائب الزمن الحالي .
وكان لشركتي" الموصل " الفضل في المشاركة في هذا المشروع الضخم بعد توقيع عقد توأمه بين الشركتين لتنفيذ هذا المشروع.
وبالفعل ومنذ الصباح الباكر توجهت بسيارتي( تويوتا ) الحديثة ومعي رئيس مجلس الادارة ،يصحبنا سائقي المفضل "راجا" وهو هندي الجنسية يعيش في الموصل منذ مايقارب (15) سنة.
في الحقيقة لم يكن المصادقة على العقد هو شاغلي الوحيد رغم انني اعلم جيدا أن كل شيء بات على مايرام وكما مخطط له ،الا ان ماكان يشغلني حقا هو أنه يتوجب علي ،بعد أمضاء العقد ،أن اصطحب ضيفيً الكريمين في جولة سياحية في مدينة الموصل للتمتع بمناظرها الخلابة وأثارها الجميلة والاستمتاع بالاستلقاء تحت أشعة الشمس الدافئة على شواطي نهر دجلة الخالد إذ كان
يتوجب علي أن أمضي اليوم كله مع ضيفيً في هذه النزهة الطويلة والتي قد تمتد الى الساعات الاخيرة من النهار لاسيما وانني عدت توا من" باريس" بعد ان حضرت هناك مؤتمر السياحة الدولي والذي انتهى ليلة أمس . كنت أمنَي النفس بسويعات من النوم لتعيد إلي نشاطي وحيويتي

" ها قد وصلنا المطار " قالها "راجا" مبتسما كعادته بلكنة هندية –عراقية

"الحمد لله " قلتها وأقولها كلما انتقلت بسيارتي في مناطق الموصل المزدحمة والتي لولا وجود الجسور والانفاق الحديثة لعانينا كثيرا بسبب العدد والكم الهائل من السيارات التي تستوعبها شوارع الموصل الحدباء
نظرت إلى رفيقي رئيس مجلس الادارة متسائلا ..

" هل كل شئ على ما يرام"

فأجاب بثقة كما هو معهود عليه ..

"نعم أستاذ ,جميع الاوراق والمستندات جاهزة . ابلغت الاعلاميين والصحفيين بالتوجه الى فندق "دجلة الخير "ليشهدوا تصديق العقد ( في الساعة العاشرة صباحا) ولاينقصنا سوئ حضور المندوبين "





وصلت الطائرة الخليجية وعلى متنها ضيوفي الكرام الذين ما ان رأيتهم حتى أستقبلهم قلبي قبل عيوني مرسلا أبتساماتي كطيور محبة وسلام لتحلق فوق سماء الاخوة والمحبة .

" الحمد لله على سلامتكم " قلتها وانا أقصدها بالفعل .

" بارك الله فيك, حياتك سالمة" ..قالها ضيفيً وأنا أقرأ في عينيهما دعوة ضمنية للذهاب بأقصى سرعة ممكنة الى الفندق لكي يرتاحا قليلا قبل المباشرة بمراسيم توقيع العقد . وبالفعل كان لهما ماارادا فتوجهنا بسرعة الى فندق "دجلة الخير" مستغلين المسافة بالحديث عن العقد والاجراءات القانونية وكل مايتعلق بذلك وفندق " دجلة الخير " من أشهر فنادق المدينة والمعروف دوليا لاحتضانه مؤتمر السياحة الدولي قبل عامين بحضور مختلف الشخصيات العالمية من كبار مستثمرين وزراء سياحة ومختلف الشخصيات المرموقة والمعروفة في عالم السياحة.


وصلنا الفندق وبعد إجراء اللازم في الاستعلامات ، صحبنا العامل الفلبيني ومعه (3) من رفاقه وهم يحملون حقائبنا الى غرفنا في الطابق العلوي . ومنذ صعودنا في المصعد وحتى وصولنا الى الغرف لم تفارق العامل الفلبيني ابتسامته العريضة لنا ولا حتى ترحابه المتكرر بنا وربما قد أدرك جيدا اننا من اصحاب الوزن الثقيل ماديا لينال بعد كل هذا مايرضيه احسن الرضا.
وما أن دخلت الى غرفتي حتى اغتنمت الفرصة لانعم قليلا بالراحة قبل ان ينطلق مشوار العمل من جديد . لكن فرحة النوم هذه لم تدم طويلا بعد أن أيقظني سائقي " راجا" ليخبرني ان الساعة قاربت على العاشرة وانه يتعين عليً ترتيب نفسي لذلك.

" كم الساعة يا راجا؟؟ " قلتها متثاقلا
" إنها التاسعة والنصف يا سيدي "
" ياه ! لم يبقى لدي المزيد من الوقت"
وعلى عجلة من امري اكملت اموري وجلست انا وضيفيً الكريمين وأمامنا حشد كبير من الصحفيين والاعلاميين ومندوبي القنوات الفضائية العربية والاجنبية وكانت خلفنا لافتة كبيرة تشير الى مشروع " السنبلة الكبير" وعدد من الشركات الراعية لهذا الحدث الهام .
الحمد لله تم توقيع العقد وسار كل شى على مايرام ولم يبقى سوى إجابة أسئلة الصحفيين والتي كانت اجوبة روتينية لاسئلة روتينية كان اكثرها يدور في فلك:

" ماذا يمثل لكم هذا المشروع "

فكان الجواب طبعا بنفس الروتينية بعد إقحام كل من له علاقة وليس له علاقة بالمشروع.
أدركت بعد انتهاء المؤتمر ان مهمتي الحقيقية بدأت الان . فضيفيً متلهفين لرؤية معالم المدينة الحديثة والقديمة. في البداية انطلقنا الى اثار نينوى والنمرود واشور التاريخية قبل ان ننطلق الى متحف الموصل الطبيعي حيث صدم الضيفان بما رأوه هناك.

" وعبر جسر الموصل المعلق " والذي أنشأته شركة long bridge " " البريطانية الشهيرة , انطلقنا إلى الساحل الأخر من المدينة لنمر بمختلف العالم والابنية الحديثة والتي اثارت إعجاب الضيوف .
لم يستطيع ضيفي أن يخفيا إعجابهما بما شاهداه من تقدم في العمران في مدينتي وصارا يصيغان مختلف الاسئلة حول كل شى يجذب انتباههما
" ما شاء الله ,لقد تطورت الموصل كثيرا منذ اخر مرة زرتها قبل عامين مع عائلتي على هامش مؤتمر السياحة الدولي الذي عقد في الموصل ,قالها المستثمر الخليجي بتعجب بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
بالفعل ,فبفضل الله عادت الحياة من جديد الى بلادي والى مدينتي الموصل لتقارع "
أجمل المدن العالمية ولتصبح عنوانا للسياحة ومقصدا لمن ينشد الجمال الخلاب. وقد لفت نظر ضيفيً مشهد أثار في نفسهما الفضول حتى أنهم لم يصبروا كثيرا حتى سالوني :

"وما هذا البناء الحديدي الضخم والذي يكاد عمال العالم أن يجتمعوا حوله "

"أنه برج الموصل , ونقوم بإنشائه شركة la tour " " الفرنسية على غرار" برج أيفل " في فرنسا
وسينتهي العمل به بعد(4) أعوام

" ما شاء الله , تبارك الله"

وأخيرا ارتحت قليلا من الاسئلة فقد وجد ضيفيً من المعالم الجميلة والاماكن اللطيفة مايلجم كل أنواع الاسئلة فقد وجدت الفرصة مناسبة لاجعل من الاكل الموصلي وجبة دسمة لاتقل عن الوجبات السياحية التي قدمتها إليهما فقد أخذ الجوع منا كل مأخذ "فالسائحون يزحفون على بطونهم "
فقد توجهنا بأقصى سرعة الى مطعم " جوهرة الموصل"الشهير بالكباب الموصلي " بالساطور" الى جانب العديد من الاكلات التي تتميز بيها مدينة الموصل .
لقد كانت المائدة عامرة بمختلف الاكلات اللذيذة فهي فرصة لضيفيً أن يتذوقا نكهة الطعام اللذيذة الذي قلما يتذوقانها في مدن عالمية معروفة .
بعدها حان وقت التحلية بانواع البقلاوة والزلابية بالدهن الحر والسجق الموصلي بمختلف النكهات وغيرها من الحلويات التي تختص بها مدينة الموصل.
عدنا بعدها إلى الفندق لكي ننعم بقليل من الراحة قبل أن نبدا مشوارا جديدا نلف به حول الحدباء .
وأثناء دخولنا الى المصعد متوجهين إلى غرفنا في الطابق , قال ضيفي المستثمر وهو يسند جسمه المتعب الى أحد جدران المصعد الداخلية .

" والله لم أتوقع أن يعود العراقيون بهذه السرعة للبناء والاعمار بعد كل الاحداث التي واجهوها لاسيما وأننا نعلم صعوبة الظروف التي مر بها العراق في الاعوام السابقة "
" الحمد لله , فبتعاون الجميع وهمة الغيارى استطعنا التغلب على الظروف الصعبة واثبتنا للعالم أننا شعب التحديات وأننا شعب البناء والاعمار والمحبة والسلام " كانت هذه كلماتي الفظها وانا كلي فخر واعتزاز بما تحقق في مدينتي .
وصلنا الى غرفنا في ذات الطابق وودعنا بعضنا بعضا مؤقتا على أمل اللقاء بعد فترة القيلولة . طلبت من " راجا" أن يوقظني قبل صلاة العصر أستلقيت على سريري لاطلق العنان لشخيري المحروم ليزاول نشاطه المعتاد بعد كل رحلة عمل شاقة ليتجول في أرجاء الغرفة كيفما يشاء وحيثما يشاء .
ولكن سرعان ماعكر صفو راحتي صوت غريب لم يكن مألوفا لي من قبل ,يقول:

" هيا استيقظ ,لقد جاءت السيارة ,ألم تنم منذ دهر ؟ "

نهضت متثاقلا وانأ أتساءل :

" من هذا الذي أيقظني . أنه ليس" راجا" . وماذا يقصد بالسيارة ؟ "

وما أن أفقت جيدا حتى أذهلني المنظر من حولي بل وأضحكني أيضا " فشر البلية ما يضحك"
لقد وجدت نفسي أقف في طابور طويل من الناس أرى أولهم ولا أرى أخرهم ,وبجواري برميل فارغ للنفط مكتوب عليه أسمي وسرعان ما أدركت أنني كنت أحلم , نعم, كنت أحلم بالمستقبل الجميل, المستقبل الذي ما مل قط من أحلامنا بل وصار يسايرنا كما يساير الاب أطفاله كثيري المطالب وهو يعلم كل العلم أنه لن ينفذ لهم رغباتهم .
حمدت الله كثيرا , فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه . حمدته لانني وجدت انني سوف أحصل على حصتي من النفط بعد أربعة أيام من الان وعندها سوف تنتهي قصة معاناتي مع النفط والتي استمرت أسبوعين كاملين . وحمدته أنني تخلصت من سيارتي التي لاتشبع أبدا من البانزين ( المكلف جدا ) وحمدته انني سددت من ثمنها اقساط الايجار المتراكمة وبعض الديون التي باتت تؤرقني في صحوي قبل منامي .

الحمد لله أننا بلاد الرافدين الخالدين.
الحمد لله أننا أرض الخيرات.
الحمد لله أننا بلاد الحضارات.
الحمد لله أننا بلاد الأنبياء
والحمد لله ألف ألف مرة أننا بلاد النفط والبترول .