الصور الفنية في قصيدة لوحة على الجدار لمحمود درويش دراسة بقلم الدكتور/ محمد بكر سلمي
تاريخ النشر : 2009-08-30
الصور الفنية في قصيدة
( لوحة على الجدار )
لمحمود درويش
دراسة بقلم الدكتور/ محمد بكر سلمي

أولاً : القصيدة

لوحة على الجدار

و نقول الآن أشياء كثيرة
عن غروب الشمس في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
ليلة تمضي، و لا نأخذ من عالمنا
غير شكل الموت
في عز الظهيرة .
..و لعينيك زمان آخر
و لجسمي قصة أخرى
و في الحلم نريد الياسمين،
عندما وزّعنا العالم من قبل سنين
كانت الجدران تستعصي على الفهم
و كان الأسبرين
يرجع الشبّاك و الزيتون و الحلم إلى أصحابه
كان الحنين
لعبة تلهيك عن فهم السنين
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن ذبول القمح في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
خنجرا يلمح كالحق، و لا نأخذ عن عالمنا
غير لون الموت
في عز الظهيرة..
في اشتعال القبلة الأولى
يذوب الحزن
و الموت يغني
و أنا لا أحزن الآن
و لكني أغني
أي جسم لا يكون الآن صوتا
أي حزن
لا يضم الكرة الأرضية الآن
إلى صدر المغني ؟!
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن عذاب العشب في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
قبلة تنسى ، و لا نأخذ من عالمنا
غير طعم الموت
في عزّ الظهيرة..
ألف نهر يركض الآن
و كل الأقوياء
يلعبون النرد في المقهى،
و لحم الشهداء
يختفي في الطين أحيانا
و أحيانا يسلي الشعراء!
و أنا يا امرأتي أمتصّ من صمتك
في الليل.. حليب الكبرياء!
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن ضياع اللون في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
طفلة ماتت. و لا نأخذ من عالمنا
غير صوت الموت
في عز الظهيرة
..
ثانياً : الدراسة

شغل الشاعر بقضية شعبه الفلسطيني ، فسجل في قصيدته معاناة اللاجئين ، وما لاقى الفلسطينيون من اللامبالاة الدولية ، ومن تفريط أخوة الدم والدين ، وقد استخدم الشاعر التصوير الفني لإظهار هذه المفاهيم ، ومن يقرأ النص يلاحظ اهتمام الشاعر بتقنية التقسيم والتكرار ، كما يلاحظ اهتمامه بإظهار البعد الزمني وأثره البالغ على الشعب والقضية ، وقد استخدم الشاعر اللغة الشاعرية ، ما مكنه من عرض وتصوير قضية فكرية سياسية بطريقة أدبية فنية . وانقسمت الصورة الشعرية في القصيدة إلى : صورتين كليتين ، كانتا كالإطار الذي يعرض من خلاله الخطوط العامة للقضية ، وثلاث صور جزئية تتخلل تلك الإطارات التي تبرز صوره الكلية ، وذلك على النحو التالي :

الصورة الكلية الأولى
( 1 )
و نقول الآن أشياء كثيرة
عن غروب الشمس في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
( 2 )
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن ذبول القمح في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
( 3 )
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن عذاب العشب في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما
( 4 )
..و نقول الآن أشياء كثيرة
عن ضياع اللون في الأرض الصغيرة
و على الحائط تبكي هيروشيما

يرسم الشاعر صورة لمأساة الشعب الفلسطيني كما يراها بعد الهجرة بزمن طويل ، إنه يرسمها ( الآن ) حيث ضاع اللون وأوشكت أن تطمس معالم القضية ، وقد فهم ذلك من المشهد الرابع من صورته ، وقد رصد الشاعر العذابات التي مر بها الشعب الفلسطيني منذ غروب شمس يوم الرحيل ( الهجرة ) ، وحزن أرض الوطن على فراق أهلها ، فقد ذوت الأزهار وذبل القمح ، وقد أضاف الشاعر صفات إنسانية للعشب الذي يحف بالطرقات الفاصلة بين الحقول ، أو النابت خلف جدران البيوت الريفية ، حيث فتك المحتل بالمكان وغير من معالمه ، فعانى العشب مرارة العذاب جراء ذلك .

لقد لخص الشاعر تلك المشاهد وهذه العذابات التي رسم صورتها في المقاطع الأربعة ، في صورة لها وقعها الأليم في البشرية جمعاء ، ألا وهي كارثة هيروشيما ، فقد كانت كارثة الهجرة عنده كمأساة هيروشيما

.
الصورة الكلية الثانية
( 1 )
ليلة تمضي، و لا نأخذ من عالمنا
غير شكل الموت
في عز الظهيرة .
( 2 )
خنجرا يلمح كالحق، و لا نأخذ من عالمنا
غير لون الموت
في عز الظهيرة..
( 3 )
قبلة تنسى ، و لا نأخذ من عالمنا
غير طعم الموت
في عزّ الظهيرة..
( 4 )
طفلة ماتت. و لا نأخذ من عالمنا
غير صوت الموت
في عز الظهيرة..

يصور الشاعر معاناته ومعاناة شعبه الذي خذله العالم بأسره رغم وضوح الحق ، فلا معين من ذوي القربى ، ولا ناصر من أخوة الدين ، فكأنهم نسوا ـ المسجد الأقصى ـ تلك القبلة السليبة التي كانت تجمعهم في يوم من الأيام ، إنها معاناة شعب ميت في صورة أحياء ، إنه شعب عرف الموت أشكالاً وألواناً ، بل ذاق طعمه وسمع صوته ، على مسمع ومرأى العالم الذي يشارك في تعزيز الضياع والموت للشعب الفلسطيني .

ونحن نضع التكرار الذي عني به الشاعر وألح عليه في الصورتين السابقتين ضمن البعد النفسي الذي سيطر علي الشاعر والناتج عن معاناته ومعايشته لكل المراحل التي صورها
.

الصور الجزئية

بعد أن رسم الشاعر الصورتين الكليتين الرئيستين ، قام بنثر بعض الصور الجزئية التي تعزز تلك الصور الكلية ، وقد استخدم الشاعر تقنية اللغة الشعرية في إبراز صوره ، فقد أنشأ الشاعر تركيبة لغوية ذات أبعاد شعورية ونفسية وطاقات دلالية مستمدة من واقع المأساة .
( 1 )
..و لعينيك زمان آخر
و لجسمي قصة أخرى
و في الحلم نريد الياسمين،
عندما وزّعنا العالم من قبل سنين
كانت الجدران تستعصي على الفهم
و كان الأسبرين
يرجع الشبّاك و الزيتون و الحلم إلى أصحابه
كان الحنين
لعبة تلهيك عن فهم السنين
في الأيام الأولى بعيد الهجرة ، كان يراود الفلسطيني حلم العودة ،إنه الحلم الذي تلهى به عن الواقع المر ، بينما كانت عيون الآخرين ونظراتهم بعيدة عن واقعنا ، وكأنهم من زمن آخر لا علاقة له بما نعانيه وتظهر آثاره على أجسامنا
( 2 )
في اشتعال القبلة الأولى
يذوب الحزن
و الموت يغني
و أنا لا أحزن الآن
و لكني أغني
أي جسم لا يكون الآن صوتا
أي حزن
لا يضم الكرة الأرضية الآن
إلى صدر المغني ؟!
لم يغير الزمن شيئاً من واقعنا ، ولم تتغير نظرة العالم لنا ، ولم يستطع مشهد إحراق المسجد الأقصى ـ القبلة الأولى ـ أن يغير من إيقاع الموقف العالمي ، ودخل هذا الحادث ـ كغيره من الحوادث ـ ضمن معزوفة اللامبالاة التي ذابت في أحزاننا نحن الموتى الأحياء ، إننا نحن الموت يغني .
( 3 )
ألف نهر يركض الآن
و كل الأقوياء
يلعبون النرد في المقهى،
و لحم الشهداء
يختفي في الطين أحيانا
و أحيانا يسلي الشعراء!
و أنا يا امرأتي أمتصّ من صمتك
في الليل.. حليب الكبرياء!
تمضى الحياة مسرعة كتدفق مياه النهر ، والجميع عنا لاهون ، ونحن نقدم الشهيد تلو الشهيد ، فقد توثقت العلاقة بيننا وبين أرضنا وقضيتنا ، فنشأنا وتربينا على كبرياء وعزة صاحب الحق المؤمن بحقه .
د. محمد بكر سلمي