مدني صالح آخر فيلسوف إغريقي معاصر بقلم:رباح آل جعفر
تاريخ النشر : 2009-09-15
مدني صالح آخر فيلسوف إغريقي معاصر
بقلم:رباح آل جعفر


يوم وصلني نبأ رحيل صديقي المفكر الكبير أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد مدني صالح مجللا بالحزن ، وكانت بيننا غربة وحدود وقيود ووطن محتل ، تذكرت بيت الشعر المأثور لأبي الطيب المتنبي :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت منه بآمالي إلى الكذب
ومن سوء الحظ ، أنه لا الأكاذيب ولا الحقائق ، ولا الشعر ، ولا النثر ، ولا الدموع ، ولا المراثي ، ولا التفجع ، ولا الأسى ، ولا القراطيس ، ولا الصحف ، ولا آهات النفخ في الأبواق على حواف القبور ، كانت تكفي للتسليم بأن المقادير شاءت وحكمت .. وجاءت وذهبت ومعها مدني صالح إلى عالم بعيد .
مات مدني صالح بلا صولجان ، أو مهرجان ، أو باقات ورد .. وقد شبع حياة في موته ، كما شبع موتا في حياته ... بالرغم من أنه لم يكن ممسكا بتلابيب الحياة ، بل كان يسبق موتا يعرف أنه في انتظاره ، ويستشعره في وجدانه ، وكان يوغل في جراحه من دون أن يجرح أحدا ، فهو في صميم قلبه طالب سلام .. وإذا كان غيره من أدباء العراق الكبار كالجواهري ، والبياتي ، والملائكة ، ماتوا غرباء بعيدا عن وطنهم ، فان مدني صالح مات غريبا بعيدا في وطنه ، وقرر منذ زمن طويل أن يستغني عن حاجته إلى الإنسان ، فعاش مع ذاته ، متعففا عن كل ما يربط الإنسان بالإنسان من حوار وحاجة اجتماعية ، وذلك تعبيرا عن رفضه لوجوده اللا إرادي !.
فما العزاء الذي يليق بذكرى رحيل مفكر كبير من طراز مدني صالح ، وقد سكت صوت من أصفى أصوات التنوير والتحريض في الأمة وأشجعها .. ونحن الذين كلما غاب عزيز علينا من الأدباء والمفكرين ، أصابنا الحزن والشجن على فراقه ، واجتهدنا إقامة مناسبات ما نسميه التأبين والرثاء .. فنخلع عليه من الأوصاف في غيابه ، ما نقتصدها في حضوره ؟! .
من المحزن أنه لم تعد ثمة أطلال نبكي عليها .. فكيف تبكي أمة سرقوا منها المدامع ؟ .. لا بل أن كل أيامنا محجوزات للمآتم ، والأحزان ، والندابين ، والبكائين ، ومصاطب انتظار الفرج ، وذرف الدموع ، والنحيب ، والتشكي ، والانحناء أمام الذكريات الحزينة ، والشعور المر بفضاعة الموت ، حتى صار الأسى والدمع ليس لهما في حياتنا من معنى ، وحتى لم يبق في الروزنامات العربية هامش للاحتفاء بما نحب ، فكل ما سيكون كان .. كأن الموت واحد من أصدقائنا الدائمين ، ولا وظيفة للأرض من تحت أقدامنا سوى الالتفات إلى أدوات الرحيل ، ووحشة القبور .. فشاهد على التأريخ يسقط .. يتبعه شاهد .
يا مدني صالح : ما زلت أتذكرك وأنت تعزيني بوفاة والدتي ، يوم جئتني إلى صحيفة الرأي مسرعا ، تنشدني قول المتنبي في ميميته الشهيرة :
فؤاد ما تسليه المدام
وعمر مثلما تهب اللئام
فاغرورقت عيناي بالدموع ، وكأننا غرباء حتى عن أنفسنا .. فبماذا تراني اليوم أعزيك في الذكرى الثانية لرحيلك .. وعزاؤك لي لما يزل ما جف بعد على السطور .. وعزائي فيك أن كل شيء يمضي بنا إلى نفس المال .. الليالي وعاديات الليالي .. المحبون ، والخليون ، والعذال ، والخصومات ، والمروءات ، والأذى ، والندى ، والماسي .. وأهل التقى ، وأهل الضلال .. أهو سر الحياة أننا يا مدني ، نولد بابتهال ، وننتهي بابتهال ؟ .
وماذا أقول ، وليس في مقدور أي كلام تكتبه أقلام أن يعبر عن الخسارة الكبرى التي نزلت على الثقافة العراقية ، عندما غبت عن دنيانا ، وترجلت بخطاك عن دجلة بعيدا .. بعيدا .. وعن دنيا حافلة بالمصائب ، والغرائب ، والعجائب .. وحياة عشتها بحلوها ، ومرها ، وكان مرها أكثر من حلوها ؟! :
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
هل أقول ما قال تولستوي في روايته ( الحرب والسلم ) : ( الأصعب ليس أن يموت المرء ، بل أن يموت الذين حوله ، كلهم ، ويبقى هو حيا ) ؟! .
حسن ، سأقول في لحظة احتباس الدموع : كل عمرنا للخسارة ، فهو مثل قطار يمضي بنا عجلان ، ونحسب كل حين ، أن رحلتنا انتهت .. حتى سال دمع من المآقي كثير ، واكتشفنا أننا فقدنا من الأعزاء والأصدقاء من لم يشبعوا من تنفس الهواء ، وشيعنا من الجنائز ما ليس لها عدد ، و ( إن المصائب ينجبن المصابينا ) .. وضياع الطريق بين أقدامنا كان وهما بوهم .. وقد عرفنا الضياع ، وعرفنا الدوار ، وعرفنا التسكع من دون قرار ، وعرفنا التملص والاعتذار .
وها أنا ذا أعزي بك نفسي .. مستوحش حد البكاء ، مهدهد حد الكلال ، موجع حد النكال ، مستفرد بخيباتي ، بين حل وارتحال ، زاخر جرحي ، مكسرة نصالي ، وأنا وأنت من فرط وجع ، يبتعد ضلعنا عن أخيه ، وهذا العمر كلما امتد بنا ، ينقطع سبب من رجائنا وينخلع وتد .
أكنا نبالغ ... أم أنها سنوات الصبر ، ينكسر المرء من بعدهما سلما .. ثم يزحف إلى الخوف ؟! .
يا مدني صالح : هل ضقت بنا ذرعا ، لتتركنا نحصي بقية أعمارنا بالمثاقيل ؟ .. ذاك عمر طويناه حد لم نعرف طفولتنا ، من فرط قهر بنا ، أو فرط حرمان .. فكأننا يا صديق العمر نظل طول السرى بين مدفون ودفان .. فيا ليت خيل العمر ما ركضت بنا ، وليت قافلة السنين لم تسر ! .
ألم نكتب أنت وأنا يا مدني مقالات ، ومقامات ، وقصائد ، بيراعاتنا أحيانا ، وبماء عيوننا أحيانا ، بيضنا بها وجوه المحبين ، وسودنا وجوه المبغضين .. وكنت تقول لي : أين تكون يا رباح آل جعفر أكون معك .. فاستمريت تكتب مقالاتك في صحيفة ( الرأي ) طوال فترة صدورها قبل الاحتلال .. حافظا لصلات وعهود تسبق في حسابك أي حساب ، وصداقة جميلة حرصنا كلانا منذ البداية ، أن نحميها مثلما يجب أن تحمى ، حتى يصح في وصفنا قول البحتري :
لقد صدق البشير بما ابتهجنا
له .. لو كان يصدقنا البشير
وكان أعز الناس علينا يسرعون للنيل منا ، لسبب أو لا سبب .. أن تكون أنت في ذروة وجعك ، وفي ذروة انتمائك لوطنك ، لا تملك في حياتك غير هذا الوجع ، ويأتي من ينغصها عليك .. فأنت ملاحق ومحسود حتى على كربك وأحزانك ! .
منذ سنوات كان مدني يعرف أنه مصاب بالسرطان ، وكان يقاوم السرطان ببسالة ، يقعده المرض مرات ، لكنه لا يلبث أن يقوم رافعا قامته بكبرياء ، مجلجلا بصوته ، كاتبا كلمته بتدفق مفكر ، وفيلسوف ، ومثقف كبير ، وقبل وبعد كل شيء بكرامة إنسان ، كأكرم ما يكون الإنسان ، بحثا عن القيمة والمعنى والمعدن والجوهر في حياة الإنسان ، وحواره المتصل مع الكون والحياة والخير والجمال .
ومنذ عشرين سنة وأنا أعرف مدني صالح ، أعرفه عن قرب بكل تفاصيله ، وأشتاق له ، وأحن إليه ، وأحبه ، وأحترمه ، وأزعم أنني من قلة بين كثرة استطعت أن أفهمه ، وألامس شغاف قلبه ، وأشعر نحوه بصلة لا حدود لها ، فأعجبت به إنسانا وكاتبا ، شكلا وموضوعا ، مضمونا ومحتوى ... ووجدت أنه ليس من طراز الناس الذي يجلس في مكان ولا يلفت الأنظار إليه ، ولكنه من طراز آخر يلفت الأنظار رغم أنوفنا !.
يبهرك من مدني صالح هذا القدر النادر من الذكاء المتوقد ، وبذهن كأنه يتشكل من الماس المشع ، وهذا التدثر بالتهذيب ، فهو غواص يبحث في البحر عن لؤلؤة في محارة ، لذلك اختلف عليه كثيرون ، واتفق عليه آخرون .. وتصوره البعض شطحة صوفية ، أو درويشا في تكية ، أو من جماعة إخوان الصفا ، وتصوره البعض الآخر مشاكسا أدبيا يمد لسانه لجميع الأدباء ويرمي الحجارة على مدن الثقافة والأدب ، ويسوق القافلة بلا بعير ، بل ويكسر عيون أسواق الزيت والزيتون كلها بالأدب الجميل ، وبالكلام الناعم ، وهو في حقيقة الأمر لا زيت عنده ولا زيتون .. وأنه شهريار بلا شهرزاد ، وقيس بلا ليلى ، وعنترة بلا عبلة ، وشمشون بلا دليلة ، أما آخرون فيقولون : انه شخصية فلكلورية كجحا ، وتلميذ مشاغب خارج عن طاعة أفلاطون ، وتقاليد أرسطو والقبيلة وآداب الأكل بالشوكة والسكين !.
مدني صالح هو ذلك الضائع بين الدخول فحومل ، كامرئ القيس ، الغريب كصالح في ثمود ، الاشراقي كشهاب الدين السهروردي في ( هياكل النور ) ، و( حكمة الإشراق ) ، الأسطوري كطائر الفينيق ، المفرط في التشظي ككوكب يتكون ، المنفي من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما ، ومن المقلاع إلى الصاعق النووي ، العاري من الرايات ومن البوق المقدس ، الحامل في شخصيته جزءا من الشمر ، وجزءا من الحر الرياحي ، وجزءا من المعمدان الذي يبحث عن رأسه ، الشارد في التيه ، يعرف من أين ، ولا يعرف إلى أين ؟ .. الحنون إلى دار ( مية ) بالعلياء فالسند ، ودار ( عبلة ) بالجواء ، ودار ( خولة ) ببرقة ثهمد ، والى امرأة من تلك : ( الجآذر في زي الأعاريب .... حمر الحلى والمطايا والجلابيب ) !.
ولمدني صالح ضحكة مجلجلة ومميزة ، ولكنها ليست مصطنعة ، فتسمعه يقهقه دفعة واحدة ، ثم يصمت فجأة ، انه يسخر بصمت وبجدية ، حتى إذا أدرك أن المقابل قد شعر بسخريته ، فانه حينئذ يبتسم مكافأة للآخر ، لأنه اكتشف سخريته الباطنة .. تلك ضحكته التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان ، عالية وعريضة ، لا تأريخ لها منذ صار التأريخ قهقهة عابثة .. ولقد سمعت منه ، وقرأت له الغريب العجيب من الآراء التي لم أجد عند سماعها ، أو قراءتها ، إلا أن أبتسم وإلا أن أعدها من أساليب الهزل بما يشبه الجد .
وكان عندما يتكلم ، أتأمل طويلا في قسمات وجهه ، فتعلمت منه النكتة ، وفن السخرية ، وأطلقت ضحكة صافية من قلبي ، وقهقهت في براءة ، ورأيت في اسلوبه صورة شخصيته المميزة الرائعة .
وكان مدني يمشي كثيرا ، ويمشي مسافات طويلة .. ولقد قطعنا أنا ومدني صالح في السنين الخوالي شوارع بغداد جميعها ، ولم نكن هلاميين ، ولا بوهيميين ، ومشينا في دروب موحلة ، وأزقة ظلماء ، وشوارع منحنية ، مكسورة ، وقصيرة ، قادنا إليها اليأس أكثر مما دفع الرجاء .. وأذكر أننا في قيلولة آب من صيف وخم قائظ مشينا من كلية الآداب في الباب المعظم ببغداد قاصدين إحدى المقاهي في منطقة الكرادة داخل ، لم نتوقف ، أو نسترح ، وكانت شوارع بغداد من الغلواء كأنها جهنم الحمراء تلتهب تحت أقدامنا !.
وكنا كلانا ، نقطع أحيانا ، حزن الشوارع ، وأسى الأرصفة ، ونتسلل من بين ضوضاء المقاهي ، والسيارات العمومية ، والشوارع الخلفية ، وعيادات الأطباء ، والأسواق الشعبية المكتظة بالباعة المتجولين ، نجلس على دكة مقهى شعبي بائسة يائسة في البتاوين ببغداد ، وكنا نعب الشاي أقداحا تتلوها أقداح تتجاوز في بعض الأحيان الثلاثين ، ونترك مواعيدنا ومقالاتنا عند صانع المقهى ( حمزة ) ، فيا لجمال تلك الأيام ، لحاها الله ، بريئات حد اللعنة ! .
يوما ، أطلعني مدني صالح على رسالة تتدفق بالعاطفة ، كان كتبها في كمبردج سنة 1961 وأرسلها إلى ابن خالته في هيت ، يحكي له فيها عن دراسته هناك ، وقد تقطعت نياط قلبه حنينا وأشواقا إلى العراق وأهله وصحبه ، مستشهدا ببيت الشعر :
بلادي هواها في فؤادي وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
في هذه الرسالة ، يقول مدني صالح : انه يحن إلى شيشة عطر عتيقة مرمية على سطح بيت جده ، ويرسم لابن خالته في الرسالة شكل الشيشة ، ويتوسل به لو استطاع أن يجدها له ويرسلها إليه .
مدني صالح .. هو ذلك النواسي الذي يضيق بحريته ، ويستحق ما يشغله من الزمان ، والمكان .. ينام بلا طعام ، ويأكل بلا نوم ، ولم يدخر قط فلسا في حياته ، ويتساوى لديه التبر ، والتراب ، فهو يؤمن أن لكل غد شمسا وطعاما .. وكان يسخو بإفراط على الأصدقاء ، فهو زاهد في حياته ، متقشف في ملبسه وطعامه .. وطوال عشرين عاما لم أجد مدني صالح يتدافع على مائدة من الموائد ، ولم أجده يأكل لقمة من طبق غيره ، ولم أجده يتأبط أوراقه في ندوة ، أو مهرجان ، ولم أره يظهر على شاشات التلفزيون ، ولم أسمعه يتكلم بصوت عال ، حتى حين يتكلم بحماس وفخر ، فان صوته يخرج خفيضا .. ومع ذلك ، فان مدني صالح لم يشأ أن ينأى بنفسه عن مجتمعه ، فتراه يتابع أدق التفاصيل في حياة من حوله ، ويسأل عنها ، لكن من دون أن يتدخل إلا حين يجد أن تدخله ينفع من دون أن يضر أحدا .
ولمدني صالح طريقة في الحضور إلى كلية الآداب لا تشبهها أية طريقة .. انه لم يأت يوما ما بأي كتاب ، أو مصدر ، ولا يدخل الصف إلا ويداه خاليتان من كل هذه الأشياء .. ومدني لا يتقاطع مع طلبته ، ولا يبتكر المشاكل معهم ، إنما يعمل باستمرار على تشجيعهم ، ويمدهم بالعلامات العالية ، وان كان يعرف أنهم لا يستحقونها !.
كان مدني صالح غريبا يرى نفسه في مرايا غريبة ، فهو من النوع الذي لا يسهر ، ولا يثرثر ، ولا يكثر الكلام ، ولا يدخن ، وكان قد ترك التدخين منذ سنة 1984 بعد نصف قرن كان يدخن خلالها سبعين سيكارة في اليوم الواحد ، وأحيانا تصل إلى الثمانين ... ومدني لا يشارك في الاحتفالات ، والمناسبات ، ولا يحضر فرحا ، ولا مجلس فاتحة ، ولا يحضر مؤتمرات الثقافة ، ومهرجانات الشعر والأدب ، وكان يعدها نوعا من التدافع على الموائد ، والطناجر ، والخواشيق .. وأنا أعرف عنه أنه لم يشرب الماء طوال حياته إلا من بيته .. وفي سنوات عمره الأخيرة لم أره يوما يشرب شايا ، أو قهوة ، أو ماء ، ولا يأكل أبدا خارج بيته .. وفي إحدى المرات دعي ليناقش أطروحة دراسية في جامعة الكوفة ، وذهب صباحا ، وبعد الانتهاء من المناقشة ، أحضروا الموائد ، لكنه امتنع عن حضورها وعاد إلى بغداد مساء من دون أن يتناول شيئا من الطعام .. وهو يعد البصل والثوم جزء لا يتجزأ من صحة الإنسان ، وعنده فلسفته الخاصة في البطيخ ، ويعتز كثيرا بالصورة الكاريكتورية التي رسمها له علي المندلاوي .
وبدأ مدني صالح حياته مصليا ، صائما ، لا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ويدرس علوم الشريعة واللغة العربية في جامع هيت الكبير ، وقال لي يوما : أنه في أعوام الخمسينات من القرن الماضي حرم على نفسه أكل اللحوم ، وكان من رياضته أن يصوم عشرة أيام عن الطعام ، وعندما سألته : ألا تجوع ؟ فلسف لي الموضوع ، بأنه من رياضات الأنبياء وأولياء الله الصالحين ، وجزء لا يتجزأ من المنهج الصوفي القويم .
وكان مدني صالح يستيقظ قبل صلاة الفجر ، وقبل صياح الديك ، وينجز أعماله كلها حين يكون كثير من الناس قد استيقظوا للتو من نومهم .. وقال لي : انه يكتب أعظم مقالاته حين يصعد في الباصات ، وأنه يخاف الله ويستحيي من الناس ، ولا يقرب العيب ، ولا يأكل الحرام ، ولا يشرق مع المغربين ، ولا يغرب مع المشرقين ، ولا يجرجر حبلا ليس فيه بعير .. لكنه يرمي من النافذة نصف أثاث البيت العتيق من الأدب العربي الذي نخره السوس ! .
ويوم احترقت بغداد في سكون ، لم تبصر العيون منها ، سوى الدخان والرماد ، وبقايا وطن تجرح ، وتهشم ، وتكسر ، فان مدني صالح لاذ بالصمت ، حين لم يستطع أن يرى دبابات الاحتلال تحبل في طرقاتها بشكل لا شرعي وسخ ، ( وكل الأرض بستان لقيصر .. وعلى أطرافه الجند يقيمون له ألف معسكر .. ويغنون شعر فرجيل وروما تتبختر ) ، ولم يكن من طبعه أن يتخفى تحت الجلباب ، ويتوارى خلف واجهات ، ويكتب عليها مقالات يضع عليها أسماء مستعارة .. وظل قلبه ينبض للعراق ، يباسا واخضرارا ، حتى موته .
وما أكثر الذين باعوا أنفسهم وحتى أوطانهم ، بالفلس ، والدرهم ، والدانق ، والدينار ، والدولار ... وما أقل أولئك الذين لا يبيعون ذرة من أخلاقهم ، ومروءتهم ، ولو بالقناطير المقنطرة بالذهب ، والفضة ، ولو أعطوا الأقاليم السبعة والكواكب والنجوم والشمس والقمر ! .
في لحظة من اللحظات ، يمكن أن يكون ( الرجل ) صورة إنسانية ل ( وطن ) .. لكن الوطن لا يستطيع أن يتحول إلى صورة شخصية لرجل .. وأؤمن أن المسافة بين مدني صالح والوطن لم تكن بعيدة .
مضى مدني صالح ، رافعا رأسه ، إلى إغفاءة طويلة ودائمة ، لن يعود بعدها إلى الحياة ، وقد استوفى عامه الخامس والسبعين وذلك قول شهادة الميلاد ، وهو قول دقيق يومئ أنه من مواليد 1932 في مدينة هيت بمحافظة الأنبار ، ليترك وراءه إرثا من الجدل ، وفراغا شاسعا في التفكير الفلسفي لن يقدر أحد أن يعوضه ، أو يملؤه من بعده .
وكان مناي أني لو كنت قربه لحظة موته ، فأضع على التابوت سبع سنابل خضر ، وبعض شقائق النعمان .. جلالا وهيبة .
مدني صالح ..كن عذيري ، يا صديقي ، ف ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) كما يقول النفري .. و ( إن هذه الأرض ، وتلك السماء ، مزقتا قلبي بضيقهما ، فلا تفضح أمرنا أيها السراج ) كما يقول جلال الدين الرومي .. و( كل شيء في هذا العالم حزين ، رغم الممثلين الكوميديين ) كما يقول محمد الماغوط .
مدني صالح .. ربما تكون حاصرتك التأويلات ، بل صادرتك ، في هذه العوالم الخرساء ، وزمان النكوص .. لكم تخذل المرء سيماؤه ، ولكم يجهل الناس ما يعرفون ، وهل أنت ، إلا الذي جهلوه ؟! .
مضى مدني صالح من دون أن تودعه هيت ، أو يودعها ، الوداع الأخير .. فكلاهما مدركان أنهما والدرب بينهما ، لاحقان بقيصر .. وكلاهما إذا ما نال شيئا أفاته .. وكلاهما لطول اجتماع كأنهما لم يبيتا ليلة معا .. وسيقف كل من صحب مدني صالح ، أو عرفه يوما .. يبكي على هيت وينعاها ، كلما مرت بها ركابه ، وقطع بها السبيل .. لأن كل هيت أصبحت قبر مدني صالح ومثواه .
لقد كتبت عن مدني صالح هذه الكلمات بما تشبه تداعيات خواطر ، ولا أعرف أهو تحيز لرجل لما ألف وعرف ، أو أنه حكم في الموضوع ، برغم أني على شبه اقتناع أنه بدأ الحياة منذ لحظة وفاته ، وفي اللحظة التي أطبق الموت عينيه ، مسافرا إلى ملكوت الله ، في الذرى العالية من حركة التأريخ .. وأنه الحاضر على الدوام ، مهما اشتد من حوله الزحام ، وسيكون عمره في الموت ، أطول من عمره في الحياة ..
مدني صالح ..تحرك حول مدارك فنحن نراك ... وتكلم عبر كلماتك فنحن نسمعك ..