لماذا تقصى الحركة الإسلامية في البلاد العربية؟ بقلم:رياض الشعيبي
تاريخ النشر : 2009-09-29
لماذا تقصى الحركة الإسلامية في البلاد العربية؟

رياض الشعيبي – كاتب تونسي

تزداد يوما بعد يوم القناعة لدى دوائر التفكير والتخطيط عند صناع القرار
الغربي بضرورة الانفتاح على القوى الإسلامية الصاعدة في المجتمع العربي.

فهذا المركز البريطاني للدراسات الإستراتيجية قد حذا حذو بعض أعضاء مجلس
العموم الذين دعوا من قبل حكومتهم إلى المبادرة بإطلاق حوار مع حركة
الإخوان المسلمين ومع حركة حماس. ومنذ سنوات نشر غراهام فولر نائب سابق
لمدير المخابرات الأمريكية (CIA) كتابا عن الإسلام السياسي في العالم
العربي، ينصح فيه حكومات المنطقة بفسح المجال لهذا التيار العريض ليعبر
عن رؤاه ويواجه تحديات الواقع إذا ما أرادت السلطات المحلية تجنب موجة من
التغييرات الفجائية والعنيفة أحيانا والتي يمكن أن تضع مستقبل المنطقة
كله في خطر. بعض الساسة الغربين على غرار رئيس وزراء اسبانيا جاهروا
أخيرا صراحة بالنداء لحوار مع حركات الإسلام السياسي. ومن قبل ذلك كانت
جامعات غربية عريقة قد نظمت حلقات وندوات استدعت لها كبار مفكري وقيادات
الحركة الإسلامية. الكنفدرالية الدولية لحقوق الإنسان ممثلة في رئيستها
التونسية السيدة سهير بلحسين عزت انتشار العنف السياسي والتطرف
الإيديولوجي في بلدها إلى غياب الديمقراطية وإقصاء الحركة الإسلامية
المدنية وحملت الجهات الرسمية المسؤولية كاملة عن حالة الفلتان الأمني
والاضطراب السياسي وما يمكن أن يؤدي إليه في المستقبل. مراكز الدراسات
الإستراتيجية الدولية هي الأخرى وان كان بعضها قد وضع اشتراطات على تيار
الإسلام السياسي حتى يتم إدماجه بشكل قانوني في الفضاء السياسي، مثل
إدانة العنف والاعتراف بحقوق المرأة وتبني الديمقراطية والنضال المدني
كأسلوب للتغيير، فإنها أصبحت تنظر بكثير من الاهتمام والايجابية لهذا
الموضوع. إذ اعتبرت هذه المراكز أن تلك الشروط هي بمثابة النقاط الرمادية
التي يتوجب على الحركات الإسلامية توضيحها، وقد تحقق ذلك من خلال
الأدبيات الكثيفة التي صدرت في السنوات الأخيرة من اعلي المراجع
الإسلامية وفي البرامج السياسية لأهم التنظيمات الإسلامية المدنية والتي
تؤكد على التفاعل الخلاق بين الحداثة الأوروبية والهوية الإسلامية ابتداء
بمسالة الديمقراطية والحريات ومرورا بقضايا المرأة وضبط مفهوم الجهاد
وحتى التوافقات الممكنة في مسالة العلمانية.

فما الذي يعيق إدماج الإسلاميين في المعترك السياسي في المنطقة العربية؟

من بداهة الحديث القول بالأسباب الذاتية والأخرى الموضوعية أو الخارجية
لذلك لا فائدة من الاستسلام لمنطق الاستسهال والتبسيط في موضوع يكاد يكون
العنوان الأبرز للقرن الفائت وهو مرشح ليبقى في مكانته تلك للقرن الذي
نواجه مطلعه منذ حوالي عقد من الزمان.

فالحركة الإسلامية تيار اجتماعي اخترق كل الحصون التقليدية التي وقفت
صامدة أمام دعوات التحديث. مثلما تمكن من أن يمتد إلى أساسات الدولة
العربية القطرية الحديثة ومؤسساتها ومنظومتها المفهومية والقيمية من دون
رادع ولا عائق إلا رادع الاضطهاد وعائق الإقصاء. وعندما ظن المثقفون
الحداثيون انه بمقدورهم إعادة إنتاج مجتمعاتهم مثلما فعل أسلافهم رهبان
التنوير، لم يواجهوا فقط معضلة البنى الاجتماعية القديمة من جهة كونها
قوى محافظة. بل أعمتهم المفاجأة طويلا وهم يواجهون قوى تغيير اجتماعي
تمكنت من تجاوز مقولات التصنيف العقلاني المدرسي وهي على الرغم من ذلك
محافظة في امتدادها التاريخي والثقافي. فهي من جهة ارتباطها التاريخي
تأخذ موقعها في إطار النزعة الراديكالية المحافظة والتقليدية. أما من جهة
منهجها التغييري ومضمونها الاجتماعي الوظيفي فإنها تتصدر رؤية تقدمية
للتاريخ أكثر راديكالية من رؤى الحركات الثورية التقدمية التي أضحت جد
تقليدية أمام تقدمية الحركات الإسلامية وحداثيتها. وهو الأمر الذي مكنها
من فعل اجتماعي حقق لها امتدادات سريعة ونوعية سواء بين الجماهير العريضة
أو لدى النخب الصاعدة.

فهل أصبح نجاح الحركة الإسلامية هو ذاته السبب في إقصائها؟

بالنظر إلى الطبيعة الاستبدادية للأنظمة العربية يمكن أن يكون الجواب
آليّ. لكن وان كان هذا الاستبداد حقيقة مرّة في واقع الشعوب العربية،
إلاّ أن ظهور المنتظمات والقوى الدولية في الأزمنة الحديثة قد خلق واقعا
جديدا من الاختراق السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تفاقم إلى حد التدخل
في تنظيم انتقال السلطة في مجمل الدول العربية. فأمام انحصار شعبية
الأنظمة القائمة لصالح قوى التغيير لم تجد هذه الأنظمة غير مزيد من
الارتهان والتفريط في استقلالية قرارها السيادي لصالح قوى خارجية تحت
أقنعة شفافة أحيانا كصندوق النقد الدولي. ولكنها في مواقف أخرى كانت
تتقبّل راضية أو كارهة توصية مكتوبة أو مشافهة أو مهاتفة ما يعطل
الدساتير ويعلو على سلطانها.

لقد قرأت الحركة الإسلامية الواقع وفكت رموزه، لذلك نراها تزهد في
مخاطبة الأنظمة المحلية وتلتفت إلى من يملك السلطة الحقيقية في المنطقة
وتخاطبه من دون وسائط فيما يهمّه من شأن هذه الحركات. فنحن نرى اليوم
الاجتماعات مع مراكز الدراسات توضيحا للمواقف ورفعا للشبهات وطلبا لتنضيج
الرؤى واستعدادا للتعايش. والنتيجة يراها اليوم تيار الإسلام السياسي
ايجابية بما أن الدعوات ترتفع مطالبة بالانفتاح والحوار معه من طرف هذه
المراكز وبعض صناع القرار.

فهل نجحت بالفعل الحركات الإسلامية في رفع الشبهات حولها كمقدمة لإدماجها؟

تراوح أداء الحركة الإسلامية بين الراديكالية والإصلاح. فلئن تعالت دعوات
الاعتدال في المنهج والوسائل والرؤى داخلها وفي فترات مختلفة من مسار
تطورها إلا أن الصوت المسموع كان صوت التغيير الجذري الذي يدين الواقع
بما فيه وما عليه. ويعود هذا التفاوت في حجم المسموع إلى سببين: الأول أن
من طبيعة الإصلاح العمل الهادئ من دون كثير ضجيج ولا مشاغبة فلا ينتبه له
إلا متأمل متأني أو متفكر رشيد وهو حال مازال بعيدا عن واقع الإعلام
الدولي الذي يترنح بين الولاء للصهيونية العالمية وبين الإثارة المرتبطة
بكثافة المبيعات. لكن هذا الإعلام اتخذ في كل الأحوال زاوية نظر معادية
إلى حد بعيد للمشروع الإسلامي. أما السبب الثاني فيتمثل في فشل الحركة
الإسلامية بشقيها الإصلاحي والجذري في تسويق خطاب وفيّ لحقيقة مواقفها.
إذ نجد أن طابع الاستفزاز والإثارة والشعاراتية، كلها خصائص غلبت على
أداء هذا الخطاب. هذا فضلا عن أن تفكيك وتحليل الخطاب الإسلامي قد سلّم
بالكامل لمثقفين ونخب محلية أو خارجية هي بطبيعتها معادية للمشروع
الإسلامي إلا ما ندر. لذلك كان لا غنى لهذه الحركات من أن تسلك سبيلا
مباشرا توصل من خلاله للعالم خطابها كما تريد له هي أن يكون. إلا أن ذلك
لم يغن عن مواجهة تحديات حقيقية لضعف في الموروث الفقهي والثقافي
الإسلامي الذي عجز عن مجاراة الحوارات الإنسانية التي يشهدها الفكر
العالمي في قضايا الحريات وحقوق الإنسان والحكم الرشيد ومصادر التشريع
القانوني وفي مسائل التغيير الاجتماعي والتحدي التكنولوجي والنسوية
وغيرها. فانكب رواد هذا التيار على مراكمات نظرية ونحت لتجارب ميدانية
واستشراف لعهد لم يأت ولكن بشائره لا تخفى على كل متمحّص، تجاوزا لمعوقات
ضعف الأثر الحضاري الراهن ولكن رغبة أيضا في المزامنة بين حاضر مستلب
وماضي يأبى إلا أن يكون المرشد والهادي. ما تحقق من نظر وما تراكم من فعل
وما بدا من ارتباط عضوي لها بمستقبل المنطقة يبدو كاف لهذه الجهات
الدولية لإبراز موقف ايجابي من الحركة الإسلامية. ومع ذلك لا يجد هذا
التيار مكانا له تحت الشمس.

فهل من جدوى لمزيد البحث عن أسباب أخرى قد تعيق انخراط الإسلام الحركي في
الفضاء السياسي؟

إن من طبيعة المشكل الحقيقي انه مشكل قابل للحل وان تعطل هذا الحل إلى
حين. فلا جدوى إذن من سلوك نهج السفسطة الجدالية التي بات يطالعنا بها
مثقفونا إطالة للحديث من دون جدوى وتغليبا للحجة على المنطق فان كان فيها
منطق فانتصارا له على حساب الواقع الاجتماعي وصبغا للحقيقة العذراء برماد
النظرية المجردة من كل مسؤولية.

فهل يمكن بالفعل للواقع المحلي أن يكون عائقا أمام الاعتراف بالحركات الإسلامية؟

ما من شك في أن تركيبة النخب السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة على
شأن البلدان العربية هي تركيبة جدّ معقدة. تتداخل بينها المصالح وتتمتّن
روابط المنفعة الضيقة والمتبادلة بين أطرافها وتتعاضد قوى المحافظة التي
تستفيد من جمود الواقع المسمّى استقرارا واضطهاد الإنسان المسمى أمنا.
لكن هذه النخب فشلت في المناسبات القليلة التي وقفت فيها أمام امتحان
الجماهير في الاحتفاظ بأي من مكاسبها فما كان منها إلا الانقلاب عنفا
وترويعا وإغراء وتشويها على قوى التغيير الإسلامي التي التحمت بإرادة
الجمهور. لذلك لا يمكن لجماعات السلطة أن تقوى على صد الحضور الإسلامي،
بل إن مصلحتها تقتضي فسح المجال لهذا الحضور القانوني لما للتيار
الإسلامي من قدرة على تأطير الناس والابتعاد بهم عن السلوكات العنيفة
وردود الفعل الفجائية. أما المجتمع الذي تضعف فيه آليات التاطير فهو
المجتمع الذي يكون عرضة أكثر من غيره للهزات الاجتماعية والسياسية. ولا
يبدو ذلك بخاف على عرّابي الأنظمة العربية الذين لا يعوزهم الذكاء ولا
الفطنة.

هل يعني ذلك أن الأنظمة العربية قد ترغب في الاعتراف بالتيار الإسلامي؟

لا أبدا. هذه الأنظمة لا تمتلك الإرادة لتريد أو لا تريد، هي أنظمة
مستلبة بالكامل. فلا يزال إلى الآن قرار التعاطي مع الحركة الإسلامية
قرارا دوليا، وهو ليس مرتبطا بالحرب العالمية على الإرهاب وان كان ذلك
حدها الأقصى. إن الدوائر الفكرية الغربية تعي جيدا واقع الأنظمة العربية
وضعفها الفاضح، وهي تعي إلى ذلك فسيفساء المعارضة المفتة وغير المنخرطة
حقيقة في مشاغل الناس وهمومهم على الأقل من جهة مصداقية ادعاءاتها. كما
أفضت دراساتها ومتابعاتها المسترسلة إلى أن الحركة الإسلامية هي القوة
الأكثر تأثيرا في واقع الشعوب العربية. وان هذه الحركة وان تمكنت من
تجاوز العوائق الفكرية والسياسية وحتى القانونية أحيانا التي تمنعها من
التموقع داخل الفضاء السياسي، فإنها لا تزال تهدد مصالحها القديمة
الاقتصادية والثقافية إضافة لتلك المرتبطة بالصهيونية. فحديث المبادئ
والأفكار استحال في نهاية المطاف إلى حديث مصالح وتوازنات، الأمر الذي
اضطر الغرب في مناسبات عديدة للتدخل لإفشال تجارب ديمقراطية جزائرية
وفلسطينية ولبنانية وغيرها، لا لشيء إلا لأنها تجارب دفعت بالقوى
الإسلامية للصدارة وبينت أن مصالح إستراتيجية غربية في الشرق الأوسط وفي
المغرب العربي قد تتعرض للتصفية من قبل هذا التيار.

فهل من المشروع أن تكون للغرب مصالح إستراتيجية في المنطقة العربية؟

إن الاستعمار الغربي للمنطقة العربية تاريخ لا يمكن التفصي منه،
واستمرارية تأثيره على المنطقة واقع حي لا ينكره إلا جاهل أو منافق،
ومستقبل هذا الحضور معقد إلى درجة يصعب تجاوزها، كما أنّ العودة إلى واقع
ما قبل الحملات الاستعمارية وبداية السقوط الحضاري ليس إلا مجرد
نوستالجيا (حنين مَرَضِيٍّ للماضي).

فما الذي تستطيع أن تفعله الحركة الإسلامية حيال ذلك؟

شهد العالم العربي والإسلامي تحوّلين مهمّين طوال تاريخ علاقته بالعالم
الغربيّ: بدا التّحوّل الأوّل من خلال الحملات الاستعمارية التي تهيّأ
لها الغرب منذ أمد، وأحالها واقعا حتميا خلال القرن التّاسع عشر. أمّا
التحول الثاني فتمثل في تأسيس منظمة الأمم المتحدة وما تبعها من تشكل
للعلاقات الدولية واعتراف بالكيان الصهيوني وحملة إعلان استقلال الدول
المستعمرة وبناء أنظمة سياسية في المستعمرات القديمة تبني شرعيتها على
أساس علاقتها بالغرب والتزامها بالمحافظة على مصالحه. والواقع العربي
مازال يحتفظ إلى الآن بهذا التصور القائم على المحافظة على مصالح الغرب
والاستعداد للتعامل معها بكل ايجابية. لذلك كانت أول العقبات التي اصطدمت
بها الحركة الإسلامية هي هذه المصالح بالذات، فمادامت غير قادرة على
التعامل مع هذه المصالح مادام الاعتراض الغربي على تواجدها مستمرا.

فهل تستطيع الحركة الإسلامية التعامل مع المصالح الغربية في المنطقة؟

قبل المسارعة بالإجابة نحتاج إلى تحديد نوعية هذه المصالح وطبيعتها.
فالمصالح الغربية في المنطقة العربية ثلاثة أنواع تتفاوت أهميتها من قطر
إلى آخر:

1. مصالح اقتصادية: تتمثل في الطاقة والمواد الأولية والموارد البشرية
باعتبارها سوقا للشغل والاستهلاك والاستثمار.

2. مصالح أمنية: ترسّخت خلال الحرب الباردة ولم تنقص قيمتها بعد ذلك
بل ازدادت بانتشار إيديولوجية القاعدة بالتوازي مع ما ينسب لها من أعمال
عنيفة.

3. مصالح ثقافية وأحيانا فوق ثقافية باعتبار تعلقها بنمط التفكير والحياة.

لقد حسمت القوى الإسلامية بعدها الوطني واعتبرت من مقاومة الاستعمار ورفض
هيمنته على المنطقة محورها النضالي الأبرز، لذلك نراها تتموقع على في
إطار معسكر الممانعة. كما نرى الحركة الإسلامية تعمل على تجذير هذا
الخيار والتمكين له، لكن إلى الآن مازالت في أقطار عديدة مكتفية بالشعار
دون البرنامج التنزيلي، بل وتواري عجزها عن انجاز هذا البرنامج بالاختباء
وراء هذه الشعارات العامة. فهل من المصلحة العيش كمجتمع عربي مسلم خارج
النظام الاقتصادي العالمي رغم أنّه موبوء بالظلم والاستغلال والربا
الفاحش، وهل باستطاعتنا إغلاق أبوابنا ونوافذنا عن غزو الإعلام الغربي
وتأثيره في نمط حياة شعوبنا، وهل من اللازم منازلة الغرب وحضارته أم
الأجدر الاستفادة بما أنتجه من أفكار وأدوات ومناهج في غياب فعلنا
الحضاري التاريخي؟

إنّ المفكرين والسياسيين الإسلاميين مدعوون لترتيب علاقة الحركات
الإسلامية بالغرب والى إعادة فهم مصالحه في المنطقة ومراعاتها باعتبارها
معطى موضوعي يستعصي إهماله أو التغافل عنه. فإذا ما أرادت الحركة
الإسلامية أن تشغل حيزا من الفضاء السياسي في المنطقة العربية بعيدا عن
الشعارات الثورية والمبادئ المبهمة فعليها أن تراعي منطق المصلحة
المتبادلة عوض منطق الحد الفاصل.